اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتفرّد بوجوب الوجود والالوهية ؛ والمتوحّد بالأزلية والقيّومية والربوبية. كلّ قويّ في قبضة قدرته أسير ؛ وكلّ عظيم في جنب عظمته ذليل حقير. هو الحقّ وما عداه مضمحلّ باطل ؛ وهو الباقي وما سواه هالك زائل. جلّ عن إدراك العقول والأفهام ؛ وعزّ عن إحاطة البصائر والأوهام. فإلى الإسراء دلّ الإمكان والعبودية ونيل سرادقات جمال الوجوب والربوبية ؛ وما للمسجونين في سجن حضيض الناسوت والعروج إلى ذروة حقائق اللاهوت.

ونشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له بشهادة تبلغ سكّان صقع الملكوت ويستعظمها قطّان قدس الجبروت.

ونصلّي على نبيّنا المبعوث بالحقّ من الحقّ ؛ والمستغرق في الجمال المطلق ؛ طيّار جوّ الأزل والأبد ؛ وغوّاص غمرات بحر السرمد ؛ سبّاح عوالم الأفلاك ؛ ومخدوم أعاظم الأملاك. فصلوات الله عليه وعلى عترته ، الأرواح العرشية في الأشباح القرشية ، والأنوار القدسية في الهياكل العنصرية ، والجواهر الملكوتية في القوالب الناسوتية.

١

فيقول الشائق إلى عالم الأنوار ، وطالب حقائق المعارف والأسرار ، مهدي بن أبي ذر النراقي ـ جعلهما من صفوة الأخيار ـ : هذه لمعات عرشية تستضيء بها وجوه عوالم الأكوان ؛ وإشراقات عقلية تتلألأ بها قلوب عرفاء الإخوان ؛ وأذوات (١) نورية تروح مشام الأرواح ؛ وصادرات قدسية تحيي رميم الأشباح ؛ نفحات ربّانية لا تمسّها اسراء سجن البدن ؛ ونفسات رحمانية آتية من جانب القرن ؛ مكاشفات شهودية صافية عن شوائب العمى ؛ ومشاهدات حضورية تذكر عهود الحمى ، بل غوامض أسرار ليست شريعة لكلّ وارد ؛ ومعارف أحرار لا يطّلع عليها إلّا واحد بعد واحد ؛ أخذتها من مرئيّات العقول النورية بعد المسافرة إلى أوطانها ، واستفدتها من عوالم الأنوار غبّ الالتجاء إلى سكّانها ؛ وأهديتها لمن أشرق قلبه بأنوار الجلال ونودي من وراء سرادقات الجمال.

فخذها / A ١ / بقلب صفيّ عن كدورات عالم الطبيعة ؛ واستعدّ بشروق نور الحقّ من افق الحقيقة ؛ ولا تظنّ بي أنّي جامد على اصول فرقة معيّنة ـ من الصوفية أو الإشراقية أو الكلامية أو المشّائية ـ بل بإحدى يدىّ قاطع البرهان وبالاخرى قطعيات صاحب الوحي وحامل الفرقان ؛ وبين عيني كون الواجب على أشرف الأنحاء في الصفات والأفعال. فآخذ بما تقتضيه هذه القواطع وإن لم توافق قواعد واحد من الطوائف ؛ وسمّيتها ب «اللمعات العرشية» ؛ وتنحصر في لمعات خمس :

أحدها : في الوجود والماهيّة وبعض ما لهما من الأحوال.

وثانيها : في ما يتعلّق بالمبدإ من صفات الجلال ونعوت الجمال.

وثالثها : في كيفية إيجاده وإفاضته وساير ما يتعلّق بصدور الأفعال.

ورابعها : في النفس الإنسانية وما يتعلّق بها من الأحوال والمآل.

وخامسها : في النبوّات وكيفية الوحي ونزول الملك وساير ما يرتبط بهذا المقال.

__________________

(١). س : ازوات.

٢

اللمعة الأولى

في الوجود والمهيّة

٣
٤

[في أنّ صرف الوجود موجود]

صرف الوجود موجود وإلّا لزم في الماهيّات الموجودة إمّا علّية المعدوم لوجود نفسه أو الدور أو التسلسل.

والمراد به حقيقة بسيطة قائمة بذاتها ، مجرّدة عن الماهيّة ، منشأ بنفسها لانتزاع الظهور الخارجي المعبّر عنه بالوجود المطلق والعامّ والإثباتي والوجود بالمعنى المصدري ؛ بمعنى أنّه منتزع من حاقّ حقيقتها بحيث لا يمكن تصوّرها منفكّة عنه ؛ بخلاف الماهيّات ؛ فإنّ شيئا منها لا يقتضي هذا الظهور بذاته ؛ إذ المراد بالماهيّة ما من شأنه الاتّصاف به وعدمه ؛ وللعقل أن يلاحظه مجرّدا عنه. فإن وجد علّة الاتّصاف صارت موجودة وإلّا كانت معدومة. فهي في حدّ ذاتها معدومة غير مقتضية للوجود ؛ كيف ولو كان الوجود من لوازمها الذاتية لم ينفكّ عنها في التعقّل أيضا وانقلب الوجود العقلي خارجيا؟! إذ لازم الماهيّة يلازمها في أىّ ظرف وجدت ولذا لا تنفكّ الزوجية عن الأربعة في الظرفين.

