اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

وجود وإثباته لها ممّا لا ريب فيه ؛ فاتّصافها به في الذهن ممّا لا ينكر ؛ وهو فرع ثبوتها فيه ، للفرعية ؛ وإذا نقلنا الكلام إلى هذا الثبوت لكونه نوع وجود ثبت للماهيّة لزم التسلسل.

والدفع بنفي الاتّصاف حقيقة / A ٢٠/ معلّلا بتحقّق الوجود بنفسه وانتزاع الماهيّة عنه إنّما يتأتّى في ظرف الخارج دون الذهن ، لحصول الانفكاك بينهما فيه بالتحليل وتفرّد كلّ منهما بثبوت على حدة فيه ؛ فيتحقّق الاتّصاف بينهما فيه حقيقة ؛ فحديث الأصالة والانتزاع لا يتأتّى فيه ؛ فكلّ اتّصاف فيه مسبوق بثبوت على حدة لها ، وكلّ ثبوت فيه يقتضي اتّصافا آخر ، فيلزم التسلسل.

وبتقرير آخر نقول : اتّصاف الماهيّة بالوجود وعروضه لها في ظرف التحليل ممّا لا ريب فيه ؛ فعروضه إمّا للماهيّة الموجودة أو المعدومة أو لا الموجودة ولا المعدومة.

والأوّل : يوجب الدور أو التسلسل

والثاني : يستلزم التناقض بملاحظة الفرعية

والثالث : يقتضي ارتفاع النقيضين ؛ وجواز ارتفاعهما عن المرتبة إنّما يختصّ بمرتبة واقعية يكون لها نوع تحقّق سابق (١) على النقيضين ، كمرتبة الماهيّة بالقياس إلى العوارض ، كالجسم بالقياس إلى البياض ونقيضه ؛ فإنّ له وجودا في حاقّ مرتبة الجسمية مع قطع النظر عنهما ؛ وهذا الوجود متقدّم بالذات عليهما ومصحّح لاتّصافه بهما وإن لم ينفكّ في الخارج عن أحدهما ؛ وأمّا الماهيّة بالقياس إلى وجودها وعدمه فليس لها مرتبة واقعية متحقّقة سابقة عليهما ؛ إذ ليس لها مرتبة وجود مع قطع النظر عن وجودها ؛ فقياس عروض الوجود للماهيّة على عروض البياض للجسم وقياس خلوّها عن الوجود والعدم على خلوّه في مرتبة وجوده

__________________

(١). س : يحقق سابقا.

٦١

عن البياض واللابياض قياس بلا جامع ؛ إذ قيام البياض ومقابله بالجسم فرع على وجوده ، وقيام الوجود بالماهيّة ليس فرعا على وجودها ؛ إذ لا وجود لها إلّا بالوجود.

والتحقيق في هذا المقام على ما تندفع به الشكوك والأوهام أنّ الماهيّة الموجودة في الذهن المنتزعة من الحقيقة الخارجية كالموجودة في الخارج لها وجود خاصّ ذهني لا ينفكّ عنها بالتحليل ، والمنفكّ عنها هو مفهوم الظهور الذهني المعبّر عنه بالعامّ الانتزاعي ؛ فكما أنّ الخاصّ الخارجي متّحد مع الماهيّة في الخارج ، ولا يتفرّد كلّ منهما بوجود على حدة ، وليس بينهما اتّصاف حقيقة ، بل الاتّصاف بينهما يرجع إلى الاتّحاد ونوع من الارتباط فكذلك الخاصّ الذهني متّحد معها في الذهن ولا يختصّ كلّ منهما بوجود على حدة و/ B ٢٠ / ليس بينهما اتّصاف حقيقة ولا يمكن تجريد أحدهما عن الآخر ؛ وكما ينتزع العقل من الخاصّ الخارجي العامّ الاعتباريّ كذلك ينتزعه من الخاصّ الذهني إلّا أنّ الماهيّة لا يتّصف به في الخارج حقيقة ، لعدم تحقّقه فيه ؛ ويتّصف به في الذهن ، لثبوته فيه. فالتحليل والتجريد والتعرية والاتّصاف وما يرادفها من الألفاظ إنّما يقع بين الماهيّة وبين العامّ لا بينها وبين الخاصّ ؛ وكما أنّها في ظرف الخارج متحقّقة بتحقّق الخاصّ الخارجي فكذلك في ظرف الذهن متحقّقة بتحقّق الخاصّ الذهني.

والسرّ : أنّ الماهيّة من حيث هي لكونها معدومة غير ممكنة التحقّق بنفسها لا يمكن وقوعها في أيّ ظرف فرض إلّا بتبعية وجود يليق بذلك الظرف ويمكن تحقّقه فيه بنفسه ؛ ولا يمكن أن يكون هذا المتحقّق المحقّق للماهيّة هو العامّ الاعتباري وإن أمكن تحقّقه بنفسه في ظرف الذهن ؛ لأنّ ذلك إنّما يكون بعد انتزاعه عن موجود خارجي أو ذهني ؛ فحصوله فرع شيء آخر يكون منشأ لانتزاعه ؛ فلا يمكن أن يتحقّق به غيره ؛ فتعقّل الماهيّة ليس إلّا انقلاب وجودها

٦٢

الخاصّ الخارجي إلى الخاصّ الذهني ؛ وليس عينه حتّى يلزم تعقّل الخاصّ الخارجي مع أنّه قد تقرّر استحالته ، بل هو نشأة اخرى من الوجود حصلت الماهيّة فيها بعد انتزاعها عن النشأة الأولى ؛ فهي في كلّ من النشأتين متحقّقة بالعرض ؛ وحقيقة النشأة الاخرى كالأولى مجهولة الكنه ولا يمكن أن يعلم بالعلم الحصولي ، بل إنّما يعلم بالحضور الإشراقي ؛ فإنّ الخاصّ العقلي وإن كان في العقل إلّا أنّه لا يمكن له أن يحلّله إلى أجزاء ويصل إلى كنهه ، بل إنّما يدركه بالحضور الإشراقي ؛ وما يجرّد عنه هو العامّ الاعتباري.

