اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

الماهيّات وهي وجودات الممكنات ؛ ففرد من الوجود عين الواجب في الخارج والذهن عينية حقيقية وساير الأفراد عين الممكن في الخارج وزائد عليه في الذهن.

ولا يخفى : أنّ القائل بهذا القول إن قال بالاشتراك اللفظي يرد عليه أنّه على القول بعدم حقيقة مشتركة بين وجود الواجب ووجودات الممكنات أصلا وكون الاشتراك بمجرّد إطلاق لفظ الوجود ـ كما هو مقتضى الاشتراك اللفظي ـ يلزم أن لا يكون الوجود الواجبي فردا من حقيقة الوجود الذي هو أمر انتزاعي عنده وليس حقيقة الوجود أمرا كلّيا مشتركا بين الوجود الواجبي ووجودات الممكنات ؛ فكيف يصحّ أن يقال : إنّ فردا من الوجود قائم بذاته هو عين الواجب على أنّ القول بالاشتراك اللفظي بيّن الفساد ، كما سبق.

وإن قال بالاشتراك معنى فردّ عليه أنّ أفراد حقيقة واحدة وحصصها لا بدّ أن تكون متّفقة الحقيقة والمعنى في تلك الحقيقة متماثلة العوارض والآثار ولا تكون بينهما غاية التباعد والتباين ولا كانت حقائق مختلفة أفرادا وحصصا من حقيقة واحدة ؛ ولا ريب [في] / B ٩٦ / أنّ الاختلاف بالنحو المذكور ـ أعني بالقيام بالذات والقيام بالغير ـ اختلاف بالجوهرية والعرضية ؛ والمختلفان بالجوهرية والعرضية لا يجمعهما حقيقة واحدة نوعية أو جنسية ؛ فكيف يمكن أن يكون الوجود كلّيا ومشتركا معنويا بين أفراد (١) مع اختلافها بالقيام بالذات والقيام بالغير؟!

وأيضا : لو كان الوجود بالمعنى المذكور ـ أعني الأمر الانتزاعي البديهي ـ قائما بذاته وهو عين الواجب لكان الواجب معلوم الكنه وبديهي التصوّر ؛ إذ الاختلاف بين الحقيقة وبين أفرادها إنّما يكون بمجرّد الكلّية والجزئية وتوابعهما لا في أصل المعنى ؛ لأنّ الفرد هو بعينه تلك الحقيقة مع بعض اللواحق والعوارض والخصوصيات ، ولا دخل لهذه في أصل الحقيقة والمعنى.

__________________

(١). س : + و.

٢٤١

وأيضا : لو كان الوجود الواجبي فردا للعامّ الكلّي افتقر في تعيينه إلى الفصل والتشخّص كما هو شأن الأفراد المندرجة تحت كلّياتها ؛ فيلزم تركيبه واحتياجه ـ سواء كان حقيقة جنسية أو نوعية أو شبيهة بهما أم لا ـ إذ لزوم التركّب في الجزئيات المندرجة تحت الجنس أو النوع أو ما يشبههما نظرا إلى افتقارهما إلى مقوّم من الفصل أو التشخّص ممّا لا ريب فيه ؛ ولا ريب أيضا في أنّ الأفراد المختلفة بالقيام بالذات والقيام بالغير لا يجمعها معنى جنسي أو نوعي ؛ ولا يمكن أن يكون الوجود العامّ عرضيا أيضا بالنسبة إلى الوجود الواجبي ووجود الممكنات ؛ إذ على القول بأنّ ما به الاشتراك العرضي يستلزم ما به الاشتراك الذاتي ـ كما هو التحقيق ـ يلزم أن يكون لهذا (١) العامّ العرضي الانتزاعي معني آخر جنسي أو نوعي هو ما به الاشتراك بين تلك الأفراد ؛ وقد ظهر بطلانه ؛ ولا يمكن الجواب بمثل ما مرّ ؛ لأنّه يتوقّف على أصالة الوجود فلا يتأتّى على اعتباريته ، كما هو المفروض هنا.

وعلى عدم الاستلزام ـ كما هو رأي جماعة ـ فإن كان هذا الأمر العرضي انتزاعيا فردّ عليه ما تقدّم ؛ وإن كان عرضيا متحصّلا غير انتزاعي لكانت حقائق أفراده / A ٩٧ / التي بعضها عين الواجب وبعضها عوارض الماهيّات الممكنة امورا اخر بسيطة أو مركّبة وراء هذا (٢) المعنى العرضي ؛ فإن كانت تلك الامور وجودات خاصّة أحدها قائم بذاته متحقّق بنفسه هو عين الواجب والبواقي قائمة بغيرها هي وجودات الممكنات ؛ فيثبت خلاف مطلوب الخصم ؛ إذ عنده ينحصر الوجود العامّ ؛ وإن كانت ماهيّات صرفة هذا (٣) العامّ عرضي لها ؛ فتكون تلك الماهيّات علّة لها ؛ وهو أيضا باطل ؛ إذ الماهيّات من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود لا تكون علّة لشيء أصلا فضلا عن أن تكون علّة لوجود نفسه.

__________________

(١). س : لهذ.

(٢). س : هذ.

(٣). س : هذ.

٢٤٢

على أنّه لو سلّم أنّ هذا العرضي المنتزع عن ماهيّات الممكنات أو عن وجوداتها التي فرض أنّها أفراد الوجود المطلق وهو عارض لها نقول : إنّ تلك الوجودات لمّا كانت عوارض الماهيّات ـ على ما هو الفرض ـ فإمّا أن لا تكون لها حقائق وراء هذا المعنى العرضي ؛ وهذا مع كونه خلاف الفرض يبطل كون العامّ عرضيا لها ، بل يلزم أن يكون ذاتيا لها ، وإمّا أن تكون لها حقائق وراء هذا المعني العرضي ؛ فحينئذ إمّا أن تكون تلك الوجودات أعراضا وعرضيات الماهيّات ؛ فتكون أعراضا خارجية مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة ؛ وهو باطل لم يقل به أحد وإمّا أن تكون امورا عينية أصيلة (١) معروضة للماهيّات ؛ فلم يقل به الخصم ؛ أو أجزاء الماهيّات فلم يقل به أيضا أحد مع أنّه يلزم تحصّل الماهيّة من الوجود وممّا ليس بوجود ولا موجود.

