اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

ارتسام الحقائق والصور ؛ فأعطاها الله قوّة نظرية زائدة على ذاتها هي مبدأ الانكشاف والارتسام. فالعلم الحقيقي ـ أعني منشأ الانكشاف ـ ثابتة للنفس إلّا أنّه على وجه النقصان ، لزيادته على ذاتها وفي الواجب عين ذاته.

ثمّ النفس لا تتمكّن بوساطة تلك القوّة من أن تنكشف عليها الوجودات وترتسم فيها الحقائق برمّتها ، لضعف تلك / B ١٣٢ / القوّة وعدم الارتباط بين النفس وبين كلّ شيء. فالمعلوم لها من الوجود بالعلم الحضوري الانكشافي في ما يوجد بينه وبينها مصحّح الانكشاف ؛ وما هو إلّا ذاتها وآلاتها وقواها وما يرتسم فيها ؛ فإنّ المصحّح في الأوّل إيجاد العاقل والمعقول ؛ وفي البواقي الربط التامّ. فكلّ نفس يعلم وجود ذاتها وبدنها وقواها ؛ والمعلوم لها بهذا العلم ليس إلّا وجوداتها المشاهدة لها ولا يعلم بذلك حقائق شيء منها ؛ وأمّا الواجب فلكونه علّة الكلّ وارتباط الجميع به بالمعلولية تكون الوجودات بأسرها منكشفة مشاهدة له بالعلم الحضوري وكذا النفس بوساطة تلك القوّة لا يتمكّن بضعفها من أن يرتسم فيها صور الكلّ ، بل الحاصل لكلّ نفس من حقائق الموجودات ما يستعدّ له لأجل قوّتها النظرية قوّة وضعفا واستقامة واعوجاجا وجودة ورداءة بخلاف الواجب سبحانه ؛ فإنّ ذاته القاهرة بحيث تتمثّل فيه بذاته صور الأشياء بأسرها وحقائقها على ما هي عليه (١) من دون خروج شيء منها.

ثمّ هذان العلمان ـ أي الحضوري والحصولي ـ يختلفان في الواجب والنفوس بالظهور والخفاء ؛ فإنّهما في الواجب في الظهور والجلاء في غاية الكمال والتمامية وفوق التمام وفيها لا يخلو عن الخفاء والظلمة ؛ هذا والنفوس بحسب اختلاف قوّتها وتجرّدها مختلفة في مراتب الكثرة والقلّة والجلاء والخفاء.

ثمّ القوّة النظرية في النفس بمنزلة الذات في الواجب في أنّه العلم الإجمالي و

__________________

(١). س : غلبه.

٣٢١

المعقول البسيط كما يظهر وجهه (١) ممّا مرّ ؛ وفي النفس معنى آخر يعبّر (٢) عنه بالعلم الإجمالي والمعقول البسيط وهو الصورة (٣) الواحدة البسيطة النورانية التي يأخذها (٤) من معقولاته المفصّلة التي لا يستحضر تفصيلها ؛ فإنّ كلّ نفس يقدر على أخذ صورة بسيطة من معقولاته المتعدّدة التي لا يستحضر تفصيل بعضها ؛ وهذه أيضا يختلف ظهورا وخفاء وقربا وبعدا إلى التفصيل بحسب اختلاف النفوس في القوّة والتجرّد والفعلية.

[الثاني عشر :] قد ظهر ممّا ذكر أنّه لا تغيّر ولا تجدّد في شيء من علميه / A ١٣٣ / الحصولي والحضوري.

أمّا الأوّل : فلأنّه علم على وجه واحد كلّي مستمرّ من الأزل إلى الأبد لا تفاوت فيه قبل الإيجاد وبعده ؛ ويعلم به الكلّيات والجزئيات الحادثة على وجه ثابت كلّي ولا يلزم من تجدّد وجود الحوادث وعدمها تجدّد وتغيّر فيه ؛ إذ علمه بها في الأزل أنّ كلّا منها موجود في وقت كذا وحال كذا وصفة كذا ومعدوم في غيره ؛ وظاهر أنّ ذلك لا يتبدّل بالأزمنة والحالات.

وأمّا الثاني : فلأنّه على ما ذكرناه من حضور الحوادث عنده بالارتسام في العلل القريبة ومن تعاليه عن الزمان وكونه بأسرها عنده بمنزلة أن (٥) يكون الزمان بجميع أجزائه والحوادث الزمانية بأسرها حاضرة عنده أزلا وأبدا على وجه واحد متميّز من دون تجدّد وتغيّر في الحضور ؛ وبذلك يظهر وجه عدم كون علمه زمانيا.

ثمّ بعد صيرورتها موجودة بالوجودات العينية في أوقاتها الخاصّة وإن صار وجودها العيني أيضا من مصحّحات الحضور وفيه تغيّر وتبدّل لحدوثه وانعدامه إلّا أنّ ذلك لا يوجب تغيّرا في علمه تعالى ؛ لأنّ هذا الوجود لا يوجب حضورا له

__________________

(١). س : وجهة.

(٢). س : بغير.

(٣). س : الصور.

(٤). س : ياجدها.

(٥). س : + واحد.

٣٢٢

تعالى لم يكن متحقّقا قبله ؛ إذ ما يفيده من الحضور كان متحقّقا له تعالى بالوجهين المذكورين ؛ فهو لا يفيد (١) له تعالى شيئا لم يكن له حتّى يلزم التغيّر على أنّه لو سلّم تجدّد نحو مشاهدة حضورية له بتجدّد الوجود الخارجي وانعدامه بانعدامه لا يلزم التغيّر في ذاته تعالى ؛ لأنّه من الإضافات الخارجة عن ذاته تعالى ولذلك من جعل مصحّح العلم الحضوري منحصرا في الوجود (٢) الخارجي ولم يصحّحه بالوجهين المذكورين ، بل قال بتوقّفه (٣) على مجرّد الوجود العينى قال : يلزم أن تتجدّد مشاهدته الحضورية بتجدّد الوجود الخارجي لكلّ حادث وتنعدم بانعدامه ولكنّه لا بأس به ؛ لأنّ هذا العلم ليس من علمه الكمالي ، بل هو من قبيل الإضافات الممتنعة بدون متعلّق خارجي ، كالإيجاد والخلق والرازقية وأمثالها ؛ لأنّه / B ١٣٣ / ـ كما عرفت ـ عبارة عن العلم بالوجود الخارجي ؛ فمع عدمه لا معنى لتعلّق العلم به.

