اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

رواه السيّد المرتضى وغيره بعد ما سئل عن العالم العلوي : «صور عالية عن الموادّ خالية عن القوّة والاستعداد. تجلّى لها ربّها ؛ فأشرقت وطالعها فتلألأت وألقى في هويّتها ؛ فأظهر عنها أفعاله وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّاها بالعلم والعمل فقد تشابهت جواهر أوائل عللها ؛ وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شاركت السبع الشداد.» (١)

ويدلّ عليه دليلان آخران ذكرهما الحكماء :

والأوّل : أنّ الأفلاك متحرّكة على الاستدارة والدوام. أمّا الأوّل باطل وأمّا الثاني فلكونها حافظة في الجملة للزمان الذي لا نهاية لامتداده كما ثبت في محلّه ؛ والوجه في انحفاظ الزمان لها أنّه مقدار غير قارّ. فيجب أن يكون محلّه هيئة غير قارّة هي الحركة ولا حركة يحتمل الدوام / B ٧٠ / سوى حركة الفلك لكونه مصونا عن الفساد كما تقرّر في محلّه ؛ فهى محلّ للزمان وحافظة له ؛ هذا وإن اختصّ بالفلك الأعظم إلّا أنّ ساير الأفلاك كذلك بالحدس ؛ وهذه الحركة لكونها مستديرة لا تكون طبيعية ؛ لأنّ المستديرة تطلب وصفا ثمّ تتركه ؛ والمطلوب بالطبع لا يكون مهروبا عنه بالطبع ولا قسرية ؛ إذ لا قسر حيث لا طبع ؛ فهي إرادية والحركة الإرادية تكون لغاية لا محالة ؛ وهي لا يجوز أن يكون نفس الحركة ؛ لأنّها ليست مطلوبة لذاتها ، بل ليتأدّى إلى غيرها وهو المراد بالغاية ؛ وهي إمّا حسّية شهوية أو غضبية ؛ وهما مختصّان بالأجسام التي لها مادّة منفعلة وتلتذّ بالملائم وتتأذّى من غيرها كما في أنواع الحيوانات ؛ والأفلاك ليست كذلك.

وأيضا : كلّ حركة لجذب ملائم أو دفع منافر على النحو الموجود في الحيوانات متناهية وحركة الأفلاك غير متناهية ؛ فغايتها عقلية كما في حركاتنا

__________________

(١). انظر : بحار الأنوار ، ج ٤٠ ، ص ٧٦٥ ؛ عيون الحكم والمواعظ ، ص ٣٠٤ والمناقب (لابن شهرآشوب) ، ج ٢١ ، ص ٣٢٧.

١٨١

الصادرة عن عقلنا الفعلي ؛ ودوام الحركة إنّما يكون لدوام الطلب الذي يقتضيه العشق ؛ فتكون تلك الغاية أمرا معشوقا عقليا ولا يكون أمرا غير متحصّل الذات وإلّا وجب أن يتحصّل بالحركة ؛ إذ لو لم يتحصّل بها لكان الطلب طلبا للا شيء وهو محال ؛ والشيء المحصّل بالحركة إمّا أين أو وضع أو كمّ أو كيف أو ما يتبعها من كمالات الجسم ؛ وحينئذ تكون الحركة لنيل ذات المعشوق الذي هو أحد الامور المذكورة.

فهذا المعشوق المطلوب الغير المتحصّل إمّا أن يحصّل بالحركة وقتا ما أو لا يحصّل أبدا. فعلى الأوّل يجب انقطاع الحركة والطلب عند حصوله ؛ وعلى الثاني يلزمه طلب المحال وهو محال من المتصوّر العقلي المحض ؛ فبقي أن يكون أمرا متحصّلة (١) الذات وحينئذ لا يمكن أن يكون المطلوب بالحركة حصول ملاقاته أو موازاته أو مناسبته أو أمثال ذلك من الحالات المشتركة بين المتحرّك وهذا المعشوق المتحصّل ؛ أي الحالات التي يكون حصولها بالحركة للمتحرّك بملاحظة نسبته (٢) إلى هذا المعشوق ؛ فبقي أن يكون المطلوب بالحركة نيل حال يشبه حاله ؛ أي نيل الشبه به في صفة الكمال. فلا يمكن أن يكون ذلك نيل شبه يستقرّ ككمال ما قارّ يوجد فيه شبيها بكمال المعشوق وإلّا / A ٧١ / لزم الوقوف إن حصل الميل والحركة ، وطلب المحال إن لم يحصل. فبقي أن يكون نيل شبه لا يستقرّ ، بل يستقرّ نوعه بالتعاقب وما ذلك إلّا بأنّ النفوس الفلكية تعقّلت أمرا قدسيا كاملا هو فوقها وأشرف منها وله كمالات غير متناهية ؛ فعشقه إلى التشبّه به ولا يحصل التشبّه إلّا بخروجها عن القوّة وحصول الفعلية له ؛ وذلك لا يحصل إلّا بتحريك أجسامها حتّى تخرج أوضاعها الممكنة من القوّة إلى الفعل ؛ ولمّا كانت كمالات ذلك المعشوق العقلي غير متناهية فكذا كانت أوضاعها الممكنة غير متناهية ؛ فلا يزال

__________________

(١). س : متحصلت.

(٢). س : نسبه.

١٨٢

منفصلة لكمالاته ومتحرّكة للتشبّه به ومخرجة بذلك أوضاعها الممكنة من القوّة إلى الفعل ؛ ولعدم تناهي الكمالات والأوضاع الممكنة تستمرّ تلك الحركة إلى غير النهاية ولا يزال يحصل لها بالحركة التشبّه به والاستفاضة منه ويفيض على السافل لا من حيث إنّ هذه الإفاضة إفاضة على السافل ، بل من حيث إنّها تشبه بالكامل العالي في الخروج من القوّة إلى الفعل. (١)

ثمّ لو كان الفلك واحدا لأمكن أن يجعل الكامل المتشوّق هو الواجب سبحانه لكن لمّا كانت الأفلاك وحركاتها متعدّدة لا يمكن أن يكون ذلك هو الواجب ، بل يجب أن يكون متعدّدا.

