اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

اللمعة الثالثة

في كيفية ايجاده وافاضته

وصدور أفعاله

٤٠١
٤٠٢

[في قاعدة الإمكان الأشرف]

المعروف من المعلّم (١) الأوّل أنّ الممكن الأشرف يجب أن يكون أقدم من الممكن الأخسّ في مراتب الوجود وأنّ الأخسّ إذا وجد لا بدّ أن يكون الأشرف قد وجد قبله ؛ وهذا أصل عظيم نافع في كثير من المباحث ، منشعب من أصل امتناع صدور الكثرة عن الواحد ؛ ويسمّى بقاعدة «الإمكان الأشرف» وقد استعملها الشيخ في ترتيب نظام الوجود وبيان سلسلة البدو والعود ؛ وصاحب الإشراق في إثبات العقول والمثل النورية ؛ وصاحب الشجرة الإلهية في بعض المباحث.

وبالجملة : هي قاعدة مبرهنة مقبولة مسلّمة عند القدماء والمتأخّرين ؛ والبرهان عليها يمكن أن يقرّر بوجوه :

الأوّل : أنّه لو وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف مع إمكانه قبله لزم أن يصدر من الواحد الحقّ ما لا يناسبه من الكثرة ؛ إذ لا ريب في أنّ المعلول المناسب للعلّة الواجبة التي هي صرف الوحدة هو ما كان فيه الجهات العرضية ـ أي اللازمة للمجعولية ـ أقلّ ما يتصوّر / A ١٦٧ / في كلّ معلول ممكن ؛ أي لا يتصوّر في الممكنات المعلولة ممكن أقلّ تكثّرا منه وغيره ممّا هذه الجهات فيه أكثر لا يكون

__________________

(١). س : العلم.

٤٠٣

مناسبا له ؛ ولا ريب في أنّ تلك الجهات في الأخسّ أكثر من تلك الجهات في الأشرف ؛ فإذا صدر منه الأخسّ دون الأشرف لزم صدور الكثرة الغير المناسبة للواجب عنه ؛ وهو محال.

الثاني : أنّ الأخسّ لو وجد قبل الأشرف فإن لم يوجد الأشرف أصلا فعدم صدوره إمّا لعدم إمكانه فهو خلاف المفروض أو لموانع خارجة عن العلّة والمعلول فهي غير متصوّرة في المقام أو لعدم تماميته في علّة الأخسّ وقصورها بأن يستدعي الأشرف جهة مقتضية له أشرف ممّا عليه واجب الوجود ؛ فيكون عدم حصوله في الخارج مع إمكانه لعدم علّته من جهة أنّه بمرتبة من الشرافة يستدعي علّة أشرف من علّة الأخسّ ؛ فهو ظاهر الفساد ؛ إذ علّة الأخسّ هو الواجب تعالى ؛ فيلزم أن يقتضي الأشرف علّة أشرف منه ؛ وهو محال ؛ لأنّه تعالى في الذات والكمال فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى شدّة وعدّة ، وإن جاز وجوده ولكن مع الأخسّ أو بعده وبواسطته لزم صدور الاثنين من الأوّل في مرتبة واحدة أو كون المعلول أشرف من علّته.

الثالث : لو وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله لزم خلاف الفرض أو جواز صدور الكثير عن الواحد أو الأشرف عن الأخسّ أو وجود جهة أشرف ممّا عليه الأوّل تعالى ؛ إذ وجود الأخسّ إن كان بواسطة الأشرف لزم الأوّل وإلّا فإن جاز صدور الأشرف من الواجب لزم الثاني أو من الأخسّ لزم الثالث وإن لم يجز (١) شيء منهما لزم الرابع.

فيثبت أنّ وجود الممكن الأخسّ قبل الأشرف محال ؛ فيمتنع أن يتخلّف عن وجود الواجب الذي لا يتصوّر أشرف منه وجود الممكن الأشرف ويجب أن يكون أقرب إليه وأن يكون الوسائط بينه وبين آخر المعلولات التي لا أخسّ منه

__________________

(١). س : + عن.

٤٠٤

الأشرف ؛ فالأشرف من مراتب العلل والمعلولات بأن يصدر الأخسّ من الأشرف من دون جواز العكس إلى آخر المراتب للأدلّة المذكورة.

[في عدم جريان قاعدة الإمكان الأشرف في الحوادث وما تحتها]

هذه القاعدة إنّما تطّرد وتجري في المبدعات وما فوق / B ١٦٧ / الكون ممّا يكون التأثير والتأثّر فيه بحسب الإفاضة والإيجاد دون الحوادث وما تحتها (١) ممّا يكون التأثير والتأثّر فيه بحسب الشرطية والإعداد وإلّا لم يكن بعض الأشخاص الحادثة ممنوعا عمّا هو أشرف وأكمل له ولم يكن بعضها الأخسّ متقدّما على بعضها الأشرف مع أنّا نرى أنّ أكثر الخلق ممنوعون عمّا يتصوّر ويجوز في حقّهم من الكمالات العقلية الحسّية مع أنّ حصولها لهم أشرف وأكمل من عدم حصولها لهم. فكلّ شخص فاقد للكمالات الممكنة في حقّه أخسّ من هذا الشخص إذا كان متّصفا بها ؛ فقد وجد هذا الممكن الأخسّ قبل وجود الممكن الأشرف ؛ وكذا ترى أنّ الأخسّ في سلسلة الإعداد متقدّم على الأشرف كالنطفة متقدّم على الحيوان والبيضة على الدجاج والنواة على الشجر والأب الجاهل الشقيّ على الابن العالم التقيّ وهكذا.