[المقام الثاني]

في بيان التوحيد الصفاتي أي كون صفاته عين ذاته

وكأنّك بعد ما عرفت معنى عينية الوجود في الواجب وزيادته في الممكن وكذا كيفية اشتراكه بينهما ، يمكنك أن تعرف ذلك في ساير صفاته تعالى بالمقايسة. / B ٩٧ /

وتحقيقه : أنّ الوجود كما له معنيان :

أحدهما : المعنى المصدري ؛ أي الوجود العامّ المعبّر عنه بالظهور الخارجي

وثانيهما : الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو منشأ انتزاع هذا الوجود

كذلك للصفات معنيان :

أحدهما : المعاني الانتزاعية المصدرية ، كالظهور الإشراقي الانكشافي و

__________________

(١). س : اصلية.

٢٤٣

التمكّن من العقل ويعبّر عنهما ب «دانستن» و «توانستن» وأمثالهما ؛ ولا شكّ في أنّها زائدة في الواجب والممكن كِلَيهما في الذهن ؛ واشتراكها بينهما وبين أفراد الممكن اشتراك معنوي ؛ وهذا المعنى كلّي عرضي صادق على الجميع بنحو واحد.

وثانيهما : اتّصاف الحقيقة التي هي منشأ انتزاع المعاني الانتزاعية ومناط فهمها وهي زائدة في الممكن زيادة واقعية خارجية ؛ لأنّها إمّا ملكات أو كيفيات زائدة أو إضافات وعين في الواجب عينية حقيقة واقعية ؛ لأنّها فيه تعالى عين ذاته تعالى وإلّا لزم أن يكون ذاته محلّا لحلول الصفات ومفتقرا إلى غيره في صفاته الكمالية وهو نقص متنزّه عنه تعالى ؛ فذاته هو العلم الحقيقي الكمالي والقدرة الحقيقية الكمالية والحياة الحقيقية الكمالية إلى آخر الصفات. فكما أنّه تعالى صرف الوجود القائم بذاته والوجود العامّ الاعتباري ينتزع عنه كذلك هو صرف العلم الحقيقي القائم بذاته الذي هو منشأ انتزاع العلم الانكشافي الإشراقي وصرف القدرة الحقيقية التي هي منشأ انتزاع التمكّن عن العقل ؛ فذاته بذاته عين العلم الحقيقي الكمالي وعين القدرة الحقيقية الكمالية وعين الحياة الحقيقية الكمالية.

والحاصل : ذاته بذاته هو بعينه كلّ واحد من الصفات الحقيقية الكمالية ؛ أي منشأ انتزاع مفهوماتها كما في الوجود بعينه ؛ والذات ليس (١) الصفة حقيقة إلّا مجازا ؛ فليس نائبا مناب الصفات ـ أي نائبا مناب ما هو منشأ الانتزاعي ـ في الممكنات من غير أن يكون حقيقتها ـ كما ذهب إليه بعضهم ـ ولا فردا من مفهوم الصفة بأن يكون كلّ واحد من مفهوم / A ٩٨ / الصفات كلّيا انتزاعيا أو جنسيا أو نوعيا أو عرضيا له أفراد متعدّدة بعضها قائم بذاته وهو ذات الواجب والبواقي قائمة بغيرها هي صفات الممكنات من الملكات أو الكيفيات أو غيرها ؛ إذ يرد على هذين المذهبين في الصفات ما أوردنا عليهما في الوجود بلا تفاوت.

__________________

(١). س : نفس.

٢٤٤

فالتحقيق ـ كما ذكرناه ـ أنّ الذات كما أنّه وجود وموجود بذاته لذاته ومناط الموجودية كذلك فهو مناط انتزاع الصفات الكمالية بأسرها. فالذات كما أنّه وجود وموجود بذاته كذلك هو مناط الحياة والحيّ والعلم والعالم والقدرة والقادر إلى آخر الصفات الكمالية ، بل هذه الصفات في الحقيقة هي أنحاء تجلّيات الوجود الحقّ ومراتب شئون الموجود المطلق واعتبارات الذات باعتبار وعينه (١) باعتبار آخر.

[في الأنحاء الثلاثة لصفات الواجب]

اعلم أنّ صفاته تعالى :

[١.] إمّا حقيقية كمالية ، كالحياة والقدرة والعلم وأمثالها ؛ وهي لا يزيد على ذاته ، بل عين ذاته بمعنى أنّ ذاته بذاته وبنفس حقيقته من غير مدخلية شيء آخر منشأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه ؛ وحاصله ـ كما تقدّم ـ أنّ ذاته نفس هذه الصفة الحقيقية الكمالية ومنشأ لانتزاع مفهومها عنه.

[٢.] وإمّا إضافية محقّقة ، كالخالقية والرازقية والمبدئية وأمثالها ؛ وهي زائدة على ذاته بمعنى أنّ مجرّد ذاته ليس منشأ لانتزاعها عنه ، بل منشأ انتزاعها الذات مع ما اضيف بها إليه كالمخلوق والمرزوق ؛ ولذلك هي متأخّرة عنهما معا.

[٣.] وإمّا سلبية محضة (٢) ، كالقدّوسية والسبّوحية والفردية وأمثالها.

فإن قيل : الأقسام الثلاثة من صفاته تعالى مفهومات واقعية متغايرة ؛ والذات لكونه صرف الوجود بسيط من جميع الجهات ليس فيه شائبة التكثّر أصلا. فكيف يمكن أن ينتزع عنه هذه المفهومات الواقعية المتغائرة؟! مع أنّ المناسبة بين المنتزع والمنتزع عنه لازمة. فانتزاعها عنه تعالى يثبت حيثيات / B ٩٨ / متعدّدة وجهات متكثّرة في ذاته ؛ فيلزم تركّبه واحتياجه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١). س : عينية.

(٢). س : محصّنة.

٢٤٥

قلنا : جميع هذه الصفات راجعة إلى حيثية الذات وصرافة الوجود ؛ بمعني أنّ منشأ انتزاع جميعها الذات من غير لزوم التركّب وثبوت حيثيات متعدّدة ؛ فإنّ الوحدة الحقّة والبساطة الصّرفة المحضة لعدم تناهيها يلزمها لذاته تكثّر الأسماء والصفات من غير إيجابه لتعدّد الجهات والحيثيات.