فثبت وجود جواهر قدسية متعدّدة بتعدّد الأفلاك مع زيادة واحد ؛ وبذلك ثبت وجود تعدّد العقول كما يأتي ؛ وغير خفيّ أنّ مبنى هذا التقرير على أنّ الأنفس الفلكية بعد تصوّرها كمالات المعشوق القدسي تنبعث منها إرادة كلّية إلى الحركة لتحصل لها الفعلية ويشبه بها إلّا أنّ الإرادة الكلّية أمر واحد نسبتها إلى جزئيات (٢) الحركات نسبة واحدة (٣) ؛ فلا يوجب الحركة (٤) الجزئية ؛ والحركة الكلّية لا وجود لها ما لم تتشخّص ولم تصر جزئية. فلا بدّ من تغيّر الإرادات وتجدّدها وكونها جزئية حتّى تحصل الحركة.

ألا ترى أنّك لو أردت الذهاب إلى موضع لا يوجب ذلك حركة برجلك بالتخطّي إلى جهة معيّنة ؛ ما لم يتجدّد لك إرادة جزئية للتخطّي إلى الموضع الذي تخطّيت إليه لم تحدث تلك الخطوة بتصوّر جزئي لما وراء تلك الخطوة وتنبعث عنه إرادة جزئية اخرى للخطوة (٥) الثانية وإنّما / B ٧١ / تنبعث من الإرادة الكلّية التي تقتضي دوام الحركة إلى حين الوصول إلى المقصد. فيكون الحادث حركة وإرادة

__________________

(١). انظر : الإشارات والتنبيهات ، ج ٣ ، صص ١٦٥ ـ ١٦٢.

(٢). س : الجزئيات.

(٣). س : واحدها.

(٤). س : حركه.

(٥). س : للخطوط.

١٨٣

وتصوّرا ؛ فالحركة حدثت بالإرادة [والإرادة] حدثت بالتصوّر (١) الجزئي مع الإرادة الكلّية والتصوّر الجزئي حدث بالحركة وهكذا على الاتّصال إلى الوصول إلى المقصود.

فعلى هذا القياس حركة السماء ؛ فإنّ النفس الفلكية بعد تعقّلها المعشوق القدسي وكماله تنبعث عنها إرادة كلّية إلى الحركة للتشبّه به. فتجدّد لها إرادة جزئية بتوسّط بعض القوى المنطبعة لحركة ما. ثمّ حدث بتلك الحركة تصوّر جزئي لما وراء تلك الحركة وتنبعث من هذا التصوّر مع الإرادة الكلّية إرادة جزئية اخرى لحركة ما اخرى هكذا إلى غير النهاية على الاتّصال نظرا إلى عدم تناهي الغاية والأوضاع الممكنة في الفلك.

والتحقيق : (٢) أنّ تجدّد الإرادات الباعثة على الحركة المتشابهة إنّما هو لتجدّد الهيئات النورية والابتهاجات العقلية في النفس الفلكية من المعشوق القدسي.

فالتقرير الأتمّ أن يقال : إنّ النفوس الفلكية بعد تعقّلها جمال المعشوق وكماله ينبعث فيها العشق والشوق ، وينبعث منهما الحركة الموصلة (٣) إلى المطلوب من التشبّه به ؛ وهذا المعشوق المتشبّه به هو الحقّ الأوّل بوساطة من يتقرّب إليه من العقول القادسة النورية. فكلّ واحد من النفوس الفلكية إنّما ينال من معشوقه ابتهاجات متوافرة ولذّات متكاثرة وواردات نورية وإفاضات عقلية وأنوار دائمة التواصل كما لا تخفى كيفية ورودها على النفوس البشرية السالكين إلى الله والمستغرقين في ملاحظة جماله والمقرّبين المشتاقين إلى لقائه.

ثمّ تتبع تلك الهيئات النفسانية النورية حركات متشابهة تخرج أوضاعها من القوّة إلى الفعل. فإنّ الفلك لو ثبت على وضع واحد بقيت ساير الأوضاع أبدا بالقوّة ؛ ولما كان جميع الأشياء فيه بالفعل إلّا الأوضاع ولم يمكن الجمع بين

__________________

(١). س : تصور.

(٢). س : التحقق.

(٣). س : الموسلة.

١٨٤

الجميع دفعة ؛ والقاصر عن استبقاء نوع لاستبقاء (١) أشخاصه معا إنّما يستبقيه ويستحفظه بتعاقب / A ٧٢ / أشخاصه. فأخرج على التعاقب الدائم أوضاعه من القوّة إلى الفعل انفعالا لجرمها عن هيئات نورية شوقية لنفسها ، كما ترى أنّك حين تفكّرك في شيء من المعقولات بقوّتك المفكّرة تتبعه حركات وهيئات من بدنك ؛ فإنّ هيئات النفس والبدن يتعدّى من كلّ إلى حاجته ويترشّح من حركاتها الخير الدائم والبركات على السافل فيضا لا قصدا ؛ هذا.

وتجويز انقطاع الحركة الفلكية لثبوت حدوث الأجسام باطل ؛ إذ الحدوث لا يستلزم الانقطاع على أنّه لا نزاع في عدم انقطاع الزمان لثبوت الخلود في الجنّة والنار إلّا أن يقال : «يكون الزمان أمرا موهوما محضا» وفيه ما فيه.

[و] وضع الحصر في ما ذكر من أقسام الطلب لاحتمال أن يكون طلب المحسوس لأمر آخر كمعرفته ؛ إذ التشبّه به ضعيف ؛ إذ حصر الطلب في الحسّي والعقلي حصر في متقابلين ؛ لأنّ المراد منهما إمّا الجزئي والكلّي وإمّا ما يدرك بالحسّ وما لا يدرك به ؛ وأمّا حصر الحسّي في الجذب والدفع ، فلأنّ كلّ متصوّر جزئي لا يكون جذب ملائم ولا دفع منافر عند المدرك لا يصلح أن يكون عرضا له بالضرورة ؛ ومنع امتناع طلب المحال أضعف ؛ لأنّ ذلك الامتناع في الإرادة المنبعثة عن إرادة كلّية يتصوّر بها الجوهر العاقل المجرّد في غاية الظهور.

