اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

الواردة عليه في زمان وجوده ولو لا إرادة اللازم والعلامة من الشخص لم يصحّ منه هذا الحكم ؛ إذ الوضع كسائر الأشياء له ماهيّة وتشخّص ؛ والكلام في تشخّصه عائد. فإطلاق المشخّص في الأوّل على معدّه وفي الثاني على لازمه.

وأمّا الفاعل فهو معطي الوجود. فإطلاق المشخّص عليه إطلاق للمسبّب على السبب.

وأمّا الارتباط فمعلوم أنّه عند القائل به وصف للوجود دون الماهيّة ؛ إذ الوجود الحقّ المتشخّص بذاته عنده الأصل المشرق على الكلّ ، وساير الوجودات لمعاته وإشراقاته ، والماهيّات أظلّة تلك الإشراقات وتوابعها. فكلّ شيء يرتبط به بوجوده دون ماهيّته. فإطلاق المشخّص على الارتباط إطلاق للشيء على لازمه ووصفه.

وأمّا إطلاقه على نحو الإحساس أو المشاهدة فإطلاق للشيء على ما يعلم به ؛ إذ الوجود لا يمكن العلم به إلّا بالمشاهدة الحضورية أو على لازمه ؛ إذ مشاهدة الشيء والإحساس به فرع وجوده.

وأمّا مذهب الشيخ الإلهي فمبنيّ على ما ذهب إليه من أصالة الماهيّة في التحقّق وكون الوجود أمرا ذهنيا غير متحقّق في الخارج. فالمشخّص حقيقة على هذا نحو الذات ـ أي الماهيّة الخاصّة ـ دون الوجود ؛ فهو ممّا لا يمكن إرجاعه إلى المختار ويرد عليه أنّ غير الوجود من نفس الشيء إمّا نفس الماهيّة المشتركة أو مع عوارض اخرى من كمّ وكيف ووضع وغير ذلك ؛ وهو كغيره قائل بأنّ كلّا منها نفس تصوّره لا يمنع الشركة وأنّ مجموع الكلّيات كلّي ؛ فالهويّات العينية لو قطع النظر عن وجوداتها الخاصّة المتعيّنة بنفس ذاتها فأيّ شيء منها يوجب منع الشركة؟ فمجرّد الذات والماهيّة كيف يصير متشخّصا بنفسه حتّى يكون مشخّصا لغيره؟!

وأمّا الجزء التحليلي وإن أمكن حمله على نحو الوجود إلّا أنّ القائل به أنكر كونه حقيقة عينية. فلا يمكن حمله لما يأتي من أنّ نحو الوجود حقيقة هو

٢١

الوجود الخاصّ المتحقّق ؛ أعني الوجود التامّ والمستغني والمتقدّم والأشدّ ومقابلاتها دون مفهوم التمامية والاستغناء وغيرهما. فما به التشخّص ليس إلّا الوجودات الخاصّة الواقعة في الأعيان.

وبذلك يعلم أنّ كون التشخّص بنحو الوجود إنّما يتأتّى على القول بأصالة الوجود في التحقّق وكونه حقيقة عينية واعتبارية الماهيّة ؛ إذ على العكس ينحصر الوجود في العامّ (١) الاعتباري وهو مشترك في الكلّ وانتزاعه فرع تحقّق الأفراد ؛ فلا يمكن أن يكون متشخّصا ؛ وحصصه أيضا امور انتزاعية عن الأفراد بعد تحقّقها ؛ فلا يمكن أن تكون متشخّصة ؛ وقد تقدّم أنّ الماهيّة أيضا لا تتشخّص بنفسها ولا يضمّ مثلها ولو إلى غير النهاية. فلا يمكن أن يتحقّق التشخّص بدون الخاصّ / B ٦ /. فتحقّقه مع عدم إمكان حصوله من الماهيّة والعامّ شاهد صدق على أصالته وكونه حقيقة عينية.

[في أنّ الوجودات الخاصّة متخالفة بذواتها والوجود العامّ حقيقة مشكّكة]

لمّا عرفت ثبوت الوجودات الخاصّة وكونها حقائق متأصّلة وهويّات عينية متحقّقة في الخارج فاعلم أنّها متخالفة بذواتها من دون اشتراك في ذاتي ؛ وتشخّصها بأنفسها ؛ بمعنى أنّ ذواتها تقتضي التعيّن والامتياز. فذواتها بعينها أنحاء وجوداتها المشخّصة لأنفسها من دون افتقار في تعيّنها إلى شيء آخر ؛ وما ينتزع عنها بعد تحقّقها من الماهيّات والعوارض وإن حصل به نوع امتياز لها إلّا أنّه ليس من المشخّص الحقيقي ، بل من توابعه ؛ لأنّه لازم الخاصّ ونعته. فتخصّصه به ليس تخصّصا بحسب ذاته ، بل باعتبار ما معه من اللازم والوصف وكذا ما يلزمه من

__________________

(١). س : الوجود بالعام.

٢٢

التمامية والنقص والاستغناء والفقر والشدّة والضعف وساير وجوه التشكيك بالنظر إلى ما ينتزع عنه من الوجود العامّ وغيره من الأوصاف العرضية الانتزاعية وكذا المتحقّقة القائمة بها كالسواد ومثله إلّا في الخاصّ الواجب وإن حصل له لأجلها نوع تميّز إلّا أنّها أيضا من لوازم ذاته. فتخصّصه بها ليس تخصّصا بحسب ذاته ، بل باعتبار ما يلزمه بعد تحقّقه.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجودات الخاصّة لا تشترك في أمر ذاتى يقع فيه التشكيك بالتمامية والكمال والاستغناء والتقدّم والشدّة ومقابلاتها وإلّا لزم اشتراك الواجب والممكن في الحقيقة واختلافهما في الوجوه المذكورة ؛ وهذا الاختلاف إن لم يكن اختلافا في الذات والحقيقة كان اختلافهما في مجرّد أمر عرضي وإن كان اختلافا في الحقيقة نظرا إلى أنّ الذاتي إذا كان مقولا بالتشكيك يكون الاتّفاق والاختلاف كلاهما في الحقيقة ويتّحد ما به الاتّفاق وما به الاختلاف لزم اشتراك الواجب والممكن في الحقيقة واختلافهما أيضا فيه ؛ وفساده ظاهر ؛ ولو فرض اختلافهما في ذاتي آخر أيضا لزم مع ما ذكر تركّب الواجب أيضا. فاللازم اختلافها بتمام الحقيقة وعدم اشتراكها في ذاتي يكون اختلافها في الوجوه المذكورة فيه أيضا ، بل يكون اشتراكها واختلافها فيها في امور عرضية منتزعة عنها من الوجود العامّ وغيره من الأوصاف العرضية. فالمقول بالتشكيك هو الوجود العامّ المنتزع عنها مثلا ؛ فهو المتّصف حقيقة بالوجوه المذكورة ؛ والوجودات الخاصّة المعروضة له تتّصف بها بالعرض : ومعنى كون العامّ العرضي مقولا بالتشكيك أنّ صدقه على بعض الوجودات الخاصّة أو انتزاعه عنه أقدم وأولى من صدقه على بعض آخر أو انتزاعه عنه ؛ ومعنى أشدّيته أنّ المنتزع من البعض أشدّ وأجلى من المنتزع من بعض آخر.