ولا تظنّ «أنّ الحرارة الخارجية لازم النار مع أنّها تنفكّ عنها في التعقّل» لأنّها

٥

لازم حقيقتها الخارجية دون ماهيّتها المطلقة.

وأمّا صرف الوجود القائم بذاته فهو يقتضي الموجودية الخارجية بذاته ؛ بمعنى أنّها من لوازمها الذاتية التي لا يمكن أن تنفكّ عنه أصلا. فكان حقيقته أنّه في الأعيان ولذا يمتنع تعقّله ؛ إذ لو دخل في الذهن انقلب الوجود العقلي خارجيا أو بالعكس. فمعلوميته منحصرة بكونه كذلك ومبدئيته للمطلق بنفس ذاته.

قيل : هذا الدليل منتقض بالماهيّة الموجودة للممكن. إذ قابل الشيء كفاعله في وجوب تقدّمه عليه بالوجود مع أنّها متّصفة بالوجود من دون تقدّمها عليه بالوجود.

اجيب : باعتبارية القابلية والمقبولية منها. إذ المتحقّق في الخارج واحد والاتّصاف بالوجود والمغايرة بمجرّد الاعتبار ؛ وإذ يتأتّى مثله في الماهيّة الواجبة فلا يلزم افتقارها إلى / B ١ / علّة خارجة.

والحقّ : أنّ هذا النقض مع القطع بتقدّم فاعل الشيء وقابله عليه شاهد صدق على أصالة الوجود الخاصّ في الممكن جعلا وتحقّقا وكون الماهيّة الإثباتي منتزعة عنه من دون تحقّق وجعل لهما بالذات كما يأتي ؛ إذ وروده إنّما هو على أصالتها نظرا إلى أنّها مع قطع النظر عن الوجود معدومة. فلا معنى لتقدّمها عليه حتّى يصحّ اتّصافها به وانتزاعه عنها.

وأمّا مع أصالة الخاصّ فلتحقّقه في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن العامّ ، والماهيّة يتقدّم عليهما ويصحّ انتزاعهما عنه وإن لم يتحقّق الاتّصاف الموجب للمغايرة الواقعية والقابلية الحقيقة.

قيل : لو كانت الأصالة للخاصّ والماهيّة منتزعة جاز كونهما في الواجب كذلك ؛ لعدم لزوم جعل يفتقر إلى علّة خارجة ؛ فلا يثبت كونه صرف الوجود.

قلنا ـ بعد تذكّر «أنّ الاعتباري إمّا وهمي لا يفتقر إلى حيثية خارجية يناسبه ويصلح لمنشئية انتزاعه أو نفس أمري يفتقر إليها» ـ : إنّ الوجود والماهيّة ليستا من

٦

الأوّل وإلّا صحّ انتزاع الوجود من العنقاء وكلّ ماهيّة من كلّ حقيقة بل من الثاني ؛ فلا بدّ لكلّ منهما من حيثية مصحّحة لانتزاعه ؛ فلا بدّ في محلّهما من حيثيتين خارجيتين ؛ ويمتنع تحقّقهما في الواجب وإلّا لزم تركّبه وافتقاره ؛ فلا يصحّ انتزاعهما عنه وإلّا لزم انتزاع مفهومين مختلفين لهما ـ اعتبارية [و] نفس أمرية ـ من البسيط من كلّ وجه ؛ [و] قد ظهر بطلانه.

فالوجود الخاصّ ممكن بالنظر إلى حيثية صدوره من العلّة ووجوبه الغيري ينتزع عنه العامّ. فبالنظر إلى حيثية ذاته الممكنة وعدمه الذاتي تنتزع عنه الماهيّة ؛ فهو زوج تركيبي ؛ والوجود الواجبي لغنائه بذاته واستغنائه عن العلّة ليس له إلّا حيثية ذاته البسيطة ؛ فلا ينتزع عنه إلّا العامّ.

فكلّ حقيقة خارجية ينتزع عنها صورتان هما الماهيّة والعامّ ممكن مركّب ذو ماهيّة ؛ وكلّ حقيقة لا يمكن أن ينتزع عنها إلّا صورة واحدة هي الوجود العامّ واجب بسيط ؛ حقيقته عين وجوده. فالوجود زائد على الماهيّة في الأوّل خارجا وذهنا لاختلاف الحيثية والصورة ؛ وعينها في الثاني في الظرفين لوحدتهما.

وأيضا : لو اريد بكون الواجب ذا ماهيّة خاصّة كونها جزءا له أو كونه ذا جهة مصحّحة لانتزاعها ، لزم تركّبه. ولو اريد به انتسابها إليه بالمعلولية فلا وجه للتخصيص ؛ إذ الكلّ عند الكلّ منتسب إليه وإن اختلفوا في كيفية النسبة.

فإن قيل : مفهومات الصفات في الاعتبارية كالماهيّة والعامّ ؛ فيلزم استنادها إلى حيثيات في الذات متغايرة.

قلنا : يأتي جوابه في محلّه.

[في البرهان] على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة

يصير حاصل البرهان : أنّ اللازم انتهاء سلسلة الوجودات الخاصّة إلى ما هو منشأ

٧

بذاته لانتزاع العامّ دفعا للدور والتسلسل ؛ ولا تكون له ماهيّة لما مرّ ؛ فهو صرف الوجود الحقّ الواجب بذاته.

