اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

كتم العدم بعد معدوميتها الصّرفة بعدمية ذاتية أو زمانية من دون ارتباط بينها وبينه ولا انتسابها إليه وتعلّقها به بأن تكون بعد صدورها منه امورا منفصلة مباينة منه بلا تعلّق وانتساب وارتباط أو بإظهارها متعلّقة مرتبطة به مضافة منتسبة إليه.

والأوّل باطل قطعا ، لاقتضائه انتفاء المناسبة والتلازم بين العلّة والمعلول ؛ إذ الانفصال والمباينة من كلّ وجه بلا ربط وتعلّق ونسبة يرفع التلازم والمناسبة قطعا ؛ كيف لا والتلازم أقوى التعلّقات والارتباطات؟! وأيضا يلزم إمكان تقرّرها وتحقّقها وبقائها مع انتفاء العلّة الواجبة ؛ وفساده ظاهر.

والثاني ـ أي جعلها وإفاضتها مرتبطة متعلّقة به ـ إنّما يكون بترتّبها عليه وتبعيتها له كتبعية الظلّ لذي الظلّ والعكس لذي العكس. فجعلها حينئذ بتبعيتها (١) له وترتّبها عليه ؛ ولا ريب في أنّ التبعية والترتّب فرع الربط والنسبة ؛ إذ بدون الارتباط والاضافة لا يتصوّر الترتّب والتبعية. فتحقّق التابع فرع نسبته إلى المتبوع ؛ وحينئذ يرد الإشكال من وجهين :

[الأوّل :] أنّ النسبة والإضافة والارتباط وما يجري مجرى ذلك فرع وجود المنتسبين والمضافين والمرتبطين ، فكيف يكون موجودية أحدهما ـ أي الوجودات الخاصّة ـ بذلك الانتساب المتوقّف ثبوته وتقرّره على وجود ذلك الظرف؟!

[الثاني :] أنّ هذا الارتباط والإضافة والانتساب إمّا نفس المرتبط والمضاف والمنتسب حتّى يكون الوجودات الخاصّة مجرّد ارتباطات وإضافات ونسب للواجب بأن يكون إضافات حقيقية ؛ أي مضافة بالذات لا باعتبار عروض الإضافة لها ويكون وجودها من حيث هي وجودها من حيث مضافة كالابوّة ؛ إذ ليس وجودها سوى أنّها مضافة إلى (٢) غيرها بأن يكون الوجود الخاصّ شيئا له

__________________

(١). س : تبعيتها.

(٢). س : اد.

١٤١

ارتباط وإضافة حقيقية ؛ فعلى الأوّل يكون المجعول / B ٥٣ / بالذات ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ أمرا اعتباريا منتزعا من الواجب تعالى ؛ إذ مع كونها مجرّد إضافات لازمة تابعة بذاتها لذات الواجب منتزعة عنه بلا توسّط إضافة اخرى تكون نسبتها إليه كنسبة الابوّة المنتزعة بذواتها عن محالّها لا يمكن أن تكون امورا متحقّقه في الخارج ؛ إذ المتحقّق المباين لا يكون تبعيته وارتباطه إلّا بإضافة حقيقية أو معيّة وتلازم ؛ وإذا كانت اعتبارية لا يكون المجعول بالذات أمرا محقّقا ؛ وهو خلاف ما تقرّر سابقا من كون المجعول بالذات أمرا متحقّقا متحصّلا وخلاف ما حكمتم به من أنّ الوجودات الخاصّة مع تعلّقها بالعلّة ، بل مع بقائها ـ لأنّه لا ينفكّ عن التعلّق ـ امور متحقّقة ذوات آثار خارجية ، بل خلاف البديهة ؛ إذ قد عرفت وفاق الكلّ على أنّ للواجب (١) تحقّقا خارجا عن جميع الموجودات الممكنة ؛ فللواجب تحقّق مغاير لوجود الفلك مثلا والضرورة قاضية بأنّ الفلك الموجود المشاهد الذي مغاير للواجب في التحقّق والوجود ، بل في الإدراك والتعقّل والآثار أمر متحقّق له آثار خارجية بشرط وجود (٢) الواجب ، لما عرفت من أنّ المعلول مع قطع النظر عن العلّة محض العدم.

وعلى هذا ، فالقول باعتباريته (٣) خلاف البديهية على أنّ كون تلك الوجودات الخاصّة مجرّد ارتباطات وإضافات عارضة للواجب بذاتها إنّما يتصوّر إذا وجد امور متحقّقة تكون هذه الإضافات إضافات وارتباطات بينها وبين الواجب ؛ إذ الإضافة والنسبة بمعناها المتعارف إنّما تكون بين شيئين إلّا أنّ الإضافة إنّما هي نسبة متكرّرة والنسبة أعمّ من أن تكون متكرّرة أم لا ؛ ولذا قيل : إنّ النسبة تكون لطرف واحد والإضافة تكون للطرفين ؛ مثلا إذا أخذت السقف مستقرّا على الحائط أخذت (٤) النسبة من جهة السقف المستقرّ وحكمت بأنّ السقف له نسبة إلى

__________________

(١). س : الواجب.

(٢). س : وجو.

(٣). س : باعتبارية.

(٤). س : اخذة.

١٤٢

/ A ٥٤ / الحائط ؛ وأمّا جانب الحائط فلا نسبة فيه إلى شيء ؛ أي من حيث هو حائط ؛ وأمّا إذا أخذت النسبة من حيث السقف مستقرّ على مستقرّ عليه والحائط مستقرّ عليه مستقرّا ، فعكست النسبة وصارت إضافة ؛ فكلّ نسبة لا تؤخذ من الطرفين جميعا من حيث هي نسبة فهي نسبة غير إضافة وكلّ نسبة يؤخذ الطرفان فيها من حيث النسبة فهي إضافة.

فظهر أنّ كلّا من النسبة والإضافة علاقة بين شيئين إلّا أنّها إن اخذت من أحد الطرفين فهي نسبة ؛ وإن اخذت من كليهما فهي إضافة ؛ فلو كانت الوجودات الخاصّة إضافة أو نسبة للواجب يلزم أن يكون نسبة له إلى غيرها وليس الأمر كذلك وكذا لو كانت ارتباطا لزم أن يكون ارتباطا بين الواجب وغيره وهو باطل. فإطلاق النسبة والإضافة والارتباط بمعناها الظاهر عليها غير صحيح ، بل إنّما يصحّ إذا اخذت بمعنى اللازم له لذاته أو التابع والمنتزع عنه كذلك ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ؛ فإنّه يصدق عليها اللازم (١) لذاته والتابع والعارض والمنتزع ولا يصدق عليها النسبة والإضافة والارتباط.

