اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

لا يخلو من إجمال واختلاف وفساد ؛ فإنّ محصّل ما ذكروه ـ على ما مرّ ـ أنّ العقول منحصر [في] سلسلة واحدة مترتّبة طولية يصدر بعضها عن بعض بجهات آحاد المشاهدات والإشراقات الكاملة والصادر عن كلّ واحد واحد لا أكثر وثلاث طبقات عرضية غير مترتّبة يصدر عن السلسلة الطولية لسائر الجهات آحادا وتركيبا وافرادا وجمعا وهي أرباب أنواع العوالم الثلاثة ؛ فإنّ عبارة حكمة الإشراق وشرحه في المقام بعد بيان إشراق كلّ عال على سافله ومشاهدة كلّ سافل لما فوقه وبيان كيفية تكثّر الانعكاسات الإشراقية والمشاهدية هكذا : «فيحصل عدد من القواهر المترتّبة كثير بعضها عن بعض باعتبار آحاد المشاهدات وعظم الأشعّة التامّة التي هي آحاد الإشراقات الكاملة (١) وهي القواهر الاصول الأعلون.

ثمّ يحصل من هذه الاصول بحسب تراكيب الجهات ـ أعني الفقر والاستغناء والقهر والمحبّة ـ ومشاركات تلك الجهات والمناسبات التي بينها (٢) كما بمشاركة جهة الفقر مع الشعاعات وكذا بمشاركة جهة الاستغناء معها وكذا بمشاركة جهة القهر معها وكذا بمشاركة جهة المحبّة معها وبمشاركة (٣) أشعّة قاهر واحد بعضها مع بعض وبمشاركات أشعّة أنوار قاهرة ومشاهداتها (٤) وبمشاركات ذواتها الجوهرية وبمشاركات بعض أشعّة مع بعض أشعّة غيره أعداد كثيرة لا ينحصر في حدّ ؛ إذ يحصل من كلّ جهة بانفرادها شيء وبمشاركة كلّ نور من الأنوار في جهة من الجهات شيء وكذا من كلّ اثنين أو ثلاثة أو أربعة منها فصاعدا الشيء وكذا حكم كلّ جهة مع المناسبات التي بينها (٥) ويحصل من الاصول بمشاركات أشعّة الجميع سيّما الضعيفة النازلة في الجميع مع جهة الفقر / B ١٨٣ / الثوابت وكريها و

__________________

(١). حكمة الإشراق : ـ التي هي آحاد الإشراقات الكاملة.

(٢). حكمة الإشراق : تراكيب الجهات ومشاركاتها ومناسباتها.

(٣). حكمة الإشراق : بمشاركات.

(٤). س : وهداتها.

(٥). حكمة الإشراق : ـ كثيرة ... بينها.

٤٤١

صور الثوابت المناسبة باعتبار مشاركة أشعّة بعض مع أشعّة بعض ؛ أي تحصل هذه الصور باعتبار مشاركة أشعّة بعض مع أشعّة بعض آخر (١) ويحصل من الاصول (٢) بمشاركات أشعّة الجميع مع جهة الاستغناء والقهر والمحبّة والمناسبات العجيبة بين الأشعّة الشديدة الكاملة وبين الأشعّة الباقية ـ أعني غير الكاملة من الضعيفة والمتوسّطة ـ الأنوار القاهرة أرباب الأصنام النوعية الفلكية [و] طلسمات البسائط والمركّبات العنصرية وكلّ ما تحت كرة الثوابت (٣) من العلويات والسفليات البسيطة والمركّبة ؛ فمبدأ كلّ من هذه الطلسمات ؛ لأنّ هو نور قاهر هو صاحب الطلسم والنوع العالم (٤) النوري.» (٥)

ثمّ قال ـ بعد إطالة القول في بيان أنّ ما في الأجسام من السعدية والنحسية وساير وجوه الاختلاف وما يتضمّنها من التعظيم العجيب والإحكام والإتقان لا بدّ أن يستند إلى علل عقلية مختلفة بحسب وقوعها تحت أقسام المحبّة والقهر والاعتدال ـ : «فالأنوار المجرّدة تنقسم :

[١.] إلى أنوار قاهرة ؛ وهي التي لا علاقة لها مع البرازخ لا بالانطباع ولا بالتصرّف ؛ ففي الأنوار القاهرة :

[الف.] أنوار قاهرة أعلون ؛ وهي الطبقة الطولية في النزول العلّي ، فائض بعضها من بعض ، غير حاصل منها شيء من الأجسام ، لشدّة نوريتها وقوّة جواهرها وقربها من الوحدة الحقيقية وقلّة الجهة الظلمانية فيها ؛ ولو حصل من كلّ واحد جسم لترتّب الأجسام كترتّب عللها من غير تكافئ ؛ واللازم باطل والملزوم مثله.

[ب.] وأنوار قاهرة صورية أرباب الأصنام ؛ وهي الطبقة العرضية المتكافئة الغير المترتّبة في النزول العلّي ؛ وهي أرباب الأصنام النوعية الجسمانية ؛ وهي

__________________

(١). حكمة الإشراق : ـ أي ... آخر.

(٢). حكمة الإشراق : ـ يحصل من الاصول.

(٣). س : تحت كثرة ابت.

(٤). حكمة الإشراق : القائم.

(٥). مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٤٣ ـ ١٤٢.

٤٤٢

قسمان : أحدهما يحصل من جهة المشاهدات وثانيهما من الإشراقات الحاصلين من الطبقة الطولية ؛ ولأنّ الأنوار الحاصلة من المشاهدات أشرف من الحاصلة من الإشراقات وكان العالم المثالي أشرف من العالم الحسّي حسب صدور عالم المثال عن الأنوار المشاهدية وعالم الحسّ عن الإشراقية ؛ فالأشرف علّة للأشرف والأخسّ للأخسّ وبين العالمين تكافئ ؛ فإنّ كلّ / A ١٨٤ / ما في عالم الحسّ من الأفلاك والكواكب والعناصر ومركّباتها والنفوس المتعلّقة بها يوجد مثله في عالم المثال.

[٢.] وإلى أنوار مدبّرة للبرازخ وإن لم تكن منطبعة فيها ؛ وتحصل تلك المدبّرات ـ أي النفوس الناطقة ـ مع هيئاتها النورية من كلّ صاحب صنم في ظلّه البرزخي باعتبار جهة عالية نورية والبرازخ من جهة نازلة» (١) انتهى.