ثمّ اتّصاف الأفراد الخاصّة بهذه الوجوه إنّما هو بتبعية اتّصافه بها. فالمراد

٢٣

بقولنا : «إنّ وجود الواجب أقدم / A ٧ / من وجود الممكن ، ووجود الجوهر أقوى من وجود العرض» أنّهما في الموجودية الانتزاعية ـ أي في المنشئية لانتزاع العامّ أو غيره من المفهومات العرضية ـ أقدم وأقوى منهما ؛ وليس المراد أنّهما في الوجود الذي هو حقيقتهما أقدم وأقوى منهما حتّى يلزم الاشتراك في الحقيقة والاختلاف في مجرّد الوجوه المذكورة ؛ وهذا كما إذا قلنا : «إنّ الأجسام مختلفة في الضوء أو السواد وبعضها أقدم أو أشدّ أو أولى» ليس المراد إلّا أنّ الضوء أو السواد القائم بالبعض أشدّ وأقوى من القائم بالبعض الآخر أو أنّ البعض أقدم أو أولى بمحلّية هذا العرض من البعض الآخر ؛ وليس المراد أنّ الأجسام مختلفة في الحقيقة وأنّ بعضها أقدم أو أقوى أو أشدّ فيها مع اشتراكها في الكلّ.

ثمّ لا يلزم وقوع جميع وجوه التشكيك في كلّ أمر عرضي. فربّما وقع بعضها في بعض المفهومات العرضية دون بعض آخر. فلو فرض عدم جريان بعضها في الوجود العامّ لم يقدح في المطلوب وإن كان الحقّ جريان الجميع فيه.

ثمّ اشتراك الوجود الخاصّ الواجبي والوجودات الخاصّة الممكنة إنّما هو في مجرّد المفهومات الاعتبارية من الوجود العامّ أو غيره دون الماهيّة والعوارض المتحقّقة القائمة بها كالسواد والبياض وأمثالهما. إذ لا ماهيّة للواجب ولا يصحّ قيام الأعراض الخارجية بذاته ؛ وعلى هذا لا تكون للمقول بالتشكيك أفراد واقعية أصلا. إذ الوجودات الخاصّة امور متخالفة بأنفسها ليست أفرادا حقيقة له ؛ وهو لاعتباريته لا تكون له أفراد متحقّقة قائمة بالوجودات الخاصّة. فلا يلزم التشكيك في ذاتي أصلا ولا يختلف الحكم على قولي المشّائين والإشراقيّين.

وأمّا الوجودات الخاصّة الإمكانية فلاشتراك المتّفقة منها في النوع والماهيّة فعلى ما ذهب إليه المشّاءون من عدم جواز التشكيك في الذاتي وإن لم يجز كون ماهيّتها النوعية مقولة بالتشكيك حتّى يلزم اختلاف أفرادها في ذاتي بأحد وجوه

٢٤

التشكيك لكن على قول الإشراقي يجوز اختلافها بها في الماهيّة مع اشتراكها فيها أيضا ؛ فيختلف في الذاتي بوجوه التشكيك وتكون للمقول بالتشكيك ـ أعني الماهيّة ـ أفراد واقعية. إذ للماهيّة أفراد واقعية في الخارج وإن كان تحقّقها بتحقّق الوجود ـ كما يأتي ـ فالماهيّة التي وقع فيها التشكيك إن اخذت بالنسبة إلى الوجودات الخاصّة يكون التشكيك فيها تشكيكا في العرضي ؛ وإن اخذت بالنسبة إلى أفرادها المتحقّقة بالتبع يكون التشكيك فيها تشكيكا في الذاتي ؛ وعلى هذا فالوجودات الخاصّة الممكنة كما يمكن اختلافها بالوجوه المذكورة بالنظر إلى أوصافها الاعتبارية يمكن اختلافها بها بالنظر إلى ما ينتزع عنها من الماهيّة.

ولا يمكن أن يقال : «الماهيّة الخارجية كالوجود الخاصّ في عدم تعقّل الكنه وكون المعقول منها وجها من وجوهها / B ٧ / كالوجود العامّ بالنسبة إلى الخاصّ» ولا أن يقال : «الماهيّة المعقولة كالوجود العامّ في كونه اعتباريا انتزاعيا عن الوجود الخاصّ من دون تحقّق لها في الخارج أصلا» إذ لا ريب في أنّ الماهيّة ترتسم بكنهها في الذهن وكلّ مرتسم بالكنه تكون حقيقته محفوظة في الخارج والذهن مع تبدّل نحوى وجوده. فلا بدّ أن يكون للماهيّة تحقّق في الخارج بتبعية تحقّق الوجود الخاصّ ويكون المرتسم منها في الذهن هو نفسها وحقيقتها. فتكون لها أفراد واقعية. فمع وقوع التشكيك فيها تختلف أفرادها في الذاتي دون العرضي.