[الثالث عشر :] المخالفون لما اخترناه في كيفية علمه تعالى فرق :

[١.] فمنهم من جعل علمه تعالى منحصرا في الحصول (٤) الكلّي وهم جمهور المشّائين ؛ ويرد عليهم خروج الجزئيات والوجودات الشخصية عن علمه تعالى مع أنّه لا معنى لنفي العلم الحضوري مع وجود المقتضي له وهو حضور الشيء عند المجرّد القائم بذاته على أنّ مبدئيته تعالى له صفة كمالية وإن لم يكن نفسه كمالا ؛ فنفيه المستلزم لنفي مبدئيته تعالى له يوجب سلب صفة كمالية عنه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ الظاهر أنّهم لم يجعلوا علمه تعالى منحصرا في الصور (٥) حتّى يرد عليهم أنّه لو انحصر علمه المقدّم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون له تعالى علم كمالي أصلا ؛ إذ الحقّ أنّ علمه تعالى عندهم لا ينحصر بها ، بل يثبتون له علما كماليا

__________________

(١). س : لا يقيد.

(٢). س : بالوجود.

(٣). س : يتوقف.

(٤). س : منحصرا بالحصول.

(٥). س : منحصرا بالصور.

٣٢٣

ويعبّرون عنه بالفعل البسيط الذي هو مبدأ المعقولات المفصّلة ـ أعني الصور المرتسمة ـ وهو ذاته بذاته. فهم يثبتون له علما حقيقيا كماليا هو عين ذاته إلّا أنّهم جعلوه مبدأ لانكشاف مجرّد الصور دون الوجودات العينية ؛ فالإيراد إنّما يرد عليهم من هذه الجهة لا من جهة نفيهم العلم الكمالي رأسا.

[٢.] ومنهم من اكتفى في علمه بالحضوري وصحّحه بما تقدّم من أنّ جميع صور الموجودات الكلّية والجزئية على ما عليه الوجود مرتسمة في المعلول الأوّل ؛ والواجب سبحانه يعقل هذا المعلول مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل بأعيانها ؛ أي تكون مشاهدة له منكشفة لديه.

وهذا هو مختار المحقّق الطوسي بعد إبطاله الحصولي ببعض الوجوه المذكورة بجوابها ؛ وقد عرفت أنّ هذا مسلّم من حيث إنّ وجود المعلول في الخارج مع ما ارتسم فيه يلزمه الانكشاف عند علّته لا من حيث إنّ ذلك كمال له وغيره نقص.

فإن كان مراده أنّ ذلك من لوازم العلّية والمعلولية وأنّ مبدئيته تعالى له كمال لا أنّ نفسه كمال له ؛ فهو صحيح إلّا أنّه يرد عليه جواز التصحيح بغير الارتسام أيضا وعدم المقتضي لنفي الحصولي ؛ وما / A ١٣٤ / احتجّ به عليه قد عرفت جوابه.

وإن كان مراده أنّ ذلك ـ أي العلم الانكشافي ـ كمال له ؛ فترد عليه مفاسد كثيرة يظهر بعد الإحاطة بما تقدّم.

[٣.] ومنهم من اكتفى في علمه بالحضوري أيضا ولكن صحّحه بمجرّد ما تقدّم من كون نسبة كافّة الزمانيات إليه نسبة واحدة وحضور الكلّ عنده على نسبة واحدة أزلا وأبدا ؛ وهم جماعة من محقّقي المتأخّرين ؛ ويرد عليه مثل ما اورد على سابقه.

[٤.] ومنهم من اكتفى بالحضوري أيضا ولكن صحّح علمه بالأشياء قبل الإيجاد بالعلم الإجمالي ؛ فقال : «إنّ الأشياء قبل إيجادها معلومة به وهو العلم

٣٢٤

الكمالي بالأشياء منكشفة عنده قبل إيجادها إجمالا وبعده تفصيلا والعلم التفصيلي ليس كمالا» ثمّ فسّر الإجمالي بتفسيرين :

أحدهما : التمكّن من حصول انكشاف الأشياء بعد إيجادها ، ومثاله ملكة استخراج العلوم.

وثانيهما : أنّ الواجب لكونه علّة الجميع وكون الكلّ لوازم ذاته ورشحات وجوده يكون ذاته كمحلّ ما يصدر عنه مفصّلا ؛ وهي مندمجة فيه حتّى أنّ الوهم ربّما يذهب إلى أنّ هذه الحقائق المتعدّدة اتّحدت في ذاته سبحانه ؛ وعلى هذا فعلمه بذاته عين علمه بالأشياء مجملا و (١) بمنزلة المعقول البسيط ؛ فإنّه علم إجمالي بالنسبة إلى المعقولات المفصّلة ؛ وكان محصّل ذلك يرجع إلى ما ذكره المعلّم الأوّل في أثولوجيا من أنّ بسيطة الحقيقة كلّ الأشياء بمعنى أنّه يشمل على جميع كمالاتها مع الزيادة ؛ أي أنّ جميع الوجودات مندرجة فيه ؛ إذ الكمال ينحصر في الوجود (٢) ، وغيره ـ أعني الماهيّات ـ نقص وقصور. فصرف الوجود الذي هو بسيطة الحقيقة يتضمّن جميع مراتب الموجودات ولا يسلب عنه شيء منها وإنّما المسلوب عنه ماهيّات الأشياء التي هي نقائص وقصورات.

والدليل عليه أنّه لو كان فاقد المرتبة من مراتب كمال الموجود المطلق لا بدّ أن يكون له قوّة ذلك الكمال فيكون (٣) قابلا له ؛ إذ لو لم يكن قابلا له لكان ذلك إمّا لأجل أنّه نقص له ؛ فلا يكون ما / B ١٣٤ / فرض كمالا للموجود المطلق كمالا له ؛ هذا خلف ؛ وإمّا لأجل أنّ هذه الحقيقة البسيطة ليس من شأنها وزيّها أن يقارن (٤) إلى ذلك الكمال ويتّصف به ، بل المتّصف به ما هو أعظم شأنا وأجلّ قدرا منها في مراتب الوجود ، كما أنّ الجماد ليس له قوّة العلم وليس قابلا له وليس من شأنه أن

__________________

(١). س : مجملا بذاته على هذا.