وعلى الثاني ـ أي كون انتساب الوجودات الخاصّة إلى الواجب وارتباطها به بواسطة إضافة اخرى غير ذاتها ، كما في انتساب الابن إلى الأب بواسطة الابوّة ـ لا تكون تلك الوجودات المرتبطة مجعولة بالذات ، بل يكون المجعول بالذات إضافتها وارتباطها ؛ وعلى هذا لا تكون تلك الوجودات مجعولة بذاتها ولا مرتبطة بالعلّة بذاتها ، فلا تكون معلولة بذاتها ؛ فتخرج عن المعلولية بالكلّية ؛ إذ المعلول ما هو بذاته أثر ومفاض ومرتبط بالعلّة ، كما أنّ العلّة ما هو بذاته موجد ومفيض ؛ وعلى المفروض يكون المعلول المجعول بذاته هو وصفها الخارج من ذاته وهذا الوصف (٢) هو المرتبط بالواجب لذاته ولو فرض ارتباطه به بارتباط

__________________

(١). س : للازم.

(٢). س : لوصف.

١٤٣

آخر وجب الانتهاء إلى مرتبط بذاته دفعا للدور أو التسلسل.

وبالجملة : إذا كان المجعول بذاته هذه الإضافة الخارجة (١) عن حقيقة الوجودات / B ٥٤ / الخاصّة لم تكن تلك الوجودات معلولة بالذات ؛ هذا خلف.

قلنا ـ بعد التنبيه على أنّ إطلاق المرتبط والمنتسب (٢) والمضاف على الوجودات الخاصّة ليس بمعنى الشيء الذي يرتبط بالواجب بارتباط آخر ، لما تقدّم من المحذور ، بل بمعنى نفس الارتباط والنسبة والإضافة لا بمعناها المتعارف المستلزم لوجود الطرفين وإلّا لزم أن تكون الوجودات الخاصّة نسبة بين الواجب وغيره وتنتزع عن الواجب وغيره بملاحظة هذا الغير كالابوّة المنتزعة عن الأب بملاحظة الابن ، بل بمعنى اللوازم والتوابع بذاتها والمتعلّقات والمترتّبات (٣) بأنفسها على ذات واحدة من دون توقّف على ملاحظة ذات آخر ولا على علاقة اخرى تكون رابطة بينها وبين الواجب ، بل ذات الواجب بذاته يستتبعها وهي بأنفسها يلزمها ويتبعها ـ : إنّ اللوازم والتوابع لشيء بذاتها تختلف في التحقّق والاعتبارية باختلافه ؛ فإنّ الماهيّة لكونها ضعيفة الوجود والتحقّق تابعة فهما للوجود الخاصّ يكون لازمها أمرا اعتباريا كالزوجية لماهيّة الأربعة ؛ والوجود الخاصّ الإمكاني لكونه أقوى منها في التحقّق وإن كان مشوبا بظلمة العدم يكون للازمه نوع تحقّق أضعف من تحقّقه كالحرارة للنار والبرودة للماء (٤) ؛ فإنّهما لازمان تابعان لهما مترتّبان بذاتهما على ذاتهما من دون توسّط أمر (٥) آخر تابعيتهما لهما لأجله ولهما نوع تحقّق أضعف من تحقّقهما وكذا النور التابع للمضيء والظلّ التابع لذي الظلّ ؛ فإنّ تبعيتهما نفس ذاتهما من دون توسّط علاقة اخرى رابطة بين التابع والمتبوع ولهما نوع تحقّق وإن كان تبعيا.

__________________

(١). س : الخارجية.

(٢). س : المثبت.

(٣). س : المرتبات.

(٤). س : الماء.

(٥). س : امرا.

١٤٤

وبالجملة : تختلف التوابع واللوازم (١) في التحقّق والاعتبارية باختلاف المتبوعات والملزومات فيهما. فلازم صرف الوجود الحقّ ينبغي أن يكون في التحقّق والثبوت أقوى من كلّ تابع وإن كان مترتّبا عليه بذاته متعلّقا به بنفسه مترشّحا عنه من دون توقّف على واسطة اعتبارية ، وأيّ دلالة وبرهان على أنّ ما يلزم كلّ شيء ويتبعه يلزم أن يكون اعتباريا / A ٥٥ / والعقل إذا لم ينقبض من لزوم اعتباري محض أو نفس أمريّ لشيء وترتّبه عليه بذاته لا ينقبض أيضا من لزوم أمر متحقّق لذات كاملة في التحقّق ويترتّب عليه من دون توقّف على أمر آخر ؛ إذ ليس ترتّب النور على المضيء وتبعيته ولزومه كلزوم الزوجية للأربعة في عدم واسطة رابطة بينهما مع النور الشمسي الشمس أمر متحقّق ينوّر الظلم ويوضح البهم ويشفي ويمرض ويحيى ويهلك ويصلح ويفسد وينبت ويحرق إلى غير ذلك من الآثار الخارجية العجيبة والأفعال الواقعية الغريبة ؛ والزوجية مجرّد اعتبار لا يترتّب عليها أثر خارجي ؛ فماهيّة الأربعة لكونها اعتبارية موجودة في الذهن لا يوجد لازمها أيضا إلّا فيه ، فترتّبها عليه ترتّب ذهني ؛ والجسم المضيء لكونه متحقّقا موجودا في عالم الحسّ لازمه أيضا يوجد فيه وترتّبه عليه ترتّب حسّي ؛ وصرف الوجود الحقّ لكونه متحقّقا في عالم التجرّد فما يتبعه ويلزمه ويترشّح عنه بلا واسطة يكون متحقّقا فيه ويكون ترتّبه ترتّبا يليق بذلك العالم وترتّبا يكون بين المجرّدات. نعم مقتضى معلوليته وتبعيته أنّه لو قطع النظر عن علّته يكون محض العدم.