وبيان ذلك : أنّ صرف الوجود الحقّ يلزمه لذاته وجوب الوجود والقيّومية المطلقة الإيجابية للأشياء ؛ أي المقوّمية لغيره ؛ أي تبعية ما سواه له في التحقّق وترتّبه عليه ولزومه له ؛ ووجوب الوجود يندرج تحته جميع الصفات الحقيقية الكمالية من الحياة والبقاء والقدم والسرمدية والأبدية والقدرة والعلم ؛ ويلزمه سلب الإمكان والنقص المندرج تحته جميع الصفات السلبية كالقدّوسية والسبّوحية والفردية وغيرها ؛ فإنّ جميعها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الإمكان والنقص ؛ والقيّومية الإيجابية يندرج تحتها (١) جميع الصفات الإضافية من الخالقية والرازقية واللطف والرحمة والقهر والغلبة والإحاطة إلى آخر الصفات الإضافية.

فإن قيل : لا ريب في أنّ جميع الصفات الإضافية لازمة للقيّومية المطلقة إمّا على الاندراج أو الترتّب السببي والمسبّبي كصدور الأشياء عنه تعالى ؛ وكذا لا ريب في أنّ بعض الصفات الكمالية ـ كالحياة والبقاء والسرمدية وأمثالها ـ يرجع إلى وجوب الوجود بأحد الوجهين وفي أنّ جميع الصفات السلبية يرجع إلى سلب واحد بأحد الوجهين وهو لازم لوجوب الوجود ولكن يبقي الكلام في وجوب الوجود وفي العلم وفي القدرة والقيّومية الإيجابية التى هى المبدئية للأشياء ؛ فإنّ هذه مفهومات أربعة متغايرة ؛ ولذا كثيرا ما يحصل الانفكاك بينها.

فكم من عالم عاجز وقادر جاهل وعالم / A ٩٩ / أو قادر غير واجب ؛ فكيف يمكن

__________________

(١). س : تحته.

٢٤٦

أن تنتزع هذه المفهومات مع تغايرها الواقعي عن وحدة صرفة لا يتصوّر منه شوائب الكثرة وتعدّد الحيثية؟!

قلنا : وجوب الوجود ليس إلّا تأكّد الوجود وقيامه لذاته. فانتزاع مفهومه لا يقتضي حيثية سوى الذات ؛ والعلم مقتضى تجرّده تعالى التامّ ؛ وتجرّده عين بساطته الصّرفة ووحدته الحقّة. فهو أيضا لا يقتضي حيثية سوى بساطته الحقّة التي لا يوجب التعدّد والتكثّر ، بل يؤكّد الوحدة ؛ والقدرة في الواجب ليس إلّا اتّحاد الأشياء وتبعيتها له مع العلم والمشيّة على الوجه الأصلح. فليس هو أمرا مغايرا لقيّوميته.

ولو قلنا : القدرة هو التمكّن فنقول : هو صفة حقيقية يصدر بها الأشياء منه تعالى ؛ فالصفة حقيقة هو القدرة ، والصدور والمبدئية أمر مترتّب عليها.

ومحصّل ذلك : أنّ ذاته تعالى صرف الوجود الحقّ البسيط من كلّ جهة ويفيض من حيث تجرّده العلم ومن حيث حقيقته القدرة على صدور الأشياء منه على الترتيب الواقع ؛ وبعد الصدور ينتزع عنه جميع الصفات (١) الإضافية.

ولنا أن نقول : إنّ هذه المفهومات في الواجب وإن تغايرت من حيث المفهوم إلّا أنّها متلازمة لا يقتضي التكثّر (٢) في حيثية واحدة هي حيثية الذات.

قال : صرف الوجود القائم بذاته ينتزع عنه وجوب الوجود والقيام بذاته والبقاء والسرمدية والأزلية والأبدية ؛ فإنّها مفهومات متعدّدة مع أنّ جميعها يرجع إلى معنى واحد.

ولنا أن نقول : إنّ بسيط الحقيقة من كلّ جهة كما هو جميع الأشياء ـ أي يشتمل على جميع موجوداتها كما يأتي ، إذ مسلوبية البعض عنه يوجب تركّبه ونقصانه ـ فكذلك هو يشتمل على جميع الصفات (٣) الكمالية ؛ إذ سلب البعض يوجب التركّب

__________________

(١). س : صفات.

(٢). س : لنزيد.

(٣). س : صفات.

٢٤٧

والنقصان ؛ ولعدم تناهية وتقييده لا يلزم التركّب و/ B ٩٩ / التكثّر.

وقد تلخّص ممّا ذكر أنّ الصفات الحقيقية (١) الكمالية هي التي منشأ انتزاعها مجرّد الذات من غير مدخلية شيء آخر فيه ، كالحياة والبقاء والعلم والقدرة بمعني التمكّن من الفعل ؛ والصفات الإضافية هي التي انتزاعها يتوقّف على وجود متعلّق ، كالمبدئية والقيّومية والخالقية والرازقية ؛ والقدرة بمعني إيجاد الأشياء مع العلم ؛ فإنّ صدق القادر بهذا المعني عليه تعالى ـ أي الموجد بالعلم ـ يتوقّف على الفعل الذي هو الإيجاد ؛ وحصول متعلّق هو الموجد ؛ وجميع الصفات الإضافية راجعة إلى صفة إضافية واحدة هي المبدئية والقيّومية الإيجابية للأشياء ؛ والقيّومية مترتّبة على الذات التي هي عين القدرة الكمالية ؛ وساير الصفات الكمالية ـ أي مفهوماتها ـ أيضا مترتّبة على الذات ؛ ولتلازمها أو رجوعها إلى صفة واحدة لا يلزم التعدّد جهة وحيثية في الذات ؛ فإنّ الصفات الحقيقية في الحقيقة لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلّا بحسب التسمية وليكن كلّها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ؛ فإنّ ذاته مع كمال وحدته وفردانيته (٢) يستحقّ هذه الأسماء والصفات لا بحيثية اخرى وراء حيثية ذاته ، كما قال ثاني المعلّمين : «وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه» لا أنّ شيئا منها علم وشيء آخر قدرة يلزم التركّب في ذاته ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته تعالى الحقيقية وجميع صفاته السلبية أيضا يرجع إلى سلب واحد هو لازم وجوب الوجود ؛ فكلّ صفة حقيقية وإضافية بمعنى المبدأ والمنشأ هو الذات. فمجرّد ذاته بذاته منشأ الكلّ ؛ وهذا معنى عينيتها (٣) للذات ؛ وبمعنى المفهوم أمر منتزع عنه إلّا أنّ / A ١٠٠ / انتزاع الصفات الإضافية يتوقّف على إيجاد الواجب للأشياء وحصول متعلّق لها ؛ وبهذا الفرق سمّوا الأولى الكمالية الحقيقية

__________________

(١). س : الحقيقة.