فيظهر من ذلك أنّ جريان القاعدة إنّما هو في الثابتات والإيجاد دون الحوادث والإعداد ؛ والسرّ أنّ المبدعات تابعة في الشرافة والخسّة لعللها ؛ فلا يتصوّر فيها اختلاف إلّا باختلافها واختلاف جهاتها وعللها ، لكونها دائمة الوجود ، ثابتة متعالية عن حركات الأفلاك وتأثيراتها ، لا يكون فيها تجدّد وتغيّر واختلاف ؛ فلا يتخلّف (٢) مقتضيا ؛ فيكون معلولاتها أيضا كذلك ؛ فإذا اقتضى الفاعل

__________________

(١). س : تحته.

(٢). س : فلا يختلف.

٤٠٥

الأشرف أن يصدر منه الأشرف فالأشرف يجب أن لا يتخلّف ذلك عنه ، لعدم عائق له ؛ فلا يكون شيء من المبدعات ممنوعا عن شيء من كمالاته الممكنة في حقّه ولا شيء منه أخسّ متقدّما على شيء منه أشرف.

وأمّا الحوادث فلكون شرافتها وخسّتها تابعة لاستعدادات مختلفة مستندة إلى حركات وأوضاع سماوية مختلفة ؛ فيجوز فيها أن يمنع بعضها عن بعض كمالاتها ويتقدّم الأخسّ فيها على الأشرف ، لاختلاف الاستعدادات المستندة إلى اختلاف الحركات والأوضاع الفلكية.

[في ما أورد على قاعدة الإمكان الأشرف]

قد أورد على القاعدة المذكورة إيرادان :

أحدهما : أنّ وجود جهة أشرف ممّا عليه الواجب وإن كان ممتنعا بالذات ولكنّ الممتنع بالذات (١) استحال أن / A ١٦٨ / يكون ممكنا بالذات ؛ إذ الامتناع والإمكان الذاتيّان لا يجتمعان نظرا إلى أنّ الشيء الواحد بالنظر إلى ذاته لا يكون ممتنعا وممكنا وإلّا لزم الانقلاب ولكنّه يكون ممكنا بالقياس إلى الغير ؛ إذ معنى إمكان الشيء بالقياس إلى الغير أن يكون هذا الغير مستدعيا لإمكان هذا الشيء بالاستدعاء الأعمّ من العلّية بمعني أنّ وجود هذا الشيء وعدمه إذا اعتبر بالنسبة إلى هذا الغير كانا بالنظر إليه متساويين وإن لم يكن هذا الغير علّة لهذا التساوي وكان في الواقع ممتنعا ؛ وعلى هذا فيجوز أن يكون جهة أشرف ممّا عليه الواجب ممتنعة بذاتها ومع ذلك كانت ممكنة بالقياس إلى الممكن الأشرف الذي لم يوجد قبل الأخسّ ؛ وعلى هذا فعلّة الممكن الأشرف هذه الجهة الممكنة بالقياس إليه وعدم وجوده لامتناعها في الواقع وبالنظر إلى ذاتها.

__________________

(١). س : + وان.

٤٠٦

والجواب عنه بوجهين :

الأوّل : أنّ كلّ كمال ممكن في ذاته أو بالقياس إلى الغير ، بل كلّ كمال متصوّر ومعقول يجب أن يكون متحقّقا بالفعل في الواجب تعالى ؛ لأنّه في الكمال والشرافة فوق غير المتناهي بقدر الغير المتناهي ؛ فهذه الجهة التي فرضت أشرف ممّا عليه الواجب لو كانت ممكنة بالقياس إلى الممكن الأشرف وجب أن تكون موجودة في الواجب تعالى ؛ إذ بعد ما ثبت أنّه واجب الوجود من جميع الجهات وأنّه كلّ الأشياء الوجودية ـ أي يشتمل على جميع كمالات الممكنات ـ وأنّه غير المتناهي في الكمال لا يمكن ولا يتصوّر كمال بالقياس إلى شيء من الأشياء إلّا ويكون موجودا فيه. فالجهة الممكنة علّته بالقياس إلى الممكن الأشرف ، بل كلّ جهة كمالية متصوّرة تكون موجودة في الواجب تعالى ولا يكون فاقدا لها ؛ ولا تكون هذه الجهة ممتنعة لذاتها ، بل تكون واجبة لوجودها في الواجب تعالى ؛ فما هو الممتنع لذاته من الجهة التي يكون أشرف ممّا عليه الواجب هو ما لا يكون ممكنا بالقياس إلى شيء أصلا ، بل ما لا يمكن تصوّره وتعقّله ولا يدخل في مدرك من المدارك ؛ إذ كلّ كمال وشرافة يدركه أحد من المدارك يكون موجودا في الأوّل تعالى ؛ / B ١٦٨ / فقولهم : «الامتناع الذاتي يجامع الإمكان بالقياس إلى الغير والشيء الواحد يجوز أن يكون ممتنعا لذاته وممكنا بالقياس إلى الغير» إنّما هو إذا لم يوجب فرض إمكانه بالقياس إلى الغير وجوده في الواجب المقتضي لوجوبه المستلزم لخلاف الفرض ؛ أي خروجه من الامتناع الذاتي ، كما إذا اعتبر اجتماع النقيضين مثلا بالقياس إلى بعض الممكنات ؛ فإنّه لا يؤدّي ذلك إلى وجوده في الواجب حتّى يلزم خلاف الفرض.