فثبتت الاعتبارات المذكورات (٢) ويحصل به الجمع بين كلمات الكلّ من أعيان الحكماء وأعلام العرفاء ويطابق ما جاء به أرباب الوحي وأصحاب الشريعة. فجميع الوجودات الخاصّة الإمكانية فائضة مترشّحة من الوجود الحقّ على

__________________

(١). س : للّوازم.

(٢). س : المذكوران.

١٤٥

الترتيب اللائق الذي يحصل به ربط الوحدة بالكثرة ؛ فيترشّح بعضها من بعض ويترتّب بعضها على بعض إلى آخر سلسلة الوجود نظرا (١) إلى أنّ إيجاد الواجب للأشياء على هذا النحو من ربط المسبّبات بالأسباب أشرف وأكمل وعلى علوّ القدرة أدلّ من إيجاد كلّ شيء بذاته من دون مدخلية لغيره من معلولاته فيه بالتأثير والشرطية ؛ إذ كلّ ما له تأثير ومنشئية أثر أشرف من نفسه إذا كان فاقدا لذلك ؛ ولا ريب في أنّ المصنوع كلّما كان أشرف كان الصنع أقوى وأتمّ. كيف / B ٥٥ / وانتفاء التأثير ومنشئية الآثار والخواصّ عن الأشياء يوجب تعطيلها في الوجود؟! وهو لا يناسب علوّ القدرة على أنّه لا مناسبة للأشياء الخسيسة مع الحقّ الأوّل والجمال المطلق حتّى يصدر عنه بلا واسطة.

وبذلك يظهر أنّ كون الوجودات الخاصّة المعلولة متحقّقة ذوات آثار خارجية أنسب بعلوّ القدرة من كونها اعتبارية فاقدة للآثار العينية.

نعم لو قطع النظر عن تابعيتها للواجب ولوحظت من حيث ذواتها الإمكانية لكانت محض الأعدام كما مرّ مرارا.

ثمّ كما ظهر وعاء كلّ لازم وتابع هو وعاء متبوعه وملزومه ؛ فالماهيّة لمّا كان وعائها هو الذهن ، فلازمها لا يكون إلّا فيه ؛ ولكونها متّحدة مع الوجود الخاصّ في الخارج يكون فيه بحيث يصحّ أن ينتزع عنها لازمها ؛ والوجودات الخاصّة الإمكانية لمّا كان وعاؤها الخارج مع كونها مشوبة فيه بظلمات الأعدام ، فتوابعها أيضا كذلك ؛ وأمّا الوجود الحقّ الذي هو صرف التحقّق وحقيقته هو أنّه في الأعيان ولا يمكن أن يدخل في أوعية الأذهان فينبغي أن يكون لازمه أيضا كذلك إلّا أنّه لتنزّله عن مرتبة وجود العلّة وانحطاطه عن بحت الوجود يكون مشوبا بظلمة العدم مخلوطا بالماهيّة المنتزعة عن حيثية عدمية.

__________________

(١). س : نظر.

١٤٦

هذا مع أنّ الوجودات الخاصّة الإمكانية لو كانت بأسرها اعتبارية فإمّا أن يكون جميعها لازمة لذات الواجب مترتّبة عليه من دون واسطة أو يكون اللزوم والتبعية بالوسائط. فعلى الثاني يلزم عليه الاعتباري ومنشئيته للآثار الخارجية وهو بيّن الفساد ؛ وعلى الأوّل صرف الوجود الحقّ إمّا أن يكون متعيّنا بذاته متشخّصا بنفسه ؛ فلا معنى لانتزاع (١) المختلفات ولو كانت اعتبارية عن ذات البسيطة المتشخّصة المتقدّسة عن شوائب الكثرة واختلاف الجهات أو يكون كلّيا مبهما كالطبيعي فقد ظهر فساده أو مطلقا منبسطا ذا درجات ومراتب فيلزم / A ٥٦ / كونه عين الوجود المنبسط ؛ وقد عرفت أنّ القائلين به إنّما يقولون إنّه فعله لا عينه لما عرفت من فساد القول بالعينية. فعلى القول به يكون الوجودات الخاصّة من مراتب أوّل معلولاته ؛ لأنّه من مراتب ذاته المقدّسة ؛ وعلى هذا ما يلزم ذاته ويتبعه (٢) أوّلا هذا الوجود ، والماهيّات تكون عارضة لدرجاته منتزعة عنها ؛ ويكون الفرق حينئذ بين قول القائلين به وقول الحكيم أنّ حقيقة الممكنات عندهم شيء واحد هو الوجود المنبسط وإنّما يحصل التعدّد والتعيّن بالماهيّات ؛ وعنده امور متعدّدة مختلفة متباينة هي الوجودات الخاصّة.

فالمنبسط عند الصوفية بمنزلة الوجودات الخاصّة عند الحكيم. فعلى القول به وإن لم يلزم نقص وقصور لساحة عزّه وكبريائه إلّا أنّ إثبات وجود مثله وإدراك إطلاقه ودرجاته وتقيّده (٣) بالماهيّات المختلفة وتخصيص كلّ درجة منه بمهيّة خاصّة مع عدم كونه ذا أجزاء مختلفة ممّا لا يمكن بطريق النظر. فتثبت في هذا المقام الذي زلّت فيه الأقدام ، وحارت فيه العقول والأفهام ، وانكسرت فيه رءوس الأقلام ؛ ولعلّ ما أرشدتك إليه هو الصراط المبين الذي لا ينبغي أن ينحرف عنه إلى الشمال واليمين.

__________________

(١). س : الانتزاع.

(٢). س : تبعية.

(٣). س : يقيده.

١٤٧

هذا وقد أجاب بعضهم عن الإشكال الأوّل بأنّ للوجودات وجودين أحدهما في الشهود العلمي قبل الوجود العيني وسمّوها باعتبار هذا الوجود مخاطبة بخطاب (كُنْ) (١) ومنتسبة إلى الوجود الحقّ ومستضيئة منه الوجود الآخر الذي هو في الشهود العيني كما يشهد به قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الله الخلق في ظلمته ثمّ رشّ عليه من نوره» (٢) إذ الظاهر أنّ المراد بالخلق في الظلمة هو الإيجاد في الشهود العلمي وبالرشّ من نوره هو الإيجاد في الأعيان ؛ ويشير إليه قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٣) وعلى هذا يكون للموجودات / B ٥٦ / الإمكانية ثبوت في العلم قبل وجودها في الخارج ؛ فيحصل الارتباط بينها وبين الواجب نظرا (٤) إلى هذا الثبوت وإن لم يوجد في الخارج.