(٢). س : ينحصر بالوجود.

(٣). س : يكون.

(٤). س : زينتها الفاسد.

٣٢٥

يتّصف به ؛ إذ القابل له والمتّصف به ما هو أعلى رتبة منه في مراتب الوجود ؛ وكذا الإنسان ليس قابلا للاتّصاف بوجوب الوجود لما ذكر ؛ وعلى هذا فيكون المتّصف بذلك الكمال أعلى رتبة ممّا فرض بسيط الحقيقة ؛ فيكون هذا المتّصف أولى بأن يكون بسيط الحقيقة ؛ فما فرض بسيط الحقيقة لا يكون في الحقيقة بسيط الحقيقة.

فظهر أنّ بسيط الحقيقة إذا كان فاقدا لكمال يكون له قوّة ذلك الكمال ؛ ولا ريب في أنّ له فعلية بعض الكمالات أيضا ؛ فيجتمع فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب ؛ فلا يكون بسيط الحقيقة.

وبما ذكر ظهر أنّ فقده بعض النقائص ومسلوبيتها عنه لا يوجب التركيب ؛ لأنّه لا يقتضي جهة زائدة على الذات ؛ فإنّ منشأ سلب النقائص والقصورات ومصداقه إنّما هو بحت ذاته الذي هو صرف الفعلية ؛ فإنّ البسيط الذي هو محض الفعل من كلّ جهة يصلح بحت ذاته بذاته أن يكون منشأ ومصداقا لسلب كلّ نقص وصفة غير كمالية من دون الافتقار إلى جهة زائدة على ذاته وحيثية مغايرة لهويّته ، بخلاف سلب صفة كمالية ؛ فإنّ ذاته من حيث فعليته لا يمكن أن يكون منشأ ومصداقا لسلبها ؛ فلا بدّ أن تكون فيه جهة عدمية زائدة على ذاته حتّى يكون منشأ ومصداقا لسلب هذه الصفة الكمالية ؛ وغير خفيّ بأنّ العلم الإجمالي بالمعنى الأوّل مع حمله على ظاهره ـ أعني نفس التمكّن والقوّة ـ يرجع في الحقيقة إلى نفي العلم بالأشياء عنه تعالى قبل إيجادها ؛ إذ القوّة على العلم ليس علما ، كما أنّ قوّة الكتابة ليست كتابة ؛ كيف والفرق بين المجمل والمفصّل / A ١٣٥ / بنحو الإدراك مع اتّحاد الحقيقة وحقيقة القوّة مغايرة لحقيقة العلم ـ أعني الانكشاف ـ نعم إن اريد بالتمكّن ما به التمكّن ويقال : «إنّ ذات الواجب بذاته مبدأ الانكشاف» فلا ضير فيه إلّا أنّه يرد عليه أنّه أىّ حاجة إلى التوصيف بالإجمالي ؛ فإنّ الواجب بذاته علم حقيقي كمالي بالأشياء ؛ أي مبدأ انكشافها ؛ والعلم الحقيقي بهذا المعنى ليس إجماليا

٣٢٦

بالنسبة إلى انكشاف الأشياء مفصّلة ؛ إذ المجمل والمفصّل متّحدان ذاتا ؛ وذات الواجب ليس مجمل الانكشاف ، بل مبدئه وعلّته.

وبالجملة : لا بدّ على هذا أن يراد بالعلم الإجمالي بالأشياء مبدأ انكشافها ؛ فلا يكون الإجمالي بمعناه الظاهر المتعارف ؛ وعلى أىّ تقدير يلزم عدم كون الأشياء منكشفة له على التفصيل قبل إيجادها مع أنّ المقتضي له وهو أحد الوجهين المذكورين موجود.

وأمّا الإجمالي بالمعنى الثاني فحاصله أنّ ذاته تعالى لمّا كان مبدأ للأشياء بأسرها ومشتملا على كمالاتها (١) نظرا إلى ما تقدّم من أنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء فصحّ أنّ يقال بضرب من التجوّز إنّه مجمل الكلّ ومعقول بسيط بمعنى أنّ تعقّله بمنزلة تعقّل الكلّ ؛ ولا ريب في أنّ ذلك إطلاق مجازي ولا يرجع حاصله إلّا إلى ما ذكرناه من أنّ ذاته علم حقيقي بمعني أنّه مبدأ الانكشاف ؛ ولا يلزم منه إيجاب انكشافه لانكشاف الأشياء ؛ غاية الأمر نظرا إلى المقدّمة المذكورة إيجابه لانكشاف كمالاتها وعلى وجه الإجمال والاندماج ؛ فلا يعلم به الماهيّات بوجه ؛ وعلى أىّ تقدير يلزم عدم انكشاف الوجودات والماهيّات على التفصيل وقد عرفت وجود المقتضي له.

[٥.] ومنهم من اقتصر على الحضوري أيضا وصحّحه بأنّ مجرّد حضور العلّة يكفي لحضور جميع المعلولات وانكشافها على التفصيل وإن لم يوجد في الخارج ؛ إذ المعلولات لوازم ذات العلّة ورشحات وجوده ؛ فكأنّها مندمجة فيه اندماجا مقدّسا عن شوائب التكثّر والتركّب ؛ وهذا الاندماج يصحّح انكشافها التفصيلي وإن لم يوجد / B ١٣٥ / بعد في الخارج ؛ وضعف ذلك بعد الإحاطة بما ذكرناه ظاهر.

__________________

(١). س : كمالا لانها.

٣٢٧

[٦.] ومنهم من ذهب إلى أنّ ذاته تعالى كما هو مظهر جميع أسمائه وصفاته كذلك هو مرآة لانكشاف الأشياء بأسرها عليه تعالى ومجلى يرى به وفيه صور الموجودات برمّتها من غير حلول واتّحاد ؛ إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود يغاير وجود صاحبه والاتّحاد يستدعي ثبوت أمرين يشتركان معنى في وجود واحد ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات وهنا ليس كذلك ، بل ذاته بمنزلة مرآة يرى فيها صور الموجودات بأسرها وليس وجود المرآة وجود ما يتراءى فيها أصلا.