ولا تتوهّمن أنّ المراد من انقلاب الماهيّة من إحدى النشأتين إلى الاخرى أنّها تنفصل منها وتدخل فيها حتّى يلزم خلوّها في مرتبة من النشأتين ، بل المراد أنّه مع حصول الاستعداد بالنظر وتوجّه العقل يفاض (١) عليه من المبادئ الفيّاضة موجود ذهنيّ هو الماهيّة بوجودها ، كما تفاض منها الموجودات الخارجية.

وبالجملة : لا فرق بين النشأتين من الوجود للماهيّة إلّا في أمرين :

أحدهما : أنّ العقل يتمكّن (٢) من انتزاع الماهيّة عن النشأة الأولى وإدخالها في الثانية ، ولا يتمكّن من نزعها من الثانية ؛ لأنّ / A ٢١ / ذلك فرع أن توجد نشأة اخرى يدخلها فيها بعد النزع ، و «ليس ما وراء عبّادان قرية» (٣) وحصول الانفكاك بين الماهيّة والنشأة الثانية ـ أي الخاصّ الذهني ـ في الذهن محال ، لما مرّ (٤).

ثانيهما : أنّ العامّ الاعتباري غير متحقّق في الخارج ، ولا يمكن ثبوته فيه بنفسه ، والمتحقّق فيه منشأ انتزاعه ، وبعد انتزاعه لا يلزم تحقّقه في الخارج ، بل في الذهن ؛ ولذلك لا تكون الماهيّة متّصفة به في الخارج وأمّا في الذهن فبعد انتزاعه عن موجود خارجي أو ذهني ؛ فيمكن تحقّقه فيه بنفسه واتّصاف الماهيّة به حقيقة ؛

__________________

(١). س : نفاض.

(٢). س : يمكن.

(٣). هذا مثل مشهور انظر مجمع الأمثال ، ج ٢ ، ص ٢٦٩.

(٤). س : مرد.

٦٣

فتحقّق الماهيّة في الذهن إنّما يتوقّف على وجودها الخاصّ الذهني وهو لا يتوقّف على شيء آخر ، بل يتحقّق بنفسه تحقّقا يليق بظرفه ، وليس بينهما اتّصاف حقيقة حتّى يتوقّف على ثبوت الموصوف ؛ وإذا نقل الكلام إليه يلزم التسلسل ، كما في الماهيّة ووجودها الخاصّ الخارجي بعينه.

نعم لمّا كان للعقل أن يجرّد العامّ الاعتباري ـ أعني ظهورها الذهني ـ عنها في الذهن ، وبعد التجريد يكون له فيه ثبوت على حدة ؛ فإذا وصفها العقل به وأوقع الاتّصاف بينهما يكون هذا الاتّصاف اتّصافا حقيقيا ، لثبوت الوصف في ظرف الاتّصاف ؛ فلا يرجع إلى مجرّد الانتزاع وثبوت مبدئه ومنشأه ، بخلاف اتّصافها به في الخارج ؛ فإنّه يرجع إلى مجرّد الانتزاع وتحقّق منشأه ؛ إذ لا تحقّق للصفة فيه أصلا ؛ ومثل هذا الاتّصاف ـ أي الحقيقي ـ يتوقّف على ثبوت الموصوف ووجوده في ظرف الاتّصاف ؛ فإيقاع العقل الاتّصاف بينهما فرع أن يلاحظها أوّلا مقارنة لوجود عامّ آخر ومتّصفة به ؛ إذ ما لم يلاحظها بظهورها الذهني لم يتمكّن من أن يصفها بالعامّ الذي جرّده منها ؛ وإذا نقلنا الكلام إلى ظهورها السابق وتجريده عنها و (١) توصيفها به ثانيا وثالثا وهكذا لزم التسلسل في الاتّصافات والتجريدات بالنسبة إلى العامّ الاعتباري ولا يلزم مثل هذا النسبة في الخارج ؛ إذ لا ثبوت للعامّ فيه ولا اتّصاف لها به فيه حقيقة حتّى يتوقّف اتّصافها الخارجي به على ثبوت آخر لها ، بل الموجود في الخارج ليس إلّا منشأ انتزاعه ؛ فهذا التسلسل إنّما هو بحسب تحليل / B ٢١ / العقل واعتباره ؛ ولا ضير في مثله ، لانقطاعه بانقطاع اعتبارها.

والمحصّل : أنّ الواقع في الذهن ليس إلّا موجود خاصّ لا يمكن للعقل تحليله إلى ماهيّة ووجود خاصّ ، وإنّما يمكنه (٢) أن يجرّد عنه وجوده العامّ مرّات غير

__________________

(١). س : + اذا نقلنا الكلام إلى ظهورها السابق وتجريده عنها و.

(٢). س : تمكنه.

٦٤

متناهية إلّا أنّ هذه التجريدات لمّا كان بحسب اعتباره فيقطع بانقطاع اعتبارها.

فإن قلت : ظرف الخارج لمّا كان وعاء المتحصّلات ، وكلّ من الماهيّة والوجود من الاعتباريات ، ولا يمكن تحصّل المتحصّل من اعتباريّين ، لم يكن بدّ من إثبات وجود خاصّ متحقّق بنفسه بعد صدوره ليكون منشأ لانتزاعها وتتحصّل به الماهيّة وتكون به موجوديتها ؛ وأمّا ظرف الذهن فهو وعاء الاعتباريات ، وإذ يحصل فيه العامّ الاعتباري منفردا وعلى هذا فأيّ مانع من حصول الماهيّة فيه بنفسها من دون حاجة إلى إثبات وجود خاصّ ذهني واتّحادها معه ؛ والحاصل فيه ليس إلّا الماهيّة الملزومة للعامّ ؛ وتحقّقها فيه إنّما هو بنفسها ، لإمكان تحقّق الاعتباريات في الذهن. فهي فيه أصل يتّصف بالعامّ ويقع بينهما بفعل العقل تجريدات واتّصافات غير متناهية. فكلّ تجريد واتّصاف مسبوق بعامّ آخر حتّى ينقطع تحليل العقل. فهذا العامّ الاعتباري والظهور البديهي لازم للماهيّة غير منفكّ عنها ولكنّها في تحقّقها الذهني لا يفتقر إليه ، لتحقّقها فيه بنفسها ، لصلاحية الذهن لتحقّق الاعتباري فيه بنفسه ؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إثبات وجود خاصّ ذهني.