وظاهر هذا الكلام بملاحظة سوابقه ولواحقه ـ كما نرى ـ بعيد ممّا نسبناه إليهم من انحصار العقول في سلسلة (٢) واحدة طولية صادرة بعضها من بعض بجهتى آحاد المشاهدات والأشعّة الكاملة الشديدة وثلاث طبقات عرضية هي علل أنواع العوالم الثلاثة بسائر الجهات المذكورة آحادا وجمعا وافرادا وتركيبا.

وأنت خيبر بأنّ هذا لا توافق قواعدهم ؛ إذ :

[١.] لو أرادوا أنّه بعد تمامية السلسلة الطولية المترتّبة بصدور بعضها عن بعض يصدر عنها بسائر الجهات المذكورة طبقات ثلاث من عقول عرضية مختلفة باختلاف الجهات وذوات القواهر الطولية وهي أرباب أنواع العوالم الثلاثة وعللها ، ففيه ـ مع مخالفته لما في الهياكل (٣) من صدور العقول الطولية بعضها عن بعض بجهة الوجوب والاستغناء بالوجوب لا بجهة المشاهدات والأشعّة ، بل صدور

__________________

(١). مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج ٢ ، صص ١٤٦ ـ ١٤٥.

(٢). س : بسلسله.

(٣). انظر : هياكل النور ، صص ٨٤ ـ ٨٢.

٤٤٣

الأفلاك أيضا منها ـ أنّ هذا يوجب تخلّف المعلول عن علّته التامّة ؛ إذ لا ريب في حصول بعض الجهات المقتضية لصدور بعض العقول العرضية لبعض العوالي قبل تمامية السلسلة الطولية ؛ فيحصل له الاستقلال بصدوره ؛ فيعطّله عنه ؛ وتوقّفه على تماميتها يوجب تخلّف المعلول عن علّته التامة ؛ وأيضا يوجب أشرفية معلول السافل عن معلول العالي ، بل أشرفية معلول الشيء بوسائط عن معلوله بلا واسطة ؛ إذ بنائهم على أشرفية كلّ واحد من السلسلة الطولية على كلّ واحد من الصفات العرضية ؛ فيلزم أشرفية العاشر مثلا مع كونه معلولا للتاسع عن بعض عقول عرضية صادرة من العقل الأوّل ببعض جهاته المتحصّلة بمجرّد صدوره.

[٢.] وإن أرادوا أنّ العقل الأوّل بعد صدوره يصدر عنه بأشرف الجهات عقل أكمل يعدّ من الطولية وبسائر جهاته عقول مختلفة أخسّ منه / B ١٨٤ / يعدّ من العرضية ثمّ يصدر من الأكمل عقل آخر يعدّ من الطولية أيضا ومن العقول العرضية المختلفة بعض الأنواع المثالية أو الفلكية وهكذا إلى أن تتمّ السلسلة الطولية وأرباب أنواع العوالم الثلاثة ؛ فيلزم أن يصدر بعض العقول العرضية قبل صدور بعض العقول الطولية وأن يصدر بعض الموجودات المثالية والمجسّمة الفلكية ، بل العنصرية قبل صدورهما ؛ فيلزم صدور الأخسّ قبل صدور الأشرف ؛ ولا ريب في بطلانه ؛ لأنّه خلاف ما تقرّر عندهم من قاعدة الإمكان الأشرف.

والتحقيق في هذا المقام على ما تقتضيه الاصول والقواعد أن يقال : العقل الأوّل بعد صدوره يكون له وجوب واستغناء بالواجب وإمكان وفقر في نفسه ومحبّة وذلّة ومشاهدة له تعالى ؛ ويكون للواجب قهر وإشراق عليه ؛ فمن هذه الجهات المتحصّلة منفردة ومنضمّة بعضها مع بعض مع ما يحصل بينها من المناسبات تصدر عنه عقول على عدّة تقتضيها (١) تلك الجهات مختلفة في الشرافة و

__________________

(١). س : نقيضها.

٤٤٤

الكمال باختلافها.

ثمّ الجهات المتحصّلة المتصوّرة لتلك العدّة بالنظر إلى أنفسها وبالنظر إلى ما فوقها منفردة ومنضمّة بعضها مع بعض إذا لوحظت مع مناسباتها ومشاركاتها تخرج عن حدّ الإحصاء ؛ فتصدر عن هذه العدّة بجهاتها المتصوّرة المتحصّلة وهيئاتها النورية طبقة اخرى أكثر عددا من سابقها أكثرية لا يمكن الإحاطة بها وتكون أيضا مختلفة لاختلاف عللها وهكذا تصدر من كلّ طبقة طبقة اخرى على ما تقتضيه (١) قاعدة الإمكان الأشرف إلى أن ينتهى إلى طبقة لا يمكن لضعف قوّتها ونوريتها أن تصدر منها طبقة عقلية ؛ فتصدر عنها العوالم الثلاثة المختلفة باختلافها أو علل تلك العوالم ـ أعني أرباب الأنواع والمثل النورية ـ بناء على اختلاف البراهين في تفسير المثل ، كما يأتي.

فتكون للعقول طبقات كثيرة طولية وعرضية كلّها مترتّبة وإن اختلفت أفراد كلّ سلسلة طولية وطبقة عرضية بالشرافة والقوّة والنورية ؛ وكثرة الطولية على ما يقتضيه الإمكان الأشرف والعرضية ما تقتضيه / A ١٨٥ / جهاتها المتحصّلة المتصوّرة ومناسباتها ومشاركاتها إفرادا وتركيبا وآحادا وجمعا بالنظر إلى أنفسها وبالنظر إلى ما فوقها.

والتوضيح : أنّ عدد آحاد كلّ طبقة عرضية على ما تقتضيه الجهات المتحصّلة في الطبقة السابقة عليها ؛ وعدد أصل الطبقات العرضية بقدر عدد آحاد كلّ واحد من السلاسل الطولية ؛ وعدد كلّ طبقة طولية ما يقتضيه الإمكان الأشرف ؛ وعدد أصل السلاسل الطولية بقدر عدد آحاد الطبقة الأخيرة من العرضية التي هي أكثر الطبقات آحادا ولكن تكثّر التكرّر من آحاد العقول في السلاسل الطولية حتّى أنّ الواجب والعقل الأوّل يتكرّر في كلّ واحد من السلاسل الطولية وكلّما يحصل

__________________

(١). س : نقيضه.