(٢). س : فردانية.

(٣). س : عينها.

٢٤٨

بمعنى أنّ الذات بذاته بلا واسطة شيء مبدأ لها ومنشأ لانتزاعها ؛ ولو توقّف المنشئية فيها على غيره لزم النقص ؛ وأمّا الصفات الإضافية فلا يلزم كون الذات وحده منشأ لانتزاعها ، بل المنشأ هو الذات بواسطة فعل صادر عنه ؛ وهذا معنى زيادتها عليه ؛ وتعدّدها وتكثّرها لا يوجب تعدّد الجهات في ذاته تعالى ، لما ذكرنا.

وشيء من مفهومات هذه الصفات ـ سواء كانت كمالية أو إضافية ـ ليس كمالا للواجب لمعلوليتها وانتزاعها عنه ، بل كماله ومجده بكونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات بلا واسطة أو بواسطة ؛ أي كماله وعلوّه بنفس ذاته لا بشيء آخر ؛ ولذلك كون الصفات الإضافية متكثّرة زائدة على ذاته لا يخلّ بوحدانيته ؛ إذ كمال الذات ينحصر بالذات وغيره ليس كمالا له وداخلا في حقيقته ؛ فزيادته بمعني توقّف صدوره على واسطة ؛ وتكثّره لا يوجب افتقار الذات ولا تكثّره ؛ وقد عرفت أنّ صفاته الإضافية لا يتكثّر معناها ولا يختلف مقتضاها وإن كانت زائدة على ذاته ؛ لأنّ إضافاته مع اختلافها وتعدّد أساميها يرجع إلى معنى واحد [وجهة] واحدة هي قيّوميته الإيجابية للأشياء ؛ فمبدئيته بعينه رازقيته وبالعكس وهما لطفه ورحمته وبالعكس وهكذا في جميعها ؛ وإلّا صار (١) اختلافها وتكثّرها إلى اختلاف ذاته ؛ وكذا جميع السلوب يرجع إلى معنى واحد هو سلب الإمكان ؛ ولذا قال الشيخ الإلهي : «وممّا يجب أن تعلمه وتحفظه أنّه لا يجوز أن تلحق الواجب إضافات مختلفة يوجب اختلاف حيثيات فيه ، بل له إضافة واحدة هي المبدئية يصحّ جميع الإضافات كالرزّاقية والمصوّرية ونحوهما ولاسلوب منه (٢) كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميعها وهو سلب الإمكان ؛ فإنّه / B ١٠٠ / يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما ، كما يدخل تحت سلب الجمادية عن الإنسان سلب الحجرية والمدرية عنه وإن كانت السلوب لا تتكثّر على كلّ حال.

__________________

(١). س : والاثارى.

(٢). س : فمنه.

٢٤٩

فظهر أنّ إضافته إلى الأشياء إضافة واحدة مطلقة بحسب المعنى وهذه الإضافة كذاته تعالى لا يتغيّر بتغيّر ما اضيف إليه من حيث إنّها إضافة مطلقة وإن تغيّرت بحسب تغيّرها في أنفسها من حيث إضافة متخصّصة بهما ؛ لأنّ تلك الصفات تستلزم التعلّق إلى أمر كلّي ومرزوق كلّي وغيرهما بالذات وإلى الجزئيات المندرجة تحت ذلك الكلّي بالعرض ؛ وهذا الأمر الكلّي الذي هو متعلّق الصفة بالذات لا تتغيّر أصلا ومن هذه الحيثية لا تتغيّر الصفة أيضا مطلقا ولتغيّر الجزئيات المندرجة تحته تتغيّر الإضافات الجزئية العرضية ؛ فصفاته الإضافية وإن كانت زائدة على ذاته تعالى لكنّها لا تختلف بحسب معانيها في أنفسها حتّى يوجب تكثّر حيثيات في ذات الأوّل تعالى والتجدّدات الواقعة فيها إنّما هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة من حيث تجدّدها وتعدّدها في أنفسها أو بقياس بعضها إلى بعض ؛ وأمّا بالنسبة إلى الأوّل تعالى فليست إلّا واحدة غير متجدّدة ؛ فإضافته تعالى إلى الأشياء إضافة واحدة ثابتة بحسب المعني وهي :

[١.] إمّا مترتّبة بالترتّب السببي والمسبّبي على حسب ترتّب معلولاته ؛ وهذا في السلسلة الطولية ؛ فإنّ المبدئية المطلقة المندرجة تحته جميع الصفات الإضافية من الخالقية والراحمية والقهر والغلبة وغير ذلك يتعلّق أوّلا بالصادر الأوّل وبتوسّطه بالثاني ثمّ بالثالث وهكذا إلى أواخر السلسلة الطولية ؛ وهذا لا يوجب تكثّرا في ذاته تعالى ، كما لا يوجب صدور الأشياء الكثيرة المترتّبة تكثّرا في ذاته ؛ وهذا معنى قول الحكماء : «نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع النسب.»