[في أنّ علّة الجسم لا يكون واجب الوجود ولا جسما آخر ؛ وفي كيفية صدور الكثرات]

إنّ علّة الجسم لا يجوز أن يكون واجب الوجود بلا واسطة ، لما تقدّم ؛ ولا جسم آخر ؛ لأنّ فعل الجسم وتأثيره إنّما هو بصورته ؛ لأنّ فاعليته إنّما يكون من حيث

__________________

(١). س : لاستيقاء.

١٨٥

موجوديته بالفعل وموجوديته بالفعل إنّما هو بصورته وفعله إنّما يكون بمشاركة الوضع ؛ فلا يكون فاعلا لما لا وضع له ؛ وعلى هذا نقول ـ بعد التنبيه على أنّ فاعل الجسم يكون فاعلا بجزئيه أوّلا ؛ لأنّ فعل المركّب مسبوق بفعل أجزائه / B ٧٢ / ـ : لو صدر جسم عن مثله لزم أن تكون القوّة الجسمية ـ أعني صورة الجسم الفاعل ـ مؤثّرة في ما لا وضع له ـ أعني كلّ واحد من جزئى الجسم الصادر ـ وهو محال.

وهذا الدليل ينفي علّية الجسم للجسم مطلقا والدليل الخاصّ بالمطلب وهو عدم العلّية والمعلولية بين الأجسام المحيطة بعضها ببعض هو أنّه لا ريب في أنّ المحوي لا يمكن أن يكون علّة للحاوي ؛ إذ تعليل الأقوى بالأضعف ظاهر الفاسد ؛ والعقل لا يحتمل جوازه ؛ ولا يمكن العكس أيضا ؛ إذ نقول ـ بعد التنبيه على أنّ الجسم ما لم يتشخّص لا يمكن أن يكون موجودا فضلا عن أن يكون موجدا وأنّ المعلول وجوبا ووجودا متأخّر عن العلّة لوجوب تقدّمها بالذات على معلولها. فالمعلول لو اعتبر في مرتبة وجود العلّة كان حاله حينئذ مجرّد الإمكان ؛ لأنّه لم يجب بعد وكلّ ما لم يجب ومن شأنه أن يجب فهو ممكن ؛ وأنّ الشيئين اللذين بينهما معيّة (١) وملازمة بحيث لا يمكن أن ينفكّ أحدهما من الآخر ؛ فإنّهما لا يتخالفان في الوجوب والإمكان ؛ لأنّ تخالفهما في ذلك يرفع التلازم ـ : إنّ الحاوي لو كان علّة للمحوي يسبقه متشخّصا وحينئذ كان وجود المحوي إذا اعتبر مع وجود الحاوي المتشخّص موصوفا بالإمكان لكن عدم الخلأ في داخل الحاوي أمر يقارن اعتباره اعتبار وجود المحوي بحيث لا يمكن انفكاكه عنه ؛ فإذن يلزم أن يكون عدم الخلأ أيضا مع وجود الحاوي المتشخّص ممكنا لكنّه في جميع الأحوال واجب وإلّا كان الخلأ ممكنا مع أنّه ممتنع لذاته قطعا.

قيل : لا نسلّم أنّ الخلأ ممتنع لذاته وإلّا لكان عدمه واجبا لذاته لكن وجوب

__________________

(١). س : معنيه.

١٨٦

عدمه بالذات ينافي وجوب ما يلازمه ـ أعني وجود المحوي ـ بالغير وإلّا لأمكن الانفكاك بينهما وتحقّق عدمه في مرتبة متقدّمة على وجود المحوي مع أن تحقّق عدم الخلأ في داخل الحاوي في مرتبة لا يوجد فيها وجود المحوي غير معقول ؛ فيجب أن لا يكون الخلأ ممتنعا لذاته حتّى يمكن / A ٧٣ / أن يتحقّق الخلأ في مرتبة متقدّمة على وجود المحوي ويكون عدمه في مرتبة وجوده.

قلنا : وجوب المحوي على فرض كونه معلولا للحاوي لمّا لم يتحقّق في مرتبة وجوب الحاوي فيتصوّر هناك ـ أعني في مرتبة وجوب الحاوي ـ خلأ في داخله لا محالة وعدم ذلك الخلأ المتصوّر إنّما يجب ويتحقّق مع وجوب وجود المحوي في داخله في مرتبة متأخّرة عن وجوب الحاوي ووجوب المحوي أيضا إنّما يتحقّق مع عدم الخلأ المتصوّر في داخل الحاوي ؛ فهما ـ أعني وجوب وجود المحوي بالحاوي ووجوب تحقّق عدم الخلأ المتصوّر في داخله ـ معان في التحقّق ومتلازمان في الوجود والتصوّر ؛ فيكون على هذا الفرض عدم هذا الخلأ مع كونه واجبا بالذات واجبا بالغير كوجود المحوي ؛ ولامتناع ذلك ـ أي كون الواجب بالذات واجبا بالغير ـ يلزم أن يكون تأخّر وجود المحوي من وجود الحاوي ؛ أي كونه معلولا له ممتنعا بالذات في من لا يدّعي الملازمة بين مطلق وجوب المحوي ومطلق عدم الخلأ ، بل بين وجوب المحوي بالحاوي وبين عدم الخلأ المتصوّر في داخل الحاوي اللذين لزم كون كلّ منهما واجبا بالغير في هذا الفرض.

ثمّ يستدلّ بها على امتناع كون المحوي معلولا للحاوي. فالمحوي مع كونه معلولا للحاوي يكون ممتنعا لذاته لا واجبا بغيره وإلّا لزم كون عدم الخلأ أيضا واجبا بغيره مع أنّه واجب لذاته ؛ فالمحوي إنّما يكون واجبا بغيره إذا لم يكن معلولا للمحوي وحينئذ لا ندّعي ملازمته مع عدم الخلأ الذي هو واجب بالذات ؛

١٨٧

إذ حينئذ لا يتصوّر خلأ ؛ فالمحوي إذا فرض معلولا للحاوي فهو ممتنع بالذات في نفس الأمر وواجب بالحاوي بحسب الفرض ؛ والملازمة بين وجود المحوي وبين عدم الخلأ مع هذا الفرض ـ أي فرض كونه معلولا للحاوي ـ لا يستلزم الملازمة بين واجب بالغير في نفس الأمر ـ أعني وجود المحوي إذا كان معلولا لغير الحاوي ـ وبين واجب بالذات ـ وهو عدم الخلأ ـ ليلزم التنافي بينهما. / B ٧٣ /

