اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

ثالث ؛ لأنّه صنم لذلك النبات ؛ وإنّما يحيى هذا [النبات] بما يفيض عليه ذلك [النبات] من حياته ؛ فأمّا هذه الأرض فلها أيضا حياة ما وكلمة فعّالة ـ كما وقعت الإشارة إليه ـ فإن كانت هذه الأرض الحسّية التي هي صنم حيّة فبالحريّ أن تكون تلك الأرض العقلية حيّة أيضا وهي الأرض الأولى وأن تكون هذه أرضا ثابتة لها شبيهة بها.» (١)

وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «لم كانت هذه الحيوانات الغير الناطقة هناك؟ فإن كانت لأنّها كريمة فيّ (٢) أهناك أكرم جوهرا وأشرف؟»

فأجاب «بأنّ العلّة في ذلك أنّ البارئ الأوّل واحد فقط من جميع الجهات وأبدع العالم واحدا أيضا ؛ ولم يكن وحدانية المبدع كوحدانية المبتدع بالضرورة وإلّا لكانتا شيئا واحدا وهو محال ؛ فلا بدّ من أن يكون في وحدانية المبدع كثرة ؛ لأنّه بعد الواحد الحقّ مطلقا فلا محالة أنّه كثير ؛ لأنّ الكثير خلاف الواحد ؛ لأنّ الواحد هو التمام والكثير هو الناقص وإن كان / A ١٩٢ / المفضول عليه في حيّز الكثرة فلا أقلّ من أن يكون اثنين ؛ وكلّ واحد من ذينك الاثنين يتكثّر أيضا ـ على ما وصفناه ـ وقد يوجد للإثنين (٣) الأوّلين حركة وسكون وفيهما عقل وحياة غير أنّ ذلك العقل ليس هو كعقل واحد منفرد لكنّه عقل فيه جميع العقول وكلّها منه وكلّ واحد من العقول فهو كثير على قدر كثرة العقول وأكثر منها.

فقد بان أنّه لم يكن العالم الأعلى ذا صور كثيرة وإن كانت صور الحيوان كلّها فيه حيّة.» (٤)

وقال أيضا في موضع آخر على سبيل السؤال أيضا : «قد يجوز لجاعل أن يجعل الحيوانات الكريمة في العالم الكريم [الأعلى] وأمّا الحيوانات الدنيّة

__________________

(١). أثولوجيا (الميمر العاشر) ، ص ١٥٤ ـ ١٥٣.

(٢). أثولوجيا : ـ في.

(٣). س : الاثنين.

(٤). مع تفاوت كثير في أثولوجيا (الميمر العاشر) ، صص ١٤٩ ـ ١٤٨.

٤٦١

فلن يجوز أن يقول : إنّها هناك؟»

فأجاب عنه بمثال واحد فقال : «إنّ الإنسان الذي في العالم الأسفل ليس كالإنسان الذي في العالم الأعلى ؛ فإن (١) كان هذا الإنسان ليس مثل ذلك الإنسان فلم يكن ساير الحيوانات التي هناك مثل هذه ، بل تلك أكرم وأفضل.» (٢)

وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «ما بال الناطق العالي إذا صار هنا روّى وفكّر وساير الحيوان لا يروّى ولا يفكّر إذا صار هاهنا وهي كلّها هناك عقول؟»

فأجاب «بأنّ العقل مختلف ؛ فإنّ العقل الذي في الإنسان غير العقل الذي في ساير الحيوان ؛ فإن كان العقل في الحيوانات العالية مختلفا فلا محالة أنّ الرويّة والفكرة فيها مختلفة ؛ وقد نجد في ساير الحيوانات أعمالا ذهنية.» (٣)

وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «إن كانت أعمال الحيوانات ذهنية فلم لم تكن أعمالها كلّها بالسواء؟ وإن كان النطق علّة للرويّة هاهنا فلم لم يكن الناس كلّهم سواء بالرويّة لكن رويّة كلّ واحد منهم غير رويّة صاحبه؟»

فأجاب «بأنّ اختلاف الحياة والعقول إنّما هي لاختلاف حركات الحياة والعقل ؛ فلذلك كانت حيوانات مختلفة وعقول مختلفة إلّا أنّ بعضها أنور وأظهر وأشرف من بعض ؛ وذلك أنّ من العقول ما هو قريب من العقول الأولى ؛ فلذلك / B ١٩٢ / صار أشدّ نورا من بعض ومنها ما هو ثان وثالث ؛ فلذلك صار بعض العقول التي هاهنا إلهية وبعضها ناطقة وبعضها غير ناطقة لبعدها من تلك العقول الشريفة ؛ وأمّا هناك فكلّها ذو عقل ؛ فلذلك صار الفرس عقلا وعقل الفرس فرس ولا يمكن أن يكون الذي يعقل الفرس إنّما هو عاقل الإنسان ؛ فإنّ ذلك محال في

__________________

(١). س : وان.

(٢). مع تفاوت كثير في أثولوجيا (الميمر العاشر) ، ص ١٤٩.

(٣). المصدر السابق ، صص ١٥٠ ـ ١٤٩.

٤٦٢

العقول الأولى ؛ فالعقل الأوّل إذا عقل شيئا ما كان هو وما عقله شيئا واحدا ؛ فالعقل الأوّل لا يعقل شيئا لا عقل له ، بل يعقله عقلا نوعيا وحياة نوعية ؛ وكانت الحياة الشخصية ليست بعارية للحياة المرسلة ؛ فكذا العقل الشخصي (١) ليس بعادم للعقل المرسل ؛ فاذا كان هذا هكذا فالعقل الكائن في بعض الحيوان ليس هو بعادم للعقل الأوّل ؛ فكلّ جزء من أجزاء العقل هو كلّ يتجزّى به عقل ؛ فالعقل للشيء الذي هو عقل له هو الأشياء كلّها بالقوّة ؛ فإذا صار بالفعل صار خاصّا أخيرا بالفعل وإذا كان أخيرا بالفعل صار فرسا أو شيئا آخر من الحيوان ؛ وكلّما سلكت الحياة (٢) إلى أسفل صار حيّا دنيّا خسيسا ؛ وذلك أنّ القوى الحيوانية كلّما سلكت إلى أسفل ضعفت وخفيت بعض أفاعيلها العالية ؛ فحدثت منها حيوان دنيّ ضعيف ؛ فإذا صار ضعيفا احتال له العقل الكائن ؛ فتحدث الأعضاء القويّة بدلا [ممّا نقص] عن قوّته ، كما لبعض الحيوان أظفار ولبعضه مخاليب ولبعضه قرون ولبعضه أنياب على نحو نقصان قوّة الحياة فيه.» (٣)