[٢.] وإمّا متجدّدة على حسب تجدّد متعلّقاتها المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض كما / A ١٠١ / في بعض السلاسل العرضية كأفراد الحيوان مثلا ؛ فإنّها تتجدّد وتتصرّم وتوجد وتعدم ؛ وبحسب ذلك الاختلاف تختلف إضافة تلك الصفات من حيث إنّها متخصّصة بها ؛ فإنّ زيدا يكون في وقت ما مرزوقا ومخلوقا

٢٥٠

ومرحوما وفي وقت لا يكون كذلك إلّا أنّ ذلك لا يوجب تغيّرا في ذاته تعالى ؛ لأنّها بالنسبة إلى ذات الأوّل تعالى في درجة واحدة لا يتجدّد ولا يتصرّم ؛ لأنّ ذاته وصفاته ليست زمانية لتجرّده وإحاطته به ؛ فلا يتصوّر في حقّه العينية والحضور والتجدّد والتصرّم وإنّما هي للمسجونين في سجن الزمان ؛ ولإحاطته بالزمان وكونه بجملته عند شهوده كان واحدا (١) تكون نسبته (٢) إلى المتجدّدات والزمانيات المتعاقبة المتصرّمة نسبة واحدة ومعيّة (٣) قيّومية غير زمانية ؛ فكلّ حادث زماني بالنسبة إليه تعالى في الشهودين لا مجرّد الشهود العلمي أزلا وأبدا مخلوق ومرزوق ومرحوم ومعلوم ومصوّر ومقهور إلى غير ذلك ؛ إذ كونه بالنسبة إليه في وقت دون وقت يوجب كونه زمانيا ومحاطا بالزمان ؛ وهو متعال عنه ؛ وهذا معنى قول بعض العارفين : «ليس عند ربّك صباح ومساء» وإلى هذا يشير قول الشيخ في التعليقات : «الأشياء كلّها عند الأوائل واجبات وليس هناك إمكان البتّة.» (٤) فإذا كان شيء لم يكن في وقت فإنّما يكون من جهة القابل لا من جهة الفاعل ؛ فإنّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك ؛ إذ ليس هناك منع ولا بخل ؛ فالأشياء كلّها هناك واجبات لا يحدث وقتا ويمتنع وقتا ولا يكون هناك كما يكون عندنا.

[في الصفات الكمالية للواجب تعالى]

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ صفاته الكمالية موجودات زائدة على ذاته تعالى ؛ وذهب بعض علمائنا إلى أنّ صفاته بهذا المعني راجعة إلى السلوب ؛ فقولنا : «الله عالم» بمعني أنّه ليس بجاهل وقولنا : «قادر» بمعني أنّه ليس بعاجز وهكذا ؛ وهذان

__________________

(١). س : واحد.

(٢). س : نسبة.

(٣). س : مغية.

(٤). التعليقات ، ص ٢٨.

٢٥١

القولان في طرفي / B ١٠١ / الإفراط والتفريط ؛ وهما باطلان.

ويرد على الأوّل أنّ تلك الصفات الزائدة إن كانت معلولة لغيره تعالى كان ذاته تعالى في صفاته الكمالية محتاجا إلى غيرها ؛ وإن كانت معلولة له تعالى لزم كونه فاعلا وقابلا معا ؛ وإن كانت واجبة لزم تعدّد القدماء والاحتياج إلى الغير أيضا.

وأمّا القول الثاني فهو يوجب التعطيل وينافي القواطع العقلية الدالّة على وجوب اتّصافه بالصفات الكمالية والنعوت الجلالية والجمالية ؛ ويخالف الظواهر المتواترة من الكتاب والسنّة المصرّحة باتّصافه بالأوصاف الكمالية ؛ وأمّا ما ورد في كلامهم من نفي (١) الصفات عنه تعالى كقوله عليه‌السلام : «كمال الإخلاص نفي الصفات عنه» (٢) وقوله : «إنّ نظام توحيد الله نفي الصفات عنه تعالى» فالمراد به نفي الصفات الزائدة ؛ فهو يبطل قول الأشعري.

وما ورد عنهم في رجوع تلك الصفات إلى السلوب فمرادهم به أنّه لو اطلقت هذه الصفات عليه إطلاقا ثبوتيا فربّما توهّم أنّه مثل الإطلاق في الممكنات في أنّ مناطها ومنشأ انتزاعها غير ذاته ؛ فلأجل هذا التوهّم أرجعوها إلى السلوب وأوّلوها إليها ؛ والغرض أنّهم عليهم‌السلام أرجعوها إلى السلوب لئلّا يتوهّم زيادتها ؛ إذ إطلاق الصفات بالمعنيين ـ أي المعنى الحقيقي الكمالي والمعنى الانتزاعي ـ عليه تعالى إطلاقا ثبوتيا في كلامهم أكثر من أن يحصى ؛ ولذلك وللإشارة إلى أنّ صفات الممكنات من تجلّيات (٣) صفاته ـ كما أنّ ذواتهم ووجوداتهم من تجلّيات ذاته ووجوده ـ وإلى أولوية العلّة باتّصافها بتلك الصفات من المعلول ورد عنهم عليهم‌السلام ما يدلّ على أنّه تعالى «حيّ» بمعنى واهب الحياة للعالمين و «عالم» بمعنى واهب العلم للعالمين و «قادر» بمعني واهب القدرة للقادرين وأمثال ذلك ؛ ولا دلالة حينئذ لشيء من هذه الأخبار على الاشتراك اللفظي كما توهّمه بعضهم.

__________________

(١). س : تقى.

(٢). نهج البلاغة ، خطبة ١.

(٣). س : تحميلات.

٢٥٢

[المقام الثالث]

في بيان التوحيد الالوهي ؛ أي تفرّده لوجوب الوجود وصنع العالم

أمّا الأوّل فلإثباته طرق قطعية برهانية :

[الأوّل :] وهو مبنيّ على ما قرّرناه من كون الواجب صرف الوجود الحقّ القائم بذاته ومحض الموجود المطلق المتعيّن / A ١٠٢ / بنفسه.

وبيانه : أنّ حقيقة الواجب وذاته إذا كان صرف الوجود المطلق المتعيّن بنفس ذاته امتنع تعدّده وتكثّره ؛ إذ لا يعقل تعدّده من غير أن يعتبر فيه تقيّد (١) وتعيّن ؛ وكلّ متعدّد اعتبر في كلّ منهما تعيّن وتقيّد لا يمكن أن يكون وجودا مطلقا تعيّنه بنفس ذاته وموجودا صرفا تشخّصه بعين هويّته ؛ إذ صرف الوجود المطلق إنّما يقتضي تعيّنا واحدا هو عين هويّته ولا يمكن أن يختلف مقتضاه مع وحدته وصرافته ؛ فمن حيث صرافته لا تعدّد فيه وإنّما يتوهّم تعدّده بتعدّد تعيّنه وتعيّنه لا يمكن أن يتعدّد ؛ إذ مقتضاه لا يكون إلّا واحدا ولا يمكن أن تفرض وجودات خاصّة متمايزة بأنفسها كلّ منها واجب الوجود بذاته ؛ إذ هذه الوجودات المتمايزة لا يمكن أن يكون كلّ منها صرف الوجود ؛ إذ صرف الشيء من حيث هو لا يتعدّد ؛ فالتعدّد فرع أن يتقيّد بمهيّة خاصّة ؛ وذلك يتوقّف على ما قرّرناه من تقيّده بجهة عدمية تنتزع عنها الماهيّة ؛ فيلزم فيه التركّب والافتقار ؛ فيكون ممكنا.

