مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

خروج أحد أطرافه عن ابتلاء المكلّف ، لا علم بتكليف فعليّ في البين ، لاحتمال تعلّق الخطاب بذلك الطّرف الّذي خرج عن محلّ الابتلاء ، فتصير الشّبهة بالنّسبة إلى الطّرف الآخر بدويّة تجري فيها البراءة.

هذا ولكنّ الصّواب عندنا ، أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء كالاضطرار وفقد أحد الأطراف ونحوهما من الأعذار ، فلا حاجة إلى الإعادة والتّكرار.

الأمر الثّاني : أنّه إذا شكّ في الابتلاء وعدمه ، كان المرجع هو البراءة ، لأجل عدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ؛ إذ الإطلاق إنّما يرجع إليه إذا شكّ في تقييده بعد الفراغ عن أصل صحّته بدونه ، وأمّا إذا شكّ في أصل صحّته نظرا إلى الشّكّ في تحقّق ما يعتبر فيها من الابتلاء ، كما هو مفروض الكلام ، فلا يكون مرجعا.

هذا ، ولكن ذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره إلى أنّ المرجع في الفرض هو الإطلاق ، بدعوى : أنّ الرّجوع إلى البراءة ليس بأولى من الرّجوع إلى الإطلاق ، حيث إنّ المسألة هنا يرجع إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التّحقّق ، هل يجوز التّمسّك به ، أم لا؟ وواضح أنّه يجوز التّمسّك به في مثل ذلك. (١)

والصّحيح هو ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره من كون المرجع في الفرض هو البراءة ؛ وذلك ، لأنّ الشّكّ هنا ليس إلّا شكّا في التّكليف الفعليّ ، حيث تنوط فعليّته بالابتلاء ، ومع الشّكّ فيه ، يشكّ فيها ، فتجري البراءة ، ولا مجال للأخذ بالإطلاق هنا ، لكون قيد الابتلاء من القيود المصحّحة للخطاب بحيث لولاه لما صحّ الخطاب بدونها ، بل الخطاب حسب مقام الثّبوت مقيّد بمثل هذا القيد ، كتقييده بالقدرة

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٧.

٤١

ـ على مسلك القوم ـ والعقل ، ولا معنى حينئذ للإطلاق حسب مقام الإثبات ، فلا يصحّ أن يقال : لا تشرب من إناء كذا ، سواء ابتليت به أم لم تبتل به ، كما لا يقال :

جئني بكذا ، سواء كنت قادرا ، أم لا ، وسواء كنت عاقلا ، أم لا.

نعم ، إنّما يصحّ التّمسّك بالإطلاق فيما إذا شكّ في التّقييد بقيد غير دخيل في صحّة الخطاب ، كالإيمان ـ مثلا ـ في أعتق رقبة ، وكالاستطاعة الشّرعيّة في الحجّ ونحوهما.

وبعبارة اخرى : إنّما يصحّ التّمسّك بالإطلاق عند الشّكّ في التّقييد بشيء إذا لم يكن الخطاب مقيّدا بذلك الشّيء ثبوتا.

التّنبيه الثّالث : يقع الكلام في هذا التّنبيه في مقامين ، قد أشار إليهما ـ أيضا ـ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، أحدهما : هل كثرة أطراف العلم الإجماليّ بنفسها مانعة عن تنجّزه وعن فعليّة التّكليف ، بحيث لا يجب الاحتياط حينئذ ، أم لا؟ بل المانع عنه هو العناوين الطّارئة ، كالعسر والحرج والضّرر ؛ ثانيهما : إذا شكّ في عروض المانع الموجب لارتفاع فعليّة التّكليف ، فهل يرجع إلى إطلاق الدّليل أو أصل البراءة؟

أمّا المقام الأوّل : فقد اختار المحقّق الخراساني قدس‌سره عدم كون كثرة الأطراف بنفسها مانعة عن تنجّز العلم الإجماليّ ، وهذا هو الحقّ ، وقد أفاد قدس‌سره في وجه ذلك ، ما محصّله : هو أنّ الملاك في تأثير العلم الإجماليّ وتنجيزه للتّكليف المعلوم بالإجمال وإيجابه للاحتياط هو تعلّقه بالتّكليف الفعليّ وحينئذ فلا يتفاوت الحال بين حصر أطراف الشّبهة وعدم حصرها في وجوب الاحتياط ، فكثرة الأطراف بما هي هي

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٢٣.

٤٢

لا توجب سقوط التّكليف عن الفعليّة وانحلال العلم الإجماليّ وصيرورة الشّبهة بدويّة.

نعم ، قد تكون كثرة الأطراف موجبة للعسر أو الحرج أو الضّرر أو غيرها في الموافقة القطعيّة بالاجتناب عن كلّ الأطراف في الشّبهة التّحريميّة ، أو ارتكابها في الشّبهة الوجوبيّة ، فلا تجب الموافقة حينئذ ، لا لنفس الكثرة بل لأجل ما ذكر من العسر وغيره ، كما أنّ الاحتياط التّام ونفس الموافقة القطعيّة ـ أيضا ـ قد يوجب العسر ونحوه ، مع كون أطراف الشّبهة قليلة محصورة ، مثل ما إذا اشتبه الماء المطلق وتردّد بين إناءين أو ثلاث أو أربع أو نحوها ، وكان الاحتياط التّام بالتّوضّؤ بهما أو بها عسريّا أو ضرريّا.