قلنا : لا ريب في أنّ الماهيّة الموجودة في الذهن كالموجودة في الخارج في أنّها بنفسها مع قطع النظر عن الوجود الخاصّ والعامّ لا يمكن تحقّقها ولا يصحّ أن تكون موجوديتها بنفسها ؛ إذ الماهيّة في أيّ ظرف وقعت ـ من الخارج والذهن ـ لا يمكن أن تكون موجوديتها بنفسها مع قطع النظر عن الوجودين منشأ لانتزاع الوجود العامّ ؛ لأنّها في حدّ ذاتها محض الليس وصرف العدم ؛ فلا بدّ أن يكون ما به موجوديتها هو الوجود في أيّ ظرف كانت ؛ والعامّ الانتزاعي لتوقّفه على منشأ الانتزاع في أيّ ظرف فرض لا يمكن أن يكون ما به موجوديتها. فهي في أيّ ظرف وقعت لا بدّ أن يتّحد مع وجود خاصّ / A ٢٢ / يكون به تحقّقها وموجوديتها ؛ وهذا الوجود الخاصّ متحقّق بنفسه تحقّقا يناسب ظرف الوقوع. فالخاصّ الذهني

٦٥

إنّما يكون متحقّقا بالتحقّق الذي يليق بالذهن وإن كان اعتباريا بالنظر إلى ظرف الخارج.

فالتحقيق : أنّ كلّ موجود خاصّ ـ سواء كان في الخارج أو أحد المدارك العالية أو السافلة ـ إذا افيض من مبدأ الفيّاض بعد حصول شرائط وجوده لا بدّ أن يكون فيه أصل متحقّق يكون محقّقا للماهيّة ومنشأ لانتزاع (١) العامّ ؛ وما هو إلّا الوجود الخاصّ من دون فرق في ذلك بين الخارج والذهن حتّى أنّ العامّ الاعتباري بعد انتزاعه عن الخاصّ وحصوله بنفسه في الذهن يكون له وجود خاصّ ؛ لأنّه من حيث حصوله في مدرك خاصّ جزئي يكون جزئيا ؛ فيمكن انتزاع العامّ عنه أيضا ؛ وكذا الكلام في هذا العامّ ؛ فكلّ ما يقع في الذهن ـ سواء اخذ من موجود خارجي أو ذهني آخر ـ قابل للتجريدات والتحليلات الغير المتناهية بالنسبة إلى الوجود العامّ ولا يخرج من الخصوص والعموم باعتبارين ولو وقع عليه تجريدات غير متناهية أو يحصل بعدها.

وبالجملة : كلّ ما يدخل في العين أو الذهن له أصل متحقّق هو الوجود الخاصّ ؛ وهو مجهول الكنه غير ممكن التصوّر ؛ وله وجه انتزاعي معلوم التصوّر هو العامّ الاعتباري العارض للماهيّة.

فإن قيل : التصوّر هو حصول ماهيّة الشيء بنفسها في الذهن مجرّدة عن الوجود الخارجي الذي تترتّب عليه الآثار ، وليس للوجود ماهيّة كلّية ، ولا يمكن تجريده عن نفسه.

قلنا : هذا محال في الخاصّ دون العامّ الذي هو وجه من وجوهه وشأن من شئونه. فإنّه كما يعرض الماهيّة كذلك الماهيّة تعرضه ؛ لأنّه بعد حصوله في الذهن يكون شيئا من الأشياء ذوات الماهيّات ؛ فيكون معروضا لها ومتّحدا معها بضرب

__________________

(١). س : الانتزاع.

٦٦

من الاتّحاد ، وينتزع العقل منه وجودا عامّا آخر مغايرا له بالاعتبار ؛ وكما أنّ عند تصوّر ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ تحصل في الذهن ماهيّة معرّاة عن هذا الوجود كذلك عند تصوّر هذا الوجود تحصل ماهيّة في الذهن معرّاة عن وجوده الذي هو مغاير له بالاعتبار.

ولعلّ هذا أمر غريب عجيب ينبغي أن يتعجّب منه اللبيب حيث يكون شيء واحد عامّا وخاصّا ، مجهول التصوّر ومعلوم التصوّر ، عارضا للماهيّة ومعروضا لها ، حاصلا في العين وفي الذهن بالاعتبارين.

ثمّ التسلسل / B ٢٢ / اللازم من تصوّر وجود كلّ وجود لا ضير فيه ؛ لأنّه تسلسل ينقطع بانقطاع الاعتبار ، كما تقدّم.

وبما ذكر يظهر للمتأمّل شدّة سريان نور الوجود بقسميه في جميع الأشياء والمعاني بجميع الحيثيات والاعتبارات ، وإحاطته بها ، ونفوذ حكمه فيها حتّى أنّ تجريد الماهيّة عن الوجود متفرّع على وجودها.

[في كيفية اتّصاف الماهيّة بالوجود وعروضه لها بناء على أصالة الماهيّة]

جميع ما ذكر إنّما هو على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ؛ وأمّا على العكس فتحيّر القائلون به في كيفية اتّصافها به وعروضه لها في الخارج والذهن بناء على أنّ ثبوته أو عروضه لها أو اتّصافها به فرع ثبوتها بناء على قاعدة (١) الفرعية ؛ وليس لها قبل وجودها ثبوت.

وبعبارة اخرى : اتّصافها بالوجود بمعنى الكون المصدري فرع أن يكون لها كون مصدري ؛ فيلزم تقدّم كونها المطلق على كونها المطلق.

__________________

(١). س : القاعدة.

٦٧

وقد ذكروا لدفع ذلك وجوها كلّها مردودة مزيّفة.

[الأوّل :] ما ذكره الشيخ ومن تبعه وهو أنّ موجوديتها واتّصافها بالوجود ليس إلّا ثبوت نفسها. فثبوت الوجود لها في العين أو الذهن نفس ثبوتها أو وجودها لا ثبوت شيء أو وجوده لها ؛ وبين المعنيين فرق واضح ؛ والذي تجري فيه الفرعية هو ثبوت شيء لشيء لا ثبوت شيء في نفسه ؛ فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في نفسه. فمفاد قولنا : «زيد موجود» هو وجود زيد وثبوته لا وجود شيء آخر له ؛ فهو بمنزلة قولنا : «زيد زيد» ؛ فلا معنى لجريان الفرعية فيه.