والحاصل : أنّ المحوي لو لم يكن معلولا للحاوي ، بل كان معلولا لغيره يكون وجوده مع وجود الحاوي ـ أي يتحقّقان في مرتبة واحدة ـ فلا يتحقّق للحاوي تقدّم عليه في الوجود حتّى يتصوّر إمكان الخلأ في داخله ويلزم وجود الخلأ في مرتبة وجود الحاوي وتقدّمه على وجود المحوي مع عدم كونه معلولا له ؛ فيضطرّ إلى منع كون الخلأ ممتنعا بالذات ؛ إذ حينئذ لا يتصوّر خلأ كما في صورة معلولية المحوي للحاوي. فعلى فرض عدم معلوليته للحاوي لا يتصوّر خلأ حتّى إذا التزم (١) كونه ممتنعا بالذات وكون عدمه واجبا بالذات كان منافيا لكون ما يلازمه ـ أعني وجود المحوي ـ واجبا بالغير ويحتاج إلى منع كونه ممتنعا بالذات ؛ وعلى فرض معلوليته للحاوي وإن تحقّقت الملازمة بين عدمه ووجود المحوي بحسب هذا الفرض ولزم منه المحال ـ أعني كون الواجب بالذات واجبا بالغير ـ إلّا أنّا نقول : إنّ هذا المحال إنّما نشأ من فرض محال آخر هو معلولية (٢) المحوي للحاوي.

فإن قلت : الحاوي والمحوي كلاهما ممكنان ، فيمكن خلوّ مكانيهما عنهما ، فيلزم الخلأ.

قلنا : الخلأ إنّما هو البعد في داخل المحيط الذي لا حشو له لا لعدم المحض. فالخلاء إنّما يلزم إذا وجد محيط لا حشو له لا إذا وجد بعد موهوم غير محاط بجسم أو أجسام ، لرجوع ذلك إلى العدم المطلق كالبعد المتوهّم فوق الفلك

__________________

(١). س : للزم.

(٢). س : معلوليته.

١٨٨

الأعظم.

فإن قلت : المقرّر عند الحكماء أنّ الفلك الحاوي يكون مع جوهر عقلي هو علّة للفلك المحوي ومتقدّم عليه وما مع المتقدّم متقدّم ؛ فيلزم من تقدّم الحاوي عليه وجود الخلأ.

قلنا : ما مع المتقدّم بالزمان متقدّم وأمّا ما مع المتقدّم بالذات فليس متقدّما بالذات ، كما أنّ ما مع العلّة ليس بعلّة ؛ وليس هذا التقدّم ـ أي تقدّم العقل على الفلك المحوي ـ إلّا بالعلّية والذات. فالأفلاك بل الأجسام كلّها بما هي أجسام متكافئة الوجود بلا تقدّم وتأخّر بينها بالذات. فالعقول العشرة يصدر بعضها عن بعض بالتقدّم الذاتي. ثمّ / A ٧٤ / يصدر عن الجميع الأفلاك والعناصر في مرتبة واحدة ـ أي يصدر عن كلّ عقل فلك معيّن على النحو المشهور بين القوم من دون تقدّم لبعضها على بعض ـ فلكلّ عقل سابق تقدّم ذاتي على العقل المتأخّر عنه وللجميع تقدّم ذاتي على الأجسام التي كلّها في مرتبة واحدة من دون تقدّم وتأخّر بينها. فالمراد بكون الفلك الحاوي مع العقل الذي هو علّة المحوي هو أنّ كليهما صادران عن عقل واحد ولا يلزم أن يكون صدورهما في مرتبة واحدة ، بل صدور العقل يتقدّم بالذات على صدور الفلك الحاوي.

ثمّ النظر الدقيق يقتضي عدم التفاوت بين تقدّم ذاتي واحد وتقدّمات ذاتية كثيرة. فتقدّم العقل الأوّل على العقل العاشر أو على الأجسام كتقدّمه على العقل الثاني في أنّ ملاك التقدّم هو الذات وفي انحصار التقدّم في التقدّم في مرتبة الذات من دون فرق بينهما بالزيادة والنقصان في التقدّم في الخارج والزمان ؛ وإذ ثبت أنّ علّة الجسم لا يجوز أن يكون واجب الوجود ولا جسما آخر ولا يجوز أن يكون النفس أيضا علّة الجسم بجوهرها ؛ لأنّ تأثيرها إنّما يكون بواسطة الجسم وقواه ؛ فلا تأثير لهما في إفاضة الجسم وإيجاد حقيقته وإن أمكن تأثيرها في

١٨٩

أعراضه وأحواله.

فظهر أنّ الأفلاك لا يمكن أن يكون بعضها علّة بعض وأنّ الواجب أيضا ليس علّة لها بلا واسطة. فيجب أن يكون صدورها بواسطة جوهر قدسي مجرّد ذاتا وفعلا ؛ وهو المعبّر عنه بالعقل ؛ ولكون الأفلاك متعدّدة يثبت تعدّد العقول وهو المطلوب.

وإذ عرفت أنّ أوّل الصوادر من الحقّ الأوّل هو العقل وفيه جهات واقعية محمولة بالعرض فاعلم أنّ الحكماء أثبتوا عقولا عشرة ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون العقول أقلّ منها بالنظر إلى الأفلاك التسعة الكلّية وإن جوّزوا تكثّرها بتكثّر الأفلاك الجزئية والكواكب الثابتة والسيّارة.

ثمّ عندهم في تعيين الجهات والاعتبارات المجعولة بالعرض في العقل الأوّل وفي ما / B ٧٤ / بعده من العقول على ما يحصل به التكثّر الواقع طرق :

[الأوّل :] ما ذكره المحقّق الطوسي ؛ وهو أنّه بعد صدور المعلول الأوّل يمكن أن يصدر عنه وحده شيء وعن الواجب بتوسّطه شيء آخر ؛ فيصدر في المرتبة الثانية شيئان لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

ولو جوّزنا أن يصدر عن المعلول الأوّل بالنظر إلى الواجب شيء صدر في المرتبة الثانية ثلاثة أشياء ؛ وهكذا شأن الكلام على هذا النهج ؛ فيظهر جواز صدور أشياء كثيرة في المرتبة الثالثة من دون تقدّم لأحدها.