وبوجه أوضح نقول : إنّ كلّ حقيقة كلّية واحدة ، بل كلّ مفهوم كلّي عامّ واحد بالذات إذا تعدّدت أفراده :

[١.] فإن كانت تلك الحقيقة الكلّية حقيقة جنسية احتاجت في تعدّد أنواعها إلى مميّزات هي الفصول.

[٢.] وإن كانت نوعية احتاجت في تعدّد أفرادها إلى مميّزات هي المشخّصات.

__________________

(١). س : بقيد.

٢٥٣

وتلك الفصول والمشخّصات لا بدّ أن تكون ممتازة بعضها عن بعض إمّا بأنفسها أو لاتّصافها بصفات هي ممتازة بأنفسها كالتقدّم والتأخّر وإن كانت عرضية ؛ فعلى ما قرّرناه من استلزام ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي لا بدّ أن يكون تعدّد أفرادها بالفصول والمشخّصات. نعم على ما ذهب إليه الأكثر من منع هذا الاستلزام يجوز أن يكون تعدّد أفرادها بأنفسها ؛ إذ على هذا يجوز أن يكون ذلك المشترك العرضي منتزعا من ذاتين / B ١٠٢ / بسيطتين متباينتين من كلّ وجه غير مشتركين في ذاتي أصلا ويكونان فردين لذلك المشترك العرضي باعتبار عروضه لهما وانتزاعه عنهما وصدقه عليهما.

وبالجملة : الطبيعة الواحدة إذا كانت إحدى الثلاثة المذكورة يجوز تعدّدها بأحد الوجوه المسطورة إلّا أنّ شيئا منها لا يمكن أن يكون واجبا ؛ إذ الجنسية والنوعية والعرضية ينافي الواجبية ـ كما عرفت من كلماتنا السالفة ـ وأمّا إذا لم يكن شيئا من هذه الثلاث (١) ، لم يكن كلّية ولا جزئية أيضا ؛ إذ الكلّية والجزئية إنّما يوجد في ذوات الماهيّات ؛ وصرف الوجود الحقّ متقدّم عنها ؛ فلا يمكن تعدّدها وتكثّرها ؛ إذ تلك الحقيقة حقيقة واحدة وحدته ذاتية متعيّنة بنفسها متشخّصة بذاتها مطلقة إطلاقا لا ينافي وحدتها ، بل يكون إطلاقها على وحدتها وكمال فرديتها ؛ فهي تستدعي بذاتها تشخّصها وتعيّنها ؛ فلا يمكن تعدّدها وتكثّرها وإن كان شيء واحد باعتبار واحد عن نفسه ولكان الواحد من حيث وحدته الذاتية متعدّدا من حيث التعدّد الذاتي ، وهذا محال ؛ إذ لا يعقل كون الشيء الواحد عين نفسه وغيره وواحدا ومتعدّدا ؛ فيثبت من ذلك أنّ صرف الوجود المطلق الذي هو الواجب واحد لا شريك له ويستحيل تعدّده.

وبتقرير آخر نقول : كما أنّ للوجود معنيين :

__________________

(١). س : + بل.

٢٥٤

أحدهما : أمر انتزاعي زائد على ذاته تعالى زيادة ذهنية.

والآخر : أمر أصيل قائم بذاته ومناط الموجودية وهو عينه تعالى عينية حقيقة ، كذلك لوجوب الوجود الذي هو تأكّد الوجود ولزومه معنيان :

أحدهما : أمر انتزاعي هو كيفية نسبة الوجود إلى الذات أو الماهيّة مطلقا.

وثانيهما : أمر أصيل قائم بذاته هو مناط الأوّل ومنشأ لزومه واستحالة انفكاكه ؛ وهذا عين ذاته حقيقة ، كما أنّ الأوّل زائد عليه ذهنا.

وكما أنّ الوجود المطلق حقيقة واحدة وحدة ذاتية ليست كلّية ولا جزئية وهو مع ذلك متعيّن بذاته متشخّص بنفسه ، كذلك وجوب الوجود حقيقة واحدة مطلقة متعيّنة بذاتها متشخّصة بنفسها وليست معني / A ١٠٣ / جنسيا ولا نوعيا حتّى يتعدّد بانضمام الفصول والمشخّصات ولا معنى عرضيا حتّى أمكن على القول بعدم استلزام ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي أن يكون له فردان بسيطان متميّزان بذاتهما مشتركان في هذا المعنى العرضي على ما هو معنى الشبهة الكمونيّة ، بل ـ كما عرفت ـ أنّها حقيقة واحدة متشخّصة بنفس ذاتها متعيّنة في حاقّ هويّتها غير مشتركة أصلا وتعيّنها مقتضى ذاتها ؛ فلا يقتضي إلّا تعيّنا واحدا وتشخّصا خاصّا ؛ فلو فرض الواجب متعدّدا لزم أن لا يكون ما فرض متعدّدا متعدّدا ؛ وعلى هذا ففرض التعدّد محال فضلا عن المفروض ، فلو بلغ فارض في الاستقصاء في فرض التعدّد وكان ما فرضه واحدا ؛ لأنّ الواحد من حيث هو واحد لا يكون متعدّدا والمتعدّد من حيث هو متعدّد لا يكون واحدا غاية الأمر أن يفرض ثالث وبملاحظته يفرض التعدّد في ذلك الواحد ؛ إذ بدون ذلك فرض التعدّد محال ؛ إذ لو فرض ذلك الواحد فردين فلا ريب في أنّهما متساويان من كلّ الوجوه لتساويهما في الذات وفي الصفات وفي الأفعال وفي وجوب الوجود بالذات وفي الوحدة الذاتية وفي عينية الوجود وفي البساطة ونفي التركيب و

٢٥٥

غير ذلك ؛ فلا يتصوّر هناك شيء يكون ما به الامتياز بينهما إلّا أن يلاحظ ثالث ويفرض أنّ أحدهما واجد له ؛ إذ له نسبة خاصّة إليه من العلّية أو المعلولية أو المحاذاة أو الموازاة أو المشاكلة أو المجانسة أو المماثلة وأمثالها والآخر ليس له شيء من ذلك.