والتوضيح : أنّ ما يظهر في المرآة ويتراءى من الصور ليست هي بعينها الأشخاص الخارجية كما ذهب إليه الرياضيّون القائلون بخروج الشعاع ؛ ولا هي صور منطبعة فيها كما اختاره الطبيعيّون ؛ ولا هي من موجودات عالم المثال كما زعمه الإشراقيّون ، بل هذه الصور موجودات لا بالذات بل بالعرض وبتبعية وجود الأشخاص المقترنة بجسم مشفّ وسطح صقيل على شرائط مخصوصة ؛ فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية وكذلك وجود الماهيّات والطبائع الكلّية في الخارج ؛ فالكلّي الطبيعي ـ أي الماهيّة من حيث هي ـ موجودة بالعرض ؛ لأنّه حكاية (١) الوجود وليس معدوما مطلقا كما عليه المتكلّمون ولا موجودا أصيلا كما ذهب إليه الحكماء ، بل له وجود ظلّي تبعي.

وأنت تعلم أنّ محصّل هذا الوجه أنّ الأشياء لمّا كانت لوازم ذاته وتوابع وجوده فهي كالأظلال والعكوس له ؛ فهو كمرآة حاكية لها وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ الصور الظاهرة في المرآة إنّما هي توابع الأشخاص الخارجة عن المرآة وإن كانت المرآة حاكية لها. فالمتبوع والحاكي هنا متغايران ؛ وأمّا الأشياء التابعة للواجب الظاهرة منه فهي مع كونه تعالى حاكيا لها تابعة له أيضا في الوجود لكونه

__________________

(١). س : حكايت.

٣٢٨

علّة لها. فالمتبوع والحاكي هنا متّحدان.

وبالجملة : لمّا كانت الأشياء بمنزلة العكوس / A ١٣٦ / والأظلال له وهو يحاكيها دائما ولا ينفكّ عنه تعالى وإنّما تأخّرها عنه مجرّد التأخّر الذاتي ؛ فتكون منكشفة عنده دائما ويكون العلم به تعالى أيضا مستلزما للعلم بها ؛ إذ العلم بالملزوم والمتبوع يستلزم العلم باللازم والتابع ؛ وهذا على فرض تسليمه إنّما يوجب انكشاف المبدعات والمعلولات القريبة لديه والمطلوب إثبات (١) كون الحوادث قبل وجودها منكشفة لديه.

[في قدرته تعالى]

من صفاته الكمالية القدرة ؛ ولا ريب ولا خلاف بين العقلاء في ثبوتها له تعالى وإنّما الخلاف في أنّ حقيقة القدرة الثابتة له تعالى ما ذا؟ فنقول : القدرة يطلق على معان أربعة :

[الأوّل :] صدور الفعل عن الفاعل بالعلم والإرادة والمشيّة ؛ وأنّه يستحيل (٢) انفكاكه عنه ولو بالنظر إلى الذات ؛ وبتقرير آخر : كون ذاته بذاته بحيث يصدر عنه الفعل على وفق العلم والإرادة ؛ والقدرة بهذا التقرير في الحقيقة هي الصفة الكمالية وبالتقرير الأوّل ـ أعني نفس الصدور ـ صفة إضافية مترتّبة عليه ؛ والإيجاب المقابل للقدرة بهذا المعنى كون الفاعل بحيث يصدر عنه الفعل بلا علم وإرادة كالطبائع ويقال له الإيجاب الطباعي.

[الثاني :] إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هو فاعل وإن وجب صدور الفعل بالنظر إلى الداعي ؛ فالإمكان هنا مجرّد الإمكان الذاتي دون الوقوعي ؛ والإيجاب المقابل له هو امتناع الترك من الفاعل لذاته لا

__________________

(١). س : ثبات.

(٢). س : ان استحاله.

٣٢٩

لأجل الداعي.

[الثالث :] إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في وقت وإن وجب في وقت آخر. فالإمكان هنا إمكان وقوعي ولكنّه في وقت وإن كان وقتا موهوما لا في جميع الأوقات.

[الرابع :] إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في جميع الأوقات ولو في آن الحدوث ؛ فالإمكان هنا إمكان وقوعي في جميع الأوقات ؛ والإيجاب المقابل له هو امتناع الترك من / B ١٣٦ / جهة لزوم الداعي ونحوه من شرائط التأثير في وقت من الأوقات ؛ ويعبّر عنه بالإيجاب الخاصّ.

وإذ عرفت ذلك فاعلم أنّ القدرة بالمعنى الأخير ممّا تفرّد بإثباته الأشاعرة ونفاه الفلاسفة والمعتزلة جميعا إلّا أنّ المعتزلة لقولهم بالحدوث الزماني ووقوع الترك في زمان موهوم غير متناه لعدم وجود الداعي فيه قالوا بالإيجاب الخاصّ المقابل له ؛ أعني امتناع الترك في وقت وجود الداعي وهو وقت حدوث العالم ؛ والفلاسفة لقولهم بالحدوث الذاتي وعدم وقوع الترك في وقت من الأوقات قالوا بالإيجاب المطلق ؛ أعني امتناع الترك في جميع الأوقات لأزلية الداعي.

ثمّ الأشاعرة إنّما أثبتوا القدرة بهذا المعنى للواجب تعالى لنفيهم الإيجاب مطلقا وتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ؛ فقالوا : أوجد الله تعالى العالم في الوقت الذي أراد في الأزل أن يوجده فيه بدون مرجّح سوى تعلّق الإرادة ؛ وبالإرادة لا يجب الفعل ، بل كان له أن لا يوجد العالم ؛ لأنّه لا يسأل عمّا يفعل ؛ ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ؛ لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد ؛ واختيار الفاعل المختار أحد الطرفين بمجرّد الإرادة من دون مرجّح ظاهر البطلان ؛ فالحقّ انتفاء القدرة بهذا المعنى عنه تعالى.