ثمّ للوجودات الخاصّة الممكنة اشتراك في الأعراض المتحقّقة القائمة بها أيضا كالسواد والبياض والضوء وأمثالها ، والكلّ متّفقون على وقوع التشكيك فيها. فهذه المفهومات التي وقع فيها التشكيك إن اخذت بالنسبة إلى محالّها ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ يكون التشكيك فيها تشكيكا في الأمور العرضية لكن إذا اخذت بالنسبة إلى أفرادها المتحقّقة القائمة بمحالّها يكون التشكيك فيها تشكيكا في الذاتي. إذ لا ريب في أنّ لكلّ منها أفراد واقعية وهو ذاتي لها. فالتشكيك فيها

٢٥

بالنظر إليها تشكيك في الذاتي. فالوجودات الخاصّة الممكنة تختلف أعراضها القائمة بها في الذاتي وإن لم يختلف أنفسها. فكما يمكن اختلافها في الوجوه المذكورة بالنظر إلى أوصافها العرضية الاعتبارية وما ينتزع عنها من الماهيّة يمكن اختلافها فيها بالنظر إلى الأعراض المتحقّقة القائمة بها وإن لم يختلف أنفسها فيها أصلا.

فإن قيل : أفراد هذه العوارض كسائر الأفراد الموجودة لها وجود خاصّ وماهيّة ، ووجوداتها الخاصّة مجهولة بكنهها مختلفة بأنفسها غير مشتركة في ذاتي ؛ فكيف جعلتها أفرادا واقعية للمشكّك ، أعنى السواد؟!

قلنا : المشكّك ماهيّة السواد ، وما اخذ أفرادا واقعية هي أفراد هذه الماهيّة المتحقّقة في ضمن وجوداتها الخاصّة دون نفسها. فالمراد أنّ هذه الأفراد أفراد واقعية لماهيّة مقولة بالتشكيك. فهي تتّصف بوجوه التشكيك أوّلا وبالذات ، وأفراد الجسم ـ أعني وجوداته الخاصّة ـ تتّصف بها ثانيا وبالعرض نظرا إلى القيام والمحلّية.

ثمّ المشّاءون لعدم تجويزهم التشكيك في الذاتي يلزمهم كون التشكيك في السواد بالنظر إلى محالّه ـ أعني أفراد الجسم ـ لا بالنظر إلى أفراد السواد القائمة به ، لكون السواد ذاتيا لأفراده مع أنّ الضرورة قاضية باشتراك هذه الأفراد في حقيقة السواد ، واختلافها فيه بالوجوه المذكورة كلّا أو بعضا. فهذا ممّا يبطل قولهم ويثبت قول الإشراقي.

ولو قيل : على ما ذكرت من عدم اشتراك الوجودات / A ٨ / الخاصّة في ذاتي تختلف فيه أيضا بالوجوه المذكورة وكون اختلافها بها بالنظر إلى أوصافها العرضية يلزم عدم صحّة الحكم بكون بعضها من حيث الذات أقدم أو أكمل أو أقوى من بعض آخر مع أنّا نعلم أنّ وجود الواجب بحقيقته الحقّة مع قطع النظر عن

٢٦

أوصافه العرضية أكمل وأقوى من الوجودات الخاصّة الممكنة.

قلنا : لا ريب في أنّ حقائق الوجودات الخاصّة مجهولة الكنه ـ كما تقدّم ـ وما يعقل من أقدمية البعض أو أكمليته أو أشدّيته مفهومات إضافية مأخوذة بالقياس إلى أوصاف عرضية كالوجود العامّ أو العلم بمعنى الانكشاف. فإذا قلنا : «إنّ وجود الواجب أقدم أو أقوى من وجود الممكن» فكأنّا قلنا : «إنّه في الموجودية أو انكشاف الأشياء له أقدم أو أقوى من وجود الممكن.» فالتقدّم والقوّة والكمال ومقابلاتها إنّما تقع في الوجودات الخاصّة بالنظر إلى أوصافها العرضية دون حقائقها المجهولة.

وما قيل : «إنّ الأولوية والأقدمية والأشدّية راجعة إلى الكمال ، وهو لا يخرج عن حقيقة الوجود.»

ففيه : انّ المراد بالكمال إمّا مفهومه أو مبدأه ؛ والأوّل وصف للوجود خارج عن حقيقته ؛ والثاني عين الوجود ولكن رجوع المفهومات المذكورة إليه ممنوع. إذ لا معنى لكون مفهوم الأقدمية والأولوية عين حقيقة الوجود.

[في تعيّن الماهيّة وتحقّقها في الخارج ، واختلاف الوجودات واشتراكها]

ما جعلناه موجبا للتعيّن الخارجي بذاته هو الخاصّ الشخصي دون النوعي أو ما فوقه. إذ كلّ ماهيّة جنسية أو نوعية حقيقية أو إضافية ما لم ينضمّ إليه الفصل الأخير ـ أعني الوجود الخاصّ الذي هو المشخّص ـ لا يمكن تحقّقه في الخارج ؛ وغيره من الفصول انضمامه إلى الجنس إنّما يفيده نوع تعيّن وتشخّص في العقل. فالمراد بقولهم : «إنّ فصل الشيء يحصّل وجوده» أنّه يحصّل له نوع وجود عقلى يقرّبه إلى الوجود الخارجى. فإن ضمّ الفصل إلى كلّ جنس يقرّبه إليه حتّى إذا بلغ إلى النوع

٢٧

الحقيقي وضمّ إليه المشخّص ـ أعني الوجود الخاصّ ـ صار موجودا في الخارج بمعنى أنّ الخاصّ إذا تحقّق فيه تحقّقت الماهيّة النوعية في ضمنه.

ثمّ القائل بأصالة الماهيّة يقول : «انضمام كلّ فصل إلى الماهيّة يخرجها عن نوع إبهام وعدم تحصّل إلى نوع وجود وتعيّن في العقل حتّى إذا وصلت إلى ماهيّة نوعية استحقّت لانضمام الفصل الأخير ـ أعني المشخّص ـ إليه ؛ فينضمّ إليها المشخّص بأحد المعاني المردودة من العوارض الخارجية أو غيرها ؛ فتصير موجودة في الخارج.» وقد عرفت فساد هذا القول.