[في برهان آخر على أصالة الوجود]

حقيقة كلّ موجود هو وجوده الخاصّ ، وهو الأصل في الجعل والتحقّق ؛ والماهيّة والعامّ منتزعان / A ٢ / عنه ؛ إذ الماهيّة المقابلة للوجود ليس الوجود عينا لها وهو ظاهر ؛ ولا جزءا لها وإلّا لم يصحّ تجريدها عنه وتعلّقها بدونه ؛ فهي كالعامّ اعتبارية ؛ فتحصّل المتحصّل منهما محال ؛ إذ ضمّ الاعتباري إلى مثله لا يفيد إلّا الاعتباري ؛ وأيضا ممتنع تحقّق الاعتباري بنفسه ، بل لا بدّ أن ينتزع عن غيره.

فلا بدّ في كلّ موجود من أمر آخر متحقّق بنفسه أوّلا بدون العلّة أو بعد صدوره عنها ، وهو الوجود الخاصّ.

ولا تظنّ أنّ تحقّق الوجود بنفسه هو بعينه وجوبه بذاته ؛ إذ معنى وجوبه بذاته كونه مقتضى ذاته من دون حاجة إلى فاعل وقابل ؛ ومعنى تحقّقه بنفسه عدم توقّف تحقّقه على وجود آخر يقوم به ولو كان صادرا عن علّة ، بخلاف غير الوجود ، فإنّ تحقّقه فرع وجود يتّصف به أو ينتزع عنه ؛ فلا يتمّ إلّا بتأثير الفاعل في وجوده واتّصافه به.

فالحاصل : أنّ الماهيّات لعدمها الأصلي واعتباريتها يفتقر في تحقّقها إلى محقّق ؛ وتحقّقها بالعلّة ما لم ينضمّ إليها شيء آخر محال ؛ وبالعامّ كذلك ؛ إذ الاعتباري لا يكون محقّق الحقائق ومذوّت الذوات. فيكون بأمر ثابت متحقّق بنفسه بعد صدوره عن العلّة ؛ وما هو إلّا الوجود الخاصّ.

وأيضا : العامّ اعتباري منتزع ، والمناسبة بين المنتزع والمنتزع عنه لازمة ، والماهيّة لعدمها الذاتي لا تصلح لمنشئية الانتزاع ؛ فلا بدّ من تحقّق شيء بالجعل

٨

يناسبه وهو الخاصّ.

وأيضا : كلّ موجود في الخارج متشخّص ، والماهيّة كلّية مبهمة ، وتشخّصها بماهيّات الأعراض واللواحق باطل ؛ لأنّها مثلها في الكلّية والافتقار إلى مشخّص ؛ وانضمام الكلّي إلى مثله ولو ألف مرّة لا يفيد التعيّن ؛ وبالعامّ فاسد ؛ لاشتراكه بين الكلّ ؛ وتخصّصه كذلك ؛ إذ التخصّص فرع التشخّص (١). فالطبيعة ما لم يتقيّد بالمشخّصات لم يتخصّص بالحصص. فإسناد التشخّص إلى التخصّص غير معقول.

فالتشخّص بنحو الوجود المعبّر عنه بالوجود الخاصّ دون اللواحق والعوارض ، يتوقّف بعينها أيضا عليه ؛ فهي من لوازم نحو الوجود المشخّصة لأجله. فتشخّص كلّ شيء نحو وجوده كما يأتي بوجه أوضح.

فإن قيل : الخاصّ الإمكاني ليس العامّ من لوازمه الذاتية وإلّا كان واجبا ، بل من عوارضه المفارقة. فيفتقر في اتّصافه به إلى العلّة ؛ فهو كالماهيّة في البقاء على مقتضى الذات من صرافة الليس وعدم المنشئية لانتزاع العامّ بدون تأثيرها وخروجه إلى الأيس والمنشئية له بنفسه ؛ فأثرها الموجب لهذه المنشئية إن اقتضى التحقّق اقتضى فيهما وإلّا لم يقتض في شيء منهما ، لاشتراكهما في مقتضى الذات وأثر العلّة ؛ فلا يعقل بينهما فرق إلّا في مجرّد التسمية ، ولذا لم يفرق بينهما صاحب الشفاء وأطلق كلّا منهما / B ٢ / على الأخير.

قلنا ـ بعد التنبّه على ضرورة تحقّق الحقائق وتحصّل المتحصّلات واعتبارية الماهيّة المقابلة للوجود والعامّ ، وامتناع تحصّل المتحصّل منهما ووجوب تحقّق متحقّق ينتزعان عنه ـ : هب أنّ الخاصّ بلا تأثير العلّة معدوم إلّا أنّه ـ كما مرّ ـ بعد صدوره متحقّق بنفسه بلا افتقار إلى الماهيّة والعامّ ، بل هما منتزعان عنه ؛ والماهيّة المقابلة للوجود لا يمكن صدورها قائمة بنفسها متحقّقة بدون وجود تقوم به. إذ

__________________

(١). س : التخصص.

٩

المفهوم منها لا يقوم بنفسه ، بل لا بدّ له من قابل متحقّق ينتزع عنه ؛ ولو سمّيت هذا المتحقّق ماهيّة فلا مشاحّة في التسمية إلّا أنّا نقطع بأنّه غير ما يفهم ويراد منها.

فإن قيل : هذا المتحقّق لا يوجد بدون الظهور الخارجي المعبّر عنه بالعامّ ، فكيف يكون متحقّقا بدونه حتّى لا يكون تحقّقه بالاعتباري؟!