٤٤٥

التنزّل يصير تكرّر الآحاد أقلّ. ثمّ يكون ما لكلّ طبيعة من الانتظام والترتيب والهيئة العجيبة النورية على ما يقتضيه النظم والترتيب والهيئات التي في سابقها التي هي عللها.

وبالجملة : تكون للعقول طبقات كثيرة يبلغ أعداد مثل الطبقة الثالثة والرابعة حدّا يخرج عن الإحصاء ؛ فكيف بالطبقات التي بعدهما؟! وكلّ من الطبقات منتظمة انتظاما عجيبا ويشتمل على هيئات نورية بهيّة ؛ وآخر طبقاتها وأنزلها هي (١) طبقة أرباب أنواع العوالم الثلاثة وأشرف أفراد هذه الطبقة علل الأنواع المثالية وأوساطها علل الفلكية وأخسّها علل العنصرية ؛ وهذه العقول وإن بلغت في الكثرة حدّا يزيد أعدادها على أعداد ما وجد ويوجد من أفراد جميع أنواع النباتات والحيوانات (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) (٢) ـ الآية ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) (٣) ـ الآية ـ إلّا أنّها مع ذلك ليست غير متناهية ، لوجوب تناهي سلاسلها الطولية وجهاتها المتصوّرة هذا.

والظاهر : أنّ مراد الإشراقيّين أيضا هو ما ذكرناه إلّا أنّ ما ذكره صاحب الإشراق ـ من كون القواهر الطولية التي خصّصها بعدم علاقتها بالبرازخ بالربوبية والعلّية صادرة عن جهتى آحاد المشاهدات والإشراقات الكاملة ـ يأبى عن ذلك. / B ١٨٥ /

[في ما يقال في تفسير المثل الأفلاطونية]

اعلم أنّ الإشراقيّين ذهبوا إلى ما أثبته أفلاطون ومعلّمه سقراط من المثل المسمّاة بالمثل الأفلاطونية والمثل الإلهية والمثل النورية هي الطبقة النازلة الأخيرة من

__________________

(١). س : + طبقات.

(٢). كهف / ١٠٩.

(٣). لقمان / ٢٧.

٤٤٦

العقول العرضية ؛ واستدلّوا على إثباتها ببعض الوجوه المتقدّمة ؛ وعلى هذا فإطلاق المثل عليها كأنّه باعتبار علاقة الربوبية التي لها بالنسبة إلى الأصنام والطلسمات والمناسبة التي بين العلّة والمعلول ؛ فإنّ المثلية قد تطلق على المناسبة تجوّزا ؛ ولا يمكن أن يراد بالمثلية معناها الحقيقي حتّى يكون المراد أنّ كلّ عقل فرد حقيقي من النوع الذي هو ربّه ومدبّره بمعنى أنّه فرد منه مجرّد قائم بذاته وساير الأفراد غير مجرّدة وقائمة بغيرها والفرد المجرّد القائم بذاته هو ربّ ساير الأفراد وعلّتها ومربّيها والقيّم بحفظها وتدبيرها ؛ إذ لا يمكن أن يكون العقل فردا من نوع الإنسان أو الفرس أو البراذين (١) وأمثالها ؛ وهو ظاهر.

ومن المتأخّرين من جزم بأنّ المراد بها أرباب الأنواع إلّا أنّها ليست تلك العقول العرضية ، بل مراد أفلاطون وتابعيه أنّ لكلّ نوع من الأنواع الجسمانية فردا كاملا في عالم الإبداع وأنّه هو الأصل والمبدأ لسائر أفراد هذا النوع وهي فروعه ومعلولاته وآثاره ؛ وذلك الفرد لتماميته وكماله لا يفتقر إلى محلّ بخلاف ساير الأفراد ؛ فإنّها لضعفها في الوجود ونقصها في الجوهر مفتقرة إلى مادّة وعوارضها ؛ فالموجودات الطبيعية لها صور مجرّدة في العالم الأعلى لا تفسد ولا تدثر ، بل هي باقية ثابتة وما يفسد ويدثر إنّما هي الموجودات التي هي أصنام لها ؛ ونسبة هذه الأصنام إلى تلك الصور المجرّدة التي هي أرباب أنواع نسبة الفروع إلى الأصول ؛ وكذلك الهيئات والنسب (٢) والأشكال التي لها بمنزلة أظلال الهيئات العقلية (٣) ونسب معنوية في أربابها النورية.

وبالجملة : كلّ واحد من الموجودات الطبيعية صنم وطلسم لموجود عقلي نوري هو ربّ نوعه حتّى أنّ هذه الأرض الحسّية صنم لأرض عقلية وكذا يكون

__________________

(١). البراذين : جمع «البرذون» وهي غير العراب من الخيل. انظر : معجم متن اللغة ، ج ١ ، ص ٢٦٩.

(٢). س : النسبة.

(٣). س : عقلية.

٤٤٧

في عالم الصور العقلية أفلاك وكواكب وشمس وقمر وخمسة متحيّزة وثوابت واثنا عشر برجا / A ١٨٦ / وسبعة وعشرون منزلا وثلاثمائة وستّون درجة كلّها عقلية نورية ؛ وكما أنّ الموجودات الطبيعية والأصنام البرزخية بعضها كمال البعض وبعضها أعلى من بعض وبعضها أصل بعض وفرع بعض آخر وبعضها مفيض وبعضها مستفيض ، فكذلك الحال في أربابها العقلية النورية حتّى أنّ الأرض العقلية أنزل رتبة (١) من جميع الصور العقلية ، منزلتها منزلة قبول الآثار العقلية والأضواء المعنوية عمّا فوقها بلا زمان ومكان ؛ وربّ النوع الإنساني المسمّى بروح القدس أشرف أرباب ساير الأنواع الحيوانية والنباتية ، بل نسبته إليها كنسبة صاحب كلّ صنم إلى صنمه في كونه أصلا له.