وأمّا القدرة بالمعنى الثالث ـ أي إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى

٣٣٠

الداعي في بعض الأوقات وإن وجب الصدور في وقت آخر ـ ممّا أثبته المعتزلة للواجب تعالى ؛ فإنّهم لمّا قالوا بحدوث العالم ومسبوقيته بالعدم الزماني قالوا : إنّ صدوره في الوقت الذي وجد وجب بالنظر إلى الداعي وأمّا قبله ـ أعني في زمان عدمه ـ كان كلّ من صدوره ولا صدوره بالنظر إلى الداعي (١) ممكنا ؛ والفلاسفة لقولهم بقدم (٢) العالم وعدم الانفكاك بينه وبين الواجب تعالى أنكروا ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب تعالى وقالوا بالإيجاب المقابل لها ـ أعني امتناع الترك بالنظر إلى الداعي في جميع الأوقات ـ وأوردوا على المعتزلة / A ١٣٧ / بأنّ ثبوت القدرة بمعنى إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في زمان عدم العالم لا معنى له ؛ إذ ظاهر أنّ في زمان الترك لم يوجد داعي الفعل ؛ فمع عدمه يكون الترك واجبا ؛ كما أنّه مع وجوده يكون الفعل واجبا كما اعترفتم به ؛ فلا يثبت في زمان الترك بالنظر إلى الداعي القدرة المفسّرة بالإمكان.

وبالجملة : اللازم على [ما] ذكروه بالنظر إلى الداعي وجوب الترك في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر ؛ فأين القدرة بالمعنى المذكور؟

وعلى أىّ تقدير إنّ القائل بأحد الحدوثين ـ أعني الزماني أو الدهري ـ وبمسبوقية العالم بالعدم الزماني أو الواقعي لا بدّ أن يعتقد القدرة بهذا المعنى ؛ إذ مع انتفائها لا يكون العالم مسبوقا بعدم حتّى يتحقّق فيه ترك العالم أو إمكان الترك والفعل.

وأمّا القدرة بالمعنى الثاني ـ أعني إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وإن وجب الصدور بالنظر إلى الداعي ـ فقد صرّح بعضهم باتّفاق المثبتين والفلاسفة على ثبوتها للواجب سبحانه ونفي الإيجاب المقابل لها عنه تعالى.

وفيه أنّ الفلاسفة مصرّحون بامتناع ترك صدور النظام الكلّي عن الواجب

__________________

(١). س : الدعى.

(٢). س : تقدم.

٣٣١

بالنظر إلى الإرادة التي عين الذات ؛ فعدم الصدور عندهم ممتنع بالنظر إلى الذات ؛ فكيف يكون الصدور واللاصدور (١) ممكنا عندهم بالنظر إلى ذاته تعالى؟!

فإن قيل : المراد من القدرة بهذا المعنى هو الإمكان بالنظر إلى الذات مع قطع النظر عن الإرادة لا معها أيضا.

قلنا : لمّا كانت الإرادة في الواجب عين الذات ، فقطع النظر عنها هو بعينه قطع النظر عن الذات.

والحاصل : أنّ الإرادة سواء فسّرت بعلمه تعالى بالوجه الأصلح ـ كما اختاره المحقّق الطوسي والمعتزلة ـ أو بنفس علمه بنظام الخير ـ كما ذهب إليه المشّاءون ـ أو بنفس علمه بذاته ـ كما نسب إلى الاشراقيّين ـ أو بما يلزم علمه بذاته وبالنظام الصادر عنه من الرضاء والابتهاج والحبّ والعشق وأمثال ذلك هي عين ذاته عندهم ؛ بمعنى أنّ ذاته بذاته / B ٧٣١ / فرد من الإرادة التي هي أحد الامور المذكورة قائم بنفسه وهو العلم أو الابتهاج الحقيقي الكمالي ومنشأ بنفس ذاته لانتزاع مفهومهما الإضافي.

فالصدور لو وجب بالنظر إلى الذات أيضا ؛ إذ حيثية الذات هي بعينها حيثية علمه وقدرته وإرادته ، بل حيثية جميع صفاته الكمالية ، كما أنّ حيثية قيّوميته و (٢) علّيته هي بعينها حيثية جميع صفاته الإضافية كما تقدّم.

وعلى هذا فإذا وجب صدور العالم بالإرادة التي هي نفس الذات ؛ فيكون صدوره أيضا واجبا بالنظر إلى الذات ؛ فنسبة القول بإمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات إلى الحكماء غير صحيح ؛ وأيضا جمهور الحكماء مصرّحون بأنّ الواجب تعالى علّة مستقلّة لإيجاد العالم وفاعل تامّ الفاعلية وترتّب الفعل على الفاعل التامّ المستقلّ واجب ؛ فلا يعقل نسبة إمكانه إليهم ؛ فإنّ القدرة فينا لمّا كانت

__________________

(١). س : الاصدور.

(٢). س : فلو.

٣٣٢

من الكيفيات النفسانية ومصحّحة للفعل وتركه وقوّة على الشيء وضدّه وتعلّقها بالطرفين على السواء ؛ فلا يكون فينا تامّة ؛ إذ مبادئ أفعالنا الاختيارية كالتصديق بترتّب الفائدة والشوق والإجماع المسمّى بالإرادة والكراهة تكون واردة علينا من خارج ؛ فجميع ما يكون لنا من إدراك عقلي أو ظنّي أو تخيّلي وشوق ومشيّة وإرادة وحركة يكون بالقوّة لا بالفعل ؛ والقدرة فينا هي بعينها القوّة ؛ وأمّا في الواجب فهى الفعل فقط ؛ إذ ليس له جهة إمكانية ؛ فلا يعقل تفسيرها بالإمكان.

وأيضا : أنّهم قاطعون بأنّ فعل الواجب الحقّ منزّه عن غرض وغاية زائدة على ذاته ، بل ذاته كما هو فاعل الكلّ فهو غايته أيضا ؛ بمعنى أنّه فعل وأفاض ؛ لأنّه مبدأ الإفاضة ؛ وهذه المبدئية صفة كمالية له لا يمكن أن يتخلّف عنه لا لأنّه يصير بتلك الإفاضة فيّاضا.