والقول بهذا الثبوت العلمي نظير قول المعتزلة بثبوت المعدومات الممكنة إلّا أنّ المعتزلة لعدم قولهم بالوجود الذهني نسبوا هذا الثبوت إلى الخارج وسمّوه ثبوتا خارجيا واسطة بين الوجود والعدم ؛ والصوفية نسبوه إلى حضرة العلم وسمّوه بالوجود العلمي ؛ وفيه أنّ تلك الأعيان الثابتة في الشهود العلمي إمّا تكون مجعولة بجعل الجاعل كما يشير إليه لفظ «خلق» في الحديث و «جعل» في الآية ، لإشعارهما بأنّ الأشياء في تلك الظلمة وذلك الثبوت مجعولة مخلوقة أوّلا.

فعلى الأوّل إن كان ذلك الثبوت بانتساب آخر للماهيّات إلى الجاعل وهكذا فيلزم التسلسل في تلك الثبوتات بحسب الواقع ونفس الأمر ، وهذا باطل ؛ وإلّا لم يكن كلّ ثبوت ووجود بالانتساب ؛ هذا خلف.

وعلى الثاني تكون تلك الماهيّات في ثبوتها العلمي واجبة لا ممكنة ؛ والمقرّر

__________________

(١). الأنعام / ٧٣.

(٢). لم أعثر على مصدر هذه الرواية ولكن توجد في بحار الأنوار ، ج ٦٥ ، ص ٤٤ : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تبارك وتعالى خلقنى وإيّاك من نوره الأعظم ثمّ رشّ من نورنا على جميع الأنوار من بعد خلقه لها.»

(٣). الأنعام / ١.

(٤). س : نظر.

١٤٨

خلافه ؛ لأنّ كلّ ثبوت ووجود من تلقاء فيضه سبحانه ، والماهيّات في أنفسها أعدام صرفة لا تقرّر لها بوجه. نعم لو قيل بوجوب ذلك الثبوت العلمي بذاته وكونه في مرتبة وجود الواجب ـ كما قال بعضهم ـ لأمكن القول بكون موجودية الماهيّات أو الوجودات الخاصّة بالانتساب الذي لا يتوقّف على وجود أحد الطرفين الذي هو الوجودات الخاصّة أو الماهيّات إلّا أنّ هذا (١) القول بيّن الفساد.

فالحقّ أنّ الموجودات العلمية كالعينية مجعولة معلولة ؛ أي تابعة لذات الواجب مترتّبة عليه بالذات. فذات الواجب سبحانه علّة لتمثّل نظام الكلّ في ذاته ومترتّبة عليه ، كما أنّه علّة لظهوره في الخارج وترتّبه عليه فيه.

ثمّ الواجب كما أنّه علّة تامّة لإيجاد الكلّ فكذلك علّة تامّة للعلم به من دون توقّف على شرط واستعداد ؛ وبعض المدارك كالنفس الإنسانية لمّا لم يكن بذاته علّة لارتسام الأشياء / A ٥٧ / في ذاتها ، بل فيضان الصور وارتسامها فيها على حسب استعدادها وحصول شرائطها ؛ فلا تترتّب (٢) الصور العلمية على مجرّد ذاتها ، بل يحصل الصور فيها على حسب استعدادها وتهيّأها.

وعلى هذا فالمراد من الآية والحديث أنّ الوجودات الممكنة كلّها مجعولة ؛ والثبوت العلمي أيضا مجعول مفاض من الواجب تعالى إلّا أنّ مراتبها لمّا كانت متفاوتة فالثبوت العلمي لضعفه وعدم ترتّب أثر عليه وعلى الماهيّات في تلك المرتبة إلّا أنّ كونها منشأ للعلم سمّي ذلك الثبوت ثبوتا علميا وسمّيت الماهيّات في تلك المرتبة أعيانا ثابتة وسمّي كلاهما ظلمة وظلمات بالنسبة إلى نور الوجود الذي يفيضه الجاعل بعد تلك المرتبة بحيث تعرضه الماهيّات وتوابعها ويصير هذا الوجود وكذا الماهيّات معه منشأ للآثار الخارجية ولذلك سمّي الوجود في المرتبة الثانية نورا.

__________________

(١). س : هذ.

(٢). س : فلا ترتّب.

١٤٩

وأمّا ما ذكره هذا القائل من أنّ الأشياء بالثبوت العملي مخاطبة بخطاب (كُنْ) (١) فمراده أنّ توجّه الخطاب إلى مخاطب لا بدّ أن يكون مسبوقا بثبوته قبل هذا الخطاب ؛ فلو لا ثبوت الأعيان الممكنة في الشهود العلمي لما أمكن توجّه خطاب الإيجاد إليها ولما حصل وجود لها.

ومقتضى كلامه أنّ الموجودات في وجوداتها العينية التفصيلية مسبوقة في خطاباتها الإبداعية والتكوينية التي بها تحصل لها أنوار الموجودات العينية بثبوت علمي على التفصيل وهي بذلك الثبوت علوم تفصيلية بحقائقها العينية ؛ وأمّا في خطاباتها التي لها ثبوتها العلمي فغير مسبوقة بثبوت آخر كذلك ، بل ذات موجدها التي هي أصلها ومنشأها وعلم إجمالي بها كافية بذاتها في هذا الخطاب ؛ وجليّة الحال فيه ممّا ذكرناه ظاهرة.

[في أنّ الماهيّات مجعولة بتبع الوجودات]

يتّضح بها ما ذكرناه من الجمع بين القولين من ثبوت الكثرة والوحدة والجعل والتجلّي والإفاضة والظهور وفي المظاهر الاول.