ولا يخفى : أنّ هذا الفرض مع ما فيه من المفاسد الشنيعة يرد عليه أنّ ذلك الوجدان أو تلك النسبة إن كان صفة كمال فالفاقد له يكون ناقصا ؛ فلا يكون واجب الوجود من جميع الجهات وإلّا فيكون الواجد له ناقصا ؛ فلا يكون واجب الوجود (١).

وأيضا : إذا كان التعدّد في الواجب بمجرّد هذا الثالث لا شيء آخر ولا ريب في أنّ امتياز الفردين من الواجب لا بدّ أن يكون في مرتبة ذاتيهما وحدّ حقيقتهما / B ١٠٣ / بحيث لا يكون التعيّن والامتياز متأخّرا عن ذاتهما حتّى يكونا واحدا في مرتبة الذات ثمّ يحصل الاثنينية والتعدّد ؛ فيلزم من حيث توقّف الامتياز على هذا الثالث وعدم تعقّل امتياز آخر أن يكون هذا الثالث موجودا في مرتبة ذاتهما ؛ فلا يكون متأخّرا عنهما ولا معلولا لهما ؛ فيكون هو أيضا واجب الوجود مثلهما ولا بدّ أن يكون هو أيضا ممتازا عنهما حتّى يمكن أن يفرض ثالث بينهما والمفروض توقّف الامتياز على ملاحظة الآخر ؛ فلا بدّ أن يفرض شيئان آخران أحدهما بين الثالث وأحد الوجهين والآخر بينه وبين الآخر ؛ فيكون واجب الوجود خمسة وهكذا إلى ما لا نهاية له ؛ وهذا محال ؛ ولا يبعد أن يحمل على ذلك كلام الإمام الصادق عليه‌السلام وحديث الزنديق حيث قال : «ثمّ يلزمك إن ادّعيت فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما ؛ فيلزمك ثلاثة. ثمّ يلزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة ؛ فيكونوا (٢)

__________________

(١). س : الواجب الوجود.

(٢). س : فيكون.

٢٥٦

خمسة. ثمّ تتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة» (١) انتهاء بأن يكون المراد بالفرجة هو ذلك الأمر الثالث على ما به الامتياز.

وفيه أنّ حمل الفرجة على ما به الامتياز يوجب كون واجب الوجود أربعة على فرض التعدّد لا ثلاثة كما هو مذكور في الحديث ؛ إذ لكلّ من الوجهين مميّز على حدة.

فإن قيل : المميّز وإن كان اثنين لا يلزم كون الواجب أزيد من الثلاثة ؛ إذ ما به الاشتراك بالنظر إلى ذاته واحد ؛ فتحصل ثلاثة أحدها ما به الاشتراك والآخران ما به الامتياز.

قلنا : كلام الإمام ظاهر في أنّ الفرجة هو ما به الامتياز وأنّه واحد ؛ وأيضا امتياز ما به الامتياز عن الفردين الذين هما كالشخص تحت النوع أو كالنوع تحت الجنس ؛ وكذا عن ذات ما به الاشتراك وكذا امتياز ما به الاشتراك عن الفردين أو عمّا به الامتياز لا يلزم أن يكون لمميّز آخر سوى ذاته ، بل الامتياز بين ما به الامتياز وما به الاشتراك أو الفردين إنّما هو بمجرّد الذات ؛ فعلى أيّ معنى حملت الفرجة لا يلزم على فرض (٢) حصول الثلاثة ـ أعني / A ١٠٤ / الفردين وما به الامتياز ـ أن يتحقّق أمران آخران حتّى يتحقّق خمسة قدماء ؛ قس على ذلك ما بعده إلى ما لا نهاية له في الكثرة.

وأعلم أنّ هذا الطريق ـ كما أشرنا إليه ـ مبنيّ على أنّ حقيقة الوجود [و] وجوب الوجود حقيقة واحدة متشخّصة بنفسها متعيّنة بذاتها لا يمكن فرض التعدّد فيها ؛ وعلى أنّ وجوب الوجود عين ذاته عينية حقيقية ؛ ولا يخفى أنّ بعد ثبوت

__________________

(١). مع تفاوت ما في : بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٣٠ ؛ ج ١٠ ، ص ١٩٥ ؛ ج ٥٤ ، ص ٢٥٥ ؛ التوحيد (للشيخ الصدوق) ، ص ٢٤٤ ؛ شرح اصول الكافي (للمولى محمّد المازندراني) ، ج ٣ ، ص ٤٢ ، ٤٨ ؛ الفصول المهمّة ، ج ١ ، ص ١٣١ ؛ الكافي ، ج ١ ، ص ٨١ ونور البراهين ، ج ٢ ، ص ٣٩.

(٢). س : الفرض.

٢٥٧

هذا الأصل ـ كما هو مقتضى الزمان الصحيح ـ يمكن أن تقرّر الدليل على التوحيد بوجوه :

أحدها : ما تقدّم من أنّ صرف الوجود المطلق المتعيّن بذاته لا يمكن تعدّده ؛ لأنّ صرف الشيء من حيث هو لا تعدّد فيه وإنّما يتعدّد المعنى الواحد بانضمام التعيّنات المتعدّدة [و] صرف الوجود لا يقتضي إلّا تعيّنا واحدا ؛ إذ الواحد من حيث هو واحد لا يقتضي تعيّنات متعدّدة والتعيّنات المتعدّدة فرع تعدّد المقتضي مع أنّ المقتضي واحد. فالواجب الذي هو صرف الوجود لا يعقل إلّا واحدا ، وإلى هذا أشار الشيخ الإلهي بقوله : «صرف الوجود الذي لا أتمّ منه كلّما فرضته ثانيا وإذا نظرت فهو هو ؛ إذ لا تميّز في صرف شيء.» فذاته بذاته يدلّ على وحدته كما قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١).