وقال في موضع آخر وبعنوان السؤال أيضا : «إن كانت قوّة النفس تفارق الشجرة بعد قطع أصلها فأين تذهب تلك القوّة أو تلك النفس؟»

فأجاب «بأنّها تصير إلى المكان الذي لم يفارقه وهو العالم العقلي ، وكذلك إذا فسد جزء النفس البهيمي تسلك النفس التي كانت فيها إلى أن يأتي العالم العقلي وإنّما يأتي ذلك العالم لأنّ ذلك العالم مكان النفس وهو العقل لا يفارقه والعقل ليس في مكان ؛ فالنفس إذن ليست في مكان ولا يخلو عنها مكان.» (٤)

وقد ظهر من كلمات المعلّم الأوّل أنّ كلّ ما يوجد في العوالم الجسمية يوجد في العالم العقلي ؛ والفرق بينهما بالعقلية والجسمية ؛ فكلّ ما في الأفلاك والعناصر

__________________

(١). س : الشخص.

(٢). أثولوجيا : كلّما سلك الحيوان.

(٣). مع تفاوت كثير في أثولوجيا (الميمر العاشر) ، صص ١٥١ ـ ١٥٠.

(٤). المصدر السابق ، ص ١٣٨.

٤٦٣

من الذوات والأوصاف والآثار كما يوجد في عالم المثال يوجد في عالم الأنوار أيضا إلّا أنّ الجميع في العالم السفلي على وجه المادّية وفي العالم المتوسّط المثالي على الوجه المثالي وفي العالم العقلي على الوجه العقلي النوري.

بقي الكلام في أنّ ربّ كلّ نوع مع ساير أفراده المثالية والجسمية كيف يكون داخلة تحت نوع واحد ومعدودة من أفراد حقيقية نوعية واحدة مع ثبوت الاختلاف بالعلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية وبالقيام بالذات والقيام بالغير وبالجوهرية والعرضية؟!

والتحقيق : أنّ ربّ كلّ نوع ليس فردا حقيقيا لهذا النوع وليس إطلاق هذا النوع عليه إطلاقا حقيقيا ، بل هو إطلاق مجازي باعتبار المناسبة والمماثلة في النعوت والأوصاف بوجه غير مصحّح للإطلاق الحقيقي. فالذات المجرّدة النورية في بدو الفطرة التي يعبّر عنها بالإنسان العقلي وإن اتّصف بما يتّصف به الإنسان وحصلت لها ما يحصل له من السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس بل اليد والرجل والرأس وغير ذلك ولكن كان ذلك على وجه عقلي لا يكون فردا حقيقيا للإنسان ؛ إذ الفرد الحقيقي له ما له أعضاء خاصّة متمايزة منفصلة بعضها عن بعض وكانت له صفات وأفعال مخصوصة على الوجه الخاصّ المعروف المشاهد ؛ وما يطلق عليه الإنسان العقلي ليس كذلك ؛ إذ ليس له أعضاء متمايزة ولا أوصاف معروفة مشاهدة ، بل ما هو إلّا جوهر مجرّد عقلي مخالف للإنسان الحسّي بالحقيقة والذات وبما اشير إليه من العلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية وغيرها ؛ فلا معنى لدخولهما تحت نوع واحد ، بل مصحّح الإطلاق هو ما مرّ مرارا ؛ وليس مثل هذا الإطلاق إلّا إطلاقا مجازيا ؛ فلو فرض أنّ بياضا صار قائما بذاته فإنّه كان في البياضية (١) أقوى وأكمل إلّا أنّه / B ١٩٣ / ليس فردا حقيقيا من البياض المتعارف ؛ إذ

__________________

(١). س : الساخيه.

٤٦٤

حقيقته ما كان عرضا قائما بغيره ؛ فالإنسان العقلي وإن كان أقوى وأتمّ في الإنسانية إلّا أنّه ليس فردا حقيقيا لهذا الإنسان المتعارف.

ثمّ لا تظنّن أنّه لو فرض أو سلّم جواز كون الإنسانية حقيقية واحدة مختلفة بمجرّد أنحاء التشكيك ـ أي بالكمال والنقص والقوّة والضعف وغيرها ـ ولذلك جاز اختلاف أفرادها بالعلّية والمعلولية والغنى والفقر والجوهرية والعرضية وغير ذلك ، لرجوع هذا الاختلاف إلى الاختلاف بالكمال والنقص والقوّة والضعف ؛ ويكون لذلك أحد أفرادها الحقيقية الإنسان العقلي المخالف لسائر أفراده في الوجوه المذكورة يلزم جواز ذلك في الوجود أيضا بأن يكون حقيقة بسيطة أحد أفرادها الواجب بالذات وساير الأفراد معلولة له ؛ لأنّ ذلك يوجب تركّب الواجب ، وهو محال ؛ فالوجود المشترك بين الواجب وغيره لا يكون ذاتيا لهما ، بل يكون أمرا اعتباريا عارضا.

وأمّا كون الإنسان حقيقة مشتركة بين الإنسان العقلي وغيره وذاتيا لها لا يوجب محذورا عقليا ؛ إذ اللازم منه التركيب في الإنسان العقلي ولا ضير فيه ، لجواز ذلك بلا خلاف.