وأمّا المقام الثّاني : (إذا شكّ في عروض المانع عن فعليّة التّكليف ، كالعسر والحرج ، فهل يرجع إلى إطلاق الدّليل أو إلى البراءة؟) فقد فصّل المحقّق الخراساني قدس‌سره بين ما إذا كان دليل المعلوم بالإجمال لفظيّا ، فيؤخذ عند الشّكّ المذكور بإطلاقه ويحكم بعدم عروض المانع عن فعليّة التّكليف ، وبين ما إذا كان لبيّا من الإجماع والعقل ، أو لفظيّا مجملا فيرجع عند الشّكّ إلى البراءة ويحكم بعروض المانع عن فعليّته ؛ وذلك ، للشّكّ في التّكليف الفعليّ مع احتمال ارتفاعه بالمانع ، وهذا هو الحقّ.

(تحديد الشّبهة غير المحصورة)

التّنبيه الرّابع : قد عرفت حال كثرة أطراف العلم الإجماليّ وعدم حصرها من جهة عدم كونها مانعة عن تنجيز التّكليف ، فلا بأس بالتّعرض هنا عن حالها من جهة بيان موضوعها ، وحكمها ، فنقول : أمّا بيان موضوعها ، فقد اختلف الاصوليّون

٤٣

في ذلك وذكروا له وجوها :

أحدها : أنّ الشّبهة غير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشّبهة حدّا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك.

ثانيها : أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه.

ثالثها : أنّها عبارة عمّا تكون أطرافها غير محصورة حسب نظر العرف والعادة ، ولا يخفى ، أنّ هذا الوجه ، يرجع إلى الثّاني ؛ إذ مرجع عدم حصر الأطراف هو عسر عدّها.

رابعها : أنّه لا بدّ أن تكون كثرة الأطراف بالغة إلى حدّ توجب ضعف احتمال كون الحرام ـ مثلا ـ في طرف خاصّ من أطراف الشّبهة.

والأقوى في هذه الوجوه الأربعة هو الوجه الأخير الّذي اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) والمحقّق الحائري قدس‌سره (٢) وجعله الإمام الرّاحل قدس‌سره (٣) أسدّ ما قيل في المقام.

وأمّا بيان حكم الشّبهة غير المحصورة ، فلا إشكال في أنّه لا تجب الاحتياط في أطراف الشّبهة ، لما عرفت آنفا ، من أنّ الاحتمال في وقوع الضّرر والمفسدة في أطراف الشّبهة غير المحصورة ضعيف ، بحيث لا يعتني به العقلاء ، بل يعدّونه من الموهومات.

ولكن مع ذلك ، قد استدلّ على عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة غير المحصورة بامور :

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٦٨.

(٢) راجع ، درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٤٧١.

(٣) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٤٤

الأوّل : رواية أبي الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة ، فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السّوق فأشتري بها اللّحم والسّمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون ، هذه البربر وهذه السّودان» (١).

تقريب دلالة هذه الرّواية على عدم تنجّز العلم الإجماليّ إذا كانت الشّبهة غير محصورة ، واضح ، إلّا أنّ جمعا من الأساطين ومنهم الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) ذهبوا إلى أنّ هذه الرّواية أجنبيّة عن مورد العلم الإجماليّ في الشّبهات غير المحصورة ، بل هي ناظرة إلى الشّبهات البدويّة الّتي تجري فيه البراءة.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا فرض أنّ الجبن المأخوذ من الميتة في مكان خاصّ ، لم يكن موجودا في الأسواق ، بل الموجود فيها هو سائر أفراده الّذي يكون مشكوك النّجاسة والطّهارة بشكّ بدويّ ، وأنت ترى ، أنّ هذا الفرض مخالف لظاهر قوله عليه‌السلام :«أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ...» إذ له ظهور واضح في أنّ الجبن المأخوذ من الميتة ـ أيضا ـ موجود في الأسواق ، كسائر أفراده غير المحصورة ، وصار ذلك سببا لحصول العلم الإجماليّ للمكلّف بأنّ واحدا من تلك الأفراد الموجودة في الأسواق يكون نجسا مأخوذا من الميتة ، فسأل عن الإمام عليه‌السلام بأنّه ، هل يجب الاجتناب عن جميع أفراد الجبن مع عدم حصرها ، أم لا؟ فقد أنكر عليه‌السلام وجوب الاجتناب و

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٧ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥ ، ص ٩١.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٦٣ و ٢٦٤.