وما قيل : إنّ كلّ قضية لا بدّ لها من ذات الموضوع ومفهوم المحمول وثبوته للموضوع ـ وهو معنى الرابطة ـ فإنّما هو بحسب تفصيل أجزاء القضية واعتبار الأطراف بحسب المفهوم لا بحسب مصداقها. فصدق الحمل لكلّ محمول غير الوجود يتوقّف على الثلاثة ؛ وللوجود إذا كان محمولا يكفيه الموضوع ونفس المحمول الذي هو وجوده لا وجود شيء آخر له ؛ فلا يحتاج إلى الرابطة.

وفيه : أنّه لو سلّم أنّ ثبوت الوجود لها ثبوت نفسها لا ثبوت شيء لها نقول (١) :

هذا الثبوت معنى مغاير لنفسها ليس عينها ولا جزئها ؛ وليس أيضا حقيقة متأصّلة مغايرة لها فيكون عارضا لها ؛ فيعود الإشكال على الفرعية ؛ ولا تعقل ثبوتها بدوره (٢) الوجود. فالوجود الذي به ثبوتها إمّا عارض لها أو معروض أو مباين عنها يثبت بالانتساب إليه.

فعلى الأوّل : يعود الإشكال للفرعية

وعلى الثاني : يخرج عن الموصوفية والأصلية

وعلى الثالث : يلزم ارتباط المعدوم / A ٢٣ / بالموجود ، وبطلانه من البديهيات العقلية.

__________________

(١). س : يقول.

(٢). كذا في الأساس.

٦٨

[الثاني :] ما اختاره بعض المحقّقين من تبديل الفرعية بالاستلزام.

وحاصله : أنّ المسلّم استلزام ثبوت شيء لشيء لثبوت المثبت له لا توقّفه عليه.

وقد علّل التبديل بانتقاض الفرعية عنده باتّصاف الهيولى بالصورة ، لعدم تقدّمها عليها بالوجود والماهيّة بالوجود لذلك وإلّا لزم الدور أو التسلسل في الوجودات.

ثمّ لمّا تفطّن بأنّ اتّصاف الشيء بالشيء وعروضه له مشروط بعدم اختلاط الموصوف والمعروض بالصفة والعارض ، والماهيّة مخلوطة ومتّحدة بالوجود الخارجي في الخارج وبالذهني في الذهن وبالمطلق في نفس الأمر ؛ فلا يصحّ الحكم باتّصافها بالوجود ؛ فدفعه بأنّ للعقل أن يجرّدها (١) عن كلّ وجود وعارض حتّى عن الكون الذي لها في ظرف التجريد ويصفها بالوجود. فهذا (٢) الظرف ـ أي ظرف التحليل ـ ظرف للاتّصاف به ؛ وما لها فيه من الكون المصحّح للاتّصاف نحو من أنحاء وجودها في نفس الأمر.

ثمّ أورد بأنّ هذا النحو من الوجود مقدّم على كلّ اتّصاف. فلو اعتبر تقدّمه لتمّ الكلام بلا انتقاض الفرعية.

وأجاب بأنّ هذا النحو من الوجود لا تقدّم له على نفسه مع أنّ الاتّصاف بهذا النحو على اعتبار التقدّم موجب تقدّم هذا النحو على هذا النحو ؛ (٣) فلا يشترط التقدّم.

وفيه : أنّه بعد تسليم أنّ اتّصاف الماهيّة بالوجود في ظرف الذهن يلزم مسبوقية كلّ اتّصاف بنحو من الوجود لها فيه ؛ إذ العقل ما لم يلاحظ الماهيّة بنحو من الوجود العقلي لا يصفها بشيء.

__________________

(١). س : تجردها.

(٢). س : فهذ.

(٣). س : هذ النحو على هذ النحو.

٦٩

وقوله : «هذا النحو من الوجود لا تقدّم له على نفسه» غير نافع في المقام ؛ إذ لو سلّم ذلك فلا ريب في أنّ للعقل أن يجرّدها عن هذا النحو من الوجود (١) واتّصافها (٢) به ؛ والاتّصاف به يتوقّف على نحو آخر من الوجود لها في العقل ، وكذا الكلام في هذا النحو ، ولا ينتهي إلى نحو من الوجود لا يمكن تجريده عن الماهيّة وحمله عليها ولا يكون مسبوقا عن نحو آخر من الوجود لو سلّم أنّ هذه (٣) الأنحاء مختلفة ولا يتقدّم شيء منها على نفسه ، غاية الأمر لزوم التسلسل في التجريدات والتعرية ولا ضير فيه ؛ لأنّه تسلسل ينقطع باعتبار العقل ، كما تقدّم.

فظهر أنّ بعد التزامه كون اتّصافها بالوجود في / B ٢٣ / ظرف التحليل يلزمه توقّف الاتّصاف على وجودها فيه وتقدّمها عليه بالوجود كما هو مقتضى قاعدة (٤) الفرعية من دون فساد وعدم جريان حديث الاستلزام فيه ؛ وهذا أحد الشواهد على بطلانه.

ثمّ إنّ عمدة الإشكال على طريقة القوم إنّما هو في اتّصاف الماهيّة بالوجود في الخارج ؛ إذ التسلسل المحال ـ بناء على تلك القاعدة ـ إنّما يلزم فيه نظرا إلى كون الوجودات المتسلسلة فيه امورا واقعية مترتّبة متحقّقة فيه لا في الذهن ؛ إذ التسلسل في الوجودات فيه إنّما هو بحسب الاعتبار ، فينقطع بانقطاعه ؛ فمع نفي الاتّصاف في الخارج والقول باتّحادهما فيه ـ كما التزمه هذا المحقّق ـ أيّ حاجة إلى حديث الاستلزام؟! مع أنّ القول باتّحادهما فيه ينافي ما ذهب إليه من أصالة الماهيّة ، لما عرفت من أنّ ما به التحقّق في كلّ متّحدين في الوجود هو الوجود والآخر اعتباريا.