ثمّ هاهنا أقوال اخر في تأويل المثل النورية الأفلاطونية :

الأوّل : ما ذكره المعلّم الثاني في مقالته المسمّاة بالجمع بين الرأيين ؛ وهو أنّ مراد أفلاطون وسقراط وغيرهما من الأقدمين بها هي الصور العلمية القائمة بذاته تعالى المعلومة له بالعلم الحصولي الفعلي ؛ فإنّها باقية غير متغيّرة وإن تغيّرت وزالت الأشخاص الزمانية والمكانية. (١)

وفيه : أنّ هذا ينافي ما نقل عنهم من كلماتهم وينافي تشنيعات المتأخّرين وإيراداتهم عليهم ؛ فإنّه قد نقل عنهم أنّ لكلّ نوع جسماني فردا كاملا قائما بذاته ؛ و

__________________

(١). انظر : الجمع بين رأيى الحكيمين ، صص ١٠٧ ـ ١٠٥.

٤٦٥

نقل عن أفلاطون ـ كما تقدّم ـ أنّه قال : «رأيت أفلاكا نورية» وعن هرمس ـ كما سبق ـ أنّه قال : «إنّ ذاتا روحانية ألقت (١) إلى المعارف. فقلت : من أنت؟ فقال : أنا طباعك التامّ» ومنافاة ذلك لما تقدّم من كلمات المعلّم الأوّل ممّا لا يخفى ؛ وقد شنعوا / A ١٩٤ / عليهم بأنّه يلزم على القول بالمثل أن تكون في عالم العقول خطوط وسطوح وأفلاك وحركات تلك الأفلاك وأدوارها وأن توجد هناك علم النجوم وعلم اللحون وأصوات مؤتلفة وطبّ وهندسة ومقادير مستقيمة ومنحنية (٢) وأشياء حارّة وباردة وكيفيات منفعلة وفاعلة وكلّيات وجزئيات وصور وموادّ وغير ذلك من الشناعات كما ذكره الفارابي في مقالته ؛ وظاهر أنّ ذلك ينافي كون المثل هي الصور العلمية.

والثاني : ما ذكره الشيخ ؛ وهو أنّ المراد منها الطبائع النوعية في الخارج ـ أي الكلّي الطبيعي للأشخاص ـ وهو الماهيّة لا بشرط شيء بناء على عدم فرقهم ـ بظنّ الشيخ ـ بين الماهيّة لا بشرط شيء وبينها بشرط لا شيء ؛ فإنّ الكلّي الطبيعي الموجود في الخارج بالعرض هو الماهيّة لا بشرط شيء ؛ وما ذكره أفلاطون من وجود الطبيعة المجرّدة القائمة بذاتها هي الطبيعة بشرط لا ؛ فهو بظنّ الشيخ لم يفرق بين الاعتبارين للماهيّة ؛ إذ بناء على عدم التفرقة بين الوحدة النوعية والوحدة الشخصية أو عدم التفرقة بين تجرّد الشيء بحسب ملاحظة العقل الذات في مرتبة لا تدخل فيها العوارض وبين تجرّده في الوجود الخارجي عن العوارض ؛ فحكموا بوجود الماهيّات المجرّدة عن العوارض في الخارج بناء على وجودها بعين وجود أشخاصها مع عوارضها ولواحقها المادّية وجودا متكثّرا في العين متوحّدا في الحدّ والنوع.

وفيه : أنّ جلالة قدر أفلاطون (٣) ومعلّمه سقراط وغيرهما من أساطين الحكمة

__________________

(١). س : الفت.

(٢). س : منخبه.

(٣). س : افلاطن.

٤٦٦

أعظم من أن تشتبه عليهم هذه الاعتبارات العقلية. كيف والكلّي الطبيعي على التحقيق ـ كما مرّ ـ غير موجود في الخارج ولا في العقل إلّا بالعرض بمعنى أنّ الموجود بالذات والأصالة هو الوجود الخاصّ ؛ لأنّه أمر متشخّص في ذاته دون الماهيّة ؛ فهي متحقّقة بتبعية تحقّقه؟! والفرق بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المجرّدة أنّ الأولى توجد في الخارج بالعرض بخلاف الثانية فإنّها لا توجد في الخارج أصلا ـ أي لا بالذات ولا بالعرض ـ وإنّما توجد في العقل فقط.

الثالث : ما ذكره جماعة ؛ وهو أنّها عبارة عن الأشباح المثالية المقدارية / B ١٩٤ / الموجودة في عالم المثال وهو عالم متوسّط بين عالم المجرّدات وعالم المادّيات.

وفيه : أنّ تلك المثل ـ على ما صرّحوا به ـ نورية مجرّدة موجودة في عالم العقول ؛ وهذه الأشباح المعلّقة والصور المثالية ذوات أوضاع مقدارية منها مستبشرة مثلا لا تتنعّم بها السعداء وهي صور حسنة جميلة بهيّة بيض كأمثال اللؤلؤ المكنون ومنها صور ظلمانية موحشة سود أزرق مكروهة تتعذّب بها الأشقياء وتتألّم النفوس من مشاهدتها. على أنّ القائلين بالمثل الإلهية الأفلاطونية كما قالوا بها وصرّحوا بوجودها قالوا بوجود الأشباح المعلّقة والصور المثالية أيضا ؛ فهم مصرّحون بوجود الأمرين ، فكيف يجوز تأويل أحدهما بالآخر؟!

الرابع : ما ذكره بعضهم وهو أنّ المراد منها نفس هذه الصور المادّية الشخصية من حيث كونها حاضرة عنده تعالى معلومة له بالعلم الحضوري ؛ فإنّها من هذه الحيثية العلمية الانتسابية يكون لها ثبوت على وجه كلّي ؛ لأنّها غير محتجبة بحسب هذه الثبوت بالأغشية المادّية المكانية ولا بالقشورات والملابس التجدّدية الزمانية.

وفيه : أنّه لا ريب في تعدّد هذه الأشخاص وتكثّرها وتكثّر تعيّناتها الحسّية ؛

٤٦٧

والمنقول عنهم أنّ لكلّ نوع جسماني فردا مجرّدا أبديا واحدا ؛ فحمل كلامهم على الأشخاص المادّية غير صحيح.

[في كيفية حدوث العالم]

قد ظهر ممّا ذكر أنّ العقلاء بأسرهم ـ من الحكماء والكلاميّين ـ متّفقون على صدور العالم وحدوثه منه تعالى ؛ وإنّما وقع الخلاف بينهم في كيفية حدوثه.