ثمّ قال : «وإذا ثبت هذا نقول : إذا صدر المعلول الأوّل فله هويّة مغايرة للأوّل بالضرورة ؛ ومفهوم كونه صادرا غير مفهوم كونه هويّة. فهنا أمران معقولان : أوّلهما المسمّى بالوجود والثاني الهويّة اللازمة له وهو المسمّى بالماهيّة. فهي من حيث التحقّق تابعة لذلك الوجود ؛ لأنّ المبدأ الأوّل لو لم يفعل شيئا لم يكن ماهيّة أصلا.

ثمّ إذا قيست الماهيّة إلى الوجود عقل الإمكان ؛ فهو لازم لتلك الماهيّة بالقياس

١٩٠

إلى وجودها ؛ وإذا قيس أحدهما إلى المبدأ الأوّل عقل الوجوب ؛ ولذا جاز اتّصاف كلّ من الماهيّة والوجود بالإمكان والوجوب.

ثمّ إذا اعتبر كون الوجود الصادر من الأوّل قائما بذاته لزمه أن يكون عاقلا لذاته ؛ وإذا اعتبر ذلك مع الأوّل لزم أن يكون عاقلا للأوّل.

فهذه ستّة جهات في المعلول الأوّل : وجود وماهيّة وإمكان ووجوب وتعقّل للذات وتعقّل للأوّل تعالى» إلى آخر ما ذكره.

وأنت تعلم أنّ الاعتبارات المذكورة في كلامه أوّلا مغايرة للاعتبارات التي ذكرها آخرا. فإنّ الأولى ليست جهات حاصلة في المعلول الأوّل بخلاف الثانية.

[الثاني :] ما ذكره الشيخ الرئيس ؛ وهو أنّ للمعلول الأوّل ذاتا وحالتين : حالة له بالنظر إلى مبدأ وحالة له بالنظر إلى ذاته. أمّا ذاته فمقوّم من مختلفين الوجود الحاصل من مبدئه وماهيّته الإمكانية ؛ وأمّا حاله بالنظر إلى مبدئه فوجوبه من مبدئه وتعقّله / A ٧٥ / له وأمّا حاله بالنظر إلى ذاته فإمكانه وتعقّله لذاته ؛ وهو باعتبار حاله بالنظر إلى مبدئه يكون مبدأ لعقل آخر وباعتبار حاله بالنظر إلى ذاته يكون مبدأ لفلك. فيكون الأمر الصوري ـ أي حاله بالنظر إلى مبدئه ـ علّة للكائن الصوري ـ أعني العقل الثاني ـ والأمر الأشبه بالمادّة ـ أي حاله بالنظر إلى ذاته ـ مبدأ للكائن المناسب للمادّة ـ أعني الفلك الأوّل ـ ثمّ الأمر الأشبه بالمادّة ـ أعني حاله بالنظر إلى ذاته ـ إمّا حاله من حيث كونها بالقوّة ـ أعني الماهيّة والإمكان ـ أو حاله من حيث كونها بالفعل ـ أعني الوجود وتعقّل الذات ـ فهو بالاعتبار الأوّل مبدأ لهيولى الفلك وبالثاني مبدأ لصورته.

ولا فرق بين هذا الطريق وما ذكره المحقّق آخرا إلّا في إرجاعها الاعتبارات الستّة هنا إلى ثلاثة وجعلها مبدأ لعقل وفلك لا غير. فكان الوجه في ذلك الاختلاف أنّ ما ذكروه إيراد مثال وتقرير للوجه الممكن في تصحيح الكثرة

١٩١

بطريق الاحتمال ، والأخذ بالأليق لا يحقّق الحال على القطع والبتّ.

[الثالث :] ما ذكره بعض الفضلاء ؛ وهو أنّ في العقل الأوّل بعد صدوره عن المبدأ الحقّ أربع اعتبارات :

[١.] وجوده ؛ وهو له من الأوّل تعالى

[٢.] وماهيّته ؛ وهي له من ذاته

[٣.] وعلمه بالأوّل ؛ وهو له بالنظر إلى الأوّل

[٤.] وعلمه بذاته ؛ وهو له بالنظر إلى نفسه

وبهذه الاعتبارات الأربعة يصدر عنه عقل وصورة فلك ومادّته ونفسه ؛ وهكذا في العقل الثاني.

وقد أسقط في مبدأ الطريق من الاعتبارات الستّة اثنان هما الوجوب الغيري والإمكان الذاتي وجعلت الأربعة مبدأ لأربعة هي العقل ونفس الفلك وهيولى وصورته. ففرقه عن الوجهين السابقين ظاهر والتوجيه في الاختلاف كما تقدّم.

[الرابع :] ما ذكره بعض الأذكياء ؛ وهو أنّ العقل الأوّل عاقل لمبدئه ولذاته ولصفات ذاته.

[١.] فهو باعتبار إدراكه للمبدإ ووصول نور إشراقه إليه / B ٧٥ / آلة لإيجاد المبدأ ثاني العقول.

[٢.] وباعتبار إدراكه بوجوده الفائض من المبدأ آلة لإيجاده النفس المجرّدة المتعلّقة بالعرش ؛ أعني الفلك الأعظم.

[٣.] وباعتبار إدراكه لإمكانه آلة (١) لفيضان الصورة الجسمية للعرش.

وساق الكلام إلى آخر العقول وهو لم يعد (٢) نفس وجوده وماهيّته وإمكانه من الاعتبارات ، بل اعتبر إدراكها ولم يعتبر إدراك الوجوب الغيري ؛ وقد عرفت أنّ

__________________

(١). س : اله.

(٢). س : لم بعد.

١٩٢

الأمر في مثل هذا الاختلاف هيّن ؛ إذ مرادهم إبداء الاعتبارات المصحّحة لصدور الكثرة على سبيل الإمكان والتحرير لا على طريق القطع والتحقيق.