قلنا ـ بعد النقض بالخاصّ الواجب ـ : إنّ فرض عدم كلّ لازم يستلزم فرض عدم ملزومه ؛ ولا يمكن ذلك لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته ؛ فهو لا يوجب توقّف الملزوم على اللازم في التحقّق الخارجي ، بل الأمر بالعكس.

فالحاصل : أنّ صدور الشيء أو جعله أو إيجاده أو ما يرادفها من العبارات عبارة عن إخراجه من الليس إلى الأيس ؛ وهو فعل يترتّب عليه نحو تحقّقه من القيام بنفسه في الجوهر وموضوعه في العرض وبالانتزاع من غيره في الاعتباري. فإنّ أنحاء التحقّق في الأشياء مختلفة ؛ فما يتوقّف تحقّقه على وجود الغير ـ كالماهيّة المعدومة في حدّ ذاتها الموقوف تحقّقها على الوجود المتحقّق بنفسه القابل لانتزاعها عنه ـ يتوقّف تحقّقها عليه ؛ وأمّا ما لا يتوقّف تحقّقه على غيره من ماهيّة أو وجود كهذا الوجود المحقّق لهما ، فبالجعل يظهر في الخارج متحقّقا قائما بنفسه منتزعا عنه الماهيّة. ثمّ كلّ متحقّق ـ بأىّ نحو كان ـ يلزمه انتزاع العامّ عنه. فظهر أنّ المتحقّق بالأصالة في كلّ شيء نحو وجوده المعبّر عنه بالوجود الخاصّ.

فإن رجعت وقلت : اعتبارية الماهيّة بمعنى الصورة الذهنية المعرّاة عن الوجود الخارجي ممّا لا كلام فيه ؛ وقد صرّح به المحقّقون القائلون بحصول الأشياء بأنفسها في الذهن ؛ حيث قالوا : إنّ الشيء ملحوظا بوجوده الخارجي يسمّى حقيقة تترتّب عليها الآثار الخارجية ؛ ومتعرّى عنه يسمّى ماهيّة لا يترتّب عليها شيء منها ؛ وهو بهذا الاعتبار لا تحقّق له في الخارج وإنّما له وجود عقلي فقط ، وإنّما الكلام في

١٠

منشأ انتزاع هذه الماهيّة العقلية وهو الحقيقة الخارجية ؛ فللزوم أن نقول : إنّه متحقّق في الخارج بالأصالة وليس هو صرف الوجود. فيكون ماهيّة خارجية. فالماهيّة إمّا عقلية غير متحقّقة في الخارج أو خارجية متحقّقة فيه ويعبّر عنها بالحقيقة.

قلنا : هذه الحقيقة الثانية التي عبّرت عنها بالماهيّة الخارجية لا يمكن أن يكون شيئا مقابلا للوجود ـ أي معرّى عنه ـ ومع ذلك كان له تحقّق خارجي. فتحقّقها فرع ارتباطها / A ٣ / بالوجود.

وقد عرفت أنّ مجرّد العامّ الاعتباري لا يمكن أن يحصّلها في الخارج ؛ فلا بدّ أن يكون فيه شيء متحقّق قائم بنفسه لا يفتقر في تحقّقه إلى شيء آخر حتّى يكون محقّقا لها ؛ وما هذا شأنه ـ أي متحقّق بنفسه مع قطع النظر عن ماهيّته ووجوده (١) ـ ليس إلّا الوجود الخاصّ ؛ لعدم الواسطة بين الماهيّة والوجود ؛ فإذ ليس هذه فهذا. فالحقيقة الخارجية التي منشأ انتزاع الماهيّة ليس إلّا الوجود الخاصّ ؛ فهو المتحقّق والماهيّة من شئونه المنتزعة عنه.

[في استحالة تصوّر صرف الوجود]

قد دريت أنّ صرف الوجود لا يمكن تعقّله ؛ إذ حقيقته أنّه في الأعيان ؛ فلا يمكن أن يوجد في الأذهان كما صرّح به صاحب التحصيل وغيره من أساطين الحكمة والعرفان.

وأمّا الوجودات الخاصّة الممكنة وإن أمكن أن تنفكّ عن الكون العيني إلّا أنّها أيضا مجهولة الكنه غير ممكنة التصوّر ؛ لعدم تركّبها من جنس وفصل ، كما يأتي.

وأيضا : تصوّر الشيء إمّا حصول صورته أو نفسها ؛ وصورته إمّا شبحه ـ كما ذهب إليه أهل الأشباح ـ أو ماهيّته المعرّاة عن الوجود الخارجي ـ كما اختاره

__________________

(١). س : + اخر.

١١

القائلون بحصول الأشياء بأنفسها في الذهن ـ والوجود المتحقّق بنفسه الشامل لصرف الوجود الحقّ والوجودات الخاصّة الممكنة ليس له شبح ؛ إذ شبحه إمّا عين الوجود أو عدم أو ماهيّة.

والأوّل ليس شبحا له ؛ والثاني بيّن الفساد ؛ والثالث لا يطابق الوجود ، مع أنّ المطابقة بين الشبح وذي الشبح لازمة ليكون حصوله علما به ؛ وليست ماهيّة ذات وجود حتّى يتمكّن العقل من تجريدها عن الوجود وأخذ الماهيّة الصّرفة ؛ ولا يتوهّم تمكّنه من تجريد الوجود البحت أو الخاصّ الإمكاني منه ، لإيجابه تعرية الشيء عن نفسه أمّا في الأوّل فظاهر ؛ وأمّا في الثاني فلأنّ الفرض تحقّقه بنفسه ومنشئيته لانتزاع العامّ بعد صدوره عن العلّة بدون افتقاره إلى ماهيّة أو وجود آخر ؛ والضرورة قاضية بأنّ تجريد مثله عن الوجود الخارجي تجريد للشيء عن نفسه.