قد سمعت في الكتب العقلية أنّ المعلول يناسب العلّة من وجه ويباينها من / B ٥٧ / وجه ؛ ولا ريب في أنّ الوجودات الخاصّة الإمكانية الفائضة منه تعالى كذلك ؛ فإنّها من حيث الأصل والسنخ واحدة مناسبة له تعالى ومن حيث نقصان الكمالات وتبعية الماهيّات لها متعدّدة مباينة له سبحانه ؛ وكان المراد بوحدة الوجود وكثرة الشئون ليس إلّا ذلك ؛ وإطلاق الوجود المنبسط أيضا على تلك الوجودات نظرا (٢) إلى وحدتها من حيث الأصل والسنخ غير بعيد ؛ وهذا الوجود

__________________

(١). الأنعام / ٧٣.

(٢). س : نظر.

١٥٠

كما أنّه وجود فهو أيضا موجود ، كما أنّ النور (١) منوّر ؛ فكما أنّ الوجود واحد بالأصل والسنخ ومتكثّر باعتبار التقيّدات ونقصان الكمالات وتبعية الماهيّات ، فكذلك الموجود بهذا المعنى ـ أي الموجود المجعول بالذات الذي هو الوجود ـ واحد ومتكثّر بالاعتبارين ؛ والمجعول بالعرض ـ أعني الماهيّات ـ متعدّدة بأنفسها ؛ لأنّها لوازم النقائص المتكثّرة بالإضافة إلى الكمالات ؛ فصرف الوجود الحقّ واحد في غاية الكمال والجمال ، وجامع لجميع الكمالات الذاتية ؛ والوجودات الفائضة منه المتّحدة في الأصل والسنخ فاقدة لهذه الكمالات كلّا أو جلّا ؛ ولاختلافها في هذا الفقد يتكثّر ويتعدّد بمراتب الفقدان والعدمات المضافة إلى تلك الكمالات لا بالعدم الصّرف حتّى يرد أنّ حقيقة العدم كحقيقة الوجود المقابلة لها واحدة لا تعدّد ولا تمايز فيها ، فكيف تتكثّر الوجودات بالعدم الذي لا تعدّد ولا تمايز فيه؟!

فكلّ وجود فاقد لمرتبة من المراتب الكمالية حقيقة بنفسها ممتازة عمّا سواه بذاته وحقيقته لا بالماهيّة. نعم الماهيّات أظلال وأشباح لتلك الوجودات وكالأسماء والأمارات لها ؛ إذ لا يمكن التعبير عن تلك الوجودات أو الإشارة إليها بخصوصياتها إلّا بها (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (٢). فالماهيّات عوارض تلك الوجودات المقيّدة لا مثل ساير العوارض ، بل عروضها له كعروض الاسم للمسمّى واللفظ للمعنى ؛ وهي ما شمّت رائحة الوجود بالذات ، بل إنّما شمّتها بالعرض من قبل معروضاتها ؛ أعني الوجودات الخاصّة التي هي شمّتها بالذات من قبل مفيضها وموجدها / A ٥٨ / الذي هو صرف الوجود وبحت الفعلية والنور. فالماهيّات مجعولة بالعرض ؛ أي بتبعية الوجودات التي هي مجعولة بالذات.

__________________

(١). س : + و.

(٢). النجم / ٢٣.

١٥١

[في استحالة إدراك الواجب إلّا بتوسّط المجالي ، لشدّة ظهوره]

الواجب صرف الوجود والظهور وبحت الإنّية والنور ؛ ولشدّة ظهوره لا يمكن إدراكه إلّا بتوسّط المظاهر والمجالي. أولا ترى أنّ بعض الأنوار الحسّية كالنور الشمسي مثلا مع كونه من أنزل مراتب تنزّلات النور الحقيقى قد بلغ من شدّة الظهور والإشراق بحيث لا يدركه الأبصار سيّما أبصار الغوامش والخفافيش ؛ وبهذا الاعتبار صار مخفيّا ومحجوبا لكنّه بحيث إذا ارتبط بالأشباح والأظلال واشتبك مع الأعدام والظلام بحسب أطواره وتنزّلاته ومراتبه ودرجاته واحتجب بالحجب بحسب شئونه واعتباراته صار بحيث يمكن أن يدركه الأبصار بحسب استعداداتها.

وكلّ من تلك الأنوار المشتبكة فائضة من نور الشمس وموجودة بواسطته ؛ فهي مظاهرها ووسائط ظهورها وأدلّة وجودها ولو لم يكن ذلك الارتباط والاشتباك لم يكن لنور الشمس ظهور في الأبصار مع أنّها في حدّ ذاتها في غاية الظهور والجلاء وأنّ تلك الأظلال والأشباح فاقدة للنور في أنفسها وأنّ الشمس إذا ظهرت بنفسها لم يبق لها نور ووجود وإن كان ظهور نور الشمس بها مع أنّ ظهورها بحسب الحقيقة بنورها ؛ فصارت غاية الظهور والجلاء سببا للبطون والخفاء ؛ والارتباط والاشتباك بالحجب والأستار موجب للبروز والانجلاء ؛ وهذه (١) الانوار بحسب السنخ والأصل واحدة وبحسب المظاهر والمجالي متكثّرة.

فكذلك صرف الوجود الحقّ مع كونه في غاية الجلاء والظهور ، بل عين الظهور والنور ومنه يفاض كلّ نور ووجود ، بلغ من شدّة الظهور والنورية حدّا لا يمكن

__________________

(١). س : هذ.

١٥٢

أن تدركه البصائر وتعرفه الضمائر ؛ فتجلّى بقدرته الظاهرة في مجالي المظاهر والأعيان وفي هياكل الماهيّات والأكوان بأن أفاض من ذاته بذاته وجودات مقيّدة بقيود / B ٥٨ / نقائص الإمكان ، مشتبكة (١) بظلمات الأعدام والفقدان ، ممازجة بالماهيّات الإمكانية ، مخلوطة بالحجب الظلمانية ، مختلفة بحسب ذواتها وفقد الكمالات ، متباينة باختلافها في حصول بعض الفعليات حتّى يمكن أن يدركها العارفون لخروجها عن صرافة الوجود والنور وممازجتها بظلمات الإمكان والقصور وينتقلوا منها إلى الوجود الحقيقي الذي هو مبدأها وموجدها ؛ فهي بحسب تقيّداتها واشتباكها بالماهيّات مظاهر وجود الحقّ ؛ لأنّها لقصورها ونقصان كمالاتها لا بدّ أن ينتهي إلى وجود كامل بالذات مستجمع لجميع (٢) الكمالات لكنّها بحسب ذواتها بحيث لو لم يظهر الوجود الحقّ ولم يظهرها بالإفاضة والجعل لم يكن لها ولا للماهيّات التابعة لها ثبوت وظهور.