وأمّا على ما اخترناه من أصالة الوجود فموجودية الماهيّة النوعية في الخارج ليست بضمّ شيء من الأمور المذكورة إليها ، بل بصدور الوجودات الخاصّة التي هي أفرادها وانتزاع هذه الماهيّة عنها. فإنّ كلّ ماهيّة جنسية أو نوعية إنّما يكون وجوده بوجود المشخّص الخارجي ـ أعني الوجود الخاصّ ـ فإنّ حقيقة كلّ شخص هو وجوده الخاصّ وهو مجهول الكنه وإنّما / B ٨ / ينتزع عنه الوجود العامّ وماهيّته الخاصّة ؛ والفرق بين المنتزعين أنّ العامّ لا تحقّق له في الخارج أصلا ، والماهيّة متحقّقة فيه بتحقّقه كما يأتي.

ثمّ كلّ وجود خاصّ ينتزع عنه العامّ وماهيّة يقال إنّه فرده وفردها مع أنّه في الحقيقة ليس فردا لشيء منهما ، لكون الوجودات الخاصّة متباينة بأنفسها وما يشترك بينها ـ أعني الماهيّة والعامّ ـ منتزع عنها ليس ذاتيا لها حتّى تكون أفرادا له. فالوجودات الخاصّة المندرجة تحت ماهيّة نوعية واحدة تشترك عندنا في الماهيّة والعامّ وتختلف بحقائقها ، والمندرجة تحت نوعين كوجودات أفراد الإنسان ووجودات أفراد الفرس تختلف بأنفسها وبالماهيّة وتشترك في مجرّد العامّ ؛ وعند القائل بأصالة الماهيّة فالوجودات الأولى لا تختلف بحقائقها ؛ إذ حقيقتها الماهيّة وهي في الكلّ متّحدة ؛ والثانية تختلف بالحقيقة لاختلاف الحقيقة ، أعني الماهيّة.

٢٨

[في التكثّر والتشكيك في الوجود عند أهل الوحدة]

ما ذكرناه هو مختار الحكماء وأمّا أهل الوحدة فينفون التكثّر الحقيقي عن الوجود والموجود ، وينكرون التعدّد والاختلاف بتمام الحقيقة ومع ذلك يثبتون التشكيك في الوجود ؛ ولمخالفة ذلك لما تحكم به البديهة من تكثّر الموجودات بالحقيقة وجّهه بعضهم بأنّ مرادهم من الوجود الواحد هو حقيقة العامّ البديهي ـ أعني معروضه الحقيقي ـ ولكن لا بشرط التعيّن بالماهيّات وعدمه ؛ والواجب تلك الحقيقة لا بشرط عند الصوفي وبشرط لا عند الحكيم. فكما يجوز أن يكون هذا المفهوم العامّ زائدا على الوجود الواجب والوجودات الخاصّة الممكنة على تقدير كونها حقائق مختلفة ـ كما هو مذهب الحكيم ـ يجوز أن يكون زائدا على حقيقة واحدة مطلقة موجودة هي حقيقة الوجود الواجب ـ كما ذهب إليه الصوفية ـ ويكون هذا المفهوم الزائد اعتباريا غير موجود إلّا في العقل ويكون معروضه موجودا حقيقيا خارجيا هو حقيقة الوجود ؛ والتشكيك الواقع فيه لا يدلّ على عرضيته بالنسبة إلى أفراده ؛ أي تلك الحقيقة المتعدّدة بتعدّد القيودات والاعتبارات ؛ فأفرادها ليست إلّا ذاتها من حيث تكثّرها الاعتباري بتقيّدها بالماهيّات ؛ فمن حيث منشئيتها لانتزاع ماهيّة يكون فردا لنفسها.

والحاصل : أنّ أفرادها في الحقيقة هي الممكنات وهذه الحقيقة تكون مشتركة بينها ذاتية لها ؛ والتشكيك فيها لا يدلّ على عرضيتها بالنسبة إليها ؛ إذ لم يقم برهان على امتناع الاختلاف في الذاتيات.

وأقوى ما ذكروه «انّه إذا اختلفت الماهيّة والذاتي في الجزئيات بالتشكيك لم تكن ماهيّتها واحدة ولا ذاتها واحدا» وهو منقوض بالعارض ، لكونه واحدا مع وقوع التشكيك فيه. فكون حقيقة الوجود مقولة بالتشكيك بالنسبة إلى / A ٩ / أفرادها لا ينافي ذاتيتها لها ولا يرفع وحدتها.

٢٩

وأيضا : الاختلاف بنفس الماهيّة كالذراع والذراعين من المقدار لا يوجب تغايرها. على أنّ الاختلاف في أيّ حقيقة فرضت من الوجود أو العلم أو غيرهما بكونها في شيء أقدم أو أقوى أو أشدّ أو أولى راجع إلى الاختلاف في الظهور دون الحقيقة الظاهرة. فظهورها من حيث هي في قابل أتمّ من ظهورها في قابل آخر. مع أنّ الحقيقة واحدة في الكلّ ؛ والاختلاف بين ظهوراتها لأجل المظاهر المقتضية لاختلاف تعيّناتها فيها. فلا تعدّد فيها من حيث هي ولا تجزية ولا تبعيض.

ومستند الصوفية في ذلك هو الكشف والعيان دون النظر والبرهان. فإنّهم لمّا توجّهوا بشراشرهم إلى جناب الحقّ بتفريغ القلب بالكلّية عن التعلّقات الكونية ورفض القوانين العلمية مع توحيد العزمية ودوام الجمعية والمواظبة على هذه الطريقة قذف الله في قلوبهم نورا يريهم الأشياء كما هي ؛ (١) وهذا النور يظهر في الباطن عند ظهور طور وراء طور العقل ؛ ولا يستبعد وجود ذلك ؛ إذ وراء العقل أطوار كثيرة لا يعرفها إلّا الله ؛ ونسبة العقل إلى ذلك النور كنسبة الوهم إلى العقل. فكما يمكن أن يحكم العقل بصحّة ما لا يدركه الوهم كوجود موجود لا في داخل العالم ولا في خارجه كذلك يمكن أن يحكم ذلك النور الكاشف بصحّة ما لا يدركه العقل كوجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقيّد ولا يقيّدها التعيّن مع أنّ وجود حقيقة كذلك ليس ممّا لا يدركه العقل بوجه. فإنّ أكثر العقلاء أثبتوا وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ووجود حقيقة الوجود مثله.