٤٥

أجاب عليه‌السلام بنحو الاستفهام الإنكاري بقوله : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ...» ، ويشهد لما قلناه هو أنّه عليه‌السلام لم يقل : أمن أجل مكان واحد يباع فيه الجبن المصنوع بالميتة ، فعلم منه أنّ المقصود هو المكان الّذي يصنع فيه الجبن بالميتة ويعرض على الأسواق ، لا أنّه يباع فيه ، أيضا.

هذا ، ولكن يشكل على الرّواية من جهة ضعف السّند ، لاشتماله على «محمّد بن سنان» الّذي لم تثبت وثاقته ، وعلى «أبي الجارود» الّذي وردت فيه روايات دالّة على ذمّه ، تضمّن بعضها كونه كذّابا كافرا. (١)

الأمر الثّاني : الإجماع الّذي ادّعى الشّيخ الأنصاري قدس‌سره نقله مستفيضا (٢) وجعل قدس‌سره كافيا في المسألة.

وفيه : أنّه لو سلّم كون نقله مستفيضا ، لكنّه لا يفيد في المقام ؛ بداهة ، أنّه ليس إجماعا تعبّديّا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، بل يكون مستندا إلى أحد الامور الّتي استدلّ بها في المقام ، أو لا أقلّ من احتمال استناده إليه ، فالإجماع حينئذ إمّا يكون مدركيّا أو محتملا له.

الأمر الثّالث : أنّ الاحتياط التّام يوجب العسر أو الحرج أو الضّرر ، وكلّ ذلك منفيّ بالأدلّة الشّرعيّة ، كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٣) وقوله عزوجل : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤)

__________________

(١) راجع ، اختيار معرفة الرّجال : ص ٢٣٠ ، ح ٤١٦.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٣) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٨٥.

(٤) سورة الحجّ (٢٢) ، الآية ٧٨.

٤٦

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (١).

وفيه : أوّلا : أنّ البحث إنّما هو في وجوب الاحتياط في أطراف الشّبهة غير المحصورة بما هي هي ، لا بما أنّها بعد طروّ العناوين المذكورة عليها ؛ وثانيا : لو سلّم ذلك ، لكن مجرّد طروّ تلك العناوين على أطراف الشّبهة ، لا يوجب نفي وجوب الاحتياط فيها ؛ إذ لا تلاحظ تلك العناوين حسب الغالب كي يقال : بارتفاع وجوب الاحتياط حتّى بالنّسبة إلى من ليس الاحتياط في حقّه مصداقا لأحد العناوين ، بل تلاحظ حسب الأشخاص ؛ وذلك ، لظهور الأدلّة المذكورة في أنّ ما كان فيه ضيق على شخص المكلّف فهو مرتفع عنه ، لا ما كان فيه ضيق على نوعه فهو مرتفع عنه ولو لم يكن في حقّه كذلك ، بل هو في غاية السّهولة ، كيف ، وأنّ ارتفاع التّكليف في حقّ هذا الشّخص مستلزم لتفويت مصلحة التّكليف ، وهذا خلاف الامتنان في حقّه ، مع أنّ تلك الأدلّة وردت لأجل الامتنان ، كسائر الأدلّة الواردة في تسهيل امور العباد.

الأمر الرّابع : أنّ أطراف الشّبهة غير المحصورة لكثرتها ، خارجة عن مورد الابتلاء غالبا ، فلا يكون العلم فيها منجّزا موجبا للاحتياط في جميع الأطراف.

وفيه : أوّلا : أنّ فرض خروج الابتلاء خارج عن محلّ الكلام الّذي هو في الشّبهة بما هي هي ؛ وثانيا : أنّ مجرّد عدم كون بعض الأطراف موردا للإبتلاء لكثرتها ، لا يوجب عدم الاحتياط في جميع الأطراف حتّى بالنّسبة إلى بعضها الّذي يكون موردا للإبتلاء لقلّتها.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ ، ص ٣٦٤.

٤٧

(ملاقي أحد أطراف الشّبهة المحصورة)

التّنبيه الخامس : قد اختلفت كلمات الأعلام في أنّه إذا لاقى شيء لأحد أطراف الشّبهة المحصورة ، فهل يحكم بنجاسته ، كنفس الطّرف الملاقى (بالفتح) أو يحكم بطهارته؟ والتّحقيق في ذلك يقتضي تقديم امور :

الأوّل : لا يخفى عليك ، أنّ الكلام في المقام إنّما هو في الملاقي لبعض الأطراف ؛ بداهة ، أنّ الملاقي لجميع الأطراف معلوم النّجاسة تفصيلا ، فيكون خارجا عن محلّ الكلام قطعا ، كما أنّه لو فرض ملاقاة شيئين لطرفي العلم الإجماليّ ، بأن يلاقي واحد منهما طرفا منه ، ويلاقي الآخر منهما طرفا آخر منه ، فهو ـ أيضا ـ خارج عن محلّ الكلام ، للعلم إجمالا بنجاسة أحد الملاقيين للطّرفين ، كالعلم الإجماليّ بنجاسة أحد الطّرفين ، ففي الفرض علمان إجماليّان : أحدهما : متعلّق بالطّرفين الملاقيين (بالفتح) ؛ وثانيهما : متعلّق بالملاقيين (بالكسر) لهما ، فيجب الاجتناب عن الجميع بلا كلام.