فالمعروف من مذهب الحكماء أنّ اصول العالم ـ أعني العقول والأفلاك وكلّيات العناصر ـ حادثة بالحدوث الذاتي ؛ والمراد به تأخّر وجودها عن الواجب تأخّرا بالذات ؛ أي بحسب المرتبة العقلية لا في الخارج ؛ فلا يتحقّق بين الواجب والعالم انفصال في الخارج.

ومذهب جمهور المتكلّمين أنّها حادثة بالحدوث الزماني ؛ والمراد به تأخّر وجودها عنه تعالى تأخّرا زمانيا ؛ فيتحقّق بينهما عدم زماني ممتدّ ؛ لأنّه ينتزع عنه / A ١٩٥ / تعالى قبل وجود العالم زمان موهوم هو وعاء هذا العدم ؛ فيسند (١) هذا العدم إليه.

وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّها حادثة بالحدوث الدهري ؛ (٢) والمراد به تأخّر وجودها عنه تعالى تأخّرا انسلاخيا انفكاكيا ـ أي وجودها بعد العدم الصريح المحض الذي ليس زمانيا ولا سيّالا ولا متكمّما ولا متقدّرا ـ فالعالم منفكّ عن الواجب في الواقع ونفس الأمر إلّا أنّ هذا (٣) الانفكاك ليس زمانيا.

__________________

(١). س : فيثبت.

(٢). هو المعلّم الثالث ، المير محمّد باقر الداماد ؛ صنّف في تبيينه وإثباته الكتب والرسائل العديدة وادّعى أنّ الجمهور لم يتعرّفه لدقّته وغموضته وأنّ معلّم الفلسفة المشّائية ومن تأخّر عنه لفي غفلة عنه. خالفه فيه جمع كثير من الظاهريين والمتكلّمين ؛ فلذا قد قام بإثباته تلميذه الذكيّ صدر المتألّهين الشيرازي وأبدع نظرية الحركة الجوهرية وحدوث العالم آنا فآنا ؛ وزعم بعض المتأخّرين كالزنوزي أنّه لا فائدة فيه. «اوجبي»

(٣). س : هذه.

٤٦٨

والحاصل : أنّه مسبوقية الوجود بالعدم الصريح المحض لا مسبوقية بالذات ، بل مسبوقية انسلاخية انفكاكية غير زمانية ولا متقدّرة.

فتلخيص أقسام الحدوث أنّ الذاتي عبارة عن وجود العالم بعد عدمه في لحاظ العقل و (١) الواقع ؛ والزماني عبارة عن وجوده بعد عدم واقعي كمّي ؛ والدهري عبارة عن وجوده بعد نفي صريح واقعي غير كمّي ؛ والوجه في تسمية القسم الأخير من الحدوث بالدهري أنّ الأوعية عند الحكماء ثلاثة :

الأوّل : وعاء تحت الوجود الثابت الحقّ المتعالي عن سبق العدم على الإطلاق ؛ ويسمّى بالسرمد.

الثاني : وعاء الموجود بعد العدم الصريح المرتفع عن افق التقدّر واللاتقدّر (٢) ، كالعقول والأفلاك ؛ ويسمّى بالدهر.

الثالث : وعاء الامور المتغيّرة المتقدّرة السيّالة المسبوقة بالعدم الزماني ، كالحوادث ؛ ويسمّى بالزمان.

وكما أنّ وعاء وجود هذه (٣) الامور هو الزمان فكذا وعاء عدمها أيضا هو الزمان ؛ وكما أنّ وجود الموجودات بعد العدم (٤) الصريح هو الدهر فكذا وعاء عدمها أيضا هو الدهر. فأولى الأسماء للحدوث بحسب سبق العدم الصريح هو الحدوث الدهري ؛ وأمّا بحت الوجود المتعالي عن سبق العدم على الإطلاق فلا يتصوّر له عدم حتّى تكون له وعاء ، بل الوعاء له ـ أي السرمد ـ إنّما هو وعاء وجوده ؛ ولا يتصوّر الاختلاف في الأوعية باختلاف الأوقات ؛ فوعاء كلّ من الموجودات الثلاثة هو وعائه المختصّ به في كلّ وقت ؛ فوعاء الوجود الخالص هو السرمد ولو بعد تحقّق الوعاء بين الأخيرين ؛ لأنّه محيط بهما ؛ فلا فرق في عدم

__________________

(١). س : دو.

(٢). س : الاتقدر.

(٣). س : هذا.

(٤). س : الوجود الموجودات بالعدم.

٤٦٩

انتسابه إليهما وتعاليه / B ١٩٥ / عنهما قبل وجودهما وبعده ؛ وكذا وعاء الموجود بعد العدم الصريح هو الدهر ولو بعد وجود الزمان ، لتعاليه عنه وإحاطته به ؛ فلا يتصوّر انتسابه إليه.

واستدلّ الحكماء بوجوه عمدتها أربعة :

الأوّل : أنّ العالم لو كان حادثا بالحدوث الزماني أو الدهري لزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ؛ إذ ذاته تعالى بذاته علّة مستقلّة لإيجاد العالم ؛ لأنّه الجواد الحقّ والفيّاض المطلق وتامّ في ذاته وصفاته التي هي عين ذاته ؛ فمجرّد ذاته بذاته في الأزل كاف في صدور العالم عنه ؛ فالتخلّف الموجب للانفكاك الزماني أو الخارجي الواقعي محال.

الثاني : أنّه تعالى في الذات والصفات والأفعال على أشرف ما يتصوّر ويعقل من الكمال والبهاء ، وتامّ في الكلّ وفوق التمام ؛ فيجب أن (١) يدوم فيضه ويستمرّ من غير الانقطاع له من البداية والنهاية ويكون ما يترشّح منه من المعلولات غير متناه شدّة ومدّة وعدّة ؛ إذ الفاعل الذي لا يتناهى فعله أقوى وأشرف ممّن يتناهى فعله ؛ والأليق بعلوّ قدرته وعظم سلطانه أن لا يتناهى إفاضة وجوده ؛ وانقطاع الفيض عنه قصور على علوّ قدرته وفتور على عظيم قوّته ، بل وهن على حريم سلطنته التامّة الكبرى ونقص لا يليق بساحة جبروته القاهرة العظمى.