فالوجود الحقّ لغاية ظهوره صار محجوبا خفيّا وباحتجابه وبطونه صار ظاهرا جليّا ؛ فسبحان من احتجب بغير حجاب وستر بغير ستر ، علن فبطن وبطن فعلن ؛ فبالحقّ ظهر الخلق وبالخلق ظهر الحقّ ؛ وإن اختلف الظهوران فكلّ من الحقّ والخلق مرآة لمشاهدة الآخر من وجه ؛ وكما أنّ المرآة الحسّية (٣) لا بدّ أن لا يكون لها صبغ ولون حتّى يظهر فيها المرئي وكذا المرئي لا بدّ أن يكون له صبغ ولون في الجملة ليظهر صورته فيها ، كذلك المرآة (٤) المعنوية التي هي الماهيّات لا بدّ أن لا يكون لها في حدّ ذاتها لون الوجود المقيّد ، بل يجب خلوّها عن ألوان الوجودات حتّى يمكن أن يظهر فيها المرئي الذي له لون الوجود في الجملة ؛ أعني صور الوجودات المقيّدة المعبّر عنها بلسان الشرع بصبغة الله ومن الله صبغة ؛ ولذا

__________________

(١). س : مشبكة.

(٢). س : بجميع.

(٣). س : الخسيته.

(٤). س : المرءة.

١٥٣

كانت الماهيّات في أنفسها أعداما صرفة تتراءى فيها تلك الوجودات الممتزجة بأعدام النقائص وفقد الكمالات ؛ وكما لا يمكن أن تتكرّر صورة المرئي في المرآة الواحدة فكذلك لا يمكن أن يتكرّر ظهور الوجود المقيّد في الماهيّة ، كما شاع من الصوفية أنّ الله تعالى لا يتجلّى في صورة مرّتين ؛ وكما لا يمكن أن يظهر في المرآة صرف النور الغير الممازج بلون الظلمة والكثافة / A ٥٩ / فكذلك لا يمكن أن يظهر في الماهيّة صرف الوجود الحقّ المعرّى في ذاته بذاته عن التقيّد والظلمة اللذين هما بمنزلة الصبغ واللون.

[في أنّه تعالى أصل الكلّ ومبدؤه وموجد الجميع ومنشئوه ، وفي أنحاء تجلّياته ومظاهره]

ذات الله الذي هو بذاته محض الوجود وصرف الإنّية والنور ، بحت الغيب وغيب الغيوب ، بل فوق كلّ غيب وظهور ، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ومنبع كلّ بهاء وكمال ، ومنشأ كلّ حسن وجمال ، أصل كلّ أصل وفرع ، ومصدر كلّ أثر وفعل ، تجلّى من المرتبة الأحدية الذاتية وغيب الهويّة الواجبية إلى المرتبة الإلهية وحضرة الأسماء والصفات الجلالية إجمالا وتفصيلا وجمعا وفرادى على نحو لا يعرفه (١) العارفون ، بل يعجز عن معرفته الراسخون.

فكما أنّ ذاته بذاته وجود وموجود باعتبار ، فكذلك علم وعالم باعتبار ، وقدرة وقادر باعتبار إلى آخر صفاته العليا وأسمائه الحسنى على الترتيب العقلي الواقعي ؛ فإنّ العقل يلاحظ أوّلا ذاته الموجودة ووجوده ثمّ الحيّ وحياته ثمّ العالم وعلمه ثمّ القادر وقدرته إلى آخر الأسماء والصفات ثمّ تجلّى من تلك الحضرة

__________________

(١). س : يعرفة.

١٥٤

الوحدانية والمرتبة الإلهية إلى حضرة الربوبية والخالقية ، أي إلى مظاهر تلك الأسماء والصفات بإيجاد المظاهر الإبداعية والتكوينية وإفاضة المجالي الأمرية والخلقية وإظهار المرايا الآفاقية والأنفسية بنحو آخر من التجلّي وراء الأوّل ؛ فإنّ تجلّي الذات إلى حضرة الأسماء والصفات إنّما هو بالجهات والاعتبارات وكلّها عين الذات باعتبار ؛ وأمّا تجلّيه إلى مظاهره فليس كذلك ؛ لأنّها غير الذات غيرية واقعية إلّا أنّها مناسبة له مناسبة المعلول للعلّة والفرع للأصل والظلّ للنور.

الحاصل : أنّه أفاض من ذاته بذاته مظاهر لأسمائه وصفاته على مناسبة يعرفه العارفون وبعضها مظاهر جمعها إجمالا وتفصيلا معا وبعضها مجالي بعضها كذلك وهي مترتّبة بعضها فوق بعض وبعضها مناسب لبعض وبعضها مناف لبعض ؛ وهذا الترتيب والتقدّم والتأخّر الواقعة في مراتب تجلّيات الذات إلى / B ٥٩ / حضرة الأسماء والصفات وكذا إلى مظاهرها يسمّى تارة بالتقدّم بالحقّ واخرى بالتقدّم بالحقيقة واخرى بالتقدّم بالذات ؛ ولا مشاحّة في التسمية.

فالعالم بجميع أجزائه ـ وهو الإنسان الكبير ـ مظهر جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا من الجلالية والجمالية والمركّبة منهما باعتبار ومجلى اسم الله الذي هو الجامع للأسماء كلّها ؛ لأنّه اسم للذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية باعتبار آخر ومظهرية جميع العالم تفصيلية عينية وتميزية.

والإنسان ـ وهو العالم الصغير ـ مرآة صغيرة هي مظهر لمشاهدة جميع أسمائه وصفاته مشاهدة بين الإجمال والتفصيل ، كالعالم بجميع أجزائه ؛ فهو مختصر منتخب من العالم الكبير الذي هو تفصيل الحضرة الأحدية والحضرة الإلهية والحضرات الأسمائية والصفاتية وخلاصة حضرات الأسماء والصفات وكتاب الموجودات.