ومع هذا كلّه يرد عليه أنّ حقّية تلك القاعدة ممّا يحكم به ضرورة العقل ، ولذا

__________________

(١). س : + لا تقدم له على نفسه غير نافع في المقام اذ لو سلم ذلك فلا ريب في ان للعقل ان يجردها عن هذا النحو.

(٢). س : اتفصها.

(٣). س : هذ.

(٤). س : القاعدة.

٧٠

لم ينكرها أحد من العقلاء ؛ والاستلزام ممّا لا دليل له ، بل البرهان قائم على بطلانه ؛ إذ لو كان ثبوت شيء لشيء مستلزما لثبوت المثبت له لكان الثبوت الأوّل ملزوما للثبوت الثاني والملزوم علّة للازمه ـ كما صرّح به الجماعة ـ فيلزم كون الثبوت الأوّل علّة للثاني ومتقدّما عليه ، وهو بيّن الفساد.

قيل : المراد بالاستلزام هنا التلازم وعدم الانفكاك بمعنى أنّ الثبوت الأوّل لا ينفكّ في الواقع عن الثاني ، سواء كان الثاني متقدّما عليه أو متحقّقا به ؛ أي كان هذا الثبوت أي الثاني بذلك الثبوت أي الأوّل.

قلنا : عدم الانفكاك بين شيئين لا بدّ له من سبب يتحقّق به اللزوم بينهما ، وهو إمّا أحد المتلازمين ـ لو كان أحدهما علّة للآخر ـ أو شيء ثالث ـ لو كان كلاهما معلولين له ـ ولذا صرّحوا بأنّ كلّ متلازمين إمّا أحدهما علّة للآخر أو كلاهما معلولان للثالث ؛ وهنا أحد الثبوتين ليس علّة للآخر وهو ظاهر ؛ ولا يمكن استنادهما إلى ثالث يفيد بينهما اللزوم ؛ إذ كلّ متلازمين لا بدّ أن يكونا بحيث كلّما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر مع أنّ الثبوت الثاني قد ينفكّ عن الأوّل قطعا.

قيل : المراد أنّ ثبوت شيء لشيء أو الحكم به يستلزم الحكم بثبوت المثبت له.

قلنا : [هذا] خلاف المطلوب ولو سلّم فعلى سبيل الفرعية / A ٢٤ / دون الاستلزام.

وأيضا : ثبوت شيء لآخر في الواقع كثيرا ما ينفكّ عن فعلية الحكم بثبوت المثبت له ؛ ومجرّد الإمكان خلاف المقصود.

ثمّ قد عرفت أنّ الباعث لعدوله عن الفرعية إلى الاستلزام انتقاضها باتّصاف الماهيّة بالوجود والهيولى بالصورة ، وعدم إمكان التفصّي (١) عنه.

وقد عرفت وجه التفصّي عن الأوّل وأمّا الثاني فيمكن دفعه بما تقدّم سابقا

__________________

(١). س : النقصى.

٧١

من أنّ مراتب الوجودات متفاوتة في الضعف والقوّة ، وأضعفها وجود الهيولى ؛ فاتّصافها بالصورة يتوقّف على هذا (١) الوجود وما يتوقّف من وجودها على الصورة هو وجودها التامّ النوعي أو الأتمّ الشخصي.

والحاصل : أنّ للهيولى في مرتبة من الواقع وجودا ضعيفا ، ووجودها في تلك المرتبة محض القابلية ، وفعليتها محض القوّة ؛ وهذا الوجود يصحّح الاتّصاف بالصورة ، وبعده يحصل لها وجود أقوى وأتمّ ؛ وهكذا في مراتب الصور النوعية والشخصية ؛ وبذلك يتصحّح التلازم بينهما ؛ وإتمامه بدون القول بذلك مشكل.

[الثالث :] ما ذهب إليه بعضهم وهو أنّ الاتّصاف بالوجود الخارجي إنّما هو في الذهن ؛ إذ لا عروض في الخارج بمعنى أنّ العقل يحكم باتّصاف الماهيّة بالوجود الخارجي وإن لم يكن في الخارج اتّصاف. فظرف اتّصافها به هو الذهن دون الخارج. فقولنا : «زيد في الخارج موجود» قضية ذهنية مفادها «انّ زيدا الموجود (٢) في الذهن متّصف فيه بالوجود الخارجي» فالاتّصاف به فيه دون الآخر.

وفيه : أنّ القضية الذهنية ـ كما صرّح به القوم ـ قضية يكون لخصوص الوجود الذهني لموضوعها مدخل في اتّصاف ذات الموضوع بمبدإ المجهول وصدق مفهومه عليه ، كما في قولنا : «الحيوان جنس» و «الإنسان نوع» وظاهر أنّ حمل الوجود على زيد مثلا ليس من هذا القبيل ؛ لأنّ الحكم بكونه (٣) موجودا خارجيا حكم خارجي ومصداقه ذات الموضوع بحسب حاله في الخارج لا بحسب حاله في الذهن.

[الرابع :] ما ذهب إليه بعض آخر وهو أنّ ثبوت الوجود الخارجي للماهيّة متفرّع على وجودها في الذهن لا في الخارج ؛ بمعنى أنّ اتّصافها به وثبوته لها فرع وجودها في ظرف آخر ـ أعني الذهن ـ فقولنا : «زيد موجود» ـ على هذا ـ

__________________

(١). س : هذ.

(٢). س : لموجود.

(٣). س : يكونه.

٧٢

قضية خارجية إلّا أنّ اتّصاف موضوعها بالموجود (١) وثبوته له متفرّع على وجود [موضوعها] في الذهن.

فالفرق بين هذا القول وسابقه أنّ القضية / B ٢٤ / على الأوّل ذهنية مفادها أنّ ثبوت الوجود الخارجي لزيد إنّما هو في الذهن دون الخارج ؛ وعلى الثاني خارجية مفادها أنّ زيدا متّصف بالوجود الخارجي في الخارج إلّا أنّ ثبوته له لا يتوقّف على ثبوت الموضوع في الخارج بل في الذهن. ففي اتّحاد الماهيّة وجعلها متّصفة بالوجود الخارجي يكفي تقدّم وجودها الذهني على الاتّصاف ولا يلزم تقدّمها عليه في الخارج حتّى يلزم التسلسل في الوجودات.