وبالجملة : أنّه تعالى أوجد لاقتضاء صفة كمالية هي عين ذاته ذلك لا لأن يكتسب بذلك صفة كمالية لم تكن له حاصلة قبل ذلك ؛ ولا ريب في أنّ الصدور لو لم / A ١٣٨ / يجب بالنظر إلى ذاته ، بل كان كلّ من الصدور واللاصدور ممكنا بالنظر إلى الذات لاحتاج في اختيار الصدور على اللاصدور إلى مرجّح زائد على ذاته عائدا إلى ذاته أو إلى غيره ؛ وعلى التقديرين يكون فعله معلّلا بغرض أو غاية زائدة على ذاته ؛ فيلزم استكماله بهذا الغرض ؛ إذ الفاعل العالم المتمكّن من الفعل أو الترك إذا اختار أحد الطرفين لو لم يكن معانيا لا بدّ أن يكون هذا الاختيار لأجل مرجّح إمّا نفع عائد إليه من كسب محمدة أو دفع مضرّة ؛ أو إلى غيره ؛ وإيصال النفع إلى الغير إذا لم يكن باقتضاء الجود الذاتي فلا بدّ أن يكون للفاعل فيه غرض يرجع إلى ذاته أيضا وكلّ فاعل لغرض يكون مستكملا بذلك الغرض ؛ إذ لو لم يكن ذلك كمالا له ومع ذلك فعله كان عبثا.

فظهر أنّ القدرة على رأي القائلين بعينية الإرادة للذات وبكونه تعالى تامّ

٣٣٣

القدرة والقوّة ، متقدّسا عن شوائب العجز والقصور ، متنزّها عن لواحق النقص والفتور ، هو المعنى الأوّل الذي اتّفق الكلّ من الحكماء والملّيّين على ثبوته للواجب تعالى ؛ وهو كونه تعالى بحيث يصدر عنه الفعل بالعلم والمشيّة ؛ وهذا ينطبق على رأي كلّ واحد من القائلين بعينية الإرادة التي هي الداعي إلى الفعل.

والدليل على ثبوته للواجب هو أنّ بعد ثبوت استناد العالم إليه وكونه عالما بذاته وبالأشياء يثبت القدرة بهذا المعنى ـ أي المعنى الأوّل ـ ولا مجال لتطرّق الشبهة فيه.

وأمّا التعريف للقدرة الخاصّ بكون الإرادة هي العلم بالأصلح ؛ فالإيجاد يترتّب عليه على نحو ما تعلّق به ولذلك قالوا بحدوث العالم لاعتقادهم أنّ الوجه الأصلح هو كون العالم حادثا بالحدوث الزماني.

وأمّا التعريف الخاصّ بكونها نفس العلم بالنظام الأوفق فهو كونه تعالى بحيث يتبع فعله علمه بنظام الخير ؛ وعلى هذا يكون العالم حادثا بالحدوث الذاتي ؛ إذ المنشأ لإيجاد العالم إذا كان / B ١٣٨ / مجرّد هذا العلم فلا بدّ أن يترتّب عليه ويكون تأخّره عنه بمجرّد التأخّر الذاتي.

وأمّا الخاصّ بكونها نفس العلم بالذات ؛ فهو كونه تعالى بحيث يتبع فعله علمه بذاته ؛ فإنّ الإشراقيّين المنكرين للعلم الحصولي بالأشياء لم يجعلوا العلّة الباعثة للإيجاد هو العلم العقلي الحصولي ، بل قالوا : إنّ الباعث لإيجادها منكشفة (١) بالعلم الحضوري الإشراقي هو علمه بنفس ذاته ؛ فالإرادة عندهم مجرّد هذا العلم.

وأمّا على جعل الإرادة ما يلزم العلم بالذات بنظام الخير من الابتهاج والرضاء والحبّ والعشق وأمثالها ممّا يتضمّن معنى ما يعبّر عنه في الفارسية نحو «استن» ؛ فتعريفها هو كونه تعالى بحيث يتبع فعله رضاه أو ابتهاجه بذاته وفعله.

__________________

(١). س : + لا به.

٣٣٤

ثمّ جمهور المتكلّمين على أنّه تعالى فاعل بالقصد وجعلوا الإرادة هي القصد ؛ وردّ عليهم باستلزامه التكثّر والتجسّم ؛ ويأتي تحقيق الحقّ في حقيقة إرادته سبحانه.

فظهر أنّ قدرته تعالى عند الحكماء هو كونه تعالى بحيث يصدر الفعل بالعلم والإرادة من دون التخلّف ؛ وبتقرير آخر : كونه بحيث يتبع فعله علمه أو ترتّب فعله على علمه وأمثال ذلك ؛ فنسبة إمكان الصدور واللاصدور إليهم غير صحيح ، لتصريحهم بوجوب الصدور ؛ والأدلّة المذكورة يساعدهم ؛ وليس على وجوب اتّصافه بإمكان الصدور واللاصدور دليل قاطع يطمئنّ به النفس.

وما قيل : «إنّ هذا الإمكان صفة كمالية ؛ إذ المتمكّن من الترك بالنظر إلى ذاته أقوى من غير المتمكّن (١) ؛ فانتفاؤه عنه نقص له» ضعيف ؛ إذ بعد ثبوت أنّ كون ذاته بذاته مبدأ لإيجاد العالم صفة كمالية له وعدم مبدئيته له نقص يلزم وجوب ترتّب الصدور على ذاته ؛ إذ إمكانه يرفع مبدئيته التامّة التي هي الصفة الكمالية ، بل يوجب كون صفة كمالية له تعالى بالقوّة لا بالفعل مع أنّه تعالى منزّه عن شوائب القوّة والإمكان ، وجميع الصفات الكمالية حاصلة له بالفعل وبالوجوب.

وليت شعري أيّ فرق بين العلم بمعنى انكشاف الأشياء عليه تعالى وبين القدرة بمعنى صدورها / A ١٣٩ / عنه تعالى ؛ فإنّه كما يجب انكشافها عنده وليس في وجوبه نقص له تعالى ، بل النقص في إمكانه ، فكذلك لا يلزم نقص في وجوب صدورها عنه ، بل النقص في إمكانه.