والحاصل : أنّ هذا البعض من المتأخّرين جعل كلّ نوع متكثّر الأفراد أو منحصر في الفرد على قسمين :

أحدهما : حسّي جسماني

وثانيهما : عقلي نوري

فبإزاء جميع الأنواع الفلكية والعنصرية في العالم الأعلى أنواع نورية قائمة بذواتها هي أرباب الأنواع الجسمية ؛ فبإزاء الإنسان الحسّي مثلا إنسان مجرّد نوري في العالم العقلي هو فرد للطبيعة النوعية الإنسانية إلّا أنّه قائم بذاته ومقوّم للإنسان الحسّي وكلّ ما له من الصفات واللوازم يكون لهذا الإنسان العقلي أيضا إلّا أنّها عقلية ، كما أنّ ذاته وحقيقته أيضا عقلية ؛ وهكذا الحكم في جميع الأنواع الجسمية ؛ وأوّل المثل الأفلاطونية إلى الأنواع النورية بهذا المعني واستشهد على ذلك :

أوّلا : بقول الشيخ : «ظنّ قوم أنّ القسمة يوجب وجود شيئين في كلّ شيء كالإنسانين في معنى الإنسانية : إنسان فاسد محسوس وإنسان معقول مفارق

__________________

(١). س : لرتبة.

٤٤٨

أبدي لا يتغيّر ؛ وجعلوا لكلّ واحد منهما وجودا ؛ فسمّوا الوجود المفارق وجودا مثاليا ؛ وجعلوا لكلّ واحد من الامور الطبيعية صورة مفارقة وإيّاها يتلقّى العقل ؛ إذ كان المعقول شيئا لا يفسد وكلّ محسوس من هذه فاسد ؛ وجعلوا العلوم والبراهين ينحو نحو هذه وإيّاها يتناول» وكان المعروف بأفلاطون (١) ومعلّمه سقراط يفرّطان في هذا القول ويقولان إنّ للإنسانية معنى واحدا موجودا تشترك فيه الأشخاص / B ١٨٦ / ويبقي مع بطلانها وليس هو المعنى المحسوس للتكثّر الفاسد ؛ فهو إذن العقول المفارقة.

وثانيا : بكلمات يلتقطه من أثولوجيا للمعلّم الأوّل كقوله في الميمر الرابع منه : «إنّ وراء هذا العالم سماء وأرض وبحر وحيوان ونبات وناس وسماويّون وكلّ من هذا العالم سماويّ وليس هناك شيء أرضي البتّه» (٢) وقوله فيه أيضا : «إنّ الإنسان الحسّي إنّما هو صنم للإنسان العقلي والإنسان العقلي روحاني وجميع أعضائه روحانية ، ليس موضع العين غير موضع اليد ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة لكنّها في موضع واحد» (٣) وقوله في الميمر الثامن : «إنّ الشيء الذي يفعل به النار إنّما هي حياة نارية وهي النار الحقيقية ؛ فالنار إذن التي فوق هذه النار في العالم الأعلى هي أحرى بأن تكون نارا ؛ فإن كانت نارا حقّا فلا محالة أنّها حيّة وحياته أرفع وأشرف من حياة هذه النار ؛ لأنّ هذه النار صنم لتلك النار.»

فقد بان وصحّ أنّ النار التي في العالم [الأعلى] هي حيّة وأنّ تلك الحياة هي القيّمة بالحياة على هذه النار ؛ وعلى هذه الصفة يكون الماء والهواء ؛ فإنّهما هناك حيّان كما هما في هذا العالم إلّا أنّهما في ذلك العالم أكثر حياة ؛ لأنّ تلك هي التي تفيض على هذين الحياة.» (٤)

__________________

(١). س : بافلاطن.

(٢). أثولوجيا (الميمر الرابع) ، ص ٦٣.

(٣). المصدر السابق ، ص ٦٩.

(٤). المصدر السابق (الميمر الثامن) ، ص ٩٢.

٤٤٩

وقوله فيه أيضا : «إنّ هذا العالم الحسّي كلّه إنّما هو مثال وصنم لذلك ؛ فإن كان هذا العالم حيّا فبالحريّ [أن يكون ذلك العالم الأوّل حيّا ؛ وإن كان هذا العلم تامّا فبالحريّ] أن يكون ذلك العالم أتمّ تماما وأكمل كمالا ؛ لأنّه هو المفيض على هذا العالم الحياة والقوّة والكمال والدوام ؛ فإن كان هذا العالم تامّا في غاية التمام فلا محالة أنّ هناك الأشياء كلّها التي هنا إلّا أنّها فيه بنوع أعلى وأشرف كما قلنا مرارا. فثمّ سماء ذات حياة وفيها كواكب مثل هذه الكواكب التي في هذه السماء غير أنّها أنور وأكمل (١) وليس بينها افتراق كما نرى هاهنا ؛ وذلك لأنّها ليست جسمانية ؛ وهناك أرض ذات سباخ (٢) لكنّها كلّها عامرة وفيها الحيوانات كلّها الطبيعية والأرضية التي هنا ؛ وفيها نبات مغروس في الحياة وفيها بحار وأنهار جارية [وما يجري] جريا حيوانيا / A ١٨٧ / وفيها حيوانات الماء كلّها ؛ وهنا هواء وفيه حيوانات هوائية حيّة شبيهة بذلك (٣) الهواء ؛ والأشياء التي هناك كلّها حيّة وكيف لا تكون حيّة وهي في عالم الحياة المحض لا يشوبها الموت البتّة؟! وطبائع الحيوان التي هناك مثل طبائع هذه الحيوانات إلّا أنّ الطبيعة هناك أعلى وأشرف من هذه الطبيعة ؛ لأنّها عقلية ليست حيوانية.

فمن أنكر قولنا وقال : من أين يكون في العالم الأعلى حيوان وسماء وساير الأشياء التي ذكرناها؟

قلنا : إنّ العالم الأعلى هو الحىّ التامّ الذي فيه جميع الأشياء ؛ لأنّه ابدع من المبدع الأوّل التامّ ؛ ففيه كلّ نفس وكلّ عقل ؛ وليس هناك فقر ولا حاجة البتّة ؛ لأنّ الأشياء التي هناك كلّها مملوءة غنى وحياة كأنّها حياة تغلى وتفور ؛ وجرى حياة تلك الأشياء إنّما ينبع من عين واحدة لا كأنّها حرارة واحدة أو ريح واحدة فقط ،

__________________

(١). أثولوجيا : غير أنّها نور واحد.

(٢). السباخ : اسم الأرض ذات الملح.

(٣). س : بتلك.