الأمر الثّاني : أنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ ـ على ما ذكر في غير موضع ـ إنّما تتوقّف على عدم جريان الاصول المرخّصة في أطرافه ، أو على تساقطها بعد جريانها ، وهذا لا يكون إلّا إذا تعلّق العلم الإجماليّ بتكليف فعليّ بلا واسطة ، كالعلم بوجوب صلاة الجمعة أو الظّهر ، يوم الجمعة ونحوه من الشّبهات الحكميّة ، أو مع الواسطة ، كالعلم بموضوع تامّ للحكم ، نظير العلم بخمريّة أحد الإنائين ونحوه من الشّبهات الموضوعيّة ، فإنّ العلم بخمريّته علم بالحرمة الفعليّة ـ أيضا ـ فيجب الاحتياط والاجتناب عنه ، وهذا بخلاف العلم بموضوع ناقص غير تامّ فلا يكون العلم منجّزا لجريان أصالة عدم تحقّق الموضوع التّامّ ، نظير ما إذا علم بكون أحد الجسدين ميّت

٤٨

إنسان ، والآخر ميّت حيوان مذكّى من مأكول اللّحم ، فالعلم الإجماليّ بحرمة أكل أحد الجسدين وإن كان منجّزا بالنّسبة إلى حرمة الأكل ، فيجب الاجتناب عن أكل لحم كلّ منهما ، لكنّه لا يكون منجّزا بالنّسبة إلى وجوب غسل مسّ الميّت إذا مسّ أحدهما ؛ إذ الموضوع التّامّ لوجوب الغسل هو مسّ ميّت الإنسان ، لا مجرّد وجود ميّت الإنسان في البين ولو بنحو الإجمال ، والمفروض ، أنّ هذا المسّ مشكوك ، لاحتمال كون الممسوس ميّت الحيوان المذكّى ، فالأصل عدم المسّ.

والوجه في هذا التّفريق ، أنّه بناء على تقدير العلم بالتّكليف الفعليّ في البين ، كما في فرض تعلّق العلم بالموضوع التّامّ ، يكون الشّكّ في كلّ من الأطراف شكّا في الانطباق ، بمعنى : أنّ ذلك التّكليف المعلوم بالإجمال ، هل هو هذا ، أو ذاك؟ فلا مجال معه لإجراء الأصل النّافي له في جميع الأطراف ، لكونه ترخيصا في المعصية القطعيّة ومخالفة التّكليف الواصل إلى المكلّف بالحجّة ، وكذا لا مجال معه ـ أيضا ـ لإجراء الأصل النّافي في بعض الأطراف ؛ وذلك ، للمعارضة بلا وجود ترجيح في البين ، فالاشتغال اليقينيّ يقتضي الفراغ كذلك.

وأمّا بناء على تقدير عدم العلم بالتّكليف الفعليّ ، كما في فرض تعلّق العلم بالموضوع النّاقص ، فالشّك يرجع إلى الشّكّ في أصل التّكليف ، والمرجع حينئذ هو الأصل النّافي له.

هذا كلّه واضح لا إشكال فيه من ناحية الكبرى ، إنّما الإشكال من ناحية الصّغرى ، فقد وقع النّزاع في موارد بأنّها هل تكون صغرى لتلك الكبرى أم لا؟ فقد يقال : بكونها من موارد العلم الإجماليّ بالتّكليف الفعليّ وأنّها من موارد العلم بتمام

٤٩

الموضوع ، فينجّز العلم ؛ وقد يقال : إنّها من موارد العلم بجزء الموضوع وعدم العلم بالتّكليف الفعليّ فلا تنجيز ، بل أصل التّكليف مشكوك تجري فيه البراءة :

ومن تلك الموارد : العلم بغصبيّة إحدى الشّجرتين ، فحصل لإحداهما نماء دون الآخر ، فقد يدّعى في هذا الفرض أنّه يجوز التّصرف في الثّمرة تكليفا ، وأنّه لا ضمان لها ـ لو استوفاها ـ وضعا ؛ إذ تمام الموضوع للحرمة هو التّصرف في نماء الشّجرة المغصوبة والمفروض هو الشّكّ في التّصرف فيه أو الشّكّ في كون الثّمرة نماءها ، والأصل عدمه ، وكذا تمام الموضوع للضّمان هو وضع اليد على مال الغير ، وهذا ـ أيضا ـ مشكوك فيه ، والأصل عدمه ، فالعلم الإجماليّ بغصبيّة إحدى الشّجرتين يوجب الاحتياط والاجتناب من نفسهما ومن ثمرتهما ـ لو فرض تحقّق الثّمرة لهما ـ وأمّا الاجتناب من ثمرة إحداهما ، كما هو المفروض ، وكذا الضّمان لو استوفاها ، فلا ، وهذا لأجل الشّكّ في تحقّق الموضوع ، والأصل عدمه.