نعم لمّا كان اللازم من وجوبه الحدوث الذاتي للعالم وهو يستلزم عدم تناهي العالم من جانب الأزل وادّعى جماعة إجماع الملّيّين على تناهية لا بدّ من القول بمسبوقيته من القدم الزماني كما عليه المتكلّمون أو الواقعي كما اختاره جماعة

__________________

(١). س : غيره التمكن.

٣٣٥

من أهل الديانة ؛ وحينئذ لا بدّ أن يفسّر القدرة بما كان ملزوما للحدوث بأن يقال : هي كونه تعالى بحيث يصدر عنه العالم بالعلم والمشيّة في الوقت الذي يمكن صدوره فيه من دون تخلّف ؛ وبتقرير آخر : هو كونه بحيث يتبع فعله علمه في الوقت الذي يصلح للتبعية وأمثال ذلك.

[في عموم قدرته تعالى]

اتّفق الفلاسفة والملّيّون على عموم قدرته سبحانه وهذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلّا أنّه وقع التنازع في المقصود منه :

فقيل : المراد منه أنّ قدرته تعالى شاملة لجميع الممكنات الموجودة ؛ أي جميع الموجودات مستندة إلى إرادته وقدرته بلا واسطة غيره.

وقيل : المراد به أنّ جميع الموجودات مستندة إلى قدرته سواء كان بلا واسطة أو بواسطة.

وقيل : المراد به أنّ ما هو ممكن بالإمكان الذاتي مقدور له تعالى ؛ أي أنّه تعالى يقدر على إيجاده بلا واسطة أو بواسطة ؛ فجميع الممكنات الموجودة مستندة إليه تعالى بلا واسطة أو بواسطة ؛ وجميع الممكنات المعدومة ـ أي ما هو ممكن في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر سواء وجد في وقت أو لم يوجد أصلا لأجل مصلحة ـ مقدور له تعالى بواسطة أو بدونها ويمكن له تعالى أن يوجده بالنظر إلى ذاته وإن لم يمكن بالنظر إلى أمر خارج من مصلحة راجعة إلى النظام الكلّي.

وقيل : المراد به أنّه تعالى يقدر على إيجاد كلّ ممكن ذاتي موجود أو معدوم بلا واسطة غيره بالنظر إلى ذاته ، مثلا يقدر على إيجاد حركة / B ١٣٩ / زيد بلا واسطة زيد وعلى إيجاد ممكن ذاتي لم يوجد ولا يوجد قطّ كذلك ؛ فالممكنات

٣٣٦

الموجودة (١) بأسرها واقعة بقدرته تعالى بلا واسطة غيره والممكنات المعدومة مقدورة له بلا واسطة أيضا.

والظاهر : أنّ الاحتمالين الأوّلين غير مقصودين لأحد من العنوان المذكور لثبوتهما بعد إثبات التوحيد وحدوث العالم بأىّ معنى كان ، بل يثبت أحدهما بمجرّد أدلّة إثبات الصانع ؛ فلا حاجة إلى تجشّم استدلال آخر مع أنّهم ذكروا لإثبات هذا العنوان أدلّة على حدة.

والاحتمال الآخر هو مقصود الأشاعرة من العنوان المذكور ؛ لأنّهم قالوا : المراد منه أنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقعة بقدرته وإرادته ابتداءً بلا واسطة غيره ؛ وكلّ ممكن الوجود بذاته يمكن صدوره عنه بحيث لا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه شيء. نعم عادة الله جارية بإيجاد بعض دون بعض ؛ وضعف ذلك من حيث نفي التوسّط وحديث جريان العادة الموجب للترجيح بلا مرجّح لا يخفى على أحد.

والاحتمال الثالث ممّا نسب إلى المحقّقين من الكلاميّين والحكماء ؛ لأنّهم قالوا : إنّه تعالى من حيث ذاته وقدرته الكاملة قادر على إيجاد كلّ ممكن ذاتي لكنّ إرادته وعنايته متعلّقة بتامّ الكائنات على الوجه الأكمل الأصلح بحال الكلّ ؛ والقوابل مستعدّة بحسب مشيّته لقبول بعض أنحاء الوجودات دون بعض ؛ فكلّ ما يدخل من الممكنات في الوجود قائما هو على وفق مشيّته وعنايته وملاحظته لنظام الخير إمّا بالذات كالخيرات أو بالعرض كالشرور ؛ وجميعها مستند إليه تعالى ولا يدخل في الوجود شيء إلّا وهو معلول قدرته وإن كانت بوسائط وأسباب راجعة إليه وليس شيء من تلك الوسائط مضادّا له في حكمه (٢) ولا منازعا له في سلطانه وكلّ ما لا يدخل في الوجود من الممكنات قائما هو أيضا لأجل

__________________

(١). س : الوجودة.

(٢). س : حكمة.

٣٣٧

عنايته وعلى وفق مشيّته وملاحظته / A ١٤٠ / لنظام الخير ولكنّها مقدورة له تعالى بالنظر إلى ذاته وقدرته بلا توسّط وبتوسّط بعض أسباب وشروط راجعة إليه ؛ فهو قادر على إيجاد ما لم يوجد ولن يوجد من الممكنات من حيث ذاته إلّا أنّ عدم إيجاده لأجل العناية وملاحظة نظام الخير كما يقولون في ساير التخصيصات الواقعة في النظام الكلّي.

وقد استدلّوا على عموم القدرة بهذا المعنى ـ أي على قدرته على إيجاد الممكنات المعدومة بالنظر إلى ذاته ـ بأنّ (١) علّة المقدورية ـ أعني الإمكان ـ عامّة مشتركة بين جميع الممكنات الموجودة والمعدومة ؛ فيكون جميعها مقدورة له تعالى.

ولا يخفى : أنّ هذا الاحتمال الثالث الذي هو أرجح الاحتمالات لعموم (٢) القدرة ينسب إلى أهل التحقيق من الحكماء والمتكلّمين.