الثاني : أنّ المجعول بالذات والصادر من الفاعل ـ كما عرفت ـ هو الوجود الخاصّ دون الماهيّة. نعم بعد صدوره يحلّله العقل إلى وجود وماهيّة ؛ فالماهية تابعة

٤٠٧

للوجود ومنتزعة عنه ؛ فالإمكان ـ سواء جعل وصفا للوجود بمعنى كونه متعلّقا مرتبطا بالأوّل تعالى أو وصفا للماهيّة بمعنى عدم اقتضائها شيئا من الوجود والعدم ـ يكون تابعا للوجود ؛ فالممكن في الحقيقة هو الوجود وجميع سلسلة الوجودات ينتهي إلى الواجب تعالى ؛ فلا يتصوّر ممكن من الممكنات لا يكون وجوده ـ إذا فرض ـ مستندا إلى الواجب بالواسطة أو بدونها ولا أن يكون بحيث يستدعي إمكان وجوده علّة هي غير الواجب فضلا عن أن يكون ممتنعة بالذات ؛ فالممكن الأشرف الذي فرض عدم وجوده إذا اقتضى وجوده علّة لا بدّ أن تكون تلك العلّة هي الواجب تعالى بلا واسطة أو بواسطة ؛ ولا يمكن أن تكون جهته ممتنعة بالذات.

وثانيهما : أنّ الواجب ـ كما مرّ ـ غير متناه في الوجود ؛ فيشتمل على مراتب غير متناهية من الوجود ؛ فلو صدر منه الأشرف فالأشرف إلى ما لا أخسّ منه في الوجود ـ كما تقتضيه القاعدة المذكورة ـ لزم أن يصدر منه جميع تلك المراتب الغير المتناهية من الوجود في السلسلة الطولية ؛ فيلزم أن يصدر منه وجودات خاصّة غير متناهية مجتمعة مترتّبة بالترتّب الذاتي ؛ وهو محال ؛ مع أنّه يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ؛ وهو بيّن الفساد ؛ وأيضا : العقول إمّا ماهيّات نورية ـ أي أنوار محضة متّفقة في حقيقة النورية متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال والنقص ـ كما هو مقتضى ذوق الإشراق أو وجودات خاصّة متفاوتة / A ١٦٩ / أيضا بالشدّة والضعف والكمال والنقص في معنى عرضي هو الوجود العامّ كما هو المختار عندنا أو معنى ذاتي هو طبيعة الوجود المطلق وهو حقيقة بسيطة خارجية كما ذهبت إليه بعض الصوفية ؛ وعلى التقادير يلزم أن يوجد بين كلّ عقلين واقعين في سلسلة العلّية والمعلولية وبين الواجب والعقل الأوّل أفراد غير متناهية ؛ إذ ما من مرتبة من الشدّة إلّا ويتصوّر بينها وبين كلّ من طرفيها الموجودين مرتبة اخرى ، بل مراتب غير متناهية هي أشدّ ممّا تحتها وأضعف ممّا

٤٠٨

فوقها ؛ فتجري فيها القاعدة المذكورة وتحكم بوجودها ؛ فيلزم أن توجد بين كلّ عقلين عقول غير متناهية مجتمعة مترتّبة بالترتّب الذاتي ، محصورة بين حاصرين (١) ؛ وهو باطل بوجهين.

والجواب : انّا نلتزم (٢) أنّ مراتب الوجود الصادرة منه تعالى غير متناهية ـ كما تقتضيه (٣) القاعدة المذكورة ـ ولكن لا يلزم عدم تناهي سلسلة العقول الطولية ؛ إذ ذلك إنّما يكون إذا اشتمل كلّ من العقول على مراتب متناهية من الوجود ؛ وهو ممنوع ؛ إذ كلّ عقل لقربه بصرف الوجود وضعف الجهة العدمية ـ أعني الماهيّة ـ فيه يشتمل على مراتب وحدود غير متناهية من الوجود ؛ وكونه ذا ماهيّة لا يوجب محدوديته [و] عدم تناهيه ، لضعف الماهيّة فيه وقربه إلى صرافة الوجود ؛ فالواجب لكونه صرف الوجود يشتمل على جميع المراتب الوجودية على وجه جمعي أعلى وأشرف [و] كلّ مرتبة منها غير متناهية ويصدر عنه جميع الموجودات على وجه أفضل وأكمل لا يتصوّر فوقه في العلوّ والشرافة ؛ والصادر الأوّل لغاية قربه منه يشتمل على بعض المراتب الوجودية التي كلّ منها أيضا غير متناه وبواقيها يختصّ بالعالم الربوبي. ثمّ الصادر الثاني يشتمل على مراتب أقلّ من المراتب التي يتضمّنها الصادر الأوّل وإن كانت غير متناهية أيضا وهكذا إلى العقل الآخر.

ومن تأمّل في حال النفس الناطقة الإنسانية وكثرة عوالمها واشتمالها على حدود ومراتب وجودية كثيرة يزول تعجّبه عن إحاطة العقول على مراتب وجودية غير متناهية ؛ فإنّ النفس مع وحدتها وبساطتها وخروج جميع الأجزاء البديهية من الأعضاء والروح الحيواني والمدركات الذهنية والماهيّات / B ١٦٩ / العقلية عن هويّتها وإنّيتها لذهولها عن جميعها وغيبته عنها وعدم ذهولها وغيبتها عن ذاتها لها درجات وحدود ذاتية ، بل ليست محدودة في حدّ معيّن ومرتبة

__________________

(١). س : حاضرين.

(٢). س : يلتزم.

(٣). س : يقيضه.