واجيب عنهما بأنّ التخلّف والانقطاع قصور العالم وعدم قبوله الوجود الأزلي ؛ فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة قصور العلّة وعدم تماميتها ؛ وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهره عن قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : «إنّ العالم لم يكن ممكنا قبل ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه» والإمكان شرط في التأثير والمقدورية ، و

__________________

(١). س : + يكون.

٤٧٠

الوجوب والامتناع تخيّلاتهما (١) ؛ وثبوت الإمكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ؛ إذ لا يلزم من أزلية إمكانه امكان أزليته ؛ إذ إمكان أزلية الشيء إنّما يتحقّق إذا كان إمكانه الوقوعي أزليا.

ألا ترى أنّ الحادث بشرط كونه حادثا إمكانه أزلي / A ١٩٦ / وليس أزليته ممكنا؟! لاستحالة أزلية الحادث من حيث إنّه حادث ؛ والإمكان الذاتي متحقّق في الأزل فلا انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه فلا قدم ؛ فلمّا زال المانع من جهة وصار ممكنا بالإمكان الوقوعي وجد ؛ فلا تأخّر في الإفاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول عن علّته التامّة.

ثمّ سلّم أنّ المجرّدات من العقول والنفوس يمكن قبولها أزلية الوجود ؛ فلا ريب في أنّ العالم الجسماني لا يقبلها ، لما يأتي من تناهي الامتدادات والزمان والحركة ؛ فكما أنّ عالم الأجسام يتناهى وينقطع الامتداد المكاني بالفلك الأقصى فلا يلزم منه قصور في غائية العلّة ، بل يعلّل ذلك إلى العناية الكلّية وأصلحية النظام الأعلى أو إلى عدم قبول العالم الجسماني امتدادا مكانيا أكثر من ذلك ؛ فكذلك الحكم في الامتداد الزماني بلا تفاوت.

والتوضيح : أنّ المكان والزمان يتساويان في الأحكام ومرتضعان من ثدي واحدة ؛ فالعلّة في انقطاع البعد الزماني وتخصّصه بما وجد إنّما هي العلّة في انقطاع البعد المكاني وتخصّصه بالبعد الموجود ـ أعني قدر قطر الفلك الأعظم ـ من دون زيادة ونقصان ؛ والعلّة في ذلك :

[١.] إمّا العناية الكلّية الراجعة إلى نظام الخير بمعنى أنّ الذات لكونها في غاية الكمال والتمامية افيضت أن يكون معلولها أيضا كذلك ؛ فعقل ذلك النظام على هذا النحو الذي هو غاية الكمال والخيرية وأوجده على ما عقل وحينئذ كما أنّ

__________________

(١). كذا في الأساس.

٤٧١

انقطاع البعد المكاني وتخصيصه بالقدر الواقع مستندان إلى العناية ولا قصور في تمامية العلّة ولا في أشرفية فعله ؛ فكذلك الانقطاع الزماني وتخصيصه بالقدر الواقع مستندان إليها من دون قصور في تمامية العلّة.

[٢.] وإمّا عدم قبول العالم الجسماني شيئا من أنحاء الوجود قدرا ووقتا وكمّا وكيفا إلّا النحو الذي وجد ؛ فكما أنّه ليس من شأنه قبول عدم التناهي في الامتداد المكاني كما يفيد أدلّة بطلان التسلسل وعدم تناهي الأبعاد كذلك ليس من شأنه قبول عدم التناهي في الامتداد الزماني لتلك الادلّة أيضا. فتناهي فيوضاته الجسمانية وانقطاعها نظرا / B ١٩٦ / إلى اقتضاء حقيقتها ذلك لا يقدح في علوّ قدرته وعدم تناهي كماله وقوّته.

وقد اجيب عن الدليلين أيضا بأنّ التخلّف عن العلّة التامّة وانقطاع الفيض عن الفيّاض المطلق إنّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه ؛ فلا يتصوّر ذلك إلّا بكون تلك العلّة زمانية والواجب تعالى من حيث ذاته وصفاته الحقيقية منزّه عن الزمانية والانتساب إلى أجزاء الزمان ، بل هو خارج عن سلسلة الزمان والزمانيات ـ سواء كانت متناهية كما عليه الملّيّون أو غير متناهية كما عليه الحكماء ـ ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة ؛ ولا يلزم من تناهي زمان وجود الممكنات كونه تعالى موجودا في زمان لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من تناهي مكانها موجوديته تعالى في مكان كذلك ؛ فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف المستحيل؟!

نعم عند الملّيّين له تعالى قبليّة على جميع الممكنات سوى القبليّة بالعلّية لكن ليست قبليّة متعذّرة متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها ، بل منشأ انتزاعها هو اختصاص جميع الموجودات الممكنة بالزمان عندهم إمّا [من] حيث

٤٧٢

الذات والحقيقة وإمّا من حيث العلاقة الذاتية وتناهي (١) الزمان وإحاطته تعالى عليه وتعاليه من حيث الذات والصفات عنه.

وليس المراد من لفظة «كان» في الحديث المشهور (٢) كونه تعالى في زمان موجود لكونه من العالم أيضا ؛ ولا موهوم لبطلانه عند المحصّلين.

وليس المراد من توصيفه بالدوام والأزلية والقدم وأمثالها كونه تعالى موجودا في زمان غير متناه ، تعالى عن ذلك ؛ كيف وقد ورد عن الحجج عليهم‌السلام أنّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له تعالى متى وأنّه كان ولا مكان ؛ فخلق الكون والمكان ؛ وأنّه قبل القبل بلا قبل ؛ وأنّه لا يوصف بزمان ولا مكان ؛ وأنّه لم يزل بلا زمان ومكان ؛ وأنّه الآن كما كان ؛ وأمثال ذلك.