وحاصله : أنّ معنى عمومية القدرة هو أنّه كما أنّ جميع الممكنات الموجودة مقدورة له وقد وجدت بأسرها بقدرته سبحانه بلا واسطة أو بواسطة فكذلك جميع الممكنات المعدومة ؛ أي كلّ ما هو ممكن بالنظر إلى ذاته وإن امتنع بسبب غيره مقدورة له تعالى بواسطة أو بدونها بالنظر إلى ذاته تعالى وإن لم يوجد بالنظر إلى العناية ومصلحة راجعة إلى نظام الخير ؛ وأنت تعلم أنّ العناية بمعنى العلم بنظام الخير والعلم به أو مصلحة راجعة إليه هو عين الذات أو راجع إلى حيثية الذات بمعنى أنّ الذات بذاته منشأ ومبدأ له وما يصدر أو لا يصدر لأجل مقتضى الذات يكون واجب الصدور أو اللاصدور (٣) بالنظر إلى الذات ؛ فلا معنى لإمكان صدوره ومقدوريته بالنظر إلى الذات.

والحاصل : أنّ كلّ ما وجد كان واجب الصدور بالنظر إلى الإرادة الراجعة إلى حيثية الذات وكلّ ما لم يوجد كان ممتنع الصدور بالنظر إلى عدم الإرادة الراجعة

__________________

(١). س : فان.

(٢). س : لغموم.

(٣). س : الاصدور.

٣٣٨

إلى الذات أيضا ؛ إذ الذات التي ليست له صفة بالقوّة وجميع صفاته فعلية إذا لم يصدر عنه شيء يكون عدم الصدور لعدم اقتضائه / B ١٤٠ / الراجع إلى حيثية الذات ؛ كيف وكلّ ما تعلّقت به الإرادة التي هي العلم الناشئ عن مجرّد الذات بذاته صار واجب الصدور بالنظر إلى الذات ؛ وتوهّم الإمكان في صدوره بالنظر إليه باطل ؛ إذ كما أنّ الإرادة التي هي نفس العلم واجبة الصدور بالنظر إلى الذات وإلّا لا بدّ لمرجّح لوجوبه ولا يعقل مرجّح غير الذات لحصول علّة الفعلي وكذلك ما يترتّب عليها من صدور الأشياء على الوجوب واجب الصدور بالنظر إلى الذات ؛ إذ كما أنّ إرادة وجوده ما لم يوجد أصلا كانت ممتنعة بالنظر إلى الذات ولا معنى لإمكانها ؛ إذ معه لا بدّ لمرجّح يرجّح عدمها ـ أي عدم حصول الفعلي للذات ـ وهذا باطل سواء كان هذا المرجّح أمرا وجوديا وهو ظاهر أو عدميا ـ أعني عدم علّة الوجود ـ وهو أيضا باطل ؛ لأنّ ذلك يرفع كون الواجب بذاته علّة لعلمه الفعلي كذلك وجود ما لم يوجد لعدم الإرادة ممتنع بالنظر إلى الذات أيضا.

وبالجملة : ما لا يوجد أصلا ليس له علّة الوجود وعلّة الوجود هو الواجب تعالى إمّا بواسطة أو بدونها ؛ فإذا لم يكن لشيء علّة الوجود تكون علّيته مفقودة عن الواجب ولا تكون له بالنظر إلى ذاته علّية له ؛ فكيف يمكن أن يكون مقدورا له بالنظر إلى ذاته؟!

وإن شئت بيان ذلك بوجه أوضح نقول : لا ريب في أنّه على قاعدة الإمكان الأشرف الموروثة من القدماء لا يوجد ممكن أخسّ إلّا وقد وجد ما يتصوّر من الممكن الأشرف قبله بمعنى أنّ ما يصدر عن الواجب أوّلا هو ما لا يتصوّر أقرب إليه منه ولا يعقل في الممكنات أشرف منه بحيث لا يمكن أن يتصوّر بينهما في المرتبة شيء يكون واسطة بينهما بأن يكون أخسّ من الواجب وأشرف من الصادر الأوّل وكذا الحال في ما يصدر عن الصادر الأوّل بالنسبة إليه وفي ما

٣٣٩

يصدر عن الصادر الثاني بالنظر إليه وعن الثالث بالقياس إليه وهكذا إلى آخر السلسلة الطولية / A ١٤١ / الذي يبلغ من ضعف الوجود والقرب من العدم حدّا لا يمكن أن يكون واسطة لصدور شيء أصلا.

[١.] ففي السلسلة الطولية كلّ ما كان ممكنا قد وجد وما لم يوجد لم يكن ممكنا حتّى يتصوّر مقدوريته بالنظر إلى الذات.

[٢.] وأمّا في السلاسل العرضية وإن تصوّرت فيها ممكنات ذاتية لم توجد إلّا أنّ ترتّب السببي والمسبّبي الذي هو مقتضى العناية الناشية عن بحت الذات الإلهية اقتضى وقوع تلك السلاسل على النحو الواقع ؛ إذ الممكن من جهات التكثّر الموجبة لتكثّر المعلولات في السلاسل العرضية إنّما هو ما حصل في الواقع وما لم يحصل من المعلولات الممكنة فيها لم توجد له علّة مقتضية لوجوده وعدم العلّة مستند إلى العناية الناشية عن مجرّد الذات ؛ فأمثال هذه الممكنات ليس للواجب تعالى علّية بالنسبة إليها لا بلا واسطة ولا بواسطة ؛ فلا معنى لمقدوريتها بالنظر إلى ذاته تعالى ؛ وأمّا التخصّصات الواقعة في الممكنات الموجودة من خصوصية القدر والكمّ والكيف والوضع وأمثالها دون غيرها مع إمكانه الذاتي إنّما هو مستند إلى العناية أيضا أو إلى وجوداتها الخاصّة نظرا إلى أنّ استناد أمثال المذكورات إلى وجودات الأشياء بعد تحقّقها ممكن بخلاف استناد أصل وجوداتها.

فعلى الأوّل ـ أي كون التخصّصات المذكورة مستندة إلى العناية الناشية عن محض الذات ـ لا يكون غيرها كأن يكون قطر الفلك الأعظم أضعاف الواقع وجرم أحد النيّرين أو بعض الكواكب أعظم أو أصغر من الواقع وغير ذلك بالنظر إلى الذات كما ظهر وجهه.

وعلى الثاني وإن أمكن أن يقال بإمكان غيرها بالنظر إلى الذات واستناد ما هو الواقع إلى نحو الوجود واقتضاء خصوصية الوجودات إلّا أنّ أصل الوجودات

٣٤٠