٤٠٩

خاصّة لا يتعدّاها ؛ فإنّها بذاتها تعقل المعقولات وتدرك المتخيّلات والمتوهّمات والمحسوسات ؛ فإنّ المدرك لجميعها بالذات هو النفس وإن كانت القوى الجزئية من الخيال والوهم والحواسّ الظاهرة شروطا وآلات ومعدّات لإدراكها الأشياء المتخيّلة والمتوهّمة والمحسوسة واستعمالها لتلك الآلات مخصّصا لحدوث إدراكاتها.

ومن زعم «أنّ النفس يدرك المعقولات بذاتها وما سواها من المتخيّلات والمتوهّمات والمحسوسات بالآلات بمعنى أنّ المدرك لها بالذات هي الآلات دون النفس» فقد أخطأ ؛ إذ المستعمل لآلة جزئية في أمر جزئي لا بدّ أن يدركهما وإلّا لم تكن الآلة آلة ، بل حيوانا مبائنا منضمّا إلى غيره ؛ فيلزم أن يكون مثل البصر والسمع فينا حيوانا مباين الذات عنّا وصار بصورته ومادّته ونفسه وجسده عضوا من أعضائنا ؛ وفساده ممّا لا يخفى.

فظهر أنّ النفس مع وحدة (١) وجودها وهويّتها لها درجات ذاتية من حدّ العقل إلى حدّ الطبيعة والحسّ ؛ فلها مقام في عالم العقل ومقام في عالم المثال ومقام في عالم الحسّ والطبيعة ؛ وكلّ واحد من هذه المقامات له درجات ومراتب متفاوتة شدّة وضعفا وكمالا ونقصا ؛ فإذا كانت النفس حالها كذلك مع بعدها عن أوّل الأنوار ومنبع الجود وغاية هبوطها ونزولها عن افق العزّة وسماء الوجود ؛ فما ظنّك بالعقول القادسة التي هي في غاية القرب إلى النور المحض وصرف الوجود ؛ فلكلّ منها وحدة جمعية تنطوي فيها حدود ومراتب غير متناهية فرضية موجودة بوجود واحد إجمالي أعلاها متّصل بأدنى مراتب سابقة وأدناها متّصل بأعلى درجات لاحقة هذا.

والجواب عن التقرير الأوّل للشبهة بالتزام تناهي مراتب العقول وتخصيص

__________________

(١). س : وحدته.

٤١٠

عدم التناهي بالمرتبة الخاصّة بالواجب ؛ وعن التقرير الثاني لها بمنع تصوّر المراتب / A ١٧٠ / والحدود الغير المتناهية بين كلّ مرتبة من المشكّك وبين كلّ طرفيه يخالف قواعد الحكيمين وينافي تصريحات الفرقتين.

[في ترتيب صدور الموجودات على مقتضى قاعدة الإمكان الأشرف]

مقتضى القاعدة المذكورة أن يبتدأ الوجود من الأشرف فالأشرف على الترتيب السببي والمسبّبي حتّى ينتهي إلى أخسّ الموجودات ؛ وقد علمت أنّ العلّية والجعل والإفاضة وأمثالها راجعة إلى الاستتباع وأنّ المعلولية والمجعولية راجعة إلى التعلّق والتبعية ؛ فهويّات الثواني متعلّقة على ترتيبها بالأوّل تابعة له.

ومقتضى القاعدة أن يكون أوّل الصوادر أشرف الموجودات وأجلّها ؛ وما هو إلّا العقل ، لقضاء الضرورة بأشرفيته من ساير الموجودات الإمكانية من النفوس والطبائع والقوى والأجسام بأسرها ؛ وقد بيّنّا سابقا من جهة لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ومن طريق كون العقل أوّل الصوادر وأشرنا إلى كيفية صدور الكثرة وإلى عدد العقول عند المشّائين وأشرنا إلى أنّ ما ادّعاه في (١) هذا التحديد هو كون الأفلاك تسعة ؛ وأمّا الإشراقيّون فلا يصحّ عندهم هذا التحديد ولا ما ذكره المشّاءون من جهات الكثرة وكيفية صدورها ، بل طريقهم في جميع ذلك نحو آخر.

وبيانه إجمالا ـ بعد ما يعلم [من] أنّ الإشراقيّين يعبّرون عن العقول (٢) بالقواهر وعن المجرّدات بأسرها والنفوس المجرّدة بالأنوار وعن الواجب بنور الأنوار وعن الأجسام الفلكية والعنصرية بالبرازخ (٣) ـ : أنّهم ذكروا أوّلا أنّ ما ذهب إليه

__________________

(١). س : الى.

(٢). س : + الانوار و.

(٣). س : بالبراوح.

٤١١

المشّاءون في بيان صدور الكثرة عن الواحد الأحد وترتيبها ليس بمستقيم ؛ لأنّ النور الأقرب ـ أي العقل الأوّل ـ إذا صدر من نور الأنوار ثمّ حصل من النور الأقرب نور مجرّد آخر هو العقل الثاني وبرزخ هو الفلك الأعلى ثمّ حصل من النور الثاني نور ثالث هو العقل الثالث وبرزخ هو فلك الثوابت وهكذا يحصل من عقل عقل وفلك إلى أن تحصل عشرة عقول وتسعة أفلاك وعالم العناصر ـ كما يقوله المشّاءون ـ لزم أن يوجد في النور الذي يصدر منه فلك الثوابت من جهات / B ١٧٠ / الكثرة ما يصحّ أن تصدر لأجلها تلك الكواكب المذكورة فيه بكثرتها ؛ وهذا غير ممكن ؛ إذ أعداد هذه الكواكب غير محصورة ؛ لأنّها أكثر من قطرات البحار وذرّات الرماد ؛ فلا يمكن أن تحصل هذه الكثرة من النور الأقرب وهو ظاهر ولا من أحد الأنوار العالية ـ أي الأقرب إلى المبدأ من الأنوار المفيضة للأفلاك التي تحته ـ إذ ليس فيه جهات كثرة يصحّ صدور تلك الكثرة سيّما على رأي من جعل في كلّ عقل جهة وجوب وإمكان لا غير ؛ ولا من أحد الأنوار السافلة ـ أي الأبعد من المبدأ بالقياس إلى بعض الأنوار المفيضة لبعض الأفلاك التي تحته ـ إذ لا يتصوّر أن يكون برزخ النور السافل كالثامن مثلا أكثر من برزخ النور العالي كالثالث مثلا وفوقه ولا أن يكون كواكبه أكثر من كواكبه ، لوجوب كون البرزخ الصادر من السافل أصغر من العالي وأسفل مكانا وأقلّ كوكبا منه.