والحاصل : أنّ التخلّف إنّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول فيه ؛ ووجود العلّة لا في زمان ، بل في حاقّ الواقع بلا امتداد بدون المعلول المطلق عليه اسم (٣) التخلّف ؛ لأنّه فرع تخلّل الامتداد والفصل وتحقّق ظرف يتحقّق فيه التخلّف ؛ والواجب / A ١٩٧ / لتعاليه عن الزمان يتقدّس عن الانتساب إليه بالقرب والبعد ، بل نسبته إلى جميع أجزائه نسبة واحدة ؛ فالزمان المتناهي وغير المتناهي بالنسبة إليه على السواء ؛ فكما لا تخلّف على تقدير عدم تناهيه فكذلك على فرض تناهيه ؛ إذ كلّ منهما بالنسبة إليه كان واحدا (٤) ؛ فكلّ من زمان غير متناه أو مكان كذلك لو فرض مع استحالته حصوله في وعاء كبريائه ـ أعني السرمد ـ لم يزد من آن أو نقطة واحدة ؛ فله معيّة بالكلّ إلّا أنّها ليست معيّة زمانية أو مكانية وكذا له بعد عنه إلّا أنّه ليس بعدا زمانيا أو مكانيا ؛ فسبحان من هو داخل في كلّ شيء لا بمقارنة وخارج عنه لا بمزايلة (٥) وفي القرب الأقرب إليه بالإحاطة والظهور و

__________________

(١). س : تباهي.

(٢). وهو «كان الله ولم يكن معه شيء.»

(٣). س : اسمه.

(٤). س : واحد.

(٥). قد مرّ أنّه اقتباس من الكلام العلوي : «داخل في الأشياء لا بمقارنة وخارج عنها لا بمزايلة» نهج البلاغة ، خطبة ١.

٤٧٣

في البعد الأبعد منه بالعلوّ والقهر الأتمّ.

وهذا الجواب إنّما يتأتّى من قبل القائل بالحدوث الدهري لا الزماني ، كما لا يخفى وجهه.

الثالث : أنّ العالم لو كان حادثا لكان مسبوقا بمادّة ـ كما هو الشأن في كلّ حادث ـ إذ إمكان وجوده متقدّم على وجوده ؛ وليس ذلك الإمكان قائما بذاته ، لعدم جوهريته ؛ ولا بالفاعل ؛ لأنّه غير القدرة ؛ ولا يقوم بالفاعل غيرها ولا بالماهيّة ؛ لأنّه غير الإمكان الذاتي المجامع للوجود ؛ فلا بدّ أن يقوم بمادّة الحادث أو موضوعه أو متعلّقه ؛ فلو كان العالم حادثا كانت له مادّة سابقة على جميع أجزائه ؛ هذا خلف.

واجيب بأنّ الإمكان السابق على وجوده هو الذاتي مع اعتبار قيد العدم ؛ فتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه معه لملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه وهو أمر اعتباري لا وجود له في الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهيّة ، بل هو بعينه الإمكان الذاتي ؛ ولا فرق إلّا بانضمام قيد العدم وعدمه ؛ فمع ملاحظة قيد العدم لا حاجة إلى محلّ وبدونه منتزع عن الماهيّة.

نعم لو كان العالم قبل وجوده موصوفا بصفات الموجودات كالقرب والبعد وأمثالهما لكان له إمكان استعدادي هو القوّة المصحّحة لهذه الصفات قبل وجوده ؛ وحينئذ يحتاج إلى مادّة / B ١٩٧ / حاملة لتلك القوّة وذلك كالجنين قبل وجوده ؛ فإنّه يتّصف بالبعد والقرب من الوجود ؛ فيعلم من ذلك أنّ له قوّة قائمة بمادّة سابقة على وجوده ؛ فإن قامت بالغذاء مثلا يتّصف بالبعد من الوجود وإن قامت بالنطفة يتّصف بالقرب منه وقس عليه النطفة بالقياس إلى الغذاء وإلى مادّته وهكذا إلى أن (١) يصل إلى المادّة الأولى.

__________________

(١). س : بان.

٤٧٤

وظاهر أنّ القائل بالحدوث لا يثبت الإمكان الاستعدادي له قبل وجوده ؛ لأنّه يدّعي كونه مبدعا لا في زمان ؛ ولا يعقل للمبدع أن تسبقه المادّة ؛ لأنّ سبقها لا يكون إلّا للمتّصف بالقرب والبعد المتحقّقين في الزمان ؛ فالمبدع الذي لا يحتاج إليه لا يفتقر إليها أيضا وإلّا احتاج العالم إليها مع كونه حادثا بالحدوث الذاتي أيضا ؛ إذ إمكان وجوده متقدّم بالذات على وجوده ؛ وليس قائما بذاته ولا بالفاعل ولا بالماهيّة إلى آخر ما تقدّم.

الرابع : أنّ حدوث العالم يوجب تناهي الزمان وتناهيه يوجب سبق عدمه على وجوده سبقا لا يجامع السابق المسبوق ؛ وذلك لا يكون إلّا بزمان ؛ فيكون قبل الزمان زمان وهكذا إلى ما لا بداية له.

وجوابه : أنّ [سبق] عدم الزمان المتناهي على وجوده لا يحتاج إلى زمان آخر يكون ملاكا له ؛ لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما ، بل إذا ثبت عند العقل تناهيه ينتزع عنه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوده تقدّما لا يجامع المتقدّم به المتأخّر ، كتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض ؛ ولا فرق إلّا بالتقدير وعدمه ، كما ينتزع عن تناهي المكان تقدّما لعدمه عليه.

وظاهر أنّ هذا الجواب أيضا يتأتّى من قبل القائل بالحدوث الدهري دون الزماني.

وقد ظهر من ذلك أنّ أدلّة الحدوث الذاتي للعالم الجسماني لا تنهض حجّة على القائل بالدهري.