وبذلك يعلم ابتناء المذهبين في التصوّر على أصالة الماهيّة ؛ إذ على أصالة الوجود تمتنع تعرية الحقائق ـ أي الوجودات الخاصّة ـ عن الوجود حتّى تحصل منه في الذهن أنفسها أو أشباحها ، بل تكون ممتنعة التصوّر غير معلومة بالعلم الحصولي. فالعلم بها إمّا بالمشاهدة الحضورية إن أمكنت أو بآثارها ولوازمها من الوجود العامّ والماهيّات المنتزعة عنها.

وقد ظهر ممّا ذكر استحالة التصوّر في حقيقة الوجود وبداهته في العامّ ونظريته في الماهيّات إلّا أنّها ليست متعرّاة عن الوجودات الخاصّة التي هي الحقائق حتّى تكون نفسها ، بل منتزعة عنها وشئونات لها ؛ فليس بإزائها في الأعيان إلّا منشأ انتزاعها.

[في مراتب الإدراكات]

العلم الحضوري انكشاف وجود الشيء ومشاهدته / B ٣ / جزئيا ؛ والحصولي أخذ

١٢

ماهيّته كلّيا. فالعلم بوجوده من آثاره ولوازمه يشابه الأوّل من وجه والثاني من وجه. فالعلم بوجود الواجب تعالى كلّي إلّا أنّ البرهان أفادنا تعيّنه.

ثمّ استحالة معلومية صرف الوجود والخاصّ الإمكانى بالحصولي كجوازها بالآثار ممّا لا كلام فيه.

والحقّ : جوازها بالمشاهدة الحضورية للمجرّدين ؛ إذ منشأها بعد التجرّد كمال الارتباط وكلّ مجرّد له ربط المعلولية بمبدئه وربط الصدور من واحد لكلّ ممكن.

وحصر الربط في الأربعة المشهورة ليس عقليا بل استقرائي ؛ والمناط كماله ؛ على أنّ ربط العلّية والمعلولية كما يوجب علم العلّة بالمعلول يوجب العكس ، بل علم أحد المعلولين بالآخر مع كمال التجرّد ؛ والتخلّف في الآخرين لانتفائه في أكثر المعلولات.

فالمشاهدة تدور مع تجرّد النفس وجودا وعدما ، وزيادة ونقصانا. فيحصل كمالها بكماله ؛ وهو إنّما يكون بعد استكمال قوّتيها ؛ وغاية كمالها تحصل بعد تخلّصها عن حجاب الطبيعة ورفضها جلباب البدن وانخراطها في سلك العقول القادسة ؛ ولذلك لا تحصل في الدنيا إلّا لأوحدي من المجاهدين في وقت دون وقت وفي الآخرة إلّا لبعض دون بعض ؛ وهذا النوع من المعرفة ليس من الإنّ المأخوذ من الأثر ، بل هو الاستشهاد بالحقّ من الحقّ المشار إليه في الكتاب الإلهي بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١) والمأمور به في الأخبار بقولهم : «اعرفوا الله بالله» (٢) والمعبّر عنه باللقاء والرؤية في الصحف

__________________

(١). فصّلت / ٥٣.

(٢). الأمالي (للشيخ المفيد) ، ص ٢٥٤ ؛ بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٧٠ ، ٢٧٢ ، ٢٧٤ ، ٢٧٥ ؛ ج ١٠٨ ، ص ٤٤ ؛ التوحيد ، ص ٣٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ و ٢٩١ ؛ شرح أصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ٣ ، ص

١٣

الإلهية والكلمات النبويّة.

وتوضيح ذلك : أنّ المدركات إمّا خيالية كالصور والأجسام أو عقلية كالذوات المجرّدة والمعاني الكلّية ؛ وإدراك الأولى إمّا بالتخيّل أو برؤية العين ؛ وثبوت الفرق بينهما ظاهر ؛ لأنّ من تخيّل إنسانا يجد صورته حاضرة في خياله كأنّه ينظر إليها ؛ وإذا فتح العين ورآه أدرك بفرقه ؛ لا يرجع إلى الاختلاف بين الصورتين لتوافقهما ، بل إلى التفاوت في الكشف والوضوح. فإنّ الصورة المتخيّلة كان لها نوع وضوح ، وبالرؤية صارت أوضح. فالتخيّل أوّل الإدراك ، والرؤية استكمال له ، وهي غاية الكشف وسمّيت رؤية لكونها غاية الوضوح لا لأنّها في العين ، بل لو كان هذا الإدراك في عضو آخر أيضا سمّي رؤية.