هذا ولكن ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره في الفرض المذكور ، إلى عدم جواز التّصرف تكليفا ، وثبوت الضّمان وضعا ، والحريّ هنا ذكر ما أفاده قدس‌سره في المقام ، ثمّ النّظر فيه بعين الإنصاف ، فقال : ما ملخّصه ، إنّه لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم بالإجمال من الأحكام والآثار على كلّ واحد من الأطراف ؛ وذلك ، للزوم تحصيل الفراغ عن اشتغال الذّمة وتحصيل القطع بالامتثال ، فكما لا يجوز تكليفا شرب كلّ واحد من الإنائين المشتبهين اللّذين أحدهما : خمر ، كذلك لا يصحّ وضعا بيع كلّ واحد منهما للعلم بعدم السّلطنة على بيع أحدهما ، فلا تجري أصل الصّحة في بيع أحدهما للمعارضة بأصالة الصّحة في بيع الآخر ، فتتساقطان ، فيحكم بفساده في كلّ

٥٠

منهما ؛ إذ يكفي في الحكم بفساده عدم ثبوت صحّته.

ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه ، بأنّ العلم الإجماليّ إنّما يقتضي وجوب ترتيب الآثار والأحكام على كلّ واحد من الأطراف إذا كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع ، لا جزء الموضوع لها ؛ ومن الواضح ، أنّ الخمر المعلوم في أحد الإنائين إنّما هو جزء الموضوع لفساد البيع ، والجزء الآخر هو وقوع البيع عليها خارجا ، وعليه ، فلا وجه للحكم بفساد بيع أحد الإنائين للشّكّ في وقوعه على الخمر ، فتجري فيه أصالة الصّحة ، ولا تعارضها أصالة الصّحة في البيع الآخر ، لعدم وقوع البيع عليه ، فلا موضوع لأصالة الصّحة في ذلك الآخر.

فأجاب قدس‌سره بأنّ الخمر المعلوم بالإجمال هو تمام الموضوع لعدم السّلطنة على البيع ، وهذا العدم يلازم فساد البيع ، بل هو عينه ؛ إذ المجعول الشّرعيّ ليس إلّا حكما واحدا ، غاية الأمر ، يعبّر عنه قبل البيع بعدم السّلطنة وبعده بالفساد ، فأصالة الصّحّة في بيع كلّ من الإنائين تجري من أوّل الأمر ولو قبل صدور البيع ، وتسقط بالمعارضة ، ولا يتوقّف جريانها على وقوع البيع خارجا.

ثمّ فرّع قدس‌سره على ما ذكره وجوب الاجتناب عمّا للاطراف من المنافع والتّوابع المتّصلة والمنفصلة ، نظير ما علم بمغصوبيّة إحدى الشّجرتين ، فكما يجب الاجتناب تكليفا ووضعا عن نفس الشّجرتين ، كذلك يجب الاجتناب عمّا لهما من الأثمار ، بلا فرق بين أن يكون كلّ منهما ذوات الأثمار ، وبين أن يكون إحداهما فقط كذلك ، وبلا فرق بين وجود الثّمرة حال العلم ، وعدم وجودها حاله.

وعلّل ذلك قدس‌سره بأنّ وجوب الاجتناب عن المغصوب يقتضي وجوب

٥١

الاجتناب عن منافعه ؛ إذ النّهي عن التّصرف في المغصوب ، نهي عنه وعن توابعه ومنافعه ، ويكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجدّدة ، فعليّة وجوبه عن ذي المنفعة وتنجّز هذا الوجوب ولو بالعلم الإجماليّ.

والتزم قدس‌سره ـ أيضا ـ تفريعا على ما ذكره ، بعدم جواز إقامة الحدّ على من شرب أحد طرفي المعلوم بالإجمال ، معلّلا بأنّ الخمر المعلوم في البين إنّما يكون تمام الموضوع بالنّسبة إلى حرمة شربه وفساده ، وأمّا بالنّسبة إلى إقامة الحدّ يتوقّف على أن يكون شربه عن عمد واختيار ، وأنّ علم الحاكم بشرب الخمر اخذ جزء الموضوع لوجوب إقامة الحدّ ، ولا علم مع شرب أحد الطّرفين ، فلا يجوز للحاكم إقامة الحدّ. (١)

هذا ، ولكن لنا في هذا الكلام جهات من النّظر :

الاولى : أنّه لا يعلم مراده قدس‌سره من أصالة الصّحة الّتي قال : بعدم جريانها في مورد بيع كلّ واحد من المشتبهين لأجل تعارضها بمثلها الجاري في الطّرف الآخر ؛ إذ المحتملات فيها أربعة والكلّ مخدوش :

أحدها : أنّ المراد منها أصالة الصّحة المعروفة الّتي تجري في فعل الغير ولا يكون مستند اعتبارها إلّا بناء العقلاء أو الإجماع ، كما قيل.

وفيه : أوّلا : أنّه لا معنى لجريانها في فعل نفسه ، كما هو مفروض الكلام ، بل الجاري فيه هي قاعدة الفراغ أو التّجاوز ؛ وثانيا : أنّها تجري بعد العمل لا قبله.