[الخامس :] ما ذكره بعض المتأخّرين ؛ وهو أنّ العقل الأوّل ملتئم الماهيّة لا محالة من جنس واحد وفصل واحد ؛ لأنّه أوّل الحقائق المتحصّلة في عالم الإمكان. فجنسه أوّل الأجناس وفصله أوّل الفصول ونسبة الجنس إلى الفصل كنسبة المادّة إلى الصورة ؛ وحيث إنّ الأفعال والآثار إنّما تصحّ عن الشيء باعتبار الفصل وهذا الفصل الواحد لا يصدر عنه إلّا شيء واحد هو العقل الثاني والعقل الثاني أيضا له فصل واحد هو مبدأ صدور شيء ثالث والفصل الأوّل من حيث هو واحد بعد ما صدر عنه العقل الثاني لا يجوز أن يصدر عنه شيء آخر لكن باعتباره مع الفصل الثاني يصير غير كلّ واحد منهما ؛ فيمكن أن يصدر من العقلين لأجل الفصلين شيء رابع حتّى يكون الصادر عن العقل الثاني شيئين في مرتبة واحدة ؛ فبهذا الطريق يتكثّر شعب الوجود ويتفجّر ينابيع الفيض والجود وكلّما يتباعد عن مرتبة الأحدية الخالصة تتكثّر الجهات وتتضاعف الاعتبارات حتّى يحصل من ذلك عدد يصحّ أن يكون واسطة لصدور فلك الثوابت بكثرة ما فيه من الكواكب.

وقد أورد هذا المتأخّر على الوجوه السابقة أنّ غرض المشّائين في هذا المقام من كلماتهم إنّما هو تمثيل لكيفية صدور الكثرة / A ٧٦ / عن الواحد الحقّ لا تحقيق لها ؛ لأنّ الجهات التي تصلح لها إنّما هي جهات يمكن أن يكون مصدرا ومنشأ كالنور والحرارة في النار للتنوير والتسخين ؛ والاعتبارات التي ذكرها الحكماء مثل الإمكان والوجوب بالغير والعلم بالمبدإ والعلم بالذات ليست معاني تصلح لذلك وإلّا لكان كلّ ما له هذه الجهات يفعل هذه الأفعال ، كما أنّ كلّ ما له جهات النار يفعل بحسبها فعل النار.

١٩٣

وفيه : أنّ مراد القوم من الجهات والاعتبارات التي اعتبروها في العقل لتصحيح صدور الكثرة هي الاعتبارات التي تصلح أن تكون شروطا وآلات تختلف بها اعتبارات علّية العلّة الأولى لصدور الكثرة لا الجهات التي تصلح لأن تكون عللا مستقلّة أو وسائط مؤثّرة حتّى تكون امورا عينية موجودة كالنور والحرارة في النار للتنوير والتسخين ؛ ولا ريب في أنّ تلك الاعتبارات التي ذكرها الحكماء ممّا يصلح لأن تختلف به اعتبارات علّية الأولى لصدور الكثرة ؛ إذ الامور الاعتبارية والعدمية الواقعية تصلح لذلك.

ثمّ الطريق الذي ذكره ليس بشيء ؛ لأنّ المعلول الأوّل إذا كان مركّبا من الجنس والفصل على ما ذكره ولا ريب في أنّ هذا التركيب وإن كان تركيبا (١) تحليليا عقليا لكنّه تركيب حقيقي واقعي :

[١.] فهو إمّا أن يقول بأنّ الجنس والفصل أجزاء عقلية منتزعة من الأجزاء الخارجية ـ أعني المادّة والصورة ـ كما هو المشهور بين القوم من أنّ الجنس منتزع من المادّة والفصل من الصورة وأنّ الجنس بأيّ اعتبار يكون مادّة والفصل بأىّ اعتبار يكون صورة وأنّ ما لا مادّة له ولا صورة لا يكون له جنس وفصل ؛ فعلى هذا يلزم أن يكون الصادر كثيرا بالذات مركّبا من الجنس والفصل ، بل من المادّة والصورة مع أنّ هذا المتأخّر اعتقاده أنّ الجعل يتعلّق أوّلا [و] بالذات بالماهيّة والوجود أمر اعتباري عرضي تابع للماهيّة و (٢) مجعول بالعرض لا بالذات ؛ فتعلّق (٣) الجعل بجزئي الماهيّة أيضا بالذات ويكونان أمرين / B ٧٦ / متحقّقين ويتكثّر الصادر الأوّل قطعا ولا مجال للقول بتعلّق (٤) الجعل بأحدهما بالذات وبالآخر بالعرض. نعم على القول بتعلّق (٥) الجعل أوّلا وبالذات بالوجود [و] ثانيا وبالعرض

__________________

(١). س : تركبا.

(٢). س : + و.

(٣). س : فيعلق.

(٤). س : يتعلق.

(٥). س : يتعلق.

١٩٤

بالماهيّة تكون الماهيّة وأجزاؤها من الاعتباريات. فالمتحقّق في الخارج لا يكون إلّا أمر واحد هو الوجود الخاصّ وتكون له حيثية عدمية واقعية تنتزع عنها الماهيّات وحينئذ لا يلزم التركيب الحقيقي في الصادر الأوّل إلّا أنّ ذلك لا يلائم معتقد هذا القائل وما ذكره من كون الجنس والفصل مأخوذين من المادّة والصورة الخارجيّين ومنشأين للآثار الخارجية.

وبالجملة : إذا كان مراده أنّ الجنس والفصل مأخوذان منهما ولزم من ذلك التركيب والتكثّر في الصادر الأوّل يبطل ما استند إليه القوم من أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛ وأيضا يكون الصادر الأوّل مادّيا لا مجرّدا ؛ هذا خلف.

[٢.] وإمّا أن يقول بأنّ الجنس والفصل من الأجزاء التحليلية المحضة ولا يلزم أن تكون منتزعة من الأجزاء الخارجية ؛ فحينئذ يكون الفصل أيضا من الامور الاعتبارية ويكون مثل الاعتبارات التي ذكرها الحكماء ولا يصلح أن يكون مصدرا للآثار الخارجية بزعم هذا القائل مع أنّ بناء الوجه الذي ذكره لتصحيح الكثرة على أنّ فصل العقل الأوّل لكونه مصدرا للآثار الخارجية وواحدا يصدر باعتباره عقل ثان وهو أيضا مركّب من الجنس والفصل ؛ ففصله واحد بسيط يصدر عنه عقل ثالث ؛ وإذا اعتبر هذا العقل مع فصل العقل الأوّل صدر عنه عقل رابع وهكذا إلى أن يحصل عدد يصحّ أن يكون منشأ لصدور الأفلاك والكواكب بأسرها.