فثبت أنّ ما أثبته المشّاءون من العقول وجهاتها لا يكفي لصدور الكثرة التي في الكواكب مع أنّ كلّ كوكب في كثرة الثوابت له وضع وموضع وقدر معيّنة مخصوصة ولا بدّ من اقتضاء مفيض يتخصّص به ؛ لأنّ هذا التخصّص ليس من ماهيّة الثامن ولوازمها لاستواء نسبتها إلى جميع المواضع منه ، لبساطة الأجرام الفلكية وكونها على طبيعة واحدة.

هذا إذا كانت الثوابت متّفقة بالنوع حتّى تحتاج إلى العلل الكثيرة في

٤١٢

التخصّص ولو كانت مختلفة بالنوع فامتناع صدورها أظهر ؛ إذ حينئذ تحتاج إلى العلل الكثيرة في الإيجاد.

وأيضا : لا بدّ للأجسام المثالية الثابتة عندهم من علل عقلية ولا يمكن استنادها إلى شيء على طريقة المشّائين ؛ فإذن يجب أن تكون الأنوار القاهرة المجرّدة عن البرازخ وعلائقها كثيرة غاية الكثرة بحيث يمكن أن تصدر عنها الكثرة البرزخية والمثالية ولا يلزم أن يصدر من كلّ منها برزخ مستقلّ ـ أي فلك تامّ ـ حتّى يرد أنّه لو كان كذلك لكان الأفلاك أكثر من الواقع ؛ إذ يصدر من بعضها برزخ غير مستقلّ ـ أي كوكب مركوز في المستقلّ ـ والطريقة / A ١٧١ / الإشراقيّة التي يتصحّح بها صدور الكثرة المشاهدة عن الواحد ويظهر منها كثرة الأنوار وعدم انحصارها في أعداد محصورة ـ كما ذكره المشّاءون ـ هي الطريقة المبتنية على إشراق كلّ نور عال على ما تحته ومشاهدة كلّ نور سافل لما فوقه (١) وانعكاس الشعاع من بعض الأنوار القاهرة على بعض وحصول الترتيب الأليق والنظم الآنق بين الانعكاسات الشعاعية.

وتحقيق هذه الطريقة متوقّف على بيان قواعد إشراقيّة :

الأولى : لا ريب في كثرة البرازخ ـ أي الأفلاك الكلّية والجزئية ـ وكلّ واحد من هذه البرازخ غير غنيّة لإمكانها ، بل مفتقرة في تحقّقها إلى نور مجرّد ، لما سبق من أنّ حركتها حركة مستديرة إرادية وكلّ حركة مستديرة إرادية لا بدّ لها من محرّك حيّ هو نفسه الناطقة المتصرّفة فيه التي هي نور مجرّد قائم بذاته ؛ ولمّا لم يمكن أن يصدر من نور الأنوار غير نور واحد هو النور الأقرب ـ أعني العقل الأوّل ـ وليس فيه جهات كثرة كما في نور الأنوار ـ أعني الواجب تعالى شأنه ـ إذ جهات الكثرة في النور الأقرب ـ سواء كانت ذاتية أو عرضية ـ ترجع إلى كثرة

__________________

(١). س : طوقه.

٤١٣

جهات علّته ـ أعني نور الأنوار ـ وتكثّر الجهات فيه محال ؛ فكذا فيه أيضا وفي البرازخ كثرة كما ظهر ؛ فإن حصل بالنور الأقرب برزخ واحد ولم يحصل منه نور مجرّد توقّف الوجود عنده ولم يحصل شيء من الأنوار والبرازخ لامتناع صدورها من الجسم وليس كذلك لظهور الكثرة في البرازخ والأنوار المدبّرة لها وإن حصل من النور الأقرب أيضا نور مجرّد ومن هذا النور نور مجرّد آخر وهكذا ولم توجد في شيء من هذه الأنوار جهات تكثّر لزم أن لا يتأدّى الصدور إلى صدور البرازخ ، لتركيبها من الهيولى والصورة ، الممتنع صدورهما من شيء لا اثنينية (١) فيه.

ثمّ ما دام يحصل من كلّ من هذه الأنوار نور آخر فيمتنع أن يحصل الجوهر الغاسق (٢) ؛ لأنّ النور من حيث نوريته لا يحصل منه جوهر غاسق ؛ لأنّ المعلول لا بدّ أن يكون مناسبا للعلّة من بعض الوجوه مع أنّه لا مناسبة بين الغاسق والنور من حيث إنّه نور ؛ فلا بدّ أن يكون النور الأقرب بحيث يصدر منه برزخ ونور مجرّد.