والمقصود من التمثيل رفع الاستحالة والاستبعاد دون الإثبات بالبرهان. إذ أدلّة وجود الطبيعي لا يفيد المطلوب على القطع ، بل على الاحتمال. فالمناط في إثباته الكشف. نعم يمكن أن يستدلّ عليه بأنّ مبدأ الموجودات موجود ولا يمكن

__________________

(١). إشارة إلى الحديث الشريف النبوّي : «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.»

٣٠

أن يكون غير حقيقة الوجود ، لاحتياجه في التحقّق إلى الوجود ، وهو ينافي الوجوب. فتعيّن أن يكون حقيقة الوجود. فإن كانت مطلقة ثبت المطلوب ، وإن كانت متعيّنة امتنع دخول التعيّن فيها وإلّا تركّب الواجب. فتعيّن خروجه عنها. فالواجب محض الوجود والتعيّن صفة عارضة [له].

فإن قيل : يجوز أن يكون التعيّن عينه.

قلنا : التعيّن بمعنى ما به التعيّن يجوز أن يكون عينه ولكن لا يضرّنا ؛ إذ ما به تعيّنه إذا كان ذاته كان هو في نفسه غير متعيّن وإلّا تسلسل ؛ وتعيّن الشخص لا يجوز أن يكون عينه ؛ لأنّه من المعقولات الثانية التي لا يحاذي بها أمر في الخارج.

وحاصل هذا الوجه يرجع إلى أنّ حقيقة الوجود الذي هو الواجب تعالى كالكلّي الطبيعي في الوحدة والتحصّل ، بمعنى أنّه في نفسه أمر مطلق مبهم ليس له فعلية وتحصّل ، وليس التعيّن عين ذاته بل عارض له ؛ وهذا أحد التوجيهات لتصحيح وحدة / B ٩ / الوجود ؛ وهو في غاية الفساد ، كما يأتي في محلّه.

[في أنّ الوجود حقيقة عينية وما سواه يصير موجودا وذا حقيقة لأجله]

لمّا عرفت أنّ الواجب صرف الوجود وأنّ حقيقة كلّ شيء هو خصوصية وجوده تعلم أنّ الوجود حقيقة عينية وما سواه يصير موجودا وذا حقيقة لأجله ؛ وأنّه أولى منه في كونه موجودا وذا حقيقة ، كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرضه البياض ؛ وكيف لا يكون ذا حقيقة وأصلا في التحقّق مع أنّ نفس حقيقته أنّه في الأعيان. قال بهمنيار : «وبالجملة فالوجود حقيقة أنّه في الأعيان لا غير ، وكيف لا يكون في الأعيان ما هذه حقيقته ولذا لا يمكن تصوّره كما مرّ

٣١

مفصّلا.» (١)

ثمّ على كونه ذا حقيقة دون غيره سوى ما مرّ شواهد قطعية اخر :

[الأوّل :] أنّه لو وجد غيره في الخارج فتحقّقه فيه بنفسه بلا اعتبار الوجود ممتنع ؛ ومعه :

إن كان الوجود المعتبر زائدا عليه لزم أن يكون موجودا بدونه. إذ ثبوت شيء لآخر فرع ثبوت المثبت له ؛ فننقل الكلام إلى الوجود المتقدّم ؛ فيلزم التسلسل.

وإن كان جزءا له فالجزء الآخر إن تحقّق بدونه كان له وجود آخر ؛ فننقل الكلام إليه ويلزم التسلسل.

وإن كان تحقّق الجزء الآخر به ؛ فهو الموجود بالذات والمتحقّق بالأصالة وغيره متحقّق به ؛ وهو المطلوب. فما في الخارج من الحقائق إن كان صرف الوجود ـ كوجود الواجب ـ فلا تحقّق فيه لغير الوجود بوجه ؛ وإن كان وجودا ذا ماهيّة ـ كالوجودات الخاصّة الممكنة ـ فالمتحقّق منه بالذات هو الوجود من دون عروضه للماهيّة أو زيادته عليها حتّى يلزم منه ثبوتها بدونه أو النقض في الفرعية ؛ إذ تحقّقه راجع إلى ثبوت الشيء لا ثبوته للشيء. فهو بعد صدوره ثابت بنفسه متحقّق بذاته من دون توقّف تحقّقه على شيء آخر ، بخلاف الماهيّة ؛ فإنّها منتزعة منه متحقّقة بتبعيته لا كتبعية الموجود للوجود ، بل كتبعية الشبح لذي الشبح والظلّ للشخص.

وبالجملة : هو الموجود بالحقيقة دون الماهيّة ، كما أنّ المضاف بالحقيقة هو نفس الإضافة دون معروضها ؛ ولذا قيل : الفطرة السليمة تشهد بأنّ الماهيّة إذا كانت موجودة بنفس وجودها لا بوجود آخر قبل وجودها يكون الموجود بالذات وبالأصالة منهما هو الوجود دونها ، كما أنّ المضاف بالأصالة نفس الإضافة دون معروضها. فوجودها بوجوده ولولاه لما شمّت رائحة الوجود.

__________________

(١). التحصيل ، صص ٢٨١ ـ ٢٨٠.

٣٢

[الثاني :] أنّ العامّ ينتزع عن كلّ شيء وتحقّق المنتزع عنه لازم. فتحقّقه إمّا بنفس هذا الانتزاع أو بالوجود أو غيره.

والأوّل : يوجب الدور أو التسلسل.

والثانى : المطلوب.

والثالث : بيّن الفساد ؛ إذ غير الوجود لا يتحقّق ولا يحقّق.

وبذلك نعلم أنّ منشئية الماهيّة الخارجية لانتزاع العامّ كتحقّقها من الخاصّ.

[الثالث :] أنّ الوجود / A ١٠ / لو لم تكن له أفراد حقيقية سوى الحصص لما اتّصف بلوازم الماهيّات المتخالفة مع أنّ وجود الواجب متّصف بالغنى ووجود الممكن بالفقر ، وهما من لوازمهما ؛ والحصص لعدم اختلافها وكون الكلّي مطلقا بالقياس إليها غير متفاوت لا يمكن اتّصافها بالمتخالفات. فلا بدّ أن تكون له أفراد واقعية يتّصف بها.