ولا ريب في أنّ تصحيح الكثرة على هذا الوجه لا يتوقّف على تركّب العقل من الجنس والفصل. فاعتبار تركّبه لا طائل تحته ؛ إذ يكفي أن يقال : الصادر من الحقّ الأوّل أمر واحد بسيط هو العقل الأوّل وهو واسطة لصدور العقل الثاني والعقل الثاني أيضا بانفراده واسطة لصدور عقل ثالث وباعتباره مع العقل الأوّل واسطة

١٩٥

لصدور عقل رابع وهكذا إلى أن تنتهي النوبة (١) إلى الأفلاك ؛ وهذا هو الطريق / A ٧٧ / المذكور في الكلام الأوّل المنقول عن المحقّق الطوسي.

ويمكن أن يقال : غرض هذا القائل تصحيح [صدور] الكثرة عن الواحد بناء على ما تقرّر وثبت عنده من تركّب الماهيّة من الجنس والفصل وكونها مجعولة بالذات ، وهو كما ترى.

فالتحقيق : أنّ الجهات المصحّحة لصدور الكثرة هي التى ذكرها جمهور الحكماء والأمر في ما وقع في كلامهم من الاختلاف في عددها أو في تعيين ما يستند إلى كلّ جهة هيّن ، لما عرفت.

والأصوب في كيفية تصحيح صدور الكثرة أن يقال : إنّ العقل الأوّل باعتبار نسبته إلى الحقّ الأوّل وجهته الراجعة إليه من الوجود ووجوب الوجود وتعقّله (٢) لهما وللحقّ الأوّل يقتضي أمرا أشرف وهو العقل الثاني ؛ وباعتبار ماهيّته وتعقّله لها يصدر عنه نفس الفلك الأقصى المحرّكة بالشوق إليه ؛ وباعتبار إمكانه في نفسه وتعقّله له يصدر عنه جرم هذا لفلك. ثمّ من العقل الثاني بالجهات المذكورة يصدر عنه أيضا عقل وفلك الثوابت ونفسه من الثالث أيضا بالجهات المذكورة عقل ونفس وفلك زحل وهكذا إلى أن تتمّ الأفلاك التسعة والعقول العشرة ؛ والعقل العاشر يصدر عنه باعتبار إمكانه وتعقّله (٣) له الهيولى أو الجسمية المشتركة التي للعناصر وباعتبار ماهيّته وتعقّله لها صورها النوعية وباعتبار وجوده ووجوب وجوده وتعقّله لهما نفوسها الناطقة ؛ وهذه الامور الثلاثة إنّما تصدر من حيث حقيقتها ونوعيتها.

فالجملة من الجهات المذكورة التي هي الحيثيات الفاعلية ؛ وأمّا تعدّدها من حيث الأشخاص وتعقّلها فإنّما هو باعتبار جهات قابلية تحصل بكثرة الموجبات

__________________

(١). س : النوية.

(٢). س : يعقله.

(٣). س : يعقله.

١٩٦

للاستعدادات المختلفة. فإنّ تكثّر حيثيات الفاعل يوجب التخالف النوعي في الأثر ؛ لأنّ آثار الحقائق المختلفة مختلفة ؛ وأمّا التعدّد الشخصي لنوع واحد فلا يحصل إلّا باختلاف القابل أو استعداده ؛ لأنّ الفاعل متساوي النسبة إلى جزئيات النوع الواحد ؛ والماهيّة / B ٧٧ / متّفقة في الجميع ولازم النوع كذلك ؛ فما به الاختلاف لا بدّ أن يكون من العوارض اللاحقة للنوع التي يمكن حدوثها وزوالها ؛ وكلّ ما هو كذلك فعروضه يفتقر إلى المادّة.

وبالجملة : الفاعل من جهة واحدة يجوز أن يفعل أعدادا كثيرة من نوع واحد ، بل أنواعا مختلفة أيضا لاختلاف القوابل عند المشّائين ؛ واعتبر ذلك بشعاع الشمس الواقع على الزجاجات المختلفة اللون.

وأمّا الرواقيّون فعندهم صدور الأنواع المتكثّرة المتكافئة كأنواع الأجسام العنصرية يحتاج إلى اختلاف نوعي إمّا في الفاعل أو في جهات تأثيره ؛ ولمّا لم يكن في العقل العاشر من الجهات والحيثيات ما نفى تكثّرها بتكثّر الأنواع التي في عالمنا فذهبوا إلى أنّ عدد العقول أكثر من عدد الأفلاك والعناصر ، بل عندهم لكلّ نوع من الأنواع الجسمانية عقل هو ربّ نوعه ومدبّر طلسمه ورادّ (١) عنايته بأشخاصه ؛ فيكون عدد الجواهر النورية والقواهر العقلية كعدد الأنواع الجسمانية من الفلكية والعنصرية البسيطة والمركّبة ، بل يزيد على ذلك أيضا ؛ لأنّ العقول ليست عندهم منحصرة في فواعل الأجسام وليست الأجسام تبتدئ في الوجود حيث تبتدئ العقول في الوجود ؛ إذ العقل الثاني ليس فيه من الجهات ما يكفي لصدور الفلك الثامن وما فيه من الكواكب المختلفة الحقائق ؛ وأيضا الأجسام ـ كما سبق ـ متكافئة الوجود ، ليس بعضها علّة بعض. فينبغي أن يكون عللها أيضا عقولا متكافئة واقعة في سلسلة عرضية بعد تحقّق السلسلة الطولية. فالعقول

__________________

(١). س : رد.

١٩٧

عندهم على ضربين :

أحدهما : القواهر الأعلون الواقعة في سلاسل الطوال سوى التي وقعت في أواخر تلك السلاسل.

وثانيهما : الواقعة في سلسلة واحدة عرضية وهي أرباب الأنواع وصواحب الأصنام الجرمية المسمّاة بالمثل النورية الأفلاطونية.