وإذا ظهر ذلك في الأولى فاعلم أنّ لإدراك الثانية أيضا مرتبتين ؛

إحداهما : المعرفة القطعية من طريق الأثر

والاخرى : استكمالها بزيادة الكشف بانفتاح بصر النفس

وبينهما من التفاوت في زيادته أكثر ممّا بين المتخيّل والمرئي ؛ وهذا / A ٤ / هو اللقاء والمشاهدة ؛ وإنّما يحصل ذلك بتجرّد النفس وخلاصها عن قشور البدن ؛ لأنّها ما دامت محفوفة بعوارضه ومقيّدة بسلاسل الطبيعة وأغلالها تمتنع مشاهدتها للمعلومات المتعالية عن حيطة الخيال ؛ لأنّها حجاب عنها ، كما أنّ الأجفان (١) حجاب عن رؤية البصر ؛ فإذا ارتفع الحجاب عنها بالموت : فإن حصل لها في الدنيا بذر المشاهدة ـ أعني المعرفة ـ وما هو بمنزلة تصفية الأرض عن الأشواك (٢) ـ أعني التخلّي عن الرذائل ـ انقلب معرفته في الآخرة مشاهدة ، كما ينقلب النواة

__________________

. ٨٠ ، ٨١ ، ٨٣ ؛ الكافي ، ج ١ ، ص ٨٥ ؛ نور البراهين ، ج ١ ، ص ٣٦٢ ، ٥٤٢ ؛ ج ٢ ، ص ١١٥ ، ١١٦ ، ١١٧ و ١٢١ والهداية ، ص ١٥.

(١). جمع الجفن بمعنى غطاء العين.

(٢). جمع الشوك وهو ما من النبات شبيها بالإبر.

١٤

شجرا والبذر ذرعا ؛ وإلّا لم يصل إلى مقام اللقاء ؛ إذ من لم يزرع البذر كيف يحصد ومن لم ينقّ الأرض كيف ينمو زرعه؟! فمن لم يعرف الله في الدنيا كيف يراه في الآخرة؟! ومن لم يجد لذّة المعرفة هنا كيف يجد بهجة اللقاء والنظر هناك؟! ومن لم يصقل نفسه كيف يستعدّ لشروق نور الحقّ وتجلّي الكمال المطلق؟! وليس يستألف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا ؛ فلا يحسر المرء إلّا ما عليه مات ولا يموت إلّا ما عليه عاش ؛ ولا يكون له في الآخرة إلّا ما حمله من الدنيا.

ثمّ تختلف درجات المشاهدة والتجلّي باختلاف مراتب المعرفة والتجلّي ، كما يختلف النبات باختلاف البذر بالكثرة والقوّة والحسّ ومقابلاتها. فالفاقد لهما رأسا محجوب عن الله أبدا ؛ والمحصّل يشاهد بحسب ما حصل ؛ ولا حدّ لمراتب الاختلاف في ذلك ؛ إذ بحر المعرفة لا ساحل له ومراتبها غير متناهية. فكيف لا والواجب غير متناهي القدرة والكمال ؛ والإحاطة بكنه جلاله وعظمته في حيّز المحال وما يمكن أن يدرك لا نهاية له. فكلّما ازدادت المعرفة في الدنيا عدّة وشدّة اشتدّ اللقاء في الآخرة وضوحا وبهجة حتّى يصل إلى ما لا يحتمله عظماء الإنسان. ثمّ إلى ما يخرج عن حيطة قرباء الإمكان.

وبالجملة : من لم يحصل شيئا من نور الإيمان لم يعقل حصوله وازدياده في الآخرة ، بل إذا حصل منه شيء يزداد ويتمّ فيها ، كما قال سبحانه : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (١) و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٢) وتمام النور إنّما نور في زيادة الكشف والإشراق.

ثمّ لا تظنّ أنّ المعرفة في الوضوح والبهجة كالتخيّل ، وأنّ اللقاء فيهما كرؤية البصر ، وأنّ زيادتهما في اللقاء بالنسبة إلى المعرفة كزيادتهما في رؤية البصر بالنسبة إلى التخيّل ؛ فإنّ الأمر ليس كذلك ؛ إذ لا نسبة لما في حقيقة المعرفة واللقاء

__________________

(١). الحديد / ١٢.

(٢). التحريم / ٨.

١٥

من الكشف والابتهاج ؛ وما بينهما من الفرق فيهما إلى ما في التخيّل ورؤية البصر في ذلك وما يرى من قلبهما في معارفنا فإنّما هو لإطلاقها وضعفها ونقصانها كحجاب البدن وشهوته وعلائق الدنيا ومكدّرات النفس ومشوّشاتها وقصورها عن / B ٤ / الشوق إلى العوالي وانتقالها إلى السوافل ؛ وقلّما يخلو شيء من معارفنا عن شيء من ذلك.

نعم قد تضعف هذه الموانع فيلوح من جمال المعرفة ما يدهش العقل ويعظم بهجته ؛ وربّما يفطر القلب عظمته ولكن حصوله كالبرق الخاطف لبعض المجرّدين ؛ وقلّما يدوم ، بل يعرض ما ينقصه ويشوّش من الأفكار والخواطر ومع ذلك للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ابتهاجات لو عرض عليهم الجنّة بأسرها بدلا عنها لم يستبدلوها بها.

ثمّ بعض مراتب اللقاء والمشاهدة وإن حصل لبعض الكمّل في الدّنيا إلّا أنّه وإن قوى واشتدّ لا يقاس بما يحصل منهما في الأخيرة. إذ البدن وإن ذاب بالمجاهدة لا يخلو عن الحجب والممانعة ؛ والنفس ما لم تقطع عنه العلاقة لا يحصل لها حقيقة الانبساط والإحاطة.

[في تغاير الماهيّة والوجود مفهوما ولزومه لها ثبوتا]

لمّا ظهر أنّ الماهيّة في نفسها معدومة ، فالوجود عن مفهومها خارج ؛ وإمكانها لا ضرورة وجودها وعدمها ؛ فهي تغاير الوجود مفهوما ويستلزمه ثبوتا ؛ إذ لا ثبوت بدون الوجود.