٤٥٠

بل كلّها كيفية واحدة فيها كلّ كيفية ، يوجد فيها كلّ طعم ؛ ونقول إنّك تجد في تلك الكيفية الواحدة طعم الحلاوة والشراب وساير الأشياء ذوات الطعوم ؛ وقواها وساير الأشياء الطيّبة الروائح وجميع الروائح وجميع الألوان الواقعة تحت البصر وجميع الأشياء الواقعة تحت اللمس وجميع الأشياء الواقعة تحت السمع ـ أي اللحون كلّها وأصناف الإيقاع ـ وجميع الأشياء الواقعة تحت الحسّ (١) وهذه كلّها موجوده في كيفية واحدة مبسوطة على ما وصفناه ؛ لأنّ تلك الكيفية حيوانية عقلية تسمع جميع الكيفيات التي وصفناه ولا تضيق عن شيء منها من غير أن يختلط بعضها ببعض وبنفس (٢) وينفد بعضها ببعض ، بل كلّها فيها محفوظة كأنّ كلّا منها قائم على حدة.» (٣)

وقوله في الميمر العاشر : «إنّ كلّ صورة طبيعية في هذا العالم فهي في ذلك العالم إلّا أنّها هناك بنوع أفضل (٤) وأعلى ؛ وذلك لأنّها هنا متعلّقة بالهيولى وهي هنالك بلا هيولى ؛ وكلّ صورة طبيعية هاهنا فهي صنم للصورة التي هناك الشبيهة بها ؛ فهناك سماء وأرض وحيوان وهواء وماء ونار ؛ فإن كان هناك هذه الصورة / B ١٨٧ / فلا محالة أنّ هناك نباتا أيضا.» (٥)

ولا يخفى : أنّ ما ذكره هذا البعض من كون ربّ كلّ نوع فردا من هذا (٦) النوع كاملا قائما بذاته يرد على ظاهره أنّ اختلاف أفراد نوع واحد بالعلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية والقيام بالذات والقيام بالغير غير معقول ؛ فكيف (٧) يجوز لحقيقة واحدة أن يقوم بعضها بنفسه وبعضها بغيره؟! إذ الحقيقة لو اقتضت القيام بالذات لكان جميع أفرادها قائمة بذواتها وإن اقتضت الحلول لاستحال قيام بعضها بذاته.

__________________

(١). س : الحسى.

(٢). أثولوجيا : ـ وبنفس.

(٣). أثولوجيا (الميمر الثامن) ، صص ٩٤ ـ ٩٣.

(٤). س : نوع وفصل.

(٥). أثولوجيا (الميمر العاشر) ، ص ١٥٢.

(٦). س : هذه.

(٧). س : وكيف.

٤٥١

والقول ب «جواز اختلاف نوع واحد كمالا ونقصا وغنى وفقرا معلّلا بأنّ حقيقة الوجود مع بساطته مختلفة بالوجوب والإمكان والاستغناء عن المحلّ والافتقار إليه ؛ فإنّ استغناء بعض الوجودات عن المحلّ إنّما هو لكماله وكماله لجوهريته وقوّته وافتقار بعضها إليه لغاية نقصه وهو لعرضيته وضعفه وكذا إضافته إلى جسم بكونه نفسا له ضرب من القصور والحاجة ؛ فلا يلزم من حلول شيء في محلّ ذاتا أو فعلا حلول ما يشاركه في النوعية بعد التفاوت بينهما في الشدّة والضعف» يرد عليه أنّ اختلاف طبيعة واحدة بوجوه التشكيك لا بدّ أن يكون اختلافا لا يخرج أفراد تلك الطبيعة عن الاتّفاق في الحقيقة النوعية ولا يدخل بعضها في حقيقة اخرى كالاختلاف بمجرّد أكثرية الآثار وأقلّيتها وأشدّية الظهور وأضعفيته.

ولا ريب في أنّ الاختلاف بمثل الجوهرية (١) والعرضية والعلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية ليس من هذا القبيل ؛ فإنّ الأفراد المختلفة فيها لو جاز كونها داخلة في حقيقة نوعية واحدة لم يوجد نوعان مختلفان ؛ فإنّ الاختلاف الذي بين هذا الفرس وهذا الإنسان ليس أشدّ من الاختلاف الذي بين هذا الجوهر وهذا العرض وبين الواجب وبعض معلولاته.

وما ذكره من التعليل ضعفه ظاهر ممّا مرّ ؛ فإنّ الوجود المختلف بأنحاء التشكيك هو العامّ الانتزاعي ، والوجودات الخاصّة ليست أفرادا له ، بل التحقيق / A ١٨٨ / ـ كما مرّ ـ أنّها مختلفة بأنفسها وفرد منها قائم بذاته متحقّق بنفسه والبواقي معلولة له متحقّقة بالانتساب إليه ؛ ولا يوجد ذاتي مشترك بينها حتّى يلزم اختلاف حقيقة واحدة في الوجوب والإمكان والاستغناء عن المحلّ والافتقار إليه.

وكلمات المعلّم (٢) الأوّل لا بدّ أن يحمل إمّا على ما مرّ من العقول النازلة

__________________

(١). س : الجوهر.

(٢). س : العلم.

٤٥٢

العرضية ؛ والوجه في تسميتها بالسماء أو الأرض أو الحيوان أو الإنسان أو النبات أو غير ذلك ما أشرنا إليه من الوجه في إطلاق الثلاثة ؛ أعني علاقة الربوبية ومناسبة العلّية والمعلولية (١) على الصور المثالية ؛ فإنّ كلّ ما في الأفلاك والعنصريات يوجد في عالم المثال أيضا ؛ ويؤيّد ذلك ما اشتهر بين الجماعة من أنّ المعلّم الأوّل خالف معلّميه ـ أفلاطون وسقراط ـ وغيرهما من الأقدمين كآغاذاثيمون وغيرها في إثبات المثل العقلية الإلهية حتّى أنّ المعلّم الثاني لمّا أراد أن يجمع بين الرأيين في مقالته المشهورة أوّل المثل النورية إلى الصور العلمية القائمة بذاته ؛ هذا.