والحاصل : أنّه تعالى تجلّى إلى عالم الإنسان ؛ أي أفاض وجودا كاملا

١٥٥

مستتبعا للماهيّة الإنسانية ؛ فجعله موجودا متّصفا بصفاته إلّا أنّ وجوده وصفاته عين ذاته ، ووجود الإنسان وصفاته غير ذاته ؛ فهما في أصل الصفات مشتركان وإنّما التفاوت بالعلّية والزيادة (١) والوجوب والإمكان والتمامية والنقصان وساير الأحكام التي تحصل للصفات بانتسابها إلى الموصوف من القدم والحدوث والكمال والقصور والتعلّق بغيره من المادّة أو الماهيّة والتجرّد عنه بالكلّية ؛ فالعقل إذا يجرّد الصفات عن الأحكام التي بها التفاوت يجد كلّها موجودة في الإنسان. فهو مأمور بأن يثبت للواجب ما يجده في العالم وفي نفسه من صفات الكمال ، كما أنّه مأمور بالإيمان بوجود موجود يكون على أشرف أنحاء الوجود والصفات ؛ ومقدّس عن كلّ نقص يجده في العالم وفي نفسه.

وعند هذا يظهر (٢) سرّ قوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (٣) ولا لغيرك ما ذكرناه حتّى تعقل عن جلالة الربّ وتجري على الأقدام في وادى إثبات الصفات.

فيقع في مبدأ الهلاكة فيضلّ ؛ فإنّ / A ٦٠ / ما ذكرناه تنبيه وتلويح لا إيقان وتحقيق بالأسر ؛ إذن الناسوت مزيل سرادقات جمال اللاهوت. «فكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» (٤) يا للتراب وربّ الأرباب.

هرچه آن بر هم نهاده دست عقل وحسّ ووهم

كبريايش سنگ بطلان اندر آن انداخته

__________________

(١). س : الزيادت.

(٢). س : الظهر.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٣٢ ؛ ج ٦ ، ص ٢٥١ ؛ ج ٥٧ ، ص ٣٢٤ ؛ ج ٥٨ ، ص ٩١ و ٩٩ ؛ ج ٦٦ ، ص ٢٩٣ ؛ التفسير الصافي ، ج ٤ ، ص ١٥٤ ؛ الجواهر السنّية ، ص ١١٦ ؛ شرح اصول الكافي (للمولى صالح المازندراني) ، ج ٣ ، ص ٢٣ ؛ ج ٤ ، ص ١١٨ ؛ ج ٦ ، ص ٧٠ ؛ شرح مائة كلمة ، ص ٥٧ ؛ عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٥٤ ؛ ج ٤ ، ص ١٠٢ ؛ عيون الحكم والمواعظ ، ص ٤٣٠ ؛ مطلوب كلّ طالب ، ص ٥ ونور البراهين ، ج ١ ، ص ٩٣ و ٢٢٤ ؛ ج ٢ ، ص ٢١٤ و ٤٠٢.

(٤). انظر : الرواشح السماوية ، ص ١٩ و ١٣٣ ؛ الفصول المهمّة ، ج ١ ، ص ٢٦٣ ومشرق الشمسين ، ص ٣٩٨.

١٥٦

به خيال در نگنجد ، تو خيال خود مرنجان

كما يصحّ أن يقال : إنّ ذاته تعالى تجلّى من مرتبة ذاته الأحدية إلى حضرة أسمائه وصفاته ثمّ إلى مظاهرها كذلك يصحّ أن يقال : إنّ حضرة الأسماء والصفات تجلّى إلى مظاهرها. فذاته تعالى كما أفاض من ذاته صفاته فكذلك صفاته التي هي عين ذاته باعتبار وتجلّيات ذاته باعتبار آخر وأسبابه التي هي عبارة عن ذاته ملحوظا مع صفاته أفاضت صفات المخلوقين وأسمائهم ؛ وكما أنّ ذواتهم مظاهر ذاته وصفاتهم مظاهر صفاته ومجعولات ذاته كذلك هي مجعولات صفاته التي هي عين ذاته وأسمائه التي هي ذاته بملاحظة صفاته ؛ والكلّ راجع إلى الذات الحقّ وصرف الوجود المطلق ؛ فهو أصل الكلّ ومبدؤه وموجد الجميع ومنشئوه.

[في مراتب عالمى الكبير والصغير ، وأنّه تعالى أصل الوجود ومبدأ الكمال]

مجموع العالم وهو الإنسان الكبير كشخص واحد له ظاهر هو عالم الحسّ والظاهر والملك والشهادة المطلقة ، وباطن هو عالم البرزخ والمثال والشهادة المضافة والملكوت الأسفل ؛ ولهذا الباطن باطن هو عالم الأرواح والعقول وعالم الملكوت الأعلى والغيب المضاف ، ولهذا الباطن أيضا باطن هو الغيب المطلق وعالم الجبروت وحضرة الأسماء والصفات الإلهية ، ولهذا الباطن أيضا باطن هو غيب الغيب ومنقطع الإشارة وحضرة الوجود البحت ومرتبة الأحدية وهو النور المفيض لكلّ نور والظهور المظهر لكلّ ظهور والوجود الموجد لكلّ وجود ، وتلك المراتب مترتّبة بعضها فوق بعض والعوالم / B ٦٠ / الثلاثة الاول مظاهر ذاته ومجالى أسمائه وصفاته.

١٥٧

وإذ عرفت ذلك في مجموع الموجودات الذي هو الإنسان الكبير فاعلم أنّ حكم الإنسان الذي هو العالم الصغير وخلاصة الموجودات وفذلكة حساب الكائنات وآخر النشأت (١) الإمكانية باعتبار وأوّلها باعتبار آخر كذلك ؛ إذ له ظاهر هو البدن ، ولهذا الظاهر باطن هو القوى السارية فيه ، ولهذا الباطن أيضا باطن هو النفس (٢) المجرّدة ، ولهذا الباطن باطن هو الروح القدسي ـ أعني العقل الأخير الواقع في سلسلة العقول الطولية ـ ولهذا الباطن أيضا باطن إلى أن ينتهي إلى الوجود الحقّ الحقيقي.

وكما أنّ مراتب الحسّ والمثال والأرواح والعقول من أجزاء العالم والمرتبتين الأخيرتين خارجتان عنها وإنّما يصل بعض أجزائه ـ أعني العقول ـ إليهما بالاتّصال فكذلك هذه المراتب الثلاث داخلة في الإنسان والمرتبتان الأخيرتان خارجتان منه وإنّما يصل بعض أجزائه وهو النفس (٣) المجرّدة إليهما بالاتّصال.