والقول بتقرّر المعدوم في الخارج سفسطة ؛ فهي بذاتها مع قطع النظر عن الوجودين لا يخبر عنها ولا يصحّ أن يثبت لها شيء من اللوازم والأوصاف ، بل مسلوبة عن نفسها ؛ فلا يصحّ القول بأنّ الماهيّة المعدومة في الخارج والذهن ماهيّة أو

١٦

ثابتة لنفسها ، لتوقّف الصدق والثبوت على وعاء ولا وعاء سواهما. فمع قطع النظر عنهما لا صدق ولا ثبوت ؛ وذلك لا ينافي عدم مجعوليتها بالجعل المركّب ؛ إذ ليس المراد به كون الماهيّة ماهيّة وثبوتها لنفسها عند عدميّتها المطلقة ، بل في نفس الأمر ـ أي في حدّ ذاتها وحاقّ حقيقتها ـ فإنّ المراد بنفس الأمر ذات الشيء وحقيقته ؛ وحدّ ذات الشيء وحقيقته لا يخرج عن الوعائين ؛ إذ المراد بالوجود الخارجي ما يكون منشأ للأثر الخارجي ، وبالذهني ما ليس كذلك ، وبالنفس الأمري ما يعمّهما. فنفس الأمر يعمّ الخارج والذهن ؛ إذ ليس ورائهما شيء يكون مصدّقا له. فحدّ ذات الشيء إنّما يتحقّق في ضمن أحد الوجودين ولولاهما لم يكن له ذات حتّى يتصوّر له حدّ وحقيقة. فكون الماهيّة ماهيّة أو عدم مسلوبيتها عن نفسها أو تحقّقها لذاتها أو ثبوتها لنفسها أو أمثال تلك العبارات إنّما هو في ضمن أحد الوجودين وبدونه على صرافة العدم. فلا معنى للقول بأنّها هي وأمثالها. فمطابق الحكم بها على نفسها نفسها ولكن بعد صدورها ؛ إذ لا ماهيّة قبله وبعده يصدق على نفسها بالضرورة الذاتية ؛ لأنّها من حيث هي ليست إلّا هي.

والحاصل : أنّ كونها هي يغاير موجوديتها بالمفهوم ويلازمها في التحقّق. فللعقل أن يجرّدها عن الوجودين وإن لم ينفكّ هذا التجريد أيضا عن الوجود الذهني.

والمراد بقولهم : «إنّ الجاعل لم يجعل الماهيّة ماهيّة ، بل جعلها / A ٥ / موجودة» أنّ كونها هي ليس بفعل الفاعل ، بل تابع لوجودها في نفس الأمر. فإن وجدت في الخارج كان تابعا لوجودها الخارجي ، بل للجعل وأثر الجاعل ؛ وإن وجدت في الذهن كان تابعا لوجودها الذهني ؛ ولو كان بفعل الفاعل لم يتحقّق في الذهن.

فإن قيل : على ما ذكرت من كون الماهيّات الممكنة مع قطع النظر عن الوجودين أعداما صرفة غير متصوّر لها ذات وحدّ ذات وحكم ، ولو عدم

١٧

المسلوبية عن أنفسها فأيّ فرق بينها وبين الممتنعات المحضة حتّى تخصّص الأولى بالموجودية وقابليتها والتمثّل في علم الأوّل تعالى متميّزة؟ فإن كان هذا التخصّص من ذواتها لزم أن يثبت لها كونها هي وساير الأحكام مع قطع النظر عن الوجودين وإلّا كان الجميع من الجاعل ؛ فتكون مجعولة بالجعل المركّب ويلزم صيرورة صرف العدم ماهيّة خاصّة متميّزة ؛ ولا يخفى فساده.

قلنا : على ثبوت العلم الصوري للواجب لا ينفكّ شيء من الماهيّات الممكنة والممتنعات المحضة عن الوجود العلمي ؛ وبذلك يتصحّح الامتياز بينهما والحكم بقابلية الأولى للوجود العيني دون الثانية ؛ ولا تختصّ المعلومية بالأولى حتّى يسأل عن المخصّص مع اشتراكهما في صرافة العدم قبلها.

فإن قيل : صورهما العلمية في مرتبة الذات معدومة ؛ فكيف يتعلّق العلم بها مع عدميتها المحضة؟!

قلنا : هي مانعة للذات من دون انفكاك إلّا ما يوجبه التابعية من التأخّر الذاتي.

فالذات بذاته يقتضي تمثّلها لديه وترتّبها عليه ؛ والاقتضاء الذاتي لا يعلّل بعلّة كما أنّ الأولى تابعة له في الشهود العيني أيضا على الترتّب العلّي والمعلولي باقتضاء الذات بخلاف الثانية ؛ ولا يسأل عن علّة الاقتضاء ؛ إذ الذاتي لا يعلّل.

وأمّا على القول بالحضوري دون الحصولي فما يتبع الذات في الشهود الخارجي تبعية الشبح لذي الشبح والظلّ لذي الظلّ ـ أعني الماهيّات الممكنة ـ يصير متعلّق الانكشاف بخلاف ما لا يتبعه من الممتنعات ؛ إذ ما لا وجود له في الخارج لا معنى لتعلّق الانكشاف به. نعم يتعلّق بصورها المرتسمة في المدارك.