وفيه : أنّ ما يحكم به صريح العقل من الفرعية أنّ الاتّصاف في كلّ ظرف إنّما يتوقّف على ثبوت الموصوف في ذلك الظرف ؛ ولا مدخلية فيه ، لثبوته في ظرف آخر. فالاتّصاف بالوجود في الخارج إنّما يتوقّف على وجود الموصوف فيه ، ولا يكفي وجوده في ظرف آخر ـ ذهنا كان أو غيره ـ على أنّه إذا نقل الكلام إلى اتّصاف الموضوع بالوجود الآخر في الظرف الآخر يلزم التسلسل في الوجودات والظروف ، وتلزم موجودية الماهيّة مرّات غير متناهية ؛ وهذه الوجودات والظروف وإن كانت امورا اعتبارية إلّا أنّها موجودة في الواقع على مقتضى الفرعية ؛ فليس التسلسل فيها ممّا ينقطع بانقطاع الاعتبار.

[الخامس :] ما ذكره بعض آخر وهو أنّه ليس للوجود فرد حقيقي في الخارج ولا للماهيّة اتّصاف حقيقي به ، بل اتّصافها به يرجع إلى ضرب من الانتزاع ؛ إذ الوجود من الانتزاعيات ؛ ومصداق الحمل في قولنا : «زيد موجود» نفس هويّة زيد من غير أن يكون هذا أمرا (٢) مسمّى بالوجود ؛ والفرق بين حمل الذاتيات على الشيء وبين حمل الوجود على الممكن هو أنّ ملاحظة الذات كافية في الأوّل و

__________________

(١). س : بالمجهول.

(٢). س : امر.

٧٣

في الثاني يحتاج إلى ملاحظة أمر آخر كانتسابه إلى الجاعل أو ترتّب أثر عليه من غير دخول ذلك الأمر في مصداق الحكم ومطابق الحمل.

وفيه : أنّ ثبوت شيء لشيء ـ سواء كان من الانتزاعيات أو الخارجيات ـ فرع ثبوت المثبت له في ظرف ذلك الثبوت. فالقول بانتزاعية الوجود غير مفيد.

[السادس :] ما اختاره بعض آخر وهو أن لا ثبوت للوجود ولا اتّصاف للماهيّة به أصلا ـ لا عينا ولا ذهنا ـ بل هو مجرّد اعتبار الوهم الكاذب واختراعه ؛ ومناط صدق المشتقّ وحمله على شيء اتّحاده بمفهوم المشتقّ لا قيام مبدأ الاشتقاق به ؛ لأنّ مفهوم المشتقّ كالموجود والعالم / A ٢٥ / والأبيض أمر بسيط يعبّر عنه بالفارسية ب «هست» و «دانا» و «سفيد». فكون الشيء موجودا عبارة عن اتّحاده مع مفهوم الموجود لا قيام الوجود قياما حقيقيا أو انتزاعيا ؛ ولا يحتاج إلى وجود أصلا ولا عروض له للماهيّة بوجه.

فالواجب عند هذا القائل عين مفهوم الموجود لا عين الوجود ، وكذا الممكن الموجود وكذا في جميع الاتّصافات بالمفهومات ؛ ومعنى كون الوجود عارضا للممكن عنده أنّه محمول عليه خارج عن ماهيّته ليس بذاتي له ؛ والفرق بين الذاتي والعرضي من المشتقّ عنده ليس بكون ما هو مناط الحمل ـ أعني الاتّحاد في الوجود ـ في الذاتي (١) بالذات وفي العرضي بالعرض ؛ إذ لا وجود عنده ، بل بوقوع المفهوم الذاتي في جواب ما هو دون العرضي.

وهذا (٢) القول ممّا لا محصّل له عند المخلصين ، وظهور فساده بحيث لا يحتاج إلى بيان.

[السابع :] ما ذكره بعض آخر ونسبه (٣) إلى ذوق المتألّهين وهو أنّ موجودية الأشياء الممكنة عبارة عن انتسابها إلى الوجود الواجب الحقّ ، وهو موجود بنفسه

__________________

(١). س : الذات.

(٢). س : هذ.

(٣). س : نسبة.

٧٤

من غير قيام حصّة من الوجود به. فالوجود جزئي حقيقي والموجود مفهوم كلّى يصدق على ذلك الوجود وعلى الماهيّات الإمكانية بسبب انتسابها إليه ؛ ومعيار موجودية الشيء ترتّب الأثر عليه.

وفيه : أنّ النسبة بين الشيئين فرع تحقّقهما بوجود غير تلك النسبة ؛ لأنّها أمر ثبت لهما. فثبوتها للماهيّة الممكنة فرع موجوديتها بانتساب آخر ، نظرا إلى الفرعية ؛ وإذا نقلنا الكلام إلى هذا الموجودية والانتساب لزم التسلسل فيهما ـ سواء كانت الموجودية أمرا اعتباريا أو خارجيا ـ إلّا أن يقال بالأعيان الثابتة ، كما ذهب إليه فرقة من المعتزلة ؛ وهو بيّن الفساد.

[الثامن :] ما ارتكبه بعضهم من تخصيص قاعدة (١) الفرعية بما عدا الاتّصاف بصفة الوجود.

وفساده في غاية الظهور ؛ إذ الاستثناء (٢) في القاعدة العقلية غير معقول.

[في أنّ الوجودات الخاصّة هويّات بسيطة متخالفة بأنفسها وتشخّصها بنفس هويّاتها]

قد عرفت أنّ المشخّص نحو الوجود كما اختاره المعلّمان وصاحب الإشراق ، وساير ما يحصل به التميّز من الماهيّة والعوارض المادّية من توابعه ولوازمه. فتشخّص الوجودات الخاصّة وتخصّصها بنفس ذواتها المتخالفة في أنفسها وأنحاء وجوداتها / B ٢٥ / المجهولة بالكنه وساير ما يلحقها من الماهيّات والعوارض ، بل أنحاء التشكيك من التقدّم والتأخّر والشدّة والضعف والغنى والفقر من اللوازم والتوابع بمعنى أنّها من مقتضيات ذواتها المتخالفة ومنتزعاتها بعد تماميتها وليس شيء منها نحو الوجود حتّى يكون نفس المشخّص. فتخصّص كلّ وجود بنفس

__________________

(١). س : القاعدة.