والضرب الأوّل على تفاوت درجاتهم أشرف من الضرب الثاني لنزولهم وقربهم بالأجسام ؛ وتفصيل ذلك يطلب من كتب الشيخ / A ٧٨ / الإلهي ك «حكمة الإشراق» وغيره ؛ هذا ؛ وقد أورد على الطرق المذكورة بأسرها إيرادان جوابهما ظاهر :

[الأوّل :] أنّه لو كانت سبب صدور الكثرة (١) عن العلّة الأولى كثرة الجهات الواقعة في ذات المعلول الأوّل كالوجوب والإمكان والتعقّلين ؛ فإن كانت هذه الكثرة صادرة عن العلّة الأولى فلا يخلو إمّا أن تكون صادرة منها أو على الترتيب. فعلى الأوّل يجوز أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد ؛ وعلى الثاني لا يكون المعلول الأوّل ؛ وإن لم يكن صادرة عن العلّة الأولى ؛ فيجوز أن تحصل كثرة من غير استناد إلى العلّة الأولى.

والجواب : أنّ الصادر عن العلّة الأولى أمر واحد بسيط لا كثرة فيه ؛ وهو ـ على ما اخترناه ـ وجود خاصّ فائض عن الحقّ الأوّل وإنّما لحقته الكثرة من جهة لحوق الماهيّة به من غير جعل وتأثير ، بل لضرورة صدور (٢) ذاته عن ذات الحقّ الأوّل. فالصادر الأوّل هو الوجود وتتبعه الهويّة اللازمة لذلك الوجود ـ أعني الماهيّة ـ من غير تعلّق جعل بها أوّلا وبالذات بل ثانيا وبالتبع ثمّ يتبعه الإمكان والوجوب ثمّ التعقّلان ، كما مرّ.

__________________

(١). س : الكثر.

(٢). س : وصدر.

١٩٨

فكلّ هذه الكثرة ما سوى الوجود مجعولات بالعرض ؛ وعلى ما اختاره غيرنا من أصالة الماهيّة فالصادر الأوّل أيضا أمر واحد بسيط هو ماهيّة العقل الأوّل ويتبعه الوجود ثمّ الإمكان والوجوب ثمّ التعقّلان. فكلّ هذه الكثرة بالحقيقة أمر واحد مناسب للعلّة الأولى الواحدة ومن جهة كثرته الواقعة بالعرض منشأ لصدور الكثرة ؛ فلا إشكال.

وأنت خبير بأنّه ـ على ما اخترناه من كون المجعول بالذات هو الوجود ـ لا يرد إمكان إخلال هذا ولا غيره ؛ وأمّا على كون المجعول بالذات هو الماهيّة وإن كان هذا الإشكال مندفعا ـ كما ذكر ـ إلّا أنّه يرد إشكال آخر وهو أنّه على القول بأنّ كلّ ماهيّة ممكنة فهي مركّبة من الجنس والفصل يكون جهة العقل الأوّل أيضا كذلك ـ كما تقدّم في كلام بعض المتأخّرين ـ وهذا التركيب ليس اعتباريا محضا ، بل هو تركيب حقيقي واقعي ، كما صرّحوه به. فالماهيّة عبارة / B ٧٨ / عن الجنس والفصل وفيها كثرة حقيقية (١) صادرة عن الواحد الحقّ ومجعولة بالذات ؛ إذ لا مجال للقول بأنّ أحدهما مجعول بالذات والآخر مجعول بالعرض ، كما في الوجود والماهيّة.

فهذا الإشكال على تقدير كون الماهيّة مجعولة بالذات وارد غير مندفع ؛ وأمّا على المختار من جعل الوجود فلا يرد أصلا ؛ إذ الماهيّة حينئذ اعتبارية مجعولة بالعرض بكلا جزئيها إن كان لها جزء ؛ وهذا أيضا من الشواهد على كون المجعول بالذات هو الوجود.

[الثاني :] أنّ الإمكان والوجوب عدميّان والمعدوم يستحيل أن يكون علّة للموجود ؛ وأيضا الإمكان مثلا معنى واحد مشترك بين الإمكانات ؛ فلو كان علّة لكان كلّ إمكان يصلح لأن يكون علّة وحينئذ يمكن أن يكون كلّ ممكن علّة بنفسه ولغيره ؛ فيخرج عن الإمكان ؛ وقس على الإمكان الوجود والوجوب.

__________________

(١). س : حقيقة.

١٩٩

والجواب ـ بعد تسليم عدمية الوجوب واشتراك الامور الثلاثة وعدم القول بالتشكيك ـ أنّ هذه الاعتبارات ـ كما مرّ ـ ليست عللا مستقلّة بأنفسها ولا عللا متوسّطة ، بل هي شروط وآلات تختلف بها أحوال العلّة والعدميات والاعتبارات والمشتركات التي تختلف باختلاف الإضافات تصلح لذلك قطعا.

[في أحكام الوجود العامّ ولوازمه]

للوجود العامّ أحكام ولوازم :

[الأوّل :] أنّه بديهي التصوّر لا يمكن تعريفه ؛ إذ ما يرادفه من الكون والثبوت والظهور الخارجي ممّا يدركه كلّ أحد بلا رويّة وليس شيء أعرف منه حتّى يعرف به ولذا ما ذكروه من تعاريفه إمّا دوري أو أخفى ؛ ولقضاء الضرورة بأعرفيته من كلّ شيء تكون بداهيّته أيضا بديهية. فما ذكروه في بيانه تنبيه عليه كقولهم : «لمّا وجب انتهاء سلسلة الاكتساب إلى أوّلي التصوّر وجب كونه أعرف الأشياء وأعمّها ؛ إذ اشتراط الأظهرية في المعرّف يقتضي (١) تعريف العامّ بالخاصّ ، ولا شيء أعمّ وأبسط من الوجود ؛ وقولهم : «التعريف إمّا بالحدّ أو الرسم ؛ والأوّل ينفي عن الوجود لكونه بالجنس والفصل المنتفيين عنه لأعمّيته المطلقة وكذا الثاني لأنّه بالأعرف و/ A ٧٩ / لا أعرف منه.»

[الثاني :] أنّه مشترك معنى ؛ إذ لا ريب في أنّ الوجود العامّ المرادف للكون البديهي والظهور العيني ثابت لكلّ موجود وزائد على حقيقته المتحقّقة في الخارج ؛ ولذا انعقد الإجماع على ثبوته للواجب وتكفير القائل بالاشتراك اللفظي لو علم بفساده ؛ أي إيجابه سلب الظهور العيني المعبّر عنه في الفارسية ب «هستى»

__________________

(١). س : يبقى.

٢٠٠