[ثانيها :] أنّه لو تعدّد لزم الترجّح بلا مرجّح ؛ إذ نسبة صرف الوجود إلى ما فوق الواحد من جميع مراتب الأعداد متساوية ؛ فاقتضاؤه مرتبة منها دون غيرها ترجّح بلا مرجّح.

[ثالثها :] أنّه لو تعدّد الواجب الذي هو صرف الوجود فكان اثنين مثلا ؛ فلا يخلو إمّا أن يتّحدا في الحقيقة أو لا ؛ فعلى الأوّل علّة اختلافهما يكون أمرا غير حقيقتهما وغير الوجود المتأكّد ؛ فيلزم إمكان أحدهما أو كليهما ؛ وعلى الثاني يكون وجوب الوجود عارضا لهما أو لأحدهما ؛ وقد يثبت أنّ حقيقة واجب الوجود ليس إلّا نفس الوجود المتأكّد.

[رابعها :] أنّه لو تعدّد الواجب لا يمكن أن يكون / B ١٠٤ / أثر أحدهما بعينه هو أثر الآخر ، لاتّفاقهما في الحقيقة ؛ أعني وجوب الوجود الذي هو معني واحد وعين كلّ منهما ؛ فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب الترجيح بلا مرجّح ؛ وإلى

__________________

(١). آل عمران / ١٨.

٢٥٨

كليهما يوجب صدور أمر واحد بالتشخّص عن متعدّد ؛ وكلاهما باطل.

[خامسها :] أنّه لا يمكن تعدّد الواجب الذي هو صرف الوجود ؛ إذ الوجود حينئذ نفس ماهيّة كلّ منهما ولازم النوع متّفق والعارض الغريب يوجب التخصيص الخارجي ؛ ولا يمكن أن يخصّص كلّ منهما نفسه بشيء ؛ إذ التخصيص فرع التخصّص ولا أن تخصّص كلّ منهما صاحبه بشيء ؛ لإيجابه تقدّم تخصيص كلّ منهما على تخصّص مخصّصه ؛ فيتقدّم تعيّنه على تعيّن نفسه ؛ وفساده ظاهر ؛ ويمكن أن تقرّر بوجوه آخر أيضا إلّا أنّه لا حاجة إليها لظهور كفاية ما ذكر للمطلوب.

[سادسها :] الدليل المشهور وهو أنّه لو تعدّد الواجب لكان مفهوم وجوب الوجود مشتركا بين الفردين ؛ فإن كان هذا المفهوم جنسا لهما فلا بدّ أن يتميّز كلّ منهما عن الآخر بفصل مميّز ؛ وإن كان نوعا لهما فلا بدّ أن يتميّز كلّ عن الآخر بمشخّص ؛ فيلزم التركّب في ذات كلّ منهما من ما به الاشتراك وما به الامتياز.

وأورد عليه الشبهة الكمونيّة وهي أنّه لم لا يجوز أن يكون مفهوم وجوب الوجود عرضيا مشتركا بين الفردين منتزعا عن ذات كلّ منهما زائدا عليهما زيادة ذهنية ويكون الفردان بسيطين من كلّ وجه ممتازين بذاتهما متباينين بأنفسهما حتّى يكون ما به الامتياز ذات كلّ منهما بذاته لا أمرا آخر من فصل أو مشخّص ولا يكون بينهما قدر مشترك وذاتي حتّى يلزم التركيب.

وجوابه : أمّا أوّلا فبما تقدّم من استلزام ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي ؛ فالتركيب لازم.

وأمّا ثانيا فبأنّ وجوب الوجود / A ١٠٥ / لو كان عرضيا لا فتقر عروضه لكلّ منهما إلى علّة ؛ فعلّته إمّا ذات غير المعروض ؛ فيلزم افتقار الواجب في وجوب الوجود ، بل في وجوده إلى غيره ؛ فلا يكون واجبا بالذات أو ذات المعروض

٢٥٩

بلا اتّصافه بوجوب الوجود ؛ فيلزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، بل يلزم أن يكون غير الموجود علّة لوجود نفسه ؛ وهو باطل ؛ إذ مع اتّصافه بوجوب الوجود فإن كان عين ما هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

فإن قيل : علّة العروض على الشبهة الكمونيّة هي ذات المعروض ؛ إذ مبناها على أنّ هنا ذاتين مجهولي الكنه ، متميّزين بنفسها ، كلّ منهما منشأ بذاته لانتزاع الموجودية ومفهوم وجوب الوجود كما أنتم تقولون : إنّ ذات الواجب تعالى بذاته منشأ لذلك.

قلنا : نحن نقول : إنّ ذات الواجب تعالى صرف الوجود القائم بذاته وهو واحد لا يمكن التعدّد فيه ؛ وصرف الوجود الذي لا تعدّد فيه يمكن أن يكون منشأ بذاته لانتزاع الموجودية ومفهوم وجوب الوجود ؛ وأمّا على الشبهة الكمونيّة فالذات لا يمكن أن يكون صرف الوجود ؛ إذ لو كان صرف الوجود لم يكن التعدّد فيه ؛ فإنّ الذات عندنا وعلى الشبهة الكمونيّة أيضا وإن كان مجهول الكنه (١) ومنشأ لانتزاع الموجودية ووجوب الوجود بذاته إلّا أنّا نقول : ما يقتضي ذاته بذاته الموجودية هو صرف الوجود الحقّ القائم بذاته ولذا يحكم بأن لا يجوز التعدّد فيه وأمّا مع الحكم بجواز التعدّد فلا يمكن الحكم بأنّه صرف الوجود ، بل لا بدّ أن يقال : إنّ ذات كلّ منهما ماهيّة خاصّة وإن كانت مجهولة الكنه كما قال به ابن كمونه ؛ ومع كونه ماهيّة خاصّة لا يمكن أن يكون منشأ بذاتها للموجودية ووجوب الوجود ؛ إذ الفاقد في مرتبة ذاته عن الوجود الحقيقي و/ B ١٠٥ / الانتزاعي لا يمكن أن يكون منشأ لموجودية نفسه.

[سابعها :] أنّه لو تعدّد الواجب وكانا اثنين مثلا ؛ فإنّ اختلافي الكمال بأن

__________________

(١). س : الكنية.

٢٦٠