والوجه في صحّة / B ١٧١ / ذلك الصدور أنّ له اعتبارين : فقره في نفسه لإمكانه وغنى بالأوّل لوجوبه به ؛ فله تعقّل فقره وهو هيئة ظلمانية له وتعقّل وجوبه بنور الأنوار ؛ فهو يشاهد ذاته ويشاهد نور الأنوار لعدم الحجاب بينهما ؛ إذ الحجب إنّما يكون بالبرازخ والغواسق والأبعاد ؛ ولا جهة ولا بعد لنور الأنوار ولا للأنوار المجرّدة مطلقا ؛ فإذا شاهد النور الأقرب نور الأنوار وهو مشاهد لذاته أيضا يستظلم نفسه بالقياس إليه ؛ إذ النور الأتمّ يقهر النور الأنقص ؛ فمن مشاهدته نور الأنوار يظهر فقر نفسه واستغناء نور الأنوار في ذاته ؛ فبظهور فقره له واستغساق ذاته عند مشاهدة جلال نور الأنوار في ذاته بالنسبة إليه يحصل منه ظلّ هو البرزخ الأعلى ـ أعني الفلك الأعظم ـ وباعتبار غناه ووجوبه بنور الأنوار و

__________________

(١). س : اثينه.

(٢). س : الفاسق.

٤١٤

مشاهدة جلاله وعظمته يحصل منه نور مجرّد آخر ؛ فالبرزخ ظلّه والنور القائم ضوؤه ؛ وظلّه إنّما هو لظلم فقره وضوؤه لنورية وجوبه بنور الأنوار ؛ وكذا النور الثاني يقتضي بالنظر إلى ما فوقه جوهرا مجرّدا وبالنظر إلى بعضه جرما سماويا وهكذا إلى أن تتكثّر جواهر عقلية مقدّسة وأجسام فلكية.

وهذا ما صرّح به الشيخ الإلهي في الهياكل (١) ؛ والمصرّح به في حكمة الإشراق (٢) أنّ السلسلة الطولية من العقول وهي المعبّر عنهم بالاصول والقواهر الأعلين إنّما تصدر عنها العقول دون الأجسام ؛ فيصدر عن كلّ بالجهة الأشرف عقل قاهر في السلسلة الطولية وتغيّرها من الجهات عقول عرضية كما يأتي.

الثانية (٣) : النور السافل إذا لم يكن بينه وبين العالي حجاب يشاهد العالي ويشرق نور العالي عليه ؛ ولا ريب [في] أنّه ليس بين الأنوار المجرّدة عن الموادّ حجاب ؛ لأنّه من خاصّية الأبعاد الجرمانية وهي مجرّدة عنها ؛ ولهذا لا يحجب بعضها بعضا ؛ فكلّ سافل حتّى النور الأبعد (٤) يشاهد العالي حتّى نور الأنوار وكلّ عال حتّى نور الأنوار يشرق على السافل شعاعه حتّى على النور الأبعد ؛ إذ من طبيعة النور الإشراق على كلّ ظلّ مستعدّ ؛ فكلّ نور عال يشرق شعاعه على النور السافل إشراقا عقليا يسمّى الوجود ؛ / A ١٧٢ / فالنور الأقرب يشرق عليه شعاع من نور الأنوار وهو يشاهده مشاهدة حضورية ؛ ولا يلزم من ذلك أن يتكثّر جهة نور الأنوار بإعطاء الوجود المنوّر الأقرب والإشراق عليه وكذا على باقي الأنوار ؛ لأنّ ما هو الممتنع الموجب المتكثّر إنّما هو أن يوجد شيئان عن نور الأنوار ـ أي عن مجرّد ذاته ـ وهاهنا ليس كذلك ؛ إذ الصادر منه إنّما هو وجود النور الأقرب وأمّا شروق (٥) نوره عليه وكذا على باقي الأنوار إنّما هو لصلاحية

__________________

(١). انظر : هياكل النور ، صص ٨٣ ـ ٨٢.

(٢). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٧٨ ـ ١٧٧.

(٣). س : الثاني.

(٤). س : بعد.

(٥). س : شرق.

٤١٥

القابل واستعداده لقبول ذلك وعشقه إليه وعدم الحجاب ؛ فهاهنا جهات كثيرة وهي القوابل المتعدّدة واستعداداتها وعشقها وعدم الحجاب الذي هو شرط إشراق العالي على السافل ؛ والشيء الواحد يجوز أن تحصل منه أشياء متعدّدة لتعدّد أحوال القوابل واختلافها.

الثالثة : مشاهدة أحد النورين للآخر غير إشراق شعاع ذلك الآخر على النور المشاهد.

واستدلّ صاحب الإشراق على المغايرة بأنّ العين يشاهد الشمس مثلا والشمس يقع شعاعها على العين وظاهر أنّ وقوع شعاع الشمس على العين غير مشاهدة العين لها ؛ إذ شعاع الشمس يقع على العين حيث كانت العين ومشاهدتها للشمس لا يكون إلّا بمسامتته (١) للبصر على مسافة بعيدة ؛ فلو فرض قرب مفرط للعين بالنسبة إلى الشمس يقع عليها شعاعها ولا تحصل مشاهدتها لها. (٢)

ولا يخفى أنّ الاستدلال على المغايرة بين المشاهدة ووقوع الشعاع في الأنوار العقلية بتغايرهما في الأنوار الحسّية لا يخلو عن شيء ؛ إذ شعاع النيّر الحسّي كالشمس يقع على ما يراها وما لا يراها. فالمغايرة بينهما في الأنوار الحسّية (٣) ظاهر وليس الأمر كذلك في الأنوار العقلية ؛ إذ شعاع النور العقلي لا يقع إلّا على نور عقلي يشاهده ؛ فلا يقع شعاعه على المادّيات ، كما اعترفوا به.