ثمّ ممّا يدلّ على بطلان الحدوث الذاتي المرادف للقدم الزماني تناهي العالم من جانب البداية بمعني أنّ الامتداد المفروض في وجود الأجسام الفلكية والعنصرية من الحركة والزمان / A ١٩٨ / متناه ؛ ويدلّ عليه أمران :

أحدهما : ما قرّرناه وأثبتناه في جامع الأفكار وغيره من كتبنا العقلية من

٤٧٥

جريان أدلّة إبطال التسلسل في الامور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة في الوجود ؛ ونحن نشير إلى كيفية جريان طرقه في تناهي الحركة والزمان ليقاس عليه البواقي :

فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريره أنّه لو جاز عدم تناهي الحركة أو الزمان لكان لنا أن نفرض (١) من جزء معيّن منهما إلى ما لا بداية له جملة واحدة. ثمّ نفرض من جزء قبله إليه جملة اخرى. ثمّ نطبق بين الجملتين من طرف الجزءين ؛ فإن حصل التطبيق والتساوي من الطرف الآخر لزم تساوي الكلّ والجزء ؛ وإلّا لكان الأوّل متناهيا وكذا الأكثر ؛ إذ الزائد على المتناهي متناه.

ومنها : أنّ الحركة والزمان لو كانا أزليّين غير متناهيين لكان عدد دورات كلّ من الأفلاك وعدد حركة كلّ من درجة ودقيقة وثانية وهكذا إلى غير النهاية غير متناه وكذا كان عدد كلّ من السّنين والشهور والأيّام والساعات والثواني والثوالث وهكذا إلى غير النهاية غير متناه ؛ ولا ريب في أنّ عدد الثوالث أكثر من عدد الثواني وأقلّ من عدد الروابع ، وعدد حركات الدرجات أكثر من عدد الدورات وأقلّ من عدد حركات الدقائق وهكذا في البواقي ؛ وما هو أقلّ من غيره يكون متناهيا فكذا ما هو أكثر منه بقدر متناه ؛ فيجب تناهي الأزمنة والحركات.

ومنها : أنّ الدورات الماضية والأيّام الخالية لو كانت غير متناهية لتوقّف حدوث كلّ حادث على انقضاء ما لا نهاية له من الدورات والأيّام ؛ وهو محال ؛ لأنّ الانقضاء فرع التناهي من الطرفين ؛ وغير المتناهي ولو من طرف واحد يمتنع انقضائه ؛ لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق له طرفان ؛ ومع عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا يعقل أن تنقضي الحركة ؛ إذ الزمان المبتدأ من

__________________

(١). س : يفرض.

٤٧٦

ذلك الطرف ويصل إلى الطرف للآخر المنقطع ؛ فمع فرض عدم التناهي من البداية يلزم أن لا يوجد حادث أو / B ١٩٨ / يكون ما فرض غير متناه متناهيا.

ثمّ لو فرض عدم تمامية الدليلين الأوّلين وأمثالهما نظرا إلى ما جوّزه صاحب الإشراق من وقوع التفاوت بالزيادة والنقصان في غير المتناهي فلا ريب في تمامية الثالث ؛ إذ إمكان القطع من البداية إلى النهاية ، بل حصوله بالفعل كما هو الفرض من انقضاء الحركة والزمان من البداية وخروجهما إلى الفعل على التدريج حتّى وصل إلى هذا الجزء المنقطع الذي فرض تناهيه (١) يوجب إمكان العكس ؛ والبديهية قاضية بأنّ ذلك لا ينفكّ عن التناهي.

الثاني : ممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية إجماع الملّيّين عليه ؛ فإنّه قد يثبت بالتواتر القطعي (٢) وفاق الأنبياء وأوصيائهم ومن تبعهم من العلماء والحكماء وأولو العقول القويّة على تناهيه وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصّرف بحيث لا يتطرّق إليه شوب تجوّز وتأويل ؛ وقد ادّعى هذا الإجماع غير واحد من مشاهير العلماء والأخبار به (٣) أيضا متواترة ؛ منها الخبر المشهور «كان الله ولم يكن معه شيء» (٤) وظاهر أنّ المعيّة المنفية فيه ليست معيّة ذاتية حتّى يكون المراد منه إثبات التقدّم الذاتي للواجب تعالى على العالم ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يعرفه أهل اللسان وليس مألوفا من عرف صاحب الشرع ولا تنتقل إليه أذهان السامعين ولا يوافق ألسنتهم مع أنّه تعالى قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٥) فالمراد بالمعيّة المنفية إمّا الزمانية حتّى يكون المراد إثبات تقدّمه تعالى على العالم بالزمان أو الدهرية حتّى يكون المراد إثبات تقدّمه عليه (٦) بحسب الواقع والخارج ؛ ولظهور بطلان القول بالزمان الموهوم وانتزاعه عن ذاته تعالى و

__________________

(١). س : نهايه.

(٢). س : القطع.

(٣). س : الاخباريه.

(٤). مع تفاوت ما في بحار الأنوار ، ج ٢٥ ، ص ٣ والتوحيد ، ص ١٦٨.

(٥). ابراهيم / ٤.

(٦). س : عليك.

٤٧٧

عدم معقولية اتّصال الواجب بالعالم أو انفصاله عنه أو معيّته معه بالزمان يتعيّن الثاني ـ كما يأتي توضيحه ـ وإذ ثبت بالعقل والنقل تناهي العالم من البداية ثبت بطلان القدم المستلزم لعدم تناهيه.

ثمّ نقول (١) : الحدوث الزماني أيضا ممّا يبطله العقل ؛ إذ المراد به ـ كما مرّ ـ تحقّق زمان موهوم غير متناه بين الواجب والعالم ؛ وقد صرّحوا بأنّه امتداد واقعي نفس أمري لا فرق / A ١٩٩ / بينه وبين هذا الزمان إلّا بالليل والنهار ؛ وليس المراد منه الزمان التقديري الذي هو الامتداد بمجرّد التقدير من دون أن يكون له واقعية ونفس أمرية ؛ فإنّ العقول البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان إلى صقع الدهر يخترع لإلفها بالزمان أمرا ممتدّا تقديريا تخيّليا لا تحقّق له بوجه ، بل هو مجرّد تخييل وتقدير ؛ وهذا ممّا لا ينكره [أحد] ؛ إذ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس الأمر قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس محض.