ولقائل أن يقول : المتّصف بهما وبأمثالهما هو الماهيّة دون الوجود ؛ إذ المراد بهما استغناؤها وافتقارها في الاتّصاف بالوجود من السبب ذاتية.

فإن قيل : «لا معنى لاستغناء الماهيّة من حيث هي عن العلّة في الموجودية» نرجع إلى بعض الأدلّة السابقة.

[الرابع :] أنّ الوجود لو لم تكن له حقيقة عينية بها موجودية الأشياء وكان موجوديتها بنفس ماهيّاتها لم يتحقّق بينها حمل متعارف ، نحو : «زيد إنسان». إذ مفاد هذا الحمل هو الاتّحاد بين المتغائرين مفهوما في الوجود ؛ والوجود الذي هو ما به الاتّحاد لا يمكن أن يكون هو العامّ المنتزع ؛ لأنّه في الوحدة والتعدّد تابع لما اضيف إليه من الماهيّات والمعاني ، والفرض تعدّد الموضوع والمحمول في الماهيّة. فاتّحادهما في الخارج لا يمكن أن يكون به. إذ اتّحاده باتّحادهما. فالعكس يوجب الدور. فلا بدّ أن يكون بالوجود الخاصّ المتحقّق بنفسه من دون احتياجه

٣٣

في كونه ذا حقيقة إلى حقيقة اخرى. فهو حقيقة كلّ ذي حقيقة والمتحقّق في الأعيان بنفسه ، وغيره ـ أعني الماهيّات ـ يصير لأجله ذا حقيقة وواقعا فيها ولولاه لم يتحقّق بين الأشياء إلّا الحمل الذاتي الذي مبناه الاتّحاد في المفهوم دون [الحمل] المتعارف الذي مفاده الاتّحاد في الوجود.

[الخامس :] أنّ الوجود لو لم يكن بذاته أو بعد صدوره من العلّة متحقّقا بنفسه لم يوجد شيء. إذ الماهيّة لا بشرط الوجود والعدم لا موجودة ولا معدومة ؛ وبشرط العدم معدومة ؛ وموجوديتها بانضمام العامّ إليها باطلة ؛ إذ ثبوت شيء لشيء أو انضمامه إليه أو اعتباره معه فرع ثبوت المثبت له. على أنّ كلّا من الماهيّة والعامّ لا يمكن تحقّقه بنفسه. فالحكم بتحصّل المتحصّل من انضمام أحدهما إلى الآخر حكم بحصول الموجود من انضمام المعدوم بالمعدوم ، وهو غير معقول.

والقول بموجوديتها بالانتساب إلى الوجود الحقّ لا محصّل له. إذ حصول النسبة فرع وجود المنتسبين. فلو لم تكن للوجود صورة في الأعيان لم يتحقّق شيء فيها.

[السادس :] أنّ الوجود لو لم تكن حقيقة عينية لم تتحقّق للأنواع أشخاص. إذ الماهيّة لا تأبى عن الكلّية والشركة ولو تخصّصت بألف كلّي ؛ ولا بدّ أن يكون للشخص أمر زائد على الطبيعة المشتركة متشخّص بذاته ، وما هو إلّا الوجود الخاصّ. فلو لم يكن متحقّقا في أفراد النوع / B ١٠ / لم يتحقّق شيء منها في الخارج.

والقول بأنّ تشخّص الماهيّات بانتسابها إلى الوجود الحقّ المتشخّص بذاته باطل بمثل ما مرّ ؛ فإن النسبة بين الشيئين فرع تشخّصهما.

[السابع :] أنّ الوجود المحصّل للماهيّة إن لم يكن حقيقة قائمة بذاتها كان عرضا إمّا قائما بالماهيّة متقوّما بها أو منتزعا عنها ووجود العرض بقسميه متوقّف على وجود الموضوع ؛ فكيف يكون سببا لوجوده والمفروض أنّ الماهيّة موجود به؟!

٣٤

هذا خلف.

وأيضا : لو كان انضمامه إليها انضماما خارجيا وجب كون كلّ منهما موجودا في الخارج بوجود على حدة وليس الأمر كذلك ؛ ولو كان انضماما عقليا فلا بدّ أن يتقدّم المنتزع عنه بالوجود على المنتزع.

وأيضا : لا مدخلية (١) للانتزاع المذكور في وجود الماهيّة وتقرّرها.

فإن قيل : لا ندّعي أنّ الوجود المحصّل للماهيّة هو هذا الأمر الانتزاعي حتّى يرد ما ذكر ، بل ندّعي أنّه كون الماهيّة بحيث ترتّب عليها الآثار الخارجية.

قلنا : هذا الكون أيضا عرض متقوّم بها ؛ فلا يصير سببا لوجودها سواء كان انتزاعيا كما هو الواقع أو أمرا عينيا. فتغيير العبارة غير نافع.

[في انقسام العارض إلى عارض الماهيّة وعارض الوجود]

إنّ القوم ذكروا أنّ العارض على ضربين :

الأوّل : عارض الماهيّة من حيث هي ، كالفصل للجنس والشخص للنوع ؛ وهذا لا يحتاج إليه معروضه في حقيقته ومعناه ، بل في نحو وجوده وحصوله. فهو كالعرض اللاحق لها وإن لم يوجد إلّا به. ألا ترى أنّ ماهيّة الجنس لا يفتقر إلى الفصل بحسب المفهوم والمعنى ؛ إذ مفهومه خارج عن مفهومها ولاحق به معنى وإن لم توجد إلّا به ؛ لأنّه المحصّل المقوّم لها ولا يمكن أن يكون لها مرتبة من التحصّل الوجودي بدونه ، بل حصّة الجنس كالحيوان يصير محصّلة موجودة بفصله المقسّم لا قبله. فهي متّحدة معه في الوجود وإن كان عارضا لها بحسب تحليل العقل.