(٢). س : الاستثنا.

٧٥

حقيقته (١) وساير ما يلحقه من اللوازم والعوارض يترتّب عليه ؛ ولا يمكن استناد تخصّص الوجودات الخاصّة الممكنة إلى مثل التقدّم والتأخّر والشدّة والضعف وساير وجوه التشكيك ؛ لأنّها إنّما تقع في الوجود العامّ وهو عرضي بالنسبة إلى الوجودات الخاصّة. فأوصافه خارجة عن حقائقها. فلا تكون ذاتية لها حتّى ترجع إلى أنحاء وجوداتها ويكون التخصّص بها تخصّصا بنحو الوجود.

ولو كان الوجود الذي يقع فيه التشكيك ـ أعني العامّ الاعتباري ـ ذاتيا لها حتّى يكون ما به الاختلاف عين ما به الاتّفاق لا يمكن إرجاع أنحاء التشكيك إلى أنحاء الوجودات إلّا أنّ ذلك بيّن الفساد ، لإيجابه التركيب واشتراك الواجب والممكن في الذاتي إن كان تكثير هذا الوجود بفصول حقيقة ؛ ووحدة الوجود إن كان تكثيره بمجرّد تقييده بهذه الأنحاء والمراتب الاعتبارية.

فالوجودات الخاصّة هويّات بسيطة متخالفة بأنفسها غير مشتركة في ذاتي متواط أو مشكّك وتشخّصها بنفس هويّاتها وأنحاء وجوداتها.

نعم على القول بوحدة الوجود لمّا كان الوجودات الخاصّة الإمكانية أشعّة الوجود الحقّ وأضوائه ومراتبه ومنازله في التقدّم والتأخّر والكمال والنقص والشدّة والضعف والغنى والفقر يمكن أن يكون تخصّصها بهذه المراتب التي هي في الحقيقة عين حقائقها وأنحاء وجوداتها. فإنّ القائلين بالوحدة قالوا : إنّ الوجود واحد هو الواجب الحقّ والوجودات الإمكانية عبارة عن تطوّراته ومراتبه في التقدّم والتأخّر والغنى والحاجة وغير ذلك ؛ وتخصّصه بالواجبية بنفس ذاته البسيطة وحقيقته المقدّسة عن كلّ نقص وقصور وبمراتبه وتطوّراته بشئونه الذاتية وحيثياته العينية بحسب حقيقته البسيطة ؛ وتخصيص هذه المراتب وتشخّصها إنّما هو بذواتها / A ٢٦ / الاعتبارية وحقائقها الارتباطية ؛ وأنت تعلم أنّ

__________________

(١). س : حقيقة.

٧٦

مفاسد ذلك كثيرة ، بل لا محصّل له عند المحصّلين من أهل النظر كما يأتي.

[في الآراء الموجودة حول متعلّق الجعل]

بطلان الجعل المركّب سواء كان في الوجود ـ أي جعل الوجود وجودا ـ أو في الماهيّة ـ أي جعلها ماهيّة ـ ممّا لا ريب ولا خلاف فيه ؛ إذ لا معنى لتوسّط الجعل بين الشيء ونفسه ، لإيجابه أن يكون قبل الجعل غير نفسه ويجعله الجاعل نفسه ؛ فيلزم سلب الشيء عن نفسه وهو باطل.

نعم كونه نفسه بتبع إفاضة الجاعل نفسه ؛ فصدقه يتوقّف عليه ؛ إذ لو لم يجعله لم يصدق عليه أنّ نفسه نفسه ، لمسلوبية المعدوم عن نفسه ؛ وهذا التوقّف (١) ليس جعلا ولا محلّا للنزاع.

وبالجملة : كون الوجود أو الماهيّة متعلّق الجعل بالجعل المركّب ليس محلّا للنزاع ؛ فمتعلّقه بالذات والمجعول بنفسه إمّا نحو وجوده العيني المعبّر عنه بالوجود الخاصّ جعلا بسيطا مقدّسا عن كثرة موجبة لمجعول ومجعول إليه ـ كما اختاره بعض المحقّقين ـ أو نفس الماهيّة كذلك ـ كما ذهب إليه أتباع الرواقيّين ـ أو مفهوم الموجود بما هو موجود ـ كما يراه بعض المتأخّرين ـ أو اتّصاف أحدهما وارتباطه بالآخر ـ كما نسب إلى المشّائين ـ والحقّ هو الأوّل ؛ إذ متعلّق الجعل بالذات ما يكون بعد صدوره متحقّقا بنفسه وما هو إلّا الوجود الخاصّ ، لما تقدّم ؛ فيتعلّق الجعل به بالذات وبتبعيته بالماهيّة ؛ بمعنى أنّ الواجب تعالى تجلّى وأفاض من ذاته بذاته من دون أن يتفضّل منه شيء وجودات خاصّة بتقيّده بقيودات الماهيّة وعوارضها ومقترنة بجهات عدمية وتوابعها ؛ وتلك الماهيّة كالعوارض والأمارات والأسامي لها وجعل الوجود جعلا بسيطا ليس إلّا تلك الإفاضة.

__________________

(١). س : لتوقف.

٧٧

ثمّ فساد المذهبين الأخيرين ـ أعني كون المجعول بالذات مفهوم الموجود أو ارتباط أحدهما بالآخر أي جعل الماهيّة موجودة ـ في غاية الظهور.

أمّا فساد الأوّل فلأنّ مفهوم الموجود أمر انتزاعي غير موجود في الخارج والمجعول بالذات يجب أن يكون حقيقة عينية ؛ كيف وكلّ منتزع له منشأ انتزاع محقّق في الخارج؟! فتحقّقه إمّا بالجعل فهو المجعول بالذات دون ما ينتزع عنه أو بدونه ؛ فيكون واجبا.

[١.] فإن / B ٢٦ / كان المنشأ لكلّ مفهوم واحدا لزم انحصار الحقيقة العينية في واحد هو الواجب وكون ما عداه من معلولاته مجرّد مفهومات واعتبارات لا تحصّل له ؛ وهذا يرجع إلى مذهب الصوفية ويأتي ما فيه ، بل يرجع إلى عدم جعل ومعلول أصلا ؛ لأنّ مفهوم الموجود ينتزع عن كلّ حقيقة عينية بذاتها مع قطع النظر عن تأثير وتأثّر ؛ فيلزم انتفاء الإفاضة والاتّحاد والعلّية والمعلولية.