والسرّ أنّ المشاهدة يتوقّف على عدم الحجاب بين الرائي والمرئي ونورية المدرك الرائي ؛ ووقوع الشعاع إنّما يتوقّف على مجرّد عدم الحجاب لا غير ؛ وظاهر أنّ عدم الحجاب بين النيّر / B ١٧٢ / الحسّي وغيره يحصل بمجرّد عدم حيلولة جسم آخر ؛ فيقع شعاعه على ذلك الغير وإن لم يكن نوريا من شأنه المشاهدة ؛

__________________

(١). س : بمسامته.

(٢). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٣٥ ـ ١٣٤.

(٣). س : الحسى.

٤١٦

فيحصل الانفكاك بين المشاهدة ووقوع الشعاع في الأنوار الحسّية (١) والعقلية ؛ وأمّا عدم الحجاب بين النور العقلي وغيره إنّما يكون بتجرّدهما عن شوائب المادّية ؛ ومجرّد تجرّد أحدهما يوجب ارتفاع الحجاب من أحد الجانبين دون الآخر مع أنّ عدم الحجاب المعتبر والمشاهدة ووقوع الشعاع هو عدمه من الجانبين ؛ وهذا يتحقّق في الأنوار الحسّية بمجرّد عدم الحائل ـ كما ذكر ـ وأمّا في الأنوار العقلية فلا يتحقّق إلّا بتجرّد الطرفين ونوريتهما وبراءتهما عن شوائب المادّية ؛ وتجرّدهما كما يوجب عدم الحجاب بينهما يوجب مشاهدة كلّ منهما للآخر أيضا. فالتجرّد والنورية فيهما يستلزم كلّا من المشاهدة ووقوع الشعاع. فهما متلازمان فيها لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر بخلاف الأنوار الحسّية ؛ فإنّ انفكاك الثاني فيها عن الأوّل ممكن لما ذكر ؛ فلا يناسب أن يستدلّ بمغايرتهما في إحداهما على مغايرتهما في الاخرى.

والأولى أن يستدلّ على مغايرتهما في الأنوار العقلية بمغايرة المنشأ ؛ فإنّ منشأ وقوع الشعاع ومخرجه في النورين العالي والسافل هو العالي ومنشأ المشاهدة ومحلّ حصوله هو السافل ؛ ومع تغاير المصدرين لا ريب في تغاير الصادرين عنهما.

فإن قيل : مشاهدة بعض الأنوار المجرّدة لبعضها بالعلم الحضوري ممّا يعرف معناه ووجهه ولكنّ المراد من الشعاع الواقع من بعضها على بعض ممّا لا نفهمه ولا طريق لنا إلى إثباته (٢).

قلنا : المراد به إشراق عقلي ونور معنوي يفاض من العوالي على السوافل تحدث فيها بهجة وغبطة ؛ وهو كمشاهدة السوافل للعوالي فرع ارتفاع الحجاب الذي هو المادّية ؛ فكلّما كان تجرّد السافل أشدّ كان مشاهدته للعالي والشعاع

__________________

(١). س : حسيه.

(٢). س : انباته.

٤١٧

الواقع منه عليه أشدّ ؛ وكلّما كان أضعف كانا أضعف.

والطريق إلى إثباته هو التأمّل في أحوال النفس الناطقة ؛ فإنّا نرى ونشاهد أنّه كلّما ازداد تجرّدها ونوريتها بتخلّيها عن الرذائل الجسمانية والهواجس النفسانية وتحلّيها / A ١٧٣ / بالفضائل العلمية والعملية يصير استعدادها بمشاهدة (١) ما فوقها من العوالي بالعلم الحضوري ؛ وفيضان (٢) الإشراقات العقلية والأنوار المعنوية منها عليها أكثر ؛ فإذا كانت النفس مع قصور تجرّدها قابلة لمشاهدة ما فوقه وإشراقه عليها بالأشعّة العقلية فما ظنّك بالأنوار الصّرفة والعقول المحضة ومشاهدة بعضها لبعض ووقوع الأشعّة العقلية من بعضها على بعض؟!

الرابعة : لكلّ نور عال قهر بالنسبة إلى النور السافل وللسافل محبّة بالنسبة إليه ؛ إذ العالي علّة والسافل معلوله ؛ والعلّية يلزمها القهر ، و (٣) المعلولية يلزمها المحبّة والذلّة ؛ فالنور السافل من حيث المرتبة لا يحيط بالعالي ؛ لأنّ العالي لشدّة نوريته يقهر السافل ولكنّ مقهوريته لا تمنعه من أن يشاهده العالي ، لما تقدّم من أنّ خواصّ النور المجرّد مشاهدة جميع الأنوار المجرّدة لعدم الحجاب بينها وإن لم يتمكّن من الإحاطة به ، كما أنّ النور البصري يشاهد الشمس ولا يمكن لضعفه عن الإحاطة بها لشدّة نوريتها وكذا النور العرضي يحيط الأشدّ منه بالأضعف ويغلب عليه حتّى ربّما يتوهّم عدمه. (٤)

ألا ترى أنّ نور الشمس والأنوار إذا تكثّرت والعالي (٥) قهر على السافل والسافل عشق وشوق إلى العالي ؛ فنور الأنوار له قهر بالنسبة إلى ما سواه من الأنوار وغيرها من الموجودات لشدّة نوريتها وقوّة إشراقه العقلي الغير المتناهي ؛ لأنّه لا يقف عند حدّ يتصوّر بالعقول ، بل هو فوق ما يتناهى بما لا يتناهى وتعشق

__________________

(١). س : بالمشاهدة.