وبالجملة : الاتّحاد بحسب الوجود والعروض بحسب التحليل ؛ وكذا نسبة

__________________

(١). س : + فى.

٣٥

الشخص إلى طبيعة النوع في عروضه لها بحسب التحليل وصيرورتها (١) موجودة به واتّحادهما في الوجود الخارجي.

الثاني : عارض الوجود بقسميه أو أحدهما ، كالزوجية للأربعة والسواد للجسم والفوقية للسماء والكلّية للطبائع والنوعية للإنسان والجنسية للحيوان ؛ وهذا ممّا يتوقّف وجوده على وجود موضوعه من دون عكس. فإنّ السواد يصير موجودا بالجسم والجسم يصير به أسود لا موجودا ؛ وكذا الحكم في الانتزاعيات سواء كانت منتزعة من الوجود الخارجي كالفوقية المنتزعة من السماء الموجودة في الخارج أو الذهني كالكلّية المنتزعة من الطبيعة المطلقة الموجودة في الذهن أو فيهما كالزوجية المنتزعة من ماهيّة الأربعة سواء كانت موجودة في الخارج أو الذهن.

وأمّا الحكم في غير ذلك من الاعتباريات والسلوب / A ١١ / والإضافات ؛ فإنّ نحو وجود جميعها فرع وجود معروضاتها والمعروضات لا تصير بها موجودة ، بل متّصفة بأوصاف اخر سوى الوجود.

وبتقرير آخر : أنّ عارض الماهيّة كعارض الوجود إمّا لازم لها فيعرضها بوجود لها أو مفارق عنها فيعرضها من حيث هي كالفصل للجنس والمشخّص للنوع.

والأوّل : داخل في عوارض الوجود ولوازمه باعتبار ؛ وهو مع كلّ عارض للوجود لازم أو مفارق يتوقّف وجوده على وجود الموضوع بلا عكس.

والثاني : بالعكس ؛ أي يتوقّف وجود معروضه عليه بدون العكس.

ثمّ المحصّلون من الحكماء صرّحوا بأنّ عروض الوجود للماهيّة كعروض عارضها المفارق في توقّف وجودها عليه وعدم اتّصافها بمرتبة من التحقّق قبل اتّصافها به ، بل يصير بهذا الوجود ذات حصّة من الوجود.

__________________

(١). س : صيرورتها.

٣٦

وإذ تقرّر ذلك نقول : لو لم تكن للوجود صورة عينية لم يكن عروضه للماهيّة على النحو المذكور ، بل كان كسائر الاعتباريات اللاحقة للماهيّة بعد ثبوتها وتقرّرها. فيجب أن يكون الوجود حقيقة عينية يتّحد مع الماهيّة وجودا في الخارج مغايرة لها معنى ومفهوما في ظرف التحليل ؛ وهذه الحقيقة الوجودية هي بعينها حقيقة المشخّص كما اختاره المعلّم الثاني والأقدمون من الحكماء. فالموجودية المصدرية نفس المشخّصية المصدرية ، والوجود بمعنى ما به الموجودية عين ما به التشخّص بالمعنى المصدري ؛ والفرق بينهما بالمفهوم ؛ وليس المراد أنّهما مترادفان لفظا متّفقان مفهوما ، بل المراد أنّهما من حيث الذات والهويّة متّحدان وبحسب المفهوم متغايران ؛ وهذا كما يقال : «الوجود خير محض». فإنّ المراد به أنّ حقيقة الخير بالذات هي بعينها حقيقة الوجود وإن تغايرا مفهوما ، لعدم ترادفهما.

فإن قيل : تسليم كون عروض الوجود للماهيّة كعروض عارضها من حيث هي تسليم لأصالتها في التحقّق واعتبارية الوجود وإن صارت موجودة بهذا الوجود ؛ إذ لو كان الوجود عارضا لها لم يكن من الأعراض القائمة بها ، كالسواد بالنسبة إلى الجسم ، بل كان من الاعتباريات الغير الموجودة ؛ فكيف حكمتم على هذا التقدير بكونه حقيقة عينية متحصّلة بنفسها مع أنّ عروض الحقائق القائمة بأنفسها لغيرها محال؟

قلنا : ما ذكرناه إلزام للقوم بما قرّروه من إثبات العوارض للماهيّة من حيث هي وجعل عروض الوجود لها من هذا القبيل وحكمهم بموجوديتها به مع تصريحهم بعدم مدخلية الاعتباريات في وجود معروضاتها. فإنّها يلزم عليهم حينئذ كون الوجود صورة عينية متحقّقة بنفسها معروضة للماهيّة لا أمرا عارضا لها كما ذكروه. إذ العارض الاعتباري ـ على ما قرّروه ـ لا يمكن أن يكون سببا لوجود معروضه.

وأمّا على التحقيق عندنا فلا عارض لها من حيث هي / B ١١ / لأنّها من هذه

٣٧

الحيثية معدومة الهويّة فاقدة عن الثبوت والتقرير والشيئية ، فكيف تتّصف بالعوارض؟! فعروضها لها إنّما هو باعتبار أحد الوجودين أو كليهما ؛ وقد اصطلحوا على تسميته بالعرض بالاعتبار الأوّل لعارض الوجود وبالعرض بالاعتبار الثاني لعارض الماهيّة ؛ ويمكن تسميتها بالثاني بل هو الأوفق بملاحظة المعنى إلّا أنّ الكلام ليس في هذه التسمية وإنّما الغرض إسقاط عارض الماهيّة من حيث هي ونفيه ؛ فينحصر العارض في عارض أحد الوجودين وعارض كليهما ، سواء سمّي الأخير بعارض الماهيّة أو عارض الوجود.

وعلى هذا فعروض العوارض للماهيّة لا بدّ أن يكون بعد وجودها في الذهن أو الخارج ؛ وموجوديتها في الخارج لا يمكن أن تكون بالوجود الاعتباري الذي هو من العوارض. فلا بدّ أن تكون بوجود متحقّق بنفسه ؛ وبعد تحقّقها وموجوديّتها بتبعيته تترتّب عليها لوازمها وعوارضها.