[٢.] وإن كان متعدّدا لزم مع ما ذكر تعدّد الواجب بالذات.

وأمّا فساد الثاني فلأنّ الوجود على تقدير عرضيته ليس كسائر الأعراض حتّى يرتبط بالماهيّة ويتعلّق بها وتتّصف الماهيّة به ، مثل جعل الجسم أسود حيث إنّه بعد ثبوته يتّصف بالسواد ؛ فإنّها على تقدير أصالتها وثبوتها تكون موجودة ؛ فلا معنى لارتباط الوجود بها واتّصافها به.

ثانيا : والقول بأصالتها مع كون تحقّقها وثبوتها به لا محصّل له ، كما علم ممّا مرّ.

وأيضا : لو كان المجعول بالذات هو الاتّصاف دون الوجود والماهيّة ، فإن كان أحدهما أو كلّ منهما حقيقة عينية لزم تعدّد الواجب ؛ إذ لا يعنى به إلّا الواقع في العين بلا جعل ؛ وإن كان كلاهما من الاعتباريات لزم اعتبارية جميع الموجودات المجعولة لاعتبارية الاتّصاف ضرورة والوجود والماهيّة على هذا التقدير.

فإن قيل : الاتّصاف حقيقة عينية مجعولة بالذات ، والوجود والماهيّة مجعولات

٧٨

بالتبع.

قلنا : فالاتّصاف حينئذ وجود خاصّ أو ماهيّة على اختلاف المذهبين ؛ لأنّا لا نعني بالخاصّ والماهيّة إلّا حقيقة خارجية ؛ فيكون المجعول بالذات أحدهما دون الاتّصاف.

ثمّ لو كان مجعولية هذه الحقيقة التي هي الاتّصاف عبارة عن مجعولية اتّصافها بالوجود لزم التسلسل ، بل يلزم أيضا عدم موجودية الحقيقة التى فرضت موجودة ، بل يكون الموجود حقيقة اخرى هي الاتّصاف.

وأمّا المذهب الثاني فإبطاله يحتاج إلى ضرب من البيان وبسط من الكلام ؛ لأنّه ممّا اختاره من الأوائل بعض الأعيان ومن الأواخر جمع من الأعلام ؛ فيقول : المراد به أنّ المجعول بالذات نفس الماهيّة جعلا بسيطا ، بمعنى أنّ الجاعل أخرجها من العدم والليس واللاتقرّر (١) إلى الوجود و/ A ٢٧ / الأيس والتقرّر بحيث يتبعها الوجود ؛ أي يصحّ أن ينتزع العقل منها الوجود ويحكم عليها بأنّها موجودة تترتّب عليها الآثار.

وحاصله : أنّ الجاعل جعل أصل الماهيّة لا أنّه جعل الوجود مرتبطا بها حتّى يرد عليه ما مرّ ؛ فما يقولون في بعض الأحيان : «إنّ الجاعل جعل الماهيّة موجودة» إنّما هو لضيق العبارة ويدلّ على بطلانه وجوه من القواطع :

[الأوّل :] أنّ بنائه على كون الوجود عرضا انتزاعيا ؛ وقد عرفت أنّ الوجود الخاصّ أمر أصيل عيني لا يمكن أن يعرض الماهيّة.

وأيضا : القائل به ـ أي بتعلّق (٢) الجعل بالماهيّة وسنخها جعلا بسيطا بحيث ينتزع عنها الوجود ـ إمّا يقول بالوجود الخاصّ أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا يقول بتحقّقهما أو اعتباريتهما أو بتحقّقها واعتباريته أو بالعكس.

__________________

(١). س : الاتقرر.

(٢). س : يتعلق.

٧٩

والثلاثة الاول باطلة قطعا.

والرابع يوجب تعلّق الجعل به لا بها.

وعلى الثاني منشأ انتزاع الوجود عنده إمّا نفس الماهيّة مع قطع النظر عن صدورها وارتباطها بالجاعل أو مع وصف المجعولية والصدور أو حيثية ارتباطها بالجاعل وانتسابها إليه.

والأوّل بيّن الفساد ؛ لأنّها في نفسها مع قطع النظر عن الوجود والصدور والارتباط معدومة صرفة ؛ فلا يمكن أن يكون منشأ لانتزاع الوجود ؛ ومع التسليم يكون واجبة لا ممكنة.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّ الماهيّة بنفسها لا يمكن تحقّقها ومنشئيتها لانتزاع الموجودية ؛ وثبوت الوصف والحيثية المذكورين لها فرع تحقّقها وتقرّرها. فما لم يتحقّق لم ينتزع عنها وصف المجعولية ولم يثبت لها الارتباط ؛ لأنّه فرع تحقّق المرتبطين ؛ والماهيّة مع قطع النظر عن الوجود لا تحقّق لها حتّى يتصوّر ارتباطها بالجاعل وانتسابها إليه.

والحاصل : أنّها في نفسها معدومة وتأثير الفاعل فيها بإخراجها من العدم وإبرازها إلى الأعيان بحيث يصير متحقّقة ومنشأ لانتزاع الموجودية لا يتصوّر إلّا بفعل أو إحداث أمر أو حصول وصف فيها يوجب تحقّقها / B ٢٧ / ولا يتصوّر فعل موجب له إلّا إيجاد ما يمكن تحقّقه بنفسه بعد صدوره ويكون منشأ لانتزاعها وما هو إلّا الوجود الخاصّ ؛ وحينئذ يكون هو مجعولا بالذات دونها ولا يعقل إحداث أمر فيها موجب له إلّا إفاضة الوجود العرضي عليها ؛ وهذا يرجع إلى كون المجعول بالذات اتّصافها به وقد عرفت فساده ؛ ولا يتصوّر وجود وصف لها موجب له إلّا كونها مرتبطة بالجاعل ؛ وقد عرفت أنّها في نفسها مع قطع النظر عن الوجود لا يمكن أن يصير مرتبطة به ، لكونها معدومة.

٨٠