وكما أنّ البدن وقواه وما في القوى من النفوس والصور الجزئية والنفس المجرّدة وما فيها من الصور الكلّية والعقول وما يثبت فيها من الامور اللائقة كلّها من فيض الحقّ ومظاهر أسمائه وصفاته لكن بالترتيب ؛ فإنّ حياة البدن بالقوى السارية فيه وحياتها بالنفس المجرّدة وحياتها بروح القدس وحياته بالأخرة بالوجود الحقّ كذلك حال مجموع العالم ؛ فإنّ حياة مجموع الأجسام بالطبائع والقوى السارية فيها وحياتها بالنفس القدسية المتصرّفة في تلك القوى وحياتها بالعقول وحياتها بالوجود الحقيقي الذي هو الحيّ بذاته الكامل في صفاته ، فلا وجود ولا موجود ولا حيّ ولا حياة ولا كامل ولا كمال ولا علم ولا عالم ولا قدرة ولا قادر إلّا هو تعالى شأنه.

__________________

(١). س : النشأط.

(٢). س : نفس.

(٣). س : نفس.

١٥٨

[في حضرات الأسماء والصفات ، والعوالم التي هي أفعاله تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته ، وكيفية الصدور]

لا ريب / A ٦١ / في أنّ الفعل معناه التأثير أو الأثر نفسه والصفة مبدأ والاسم في شأنه إنّما يطلق على الذات المقدّسة مع ملاحظة صفة من صفاته ؛ لأنّ ملاحظة الذات بذاته من حيث ذاته غير ممكن ؛ وكما أنّ صفاته تعالى بكثرتها منحصر اصولها في أربعة أقسام فكذلك أسمائه الحسنى منحصر في هذه الأربعة ، لما عرفت من أنّها يطلق على الذات بملاحظة الصفات.

وبيان التربيع في صفاته أنّ صفاته تعالى إمّا سلبية أو ثبوتية ، والسلبية صفات مفهوماتها السلوب المضافة إلى أشياء اخر كان يلاحظ فيها نفي ما لا يليق بجنابه وسلب ما لا ينبغي أن يسند إلى بابه من نقائص الحدثان وقصورات الإمكان ؛ وذلك كالغنى والتسبيح والتقديس ، والأسماء بإزائها الغنيّ والسبّوح والقدّوس ؛ والثبوتية صفات مفهوماتها ثبوت أمر ليس سلبيا وهي إمّا مفهومها مجرّد الإضافة كالخالقية والرازقية ؛ والاسم في هذه المرتبة كالخالق والرازق ؛ ويسمّى هذا القسم عند بعض بصفات الفعل وعند آخرين ترجع هذه الإضافات كلّها إلى أمر واحد هو صفة الذات ـ أعني المبدئية للكلّ ـ أو مفهومها أمر ثبوتي سوى الإضافة ؛ وهذا القسم إمّا لا يحتاج في الحقيقة إلى الإضافة إلى الغير ولا تعرضه الإضافة أيضا كالحياة والبقاء ؛ والاسم في هذه المرتبة مثل الحيّ والباقي ؛ وإمّا لا يحتاج في الحقيقة إلى الإضافة لكن تعرضه الإضافة ، كالعلم والقدرة والسمع والبصر ؛ والأسماء في هذه المرتبة كالعالم والقادر والسميع والبصير ؛ فإنّ كونه عالما وقادرا لا يتوقّف على وجود المعلوم والمقدور وكذا كونه سميعا وبصيرا ؛ لأنّه تعالى عالم إذ لا معلوم وقادر إذ لا مقدور وسميع وبصير وإن لم يكن مسموع ولا مبصر إلّا أنّه تعرض لهذه الصفات الإضافة إلى الغير.

١٥٩

وهذه الأقسام كلّها صفات الذات إلّا القسم الثاني فإنّه مختلف فيه في أنّه مجرّد إضافة أو يرجع إلى صفة الذات.

والأسماء / B ٦١ / والصفات الجلالية عبارة عن السلبية ، والجمالية عن الثبوتية عند جماعة ؛ وعند آخرين الجلالية عبارة عمّا يدلّ على القهر والغلبة ، كالقهّار والجبّار والمتكبّر ، والجمالية عبارة عمّا ينبئ عن اللطف والرحمة ، كالرحمن والرحيم واللطيف ؛ ولا مناقشة في الاصطلاح.

فظهر أنّ الأسماء والصفات بحسب أصولها أربعة :

[١.] سلبية

[٢.] وثبوتية ؛ هي مجرّد الإضافة

[٣.] وثبوتية لا يتوقّف تحقّقها على الإضافة ولا يعرضها أيضا ؛ وهي الحقيقة المحضة

[٤.] وثبوتية لا يتوقّف عليها ولكن يعرضها ؛ وهي الحقيقة ذات الإضافة.

وبعضهم قال في تربيع الأسماء : إنّ أسمائه تعالى منحصرة في أسماء الذات وأسماء الصفات وأسماء الأفعال ، وأسماء الصفات على قسمين ؛ فالمجموع أربعة.

وبيان ذلك : أنّ الاسم إنّما يطلق على الذات باعتبار نسبة وتعيّن ما ؛ وذلك الاعتبار إمّا اعتبار أمر عارض عدمي إضافي ، كالأوّل والآخر والسبّوح والقدّوس ؛ لأنّها عبارة عن الذات مع اعتبار الأوّلية والآخرية والتسبيح والتقديس عن النقائص وهي امور إضافية عدمية ؛ ويسمّى هذا القسم أسماء الذات أو اعتبار أمر وجودي يعتبره العقل من غير أن يكون زائدا على الذات في الواقع ؛ فهو إمّا لا يتوقّف على تعقّل الغير ووجوده ، كالحيّ وواجب الوجود ؛ فإنّهما عبارتان عن الذات مع اعتبار الحياة ووجوب الوجود وهما عين الذات وتعقّلهما لا يتوقّف على تعقّل الغير أو يتوقّف على تعقّل الغير دون وجوده ، كالعالم والقادر والسميع

١٦٠