(٢). س : لفيضان.

(٣). س : + العلية و.

(٤). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٣٨ ـ ١٣٧.

(٥). س : المعالي.

٤١٨

هو نفسه ؛ لأنّ كماله ظاهر له ؛ فهو أجمل الأشياء وأكملها وظهوره لنفسه أشدّ من كلّ ظهور لشيء ولا يعشق غيره من حيث هو غيره ، بل من حيث إنّه صادر منه ومترشّح من جوده كما تقدّم ؛ وغيرها من الأنوار العقلية يعشقه ويحبّه حبّا أكثر من حبّه لنفسه ؛ إذ محبّة كلّ نور سافل لنفسه مقهورة في محبّته لنور العالي ؛ فللنور الأقرب مثلا مشاهدة لنور الأنوار وشروق منه عليه لعدم الحجاب بينهما / B ١٧٣ / كما تقدّم ؛ ومحبّة له ولنفسه ؛ ومحبّته لنفسه مقهورة في قهر محبّته لنور الأنور ؛ لأنّه يدركهما ولا ريب في أنّ إدراك الملائم والكمال يقتضي المحبّة والعشق ؛ فكلّما كان المدرك أكمل وأجمل كان ألذّ وأحبّ (١) ؛ ولا ريب في أنّ نور الأنوار أكمل الذوات وأجملها ؛ فيلزم أن يكون محبّة كلّ نور له وابتهاجه به أشدّ من محبّته لنفسه وابتهاجه ؛ فمحبّة النور الأقرب ، بل كلّ نور مجرّد لنور لأنوار أشدّ من محبّته لنفسه بحيث إنّ محبّته لنفسه مقهورة مضمحلّة مستهلكة في جنب محبّته لنور الأنوار ؛ وبالقهر اللازم لكلّ عال بالنسبة إلى ما دونه والمحبّة اللازمة لكلّ سافل بالنسبة إلى ما فوقه انتظم الوجود كلّه.

الخامسة : إشراقات الأنوار بعضها على بعض ليس بانفصال شيء منها ووصوله إلى النور القابل المجرّد ، بل هو نور شعاعي يحصل منه بإفاضة عليه ، لاستعداده بقبوله وعدم الحجاب بينهما ، كما في إشراق الشمس على ما يصل منها كالأرض ؛ فإذا حصل مقابلة بين النورين بعدم الحجاب أفاض النور المفارق العالي هيئة نورية شعاعية على النور السافل ؛ فإنّ نسبة الأنوار المجرّدة إلى نور الأنوار الذي هو شمس عالم الأنوار في قبول الأشعّة الشمسية الإلهية كنسبة الأرض إلى الشمس في قبولها الأشعّة الشمسية الجرمية ؛ فكما أنّه إذا ارتفع الحجاب بين الأرض والشمس استنارت بنورها (٢) كذلك إذا ارتفع الحجاب بين

__________________

(١). س : اجب.

(٢). س : تنورها.

٤١٩

الأنوار المجرّدة وبين نور الأنوار استنارت بنوره ؛ وكما أنّ إشراق الشمس على العين مثلا غير مشاهدتها لها فكذلك إشراق نور الأنوار على الأنوار المجرّدة غير مشاهدتها له كما تقدّم ؛ ويسمّى النور الحاصل في الأنوار المجرّدة من نور الأنوار في عرف الإشراقيّين بالنور السانح وقد يستعمل في مطلق إشراقات الأنوار بعضها على بعض من غير تخصّصه بالنور الشارق من نور الأنوار وهو نور عارض للأنوار المجرّدة غير داخل في حقيقتها ؛ والنور العارض ينقسم إلى ما يكون في الأجسام وإلى ما يكون في الأنوار المجرّدة ؛ فإنّ النور العارض مفتقر إلى ما يقبله ويقوم به من الجواهر القائمة بأنفسها ـ عقلية كانت أو حسّية (١) ـ وقد تقدّم منّا بيان أوضح في حقيقة النور السانح. (٢)

وإذ عرفت هذه / A ١٧٤ / المقدّمات فاعلم أنّ ذوق الإشراق في صدور الكثرة أنّ أوّل ما يجب بالأوّل تعالى ويصدر عنه جوهر قدسي ونور إبداعي لا يمكن أشرف منه ، لما تقدّم من قاعدة الإمكان الأشرف ؛ فإنّ مقتضى تلك القاعدة أنّ ذات الحقّ لا يفيض الأخسّ ويترك الأشرف الممكن ، بل يلزم ذاته الأشرف فالأشرف ، كما أنّ عكس النور الأشرف من عكس عكسه وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا عكس له ؛ وهذا النور الأوّل الإبداعي منتهى الممكنات في سلسلة العلّية وليس ورائه إلّا نور الأنوار وهو ـ كما مرّ ـ واجب غنيّ بالأوّل تعالى وممكن مفتقر في نفسه. فبالنظر إلى وجوبه واستغنائه بالأوّل تعالى ومشاهدة جلاله وكبريائه يقتضي جوهرا قدسيا آخر هو النور الثاني بلسان الإشراق والعقل (٣) الثاني في عرف المشّائين ؛ وبالنظر إلى إمكانه وفقره في نفسه ومشاهدة نقص ذاته وقصوره بالنسبة إلى كبرياء الأوّل يقتضي جرما سماويا هو الفلك الأعلى.

__________________

(١). س : جسميه.

(٢). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٣٨ ـ ١٣٧.

(٣). س : فالعقل.

٤٢٠