والظاهر : أنّ العقل لا تنقبض عن الحكم بأن توجد بين العقول الصّرفة والنفوس الناطقة ذوات مجرّدة نورية يصدر عنها ما يصدر عن أفراد الإنسان والحيوان والنبات والجماد ولكن تكون هذه الآثار الصادرة عنها كذواتها نورية عقلية ؛ وما يوضح ذلك أنّ الإنسان قد يحصل له الترقّي في مراتب العلم والعمل بحيث يتجاوز عن النفوس ومراتبها ويتّصل بالعقول وعوالمها ؛ ولا ريب في أنّ مثله لا يعدّ من العقول الصّرفة ، بل يعدّ من أفراد الإنسان وكلّ ما يكون للإنسان من الحواسّ والالتذاذات والآثار يكون له أيضا إلّا أنّ كلّها على وجه عقليّ نوريّ ؛ فلا ضير في أن يطلق عليه الإنسان العقلي إطلاقا وإن كان مجازيا ؛ وإذا جاز ذلك في بعض الأنواع في السلسلة العودية الكونية فأيّ مانع من جوازه في جميع الأنواع في السلسلة النزولية الإبداعية؟! بل الحقّ ثبوته / B ١٨٨ / لقاعدة الإمكان الأشرف ؛ إذ وجود فرد مجرّد نوريّ لكلّ نوع من الأنواع الفلكية والعنصرية على النحو المذكور ـ أي بحيث يكون متّصفا بصفات هذا النوع ومصدرا لآثاره على وجه عقليّ نوريّ بحيث يكون متوسّطا بين العقول الصّرفة التي لا التفات لها إلى

__________________

(١). س : + او.

٤٥٣

البرازخ أصلا والنفوس الناطقة بأن تشابه الأولى في عدم الافتقار إلى البرازخ ذاتا وفعلا وتشابه الثانية من حيث تعلّقه بها بالرتبة والعلّية والاتّصاف بصفاته وآثاره على وجه عقليّ متقدّس عن القصور والنقص ـ ممكن وهو أشرف من هذا النوع إذا كان مثاليا أو فلكيا أو عنصريا ؛ وقد وجد الأخسّ ؛ فيجب أن يوجد الأشرف قبله ؛ فلكلّ نوع فرد مجرّد نوريّ عقليّ قائم بذاته تصدر عنه آثار هذا النوع ، بل يكون له كلّ ما يوجد له إلّا أنّ جميعها على وجه عقليّ نوريّ ؛ وهو ربّ هذا النوع وحافظه ويفيض على ساير أفراده ما يستعدّ له من القدرة والقوّة والعلوم والابتهاجات وغيرها.

فربّ نوع الإنسان الذي هو أشرف أرباب العالم العنصري هو القيّم بتربية الأفراد الإنسانية وحفظها ومفيض العلوم والأنوار عليها بحسب استعداداتها ؛ وقد يرتقى في بعض أفراده بالتجلية والتحلية بشرائف الصفات والإحاطة بحقائق الأشياء بحيث يحصل له كمال التجرّد والنورانية ؛ فيتمكّن عن خلع جلباب البدن والاتّصال به ؛ فيصير نورا مجرّدا مثله ويكون واسطة بين العقول الصّرفة والنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان المثالية أو الفلكية أو العنصرية ؛ وقد يحصل لبعض النفوس هذا الاتّصال بعد الموت الطبيعي لا قبله ؛ وعلى التقديرين مع اتّصاله به وصيرورته شبيها به في التجرّد والنورية لا يكون في الشرافة والكمال مثله وداخلا في ربّ الأرباب وإن تمكّن من التأثير والإفاضة على ما دونه ؛ إذ الإنسان العقليّ الذي هو ربّ النوع نور إبداعي / A ١٨٩ / واسطة لإيجاد جميع الأفراد الإنسانية وله التمكّن التامّ في أنحاء التصرّف في جميعها ومحيط بكلّها وهي بأسرها بمنزلة أظلاله ؛ فأنّى ذلك لمن يتّصل به نحو الاتّصال من الأفراد الإنسانية وإن حصل له غاية النورية والتجرّد ويمكّن من بعض التصرّفات والإضافات على ما تحته من الأفراد؟!

٤٥٤

وبالجملة : هذه الذوات النورية المعبّر عنها بأرباب الأنواع والأصنام ليست عقولا صرفة لا تناسب الأنواع البرزخية والأصنام الجسمية بوجه ، ولا علاقة لها بها لا بتصرّف وانطباع ولا بعلّية وربوبية ، ولا التفات إليها أصلا ؛ ولا نفوسا ناطقة متعلّقة بالأجسام تعلّق تصرّف وافتقار في الفعل ، بل هي واسطة بينهما ؛ لأنّها أعلى وأشرف من النفوس من حيث عدم الافتقار في الفعل إلى جسم وأخسّ من العقول من حيث التفاتها إلى الأجسام وتعلّق بها تعلّق الربوبية ، بل كونها مماثلة لها في الأوصاف والآثار وكون الاختلاف بينهما ذاتا وصفة بالتجرّد والمادّية والعقلية والحسّية.

وعلى هذا فطبقة أرباب الأنواع طبقة من المجرّدات واسطة بين العقول الصّرفة والبرازخ صادرة من الطبعة الأخيرة للعقول ؛ فإنّ هذه الطبقة النازلة الأخيرة لم يمكن لضعفها أن تصدر عنها العقول ؛ فتصدر عنها طبقة مجرّدة نورية واسطة بين العقول والبرازخ ، مختلفة في النورية والكمال والقوّة باختلاف عللها التي هي الطبقة الأخيرة النازلة من العقول وتصدر عنها الكثرة البرزخية من العوالم الثلاثة باختلافها.

وممّا يؤكّد وجود أرباب الأنواع بالمعنى المذكور التأمّل في أحوال الإنسان وعوالمه وإدراكاته واتّصالاته بالعوالم ؛ فإنّك قد عرفت أنّ النفس الناطقة الإنسانية لكونها خليفة الله ومظهرا جامعا إجماليا وانموذجا للكلّ ونسخة منحصرة من العوالم بأسرها انطوت فيها / B ١٨٩ / جميع النشئات إجمالا ولها قوى تتمكّن بها عن إدراك جميعها والاتّصال بكلّها ؛ فكلّ نشأة خارجية يوجد انموذج منها فيها ؛ ولذلك تتمكّن من إدراك هذه النشأة والاتّصال بها وكذا كلّ نشأة يوجد فيها يجب أن تتحقّق هذه النشأة على وجه التفضّل والكمال في الخارج ؛ ولذلك يمكن أن يستدلّ بوجود كلّ نشأة في أحدهما على وجوده في الآخر.

٤٥٥

وعلى هذا القول لا ريب في أنّ للنفس الناطقة خمس نشئات :

الأولى : النشأة الحسّية الظاهرة التي بإزاء عالم الحسّ (١) والشهادة ؛ ولها قوى ظاهرة تدرك بها الأشياء الحسّية وموجودات هذا العالم ولها ملكة الاتّصال بها ، بل أكثر النفوس لاستغراقها في العلائق البدنية وانهماكها في الشهوات الجسمانية وعدم حصول التجرّد التامّ لها متّصلة بهذا العالم ومستغرقة فيه بحيث غفلت عن ساير النشئات والعوالم.