ثانيها : أنّ المراد منها أصالة الصّحة الّتي تجري في فعل نفسه وهي المعبّر عنها

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٦٧ إلى ٧٦.

٥٢

بقاعدة الفراغ والتّجاوز.

وفيه : أوّلا : أنّهما لا يجريان قبل العمل ؛ وثانيا : هذا المعنى منها خلاف ظاهر عنوان أصالة الصّحة ، كما هو واضح.

ثالثها : أنّ المراد منها إطلاقات حلّ البيع ونفوذه ، كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) أو عمومات لزومه ، كقوله عزوجل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢).

وفيه : أنّه لا يجوز التّمسّك بها حتّى في الشّبهة البدويّة ، لكونها مخصّصه بالنّسبة إلى بيع الخمر ونحوه ، فيكون التّمسّك بها تمسّكا بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الخارج عن العمومات هو بيع الخمر المعلوم خمريّتها ، وأمّا المعلوم عدم خمريّتها أو المشكوك فيها فهو داخل في العمومات أو الإطلاقات ، وهذا نظير قولنا : «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم» فإنّ الخارج عن عنوان العامّ هو معلوم الفسق لا المشكوك فيه أو المعلوم عدم فسقه ، فإنّه داخل في العموم.

رابعها : أنّ المراد منها قاعدة السّلطنة.

وفيه : أنّها ـ أيضا ـ مخصّصة ببيع الخمر ونحوه ، حيث لا سلطنة على بيعها والمخصّص منفصل والشّبهة مصداقيّة للمخصّص ، فلا يجوز التّمسّك بالعامّ فيها ولو لم يكن هناك علم إجماليّ ، بل كانت الشّبهة بدويّة محضة ، فلا دليل على الصّحة ، وهذا المقدار كاف في الحكم بالبطلان وعدم الصّحة.

الجهة الثّانية : أنّه قدس‌سره جعل عدم السّلطنة عين فساد البيع ، معلّلا بأنّ المجعول

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٧٥.

(٢) سورة المائدة (٥) ، الآية ١.

٥٣

الشّرعيّ ليس إلّا حكما واحدا ، فيعبّر عنه قبل البيع بعدم السّلطنة ، وبعده بالفساد.

وفيه : أنّ السّلطنة على البيع تكون في مرتبة السّبب والعلّة ، والصّحة تكون في مرتبة المسبّب والمعلول ، وهكذا عدم السّلطنة والفساد ، فلا اتّحاد في البين.

وبعبارة اخرى : قاعدة السّلطنة عقلائيّة أو شرعيّة موضوعها «النّاس» ومحمولها «كونهم مسلّطين» وموردها «أموالهم» وهذه تكون في سلسلة علل المعاملات وأسباب المعاقدات ، وأمّا الصّحة والفساد فموضوعهما هي المعاملات والمعاقدات ، بمعنى : أنّ المعاملات لأجل تأثيرها في حصول النّقل والانتقال ، تتّصف بالصّحة ، ولعدم تأثيرها فيه تتّصف بالفساد ، فالصّحة والفساد على هذا ، تكونان في سلسلة المعاليل والمسبّبات ، فهما غير السّلطنة وعدمها موضوعا ومحمولا وموردا ، فلا يكون في البين اتّحاد أصلا.

ولك أن تقول : لا معنى للصّحة والفساد إلّا بعد وجود البيع وفي ظرف تحقّقه ، لا قبل وجوده ؛ إذ لا معنى حينئذ للصّحة والفساد ، فقبل البيع لا مجال إلّا لأصالة عدم السّلطنة على البيع أو عدم ما هو سبب السّلطنة من الملكيّة وأمثالها ، فليس المجعول عندئذ واحدا ذا اسمين وعنوانين.

الجهة الثّالثة : أنّه قدس‌سره قال : بأنّ المعلوم بالإجمال إذا كان تمام الموضوع لحكم ، يجب ترتيبه على كلّ واحد من الأطراف ، وضعا كان أو تكليفا.

وفيه : أنّ هذا القول نشأ من الخلط بين أثر الواقع وهو الحكم الشّرعيّ ، وبين أثر كلّ واحد من الطّرفين وهو الحكم العقليّ ، حيث إنّ وجوب الاجتناب عن الأطراف حكم عقليّ من باب الاحتياط والمقدّمة العلميّة ، فلا معنى لترتيب آثار

٥٤

الواقع وهو وجوب الاجتناب شرعا على كلّ واحد من الأطراف ، مع أنّ الواحد منها ليس هو الواقع ، وأمّا وجه الحكم بفساد البيع الواقع على كلّ واحد فإنّما هو لعدم الدّليل على الصّحّة.

الجهة الرّابعة : أنّه قدس‌سره التزم بأنّ المنافع والأثمار تابعا في الحكم لأطراف المعلوم بالإجمال ، وأنّ وجوب الاجتناب عن المغصوب ـ مثلا ـ يقتضي وجوبه عن منافعه ـ أيضا ـ مدّعيا بأنّ النّهي عن التّصرف في المغصوب نهي عنه وعن منافعه.