وبالجملة : الزمان الموهوم الذي أثبته المتكلّمون هو كمّ واقعي وشيء متصرّم نفس أمري ؛ وثبوت هذا الشيء قبل إيجاد العالم أو تخلّله بينه وبين الواجب يبطله العقل بوجوه :

منها : أنّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم الصّرف امتداد وتصرّم وتمايز وتجدّد ونقص ونهاية ولا نهاية ؛ لأنّ كلّها من لوازم الحركة ؛ ولا يتصوّر شيء آخر ينتزع عنه هذا الامتداد ؛ والقول بانتزاعه عن استمرار وجود الواجب بيّن الفساد ؛ إذ انتزاع مثله عن صرف الوجود الحقّ الثابت المتعالي عن الحركة والزمان غير معقول ؛ كيف والمناسبة بين المنتزع والمنتزع عنه لازمة؟! وأيّ مناسبة بين الوحدة الصّرفة الثابتة وهذا الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس الأمري؟! وأنّى يجوز عاقل أن يقوم مثل هذا الشيء السيّال المنقضي المتجدّد

__________________

(١). س : تقول.

٤٧٨

بصرف الوجود المتنزّه عن التغيّر والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان والمتعالي عن حيطة الزمان والمكان؟!

ومنها : أنّ هذا الامتداد لكونه متحقّقا في حاقّ الواقع ونفس الأمر ـ كما يلتزمونه ـ ومنتزعا عن الواجب وكونه تعالى قديما أزليا يلزم أن يكون غير متناه ؛ فتجري فيه أدلّة بطلان التسلسل ؛ فيكون باطلا ؛ كيف ومع عدم تناهيه يمتنع أن تنقضي أجزائه الغير المتناهية ويخرج إلى الفعل حتّى يصل نوبة الوجود إلى الجزء المتّصل بالعالم؟!

ومنها : أنّ المتقدّس عن الغواشي والعلائق والمتعالي عن حيطة الزمان وما يثبت إليه يكون مع أىّ امتداد فرض ـ موجودا كان أو موهوما ـ معيّة غير متقدّرة / B ١٩٩ / ونسبته إلى جميع أجزائه وحدوده نسبة واحدة وإحاطته بالكلّ على نهج واحد ؛ فإذن اختصاص العالم بحدّ من حدوده لا يفيد تأخّره وتخلّفه عنه تعالى ؛ كيف وإذا كان استناد الزمان الموجود بالقياس إليه على هذا النهج والزمان الموهوم أجدر بكون نسبته إليه كذلك ؛ فالعدم الزماني لكلّ حادث في زمان موجود أو موهوم لا يجوز أن يكون فاصلا بينه وبين الواجب تعالى ؛ لأنّ ذلك فرع أن يتوهّم الواجب عند رأس الزمان ويجعل ذا وضع وإشارة؟! وبطلانه ظاهر.

وبالجملة : انفصال الزمان الذي هو من الأعراض الجسمية بين المجرّد المتعالي عن الجسمية وعوارضها غير معقول ؛ لأنّ ذلك يوجب اتّصافه بصفات الأجسام ؛ وعلى هذا فلا يتصوّر نسبة زمانية أو مكانية من المعيّة واللامعيّة والاتّصال والانفعال والقرب والبعد وأمثالها بين الواجب وبين العالم وأجزائها ؛ فما له من المعيّة والتقدّم والقرب وأمثالها بالنسبة إليه إنّما هو بمعنى آخر يليق بساحة قدسه وكبريائه.

ومن جوّز من المتكلّمين مقارنة وجوده تعالى للزمان وانتسابه إليه بالقرب و

٤٧٩

البعد والمعيّة فقد أبعد عن الحقّ بمراحل.

والعجب ممّن يريد حفظ قواعد الشريعة كيف يجوّز مثل ذلك مع أنّ ما ورد في الشريعة من الأخبار الدالّة على تقدّس ذاته من الانتساب إلى الزمان بأيّ طريق كان أكثر من أن يحصى. فقد روى شيخنا الأقدم ، محمّد بن يعقوب الكليني عنه أيضا عليه‌السلام أنّه قال : «من زعم أنّ الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر» (١) وفي توحيد الصدوق عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى لا يوصف بمكان ولا يجرى عليه زمان» (٢) وعنه عليه‌السلام : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يوصف بمكان ولا زمان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون» (٣) وعنه عليه‌السلام : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ كان لم يزل بلا زمان ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون وهو الآن» (٤) وأمثال هذه الأخبار بلغت حدّ التواتر.

ومن تأمّل في كلام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة يعلم أنّ من وصف الله تعالى بالزمان ونسبه إليه ليس / A ٢٠٠ / من الموحّدين ولا من العارفين بالله وصفات كماله ونعوت جلاله وجماله.

ومنها : أنّ الزمان والمكان ـ كما عرفت ـ يتساويان في الأحكام ومرتضعان من ثدي واحدة ؛ فكما أنّ وراء الامتداد المكاني ـ أعني فوق الفلك الأقصى ـ عدم صرف لا خلأ ولا ملأ ولا امتداد ولا لا امتداد ولا نهاية فكذلك وراء الامتداد الزماني عدم صريح لا امتداد ولا لا امتداد ولا استمرار ولا لا استمرار ولا زيادة ولا نقصان ولا نهاية ولا لا نهاية ؛ والفرق بين المكان والزمان في ذلك بيّن البطلان ؛ وعلى هذا فلا معنى للقول بالزمان الموهوم قبل وجود العالم.

__________________

(١). روضة الواعظين ، ص ٣٧ ؛ الفصول المهمّة ، ج ١ ، ص ١٤٥ ومختصر بصائر الدرجات ، ص ١٢٢ ومع تفاوت ما في الكافي ، ج ١ ، ص ١٢٨ وعلل الشرائع ، ج ٢ ، ص ٦٠٧.

(٢). التوحيد ، ص ١٧٥.

(٣). الامالي (للشيخ الصدوق) ، ص ٣٥٣ ؛ بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٣٠٩ ، ٣٣٠ ؛ ج ٥٤ ، ص ٢٨٤ ؛ التوحيد ، ص ١٨٤ ؛ روضة الواعظين ، ص ٣٦ ونور البراهين ، ج ١ ، ص ٤٤٤.

(٤). انظر المصادر المذكورة في الرقم السابق.

٤٨٠