ثمّ ما ذكر من عروض الفصل والمشخّص لماهيّة الجنس والنوع من حيث هي مردود بمنع العروض ؛ إذ القدر المسلّم عدم دخولهما في ماهيّتهما وكونهما من لواحقهما وذلك لا يثبت إلّا العرضية دون العارضية ؛ والفرق بينهما غير خفيّ ؛ إذ العرضي ما يكون خارجا عن حقيقة ما يصدق هو عليه غير ذاتي له وإن كان جوهرا لكلّ من الفصل والجنس بالنسبة إلى الآخر ؛ والعارض ما يكون عرضا تابعا في وجوده بوجود المعروض وإن كان ذاتيا لأفراده كالسواد بالنسبة إلى أفراده ؛ والفصل جوهر وليس بعرض ؛ فلا يكون عارضا للجنس وإن كان عرضيا له ؛ ولو اقتضى العرضية العارضية لكان الجنس أيضا عارضا للفصل لأنّه أيضا عرضي له ؛ إذ ليس عينه ؛ وهو باطل ؛ ولا جزء له وإلّا لزم الدور ؛ إذ حينئذ يتقوّم كلّ من الجنس والفصل بالآخر ودخل الجنس في النوع مرّتين : إحداهما باعتبار نفسه والاخرى لدخوله في الفصل الداخل فيه ؛ وذلك يؤدّي إلى اللغو ؛ وإذ يثبت

٣٨

استلزام عارضية الفصل للجنس للعكس ، يلزم بطلانها لبطلان العكس بالوفاق وعدم تعقّل كون كلّ من الشيئين عارضا ومعروضا للآخر.

فإن قيل : مصحّح العارضية ليس مجرّد العرضية حتّى يلزم مساواتهما في العارضية ، بل العرضية مع التابعية في الوجود.

قلنا : ذلك يثبت عكس المطلوب ؛ إذ التابعية في الوجود للجنس دون الفصل.

فإن قيل : بناء التفرقة بينهما في العارضية على ما قرّروه من التفرقة بين الجنس والمادّة والفصل والصورة ومن كون الجنس منتزعا من المادّة والفصل من الصورة ؛ فكما يحكم العقل بعروض الصورة للمادّة واتّصاف المادّة بها كذلك يحكم بعروض الفصل للجنس واتّصافه به ؛ إذ الذات واحدة والاختلاف بمجرّد الاعتبار.

قلنا : لو كان معنى الفرق ذلك يوجب أن يحكم / A ١٢ / بحلول الفصل في الجنس كما يحكم بحلول الصورة في المادّة ، والحلول أعمّ من العروض ؛ إذ الحالّ قد يكون جوهرا ولا ينحصر في العرض (١) حتّى يصحّ إطلاق العارض عليه ؛ ولو سمّي مطلق الحلول عروضا فلا مشاحّة في التسمية لكنّ عروض الفصل بهذا المعنى لا يثبت المطلوب ؛ إذ المدّعى إثبات كون الوجود عرضا بالمعنى المشهور وسببا لوجود معروضه مع أنّ الحقّ أنّ الفصل وإن كان لاحقا وتابعا للجنس إلّا أنّه ليس عارضا له ولا حالّا فيه ، بل يتّحد معه في الوجود ـ أي في وجود النوع ـ وكذلك الحال في المشخّص والنوع.

وتوضيح ذلك كما يأتي : أنّ ما يوجد ويتقوّم به كلّ ماهيّة بسيطة ومركّبة هو مبدأ الفصل الأخير ؛ أعني المشخّص الذي هو نحو الوجود ؛ أي الوجود الخاصّ المتحقّق بنفسه ؛ والطبيعة النوعية متّحدة معه في الوجود بمعنى أنّ وجودها بتبعية

__________________

(١). س : لا ينحصر بالعرض.

٣٩

وجوده وفي ضمنه ؛ وهذا معنى قولهم : «النوع متّحد مع الشخص في الوجود» أي وجود الشخص.

ثمّ هذا النوع المتحقّق بتحقّق المشخّص المتّحد معه في الوجود له مبدأ فصل يتحصّل وتتقوّم به الطبيعة الجنسية ؛ بمعنى أنّه يحصل لها لأجله نحو وجود ويحصل بخروجها عمّا كان لها من مرتبة الإبهام إلى هذه المرتبة من التحصّل وإن لم يتحصّل بمجرّد ذلك في الخارج ما لم ينضمّ إليها الفصل الأخير وهي متّحدة مع مبدأ فصلها في هذا النحو من الوجود والتحصّل ؛ بمعنى أنّ وجودها بتبعية وجوده وفي ضمنه. فالجنس متّحد مع الفصل في وجود النوع وهكذا الحال في ما هو فوق الجنس القريب من الأجناس البعيدة بالنسبة إلى فصولها.

ثمّ جميع هذه التحصّلات والوجودات التي للأنواع والأجناس إن كانت بملاحظة الفصل الأخير المتحقّق بنفسه وكون هذا النوع والجنس متحقّقا في ضمنه يكون تحصّلات خارجية متعيّنة وحينئذ يكون جميع الطبائع المندرجة في ضمن الشخص من النوع والأجناس المندرجة تحته موجودة بوجود واحد هو وجود الشخص ويكون تحقّق الجميع بتبعية تحقّق مبدأ الفصل الأخير ـ أعني الوجود الخاصّ للشخص المتحقّق بنفسه ـ ولا يمكن حينئذ انفكاك البعض عن البعض في التحصّل وإلّا يكون تحصّلات ذهنية يمكن انفكاك بعضها عن بعض.

وممّا ذكر نعلم أنّ اتّحاد الماهيّة مع الوجود في التحقّق والوجود أيضا بهذا النحو ؛ إذ الماهيّة ليست إلّا أحد هذه الأنواع والأجناس ، والوجود ليس إلّا الخاصّ المتحقّق بنفسه ؛ أعني مبدأ الفصل الأخير ؛ هذا.

ويمكن أن يسلّم عارضية الفصل والمشخّص للجنس والنوع بالمعنى المشهور ويقال : إنّهما لا يعرضان لماهيّتهما من حيث هي ؛ إذ أنحاء الوجودات / B ١٢ / متفاوتة بالقوّة والضعف ، وطبيعة الجنس وإن كانت مبهمة غير محصّلة

٤٠