وفيه : أنّ التّبعيّة بين مثل الشّجرة ، وبين ثمرتها ، بل بين الدّار ومنافعها في عالم التّكوين ، لا تستلزم التّبعيّة بينهما في عالم التّشريع.

وإن شئت ، فقل : إنّ ملكيّة العين والمنفعة عرضيّتان ، غاية الأمر ، تكون المنفعة من تبعات العين وفي طولها وجودا وتكوينا ، لا اعتبارا وتشريعا ، بل هما ـ كما قال المحقّق العراقي قدس‌سره ـ في عروض الملكيّة كانا في عرض واحد (١) ، وهذا هو الصّواب ؛ إذا الغصب هو استيلاء اليد على مال الغير عدوانا ، ومن المعلوم ، أنّ ذا المنفعة مال ، ونفس المنفعة ولو كانت متّصلة ، فضلا عن المنفصلة ، مال آخر ، فيمكن غصب الشّجرة أو الدّار دون منافعها ، وكذا العكس ، وعليه ، فكيف يمكن أن يقال : بالطّوليّة والتّبعيّة في الحكم والتّشريع لأجل ما بينهما من الطّوليّة والتّبعيّة في الوجود والتّكوين.

نعم ، يمكن أن يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي ، بوجه ، من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) ومن توابعه ، فلا يصحّ أن يقاس ، كما في كلامه قدس‌سره ، باب

__________________

(١) راجع ، التّعليقة على فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧١.

٥٥

ذوات المنافع ومنافعها بباب الملاقي (بالكسر) والملاقى (بالفتح).

الجهة الخامسة : أنّه قدس‌سره ادّعى أنّ الخمر بالنّسبة إلى حرمة شربها وفساد بيعها ، يكون تمام الموضوع ، وبالنّسبة إلى إقامة الحدّ ، يكون جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الشّرب عن عمد واختيار.

وفيه : أنّ شرب أحد الأطراف شرب عمديّ اختياريّ ، فلو صادف الواقع كان شرب الخمر اختياريّا ، فيستحقّ العقوبة حينئذ.

الجهة السّادسة : أنّه قدس‌سره جعل علم الحاكم بشرب الخمر جزء الموضوع ـ أيضا ـ لإقامة الحدّ.

وفيه : أنّ موضوع الحدّ حسب الأدلّة هو شرب الخمر عصيانا ، وعلى تقدير ارتكاب بعض الأطراف يشكّ في حصول شرب الخمر ، فلا حدّ ، بل لو كان شرب الخمر بنفسه تمام الموضوع ، فلا حدّ ـ أيضا ـ لعدم العلم بتحقّق شرب الخمر.

فتحصّل : إنّ في مثل مورد العلم بغصبيّة إحدى الشّجرتين لا مانع من الحكم بجواز التّصرف في الثّمرة تكليفا وعدم الضّمان عند استيفائها وضعا.

الأمر الثّالث (من الامور المعنونة في التّنبيه الخامس) : أنّه لا خلاف ولا إشكال في نجاسة ملاقي النّجس ووجوب الاجتناب عنه ، إنّما الإشكال في وجه نجاسته حسب مقام الثّبوت والإثبات.

أمّا مقام الثّبوت ، ففيه أربع احتمالات :

الأوّل : أن تكون نجاسة الملاقي (بالكسر) من باب التّعبّد المحض الشّرعيّ ، بمعنى : أن يكون الملاقي (بالكسر) ـ بشرط ملاقاته للنّجس ـ فردا آخر من النّجس و

٥٦

موضوعا على حدة للنّجاسة تعبّدا ، قبال الملاقى (بالفتح) قد حكم الشّارع بوجوب الاجتناب عنه ، كحكمه بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) فللملاقي (بالكسر) نجاسة ، وللملاقى (بالفتح) نجاسة اخرى ، نظير ما للكلب من النّجاسة ، قبال ما للخنزير منها ، فإذا لا نجاسة للملاقي (بالكسر) من ناحية السّراية من الملاقى (بالفتح) بلا فرق في هذا الاحتمال بين القول بكون النّجاسة أمرا واقعيّا كشف عنه الشّرع الأنور ، وبين القول بكونها أمرا تعبّديّا محضا ، مجعولا من قبله ، كما لا يخفى.

الثّاني : أن تكون نجاسة الملاقي (بالكسر) ناشئة من نجاسة الملاقى (بالفتح) نشوء المعلول من العلّة ، بمعنى : عدم كون الملاقي فردا آخر من النّجس بنحو الاستقلال ، بل هو يكون في طول نجاسة الملاقى (بالفتح) على وجه العلّية أو الإعداد.

وهذا الاحتمال واضح بناء على كون النّجاسة أمرا واقعيّا كشف عنه الشّرع ، وأمّا بناء على كونها أمرا اعتباريّا وضعيّا عرفا أو شرعا ، فيقال في تقريبه : كما أنّ نفس النّجس له نحو خصوصيّة يعتبر لأجلها نجاسته عرفا أو شرعا ، فكذلك لملاقيه نحو خصوصيّة ـ بمعونة الملاقاة ـ يعتبر لأجلها نجاسته وقذارته حسب العرف أو الشّرع.