والحاصل : أنّ صرف الوجود الحقّ الواجب بذاته القيّوم لغيره يقتضي بذاته أن يكون حقيقته الحقّة كما هو وأن تكون له صفات ولوازم ؛ ولا يسأل عن علّة هذا الاقتضاء ولمّية كون هذه الصفة وامتيازها عن صفة أخرى ، لرجوع

١٨

الكلّ إلى اقتضاء الذات ؛ وهو لا يعلّل ككون صرف الوجود إيّاه وهكذا (١) ؛ وعلى هذا جميع الماهيّات الممكنة لكونها من أفعاله اللازمة لذاته التابعة لوجوده ، كالذات والصفات في عدم السؤال عن لميّة اقتضاء الذات لها وكونها إيّاها ؛ إذ لا معنى ولتعليل ذاتية الذات الذاتية / B ٥ / اقتضائها الذاتي ؛ وكما أنّه كان عالما بذاته وصفاته كذلك كان عالما بالماهيّات اللازمة لذاته. فلا شيء في الوجود خارجا عن ذاته وصفاته وأفعاله ؛ ولا يمكن انفكاك الأوليين عن الوجودين والثانية عن أحدهما.

[في معنى الإمكان في الوجودات الخاصّة]

معنى الإمكان في الماهيّة قد عرفته وفي الوجودات الخاصّة عدم اقتضائها التحقّق بذاتها وتوقّفه على ارتباطها بالواجب الحقّ. فهي حقائق متعلّقة به وذوات تابعة له ورشحات فائضة منه وهي الكاشفة لنور الأنوار أوّلا والماهيّات تابعة لها في ظهورها وكشفها ، لكونها منتزعة عنها ولولاها ما شمّت رائحة شيء من الظهورين وبقيت على احتجابها الذاتي وعدمها الأصلي أزلا وأبدا.

[في التشخّص والتعيّن ، ومناط الافتراق في المتشاركات]

الافتراق في المتشاركات في العرضي بالماهيّة وفي الجنس بالفصل وفي النوع بالعرضي وبالتشخّص ؛ وهو يطلق على المعنى المصدري ؛ ولا خلاف في أنّه التعيّن والامتياز عمّا عداه بحيث ترتفع الشركة ؛ وعلى المشخّص ـ أي ما به التشخّص بالمعنى المصدري ـ وقد اختلف فيه ؛ والحقّ أنّه نحو الوجود. فتشخّص كلّ شيء وتعيّنه به وفاقا للمعلّم الثاني وجلّ المحقّقين ، لا بالمادّة كما قيل ، ولا بأحوالها من الوضع والحيّز كصاحب التحصيل ، ولا بالفاعل كبعض الأجلّة ، ولا

__________________

(١). س : كذا.

١٩

بالارتباط إلى الوجود الحقّ كغير واحد من المتألّهة ، ولا بنحو الإحساس أو المشاهدة كما نسب إلى أهل الحكمة ، ولا بنفس الذات المعيّنة كالشيخ الإلهي ، ولا بجزء تحليلي كالصدر الشيرازي.

لنا أنّ كلّ وجود متشخّص بنفس ذاته ولو لا نحو وجود الشيء أو قطع عنه النظر لم يخرج عن الإبهام والعموم ولم يمتنع تجويز الشركة ولو ضمّ إليه ألف مخصّص ؛ إذ الامتياز غير التشخّص. فإنّ الأوّل بالقياس إلى مشاركاته في العامّ ، والثاني باعتباره في نفسه ؛ ولذا ما لا يوجد له مشارك ـ كالواجب ـ لا يفتقر إلى مميّز زائد ؛ ومع ذلك يكون متشخّصا بنفسه ؛ فلو لم يكن التشخّص بنحو الوجود لم يكن له تشخّص ؛ وهو باطل.

نعم التميّز يعدّ المادّي للتشخّص الوجودي ويقرّبه إليه ؛ إذ المادّة ما لم يتخصّص استعدادها بواحد معيّن من النوع لم يستحقّ لإفاضة الوجود ؛ وعلى هذا فيمكن بضرب إطلاق المشخّص على كلّ مميّز ومعدّ لإفاضة الوجود ، بل على كلّ لازم الوجود وعلامته ؛ وبذلك يمكن إرجاع أكثر الأقوال المخالفة إلى المختار ؛ إذ المراد من المادّة في الأوّل ليس نفسها ؛ لأنّها في نفسها مبهمة غير متشخّصة ؛ فلا تكون مشخّصة لغيرها. إذ لا يرى كيف يوجد شخصان من صورة أو هيئة في مادّة واحدة في زمانين وليس امتياز كلّ منهما عن الآخر بالمادّة ، بل بالزمان ومميّزات أخر؟! فالمراد بها ما يحصل فيها من خصوصية / A ٦ / الاستعداد الموجبة لإفاضة الهويّة الشخصية ؛ فإنّ مادّة كلّ نوع ما لم تتخصّص باستعدادات جزئية لم تقبل الوجودات الشخصية ؛ والمراد بأحوالها في الثاني لازم الوجود وعلامته ، كالوضع والحيّز والزمان وغير ذلك من المميّزات المترتّبة على نحو الوجود ؛ ولذا لمّا رأى قائله بتبدّلها مع بقاء الشخص حكم بأنّ للشخص (١) وضع ما من الأوضاع

__________________

(١). س : الشخص.

٢٠