الثانية : النشأة الخيالية المثالية التي بإزاء عالم المثال والأشباح ؛ ولها قوى حسّية ناطقة تدرك بها الصور المثالية الجزئية والأشباح بلا مادّة جسمية ، كما هو شأن موجودات عالم المثال ؛ ولها أيضا ملكة الاتّصال بهذا العالم بحسب استعدادها.

الثالثة : النشأة النفسية التي بإزاء عالم النفوس المعبّر عنه بالملكوت الأسفل ؛ ولها قوّة نظرية عقلية تتمكّن بها عن إدراك الحقائق والمعاني الكلّية بالعلم الحصولي والجزئيات المجرّدة والمادّية بالعلم الإشراقي الشهودي إلّا أنّها ما لم يحصل لها التجرّد التامّ لا تتمكّن من هذا الإدراك بذاتها من دون توسّط جسم أو جسماني ؛ فيتوقّف إدراكها الكلّيات على أن تنتزعها عن الأشياء الجسمانية المدركة لها بتوسّط القوى الظاهرة والباطنة والجزئيات بارتسامها في بعض آلاتها ؛ وهذا هو المرتبة النفسية ؛ إذ النفس من حيث إنّها نفس تفتقر في فعلها وإدراكها إلى الأجسام. ثمّ لها بحسب استعدادها أن تتّصل بعالم النفوس وتلاقي النفوس الكاملة الفلكية والعنصرية.

الرابعة : النشأة / A ١٩٠ / العقلية المشوبة ببعض الصفات الجسمية ؛ فإنّها إذا حصل لها ضرب كامل من التجرّد تتمكّن به من إدراك المعقولات بذاتها من دون افتقار إلى الجسم والآلات الجسمانية ؛ أي لا تحتاج في إدراك المعقولات الكلّية إلى

__________________

(١). س : الحسى.

٤٥٦

انتزاعها عن الأشياء الجسمية الخارجية وفي مشاهدة الذوات المجرّدة أو غيرها إلى توسّط آلات إلّا أنّها لم تبلغ في التجرّد مرتبة تكون معقولاتها بقوّتها النظرية عقلية صرفة وخالصة بالكلّية عن شوائب الأوصاف الجسمية ، بل تكون مدركاتها (١) مع كونها نورية عقلية مشوبة بالصفات البرزخية والمثالية ؛ فتدرك المسموعات والمبصرات والمذوقات والملموسات كلّها بقوّتها النظرية على وجه عقلي نوراني إلّا أنّ إدراكها (٢) هذا سمع عقلي وبصر عقلي وذوق عقلي وهكذا ؛ فيجب أن يكون بإزاء هذه (٣) النشأة في النفس عالم في الأعيان توجد فيه أنوار مجرّدة [على] هذه الصفة وما هو إلّا عالم أرباب الأنواع المتوسّطة بين العقول الصّرفة والنفوس الناطقة ؛ فإنّها ـ كما عرفت ـ أنوار مجرّدة إلّا أنّها لانحطاطها عن مراتب العقول متّصفة بالأوصاف الجسمانية على وجه عقلي ؛ فلها سمع عقلي وبصر عقلي وذوق عقلي وحركات دورية عقلية إلى غير ذلك من أوصاف البرازخ التي هي أربابها. ثمّ النفس بحسب استعدادها تتمكّن من إيصالها بهذه الأرباب النورية سيّما بربّ نوعها الذي يسمّونه بروح القدس.

الخامسة : النشأة العقلية الصّرفة التي بإزائها عالم العقول المعبّر عنه بعالم الجبروت والملكوت الأعلى ؛ فإنّ النفس إذا حصلت لها غاية التجرّد والصفاء ونهاية النورية والضياء تتمكّن بذاتها من دون توسّط الأجسام والآلات أن تعقل بقوّتها النظرية المعقولات الكلّية من الصور والمعاني على وجه إجمالي بسيط معبّر عنه بالعقل البسيط ؛ وعلى وجه تفصيلي (٤) في غاية التميز والوضوح ؛ وتشاهد الجزئيات من الذوات المجرّدة والمادّية الجوهرية والعرضية بالعلم الانكشافي الإشراقي على وجه يكون ما تعقله وتشاهده معقولا صرفا لا يشوبه

__________________

(١). س : مدركاته.

(٢). س : ادراكه.

(٣). س : هذا.

(٤). س : تفضلى.

٤٥٧

شيء من الأوصاف المادّية والنعوت / B ١٩٠ / الجسمية كما هو شأن العقول الصّرفة. فالنفس حينئذ كأنّها عقل محض وتحصل لها حينئذ بحسب استعدادها ملكة الاتّصال بعالم العقول والأخذ منها ؛ وقد يحصل لها الترقّي بحيث يتجاوز عنها ويحصل لها القرب الحقيقي بموجد الكلّ ؛ وهو المرتبة الخاتمية المعبّر عنها بمقام (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

وقد ظهر بذلك أنّ النفس الناطقة مع انحطاطها عن افق الإبداعيات وهبوطها إلى أرض المادّيات وابتلائها بعوائق الشهوات الخسيسة وتقيّدها بقيود البدن وسلاسل الطبيعة احتوت على جميع النشئات الوجودية وانطوت فيها كلّ المراتب الكونية.

وبالجملة : هي مع انحطاط درجتها من بين الأنوار القدسية والجواهر المجرّدة النورية وسيعة الميدان سريعة الجولان وفي جبلّتها الاتّصال إلى كلّ العوالم والنشئات ومن شأنها التنقّل في جميع المراتب والدرجات ولها من المرتبة الجمعية والقرب الحقيقي إلى المبدأ ما لا يوجد لغيره.

نه فلك راست مسلّم ، نه ملك (١) را حاصل

آنچه در سرّ سويداى بنى آدم ازوست

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ كلّ ربّ صنم متّصف بخواصّ (٢) صنمه إلّا أنّه على وجه عقلي ؛ فربّ نوع كلّ حيوان يكون حسّاسا إلّا أنّ جنسه يكون عقليا ؛ فنسبة هذا الحسّ إلى الحسّ العقلي كنسبة هذا الحيوان اللحمي إلى الحيوان العقلي ؛ فالحسّ الذي في هذا العالم الأدنى لا يشبه الحسّ الذي في العالم الأعلى ؛ فإنّ الحسّ هناك على نهج المحسوسات التي هناك ؛ وعلى هذا لا يرد القول بأنّ الحيوان إذا كان في العالم الأعلى وجب أن يكون حسّاسا ؛ لأنّ الحسّاس فصله والحسّ ليس إلّا انفعالا من صورة طبيعية جسمانية ؛ فكيف يمكن أن يكون في الجواهر العالية

__________________

(١). س : فلك.

(٢). س : به خواص.

٤٥٨

المجرّدة حسّ وهو موجود في الجوهر الأدنى؟!

ثمّ لا ريب في أنّ ما يترتّب على الحسّ العقلي لا يمكن أن يترتّب على هذا الحسّ. نعم لمّا كان كلّ صنم متعلّقا ومتّصلا بربّ نوعه كتعلّق هذه النار الكائنة بتلك النار المبدعة ؛ فيكون حسّه أيضا متعلّقا ومتّصلا بحسّه ؛ فيكون بصر الحيوان السفلي متعلّقا ومتّصلا / A ١٩١ / ببصر الحيوان العقلي وكذا سمعه بسمعه وشمّه بشمّه وذوقه بذوقه ولمسه بلمسه ؛ فكلّ إنسان حصل له التجرّد التامّ واتّصل بالإنسان العقلي تحصل له هذه الحواسّ العقلية الباطنية [و] الامور الغائبة ؛ حيث قال في البصر : «زويت لي الأرض ؛ فرأيت مشارقها ومغاربها» (١) وفي السمع : «أطّت السماء» (٢) وفي الشمّ : «إنّي لأجد نفس الرحمن من جانب القرن» (٣) وفي الذوق : «أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني» (٤) وفي اللمس : «وضع الله على كتفي يده ؛ فأحست بردها بين قدمي» (٥) وكان ما ورد عن سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام من ختمة القرآن بأسره في آن ركوبه إنّما كان باللسان والنطق العقليين ؛ وما ورد عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من «أنّ هذه النار غسلت سبعين ماء ثمّ أنزلت» إشارة إلى أنّ هذه النار الجسمانية من مراتب تنزّلات النار العقلية. فكما أنّ الإنسان العقلي يفيض بنوره على هذا الإنسان السفلي بوسائط مترتّبة في العوالم العقلية والمثالية كلّها أناسي متفاوتة المراتب والنشئات كذلك بين النار العقلية والنار السفلية تنزّلات مترتّبة ؛ والاغتسال بالماء إشارة إلى تنزّل مترتبها عن كمال حقيقتها النورية وضعف

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٣٣٠ ؛ ج ١٨ ، ص ١٣٦ ؛ المجازات النبوية ، ص ١٦٨ والمناقب (لابن شهرآشوب) ، ص ٩٨.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٥٦ ، ص ١٩٢.

(٣). الإيضاح (الفضل بن شاذان) ، ص ١٥ وشرح أصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ٤ ، ص ٢١٠.

(٤). بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٠٨ ؛ ج ٦٤ ، ص ٢٥٣ ؛ عوالي اللئالي ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ ومع تفاوت ما في الخصال ، ص ٣٠٧ ؛ مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، ص ٤٣٦ وج ١٧ ، ص ٥٥٢ ؛ معاني الأخبار ، ص ١٢٨ ؛ المناقب (لابن شهرآشوب) ، ج ١ ، ص ٣.

(٥). الإيضاح (الفضل بن الشاذان) ، ص ١٩ ، ٢٠ ، ٢٦ ، ٢٧ ، ٥٣٢ ودلائل الإمامة ، ص ٩٧.

٤٥٩

تأثيرها وتنقّص جوهرها وانكسار كيفيتها.

ثمّ ما ذكرناه في تفسير المثل النورية هو الظاهر من كلام أفلاطون حيث قال : «إنّى رأيت أفلاكا نورية» والمصرّح به في كلام المعلّم الأوّل حيث قال : «إنّ في الإنسان الجسماني الإنسان النفساني والإنسان العقلي ؛ ولست أعني هو هما لكنّي أعني أنّه يتّصل بهما لأنّه صنم لهما ؛ وذلك لأنّه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفسي ؛ وذلك أنّ في الإنسان الحسّي كلمات الإنسان النفساني وكلمات الإنسان العقلي ؛ فقد جمع الإنسان الحسّي كلمتى الكلمتين إلّا أنّها فيه قليلة ضعيفة ندرة ؛ لأنّه صنم للصنم.»

فقد بان أنّ الإنسان الأوّل حسّاس إلّا أنّه بنوع أعلى وأفضل من الحسّي الكائن في الإنسان السفلي وإنّما ينال / B ١٩١ / الحسّ من الإنسان الكائن في العالم الأعلى العقلي ـ كما بيّنّاه ـ وقال أيضا : «إنّ هذه الحسائس عقول ضعيفة وتلك العقول حسائس (١) قويّة.» (٢)

وقد تعرّض في مواضع كثيرة من أثولوجيا لدفع ما ربّما يورد من الشكوك على هذا النحو من الوجود فقال في موضع على سبيل السؤال : «إنّه إن كان في العالم الأعلى نبات فكيف هو هناك؟ وإن كان ثمّة نار وأرض فكيف هما هناك؟ فإنّه لا يخلو من أن يكونا حيّين أو ميّتين ؛ فإن كانا ميّتين مثل ما هاهنا [فما] في الحاجة إليهما هناك؟ وإن كانا حيّين فكيف يحييان هناك؟»

فأجاب بقوله : «أمّا النبات فنقدر أن نقول : إنّه هناك حيّ [لأنّه هاهنا حيّ أيضا] وذلك أنّ في النبات كلمة فاعلة محمولة على حياة [وإن كانت كلمة النبات الهيولانية حياة ؛] فهي إذن لا محالة نفس ما ؛ وأحرى أن تكون هذه الكلمة في النبات الذي في العالم الأعلى وهو النبات الأوّل إلّا أنّ تلك الكلمة واحدة كلّية وهذه كثيرة لها متعلّقات جزئية ؛ فهو النبات الأوّل الحقّ والذي دونه نبات ثان و

__________________

(١). س : احساس.

(٢). أثولوجيا (الميمر العاشر) ، ص ١٤٧.

٤٦٠