ولا يخفى عليك : أنّ هذا الاحتمال ليس من باب السّراية والانبساط ؛ ضرورة عدم سراية العلّة إلى المعلول ، بل يكون من باب نشوء حركة المفتاح من حركة اليد ، وقد يعبّر عنه بالسّراية ، بمعنى : الاكتساب.

الاحتمال الثّالث : أن تكون نجاسة الملاقي (بالكسر) من باب السّراية والاتّساع ، بأن تتّسع دائرة نجاسة الملاقى (بالفتح) بالملاقاة ، كاتّساع دائرة نجاسة الماء النّجس إذا اتّصل بماء قليل طاهر ممتزج معه ، فإذا لا تكون نجاسة الملاقي فردا آخر

٥٧

من النّجاسة مستقلّا ، قبال نجاسة الملاقى (بالفتح) كما في الاحتمال الأوّل ، ولا فردا آخر غير مستقلّ كما في الاحتمال الثّاني ، بل تكون عين النّجاسة الملاقى (بالفتح) ونفسها بالاتّساع.

وهذا الاحتمال ـ أيضا ـ واضح بناء على كون النّجاسة أمرا واقعيّا كشف عنه الشّرع ، وأمّا بناء على كونها حكما وضعيّا اعتباريّا ، فمرجع هذا الاحتمال إلى أنّ الملاقاة توجب اتّساع دائرة الاعتبار ، بحيث يصير الملاقى (بالفتح) والملاقي (بالكسر) حينئذ نجسا واحدا بالملاقاة.

الاحتمال الرّابع : أن تكون نجاسة الملاقي (بالكسر) من شئون نجاسة الملاقى (بالفتح) بأنّ نجاسة الملاقى (بالفتح) هي واسطة في العروض لنجاسة الملاقي (بالكسر) وحينئذ ليس للملاقي (بالكسر) وجوب الاجتناب على حدة ، بل يكون من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) بلا تأمّل وشبهة.

ثمّ إنّ هذه الاحتمالات تأتي في ملكيّة المنافع والنّماءات المتّصلة والمنفصلة ، فيقال : إنّ ملكيّتها إمّا تكون تعبّديّة مستقلّة ، قبال ملكيّة العين ، أو ناشئة من ملكيّتها ، أو تكون من باب الاتّساع ، أو من باب الشّئون.

إذا عرفت تلك الاحتمالات ، فنقول : إنّه يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) بناء على الاحتمال الثّالث (الاتّساع) ، وذلك ، لأنّ الاتّساع يوجب الاتّحاد ، بحيث تكون نجاسة الملاقي (بالكسر) عين نجاسة الملاقى (بالفتح) لا غيرها ، فكما يجب الاجتناب عن الملاقى ، كذلك يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر).

وكذا يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) بناء على الاحتمال الرّابع

٥٨

(الشّئون) ، وذلك ، لأنّ نجاسة الملاقي (بالكسر) ليست إلّا من شئون نجاسة الملاقى (بالفتح) وتوابعها ، فوجوب الاجتناب عن المتشأن المتبوع يقتضي وجوب الاجتناب عن شأنه وتابعة ، أيضا.

وأمّا بناء على الاحتمال الأوّل من كون نجاسة الملاقي (بالكسر) نجاسة اخرى تعبّديّة ، وكذا بناء على الاحتمال الثّاني من كون نجاسته من باب السّراية وعلى سبيل العلّيّة والمعلوليّة ، أو على نحو الإعداد ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) وذلك ، لأنّ المفروض هو أنّ نجاسة الملاقي (بالكسر) يكون فردا آخر من النّجاسة مستقلّا ، أو فردا آخر منها غير مستقلّ ، وحينئذ تكون مشكوكة بشكّ بدويّ ، لأجل الشّكّ في تحقّق الملاقاة ، فإمّا تجري فيه أصالة عدم الملاقاة ، أو استصحاب طهارة الملاقي (بالكسر) ، أو أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عنه. فتأمّل. هذا كلّه حسب مقام الثّبوت.

وأمّا مقام الإثبات ، فنقول : أمّا الاحتمال الأوّل وهو كون نجاسة الملاقي من باب التّعبّد ، فلا تساعده كلمات الأصحاب ، ولا نصوص الباب ، ولذا لم يعدّوا الملاقي (بالكسر) للنّجس ، من النّجاسات ، كالبول والغائط ونحوهما ، وكذا الاحتمال الثّالث وهو كون نجاسة الملاقي من باب الاتّساع ، والاحتمال الرّابع وهو كون نجاسته من باب الشّئون ، فبقى هنا الاحتمال الثّاني وهو التّأثير والعلّية ، وهذا هو الظّاهر من كلمات الأصحاب والأخبار.

ألا ترى ، أنّ الأصحاب قد استعملوا في كلماتهم لفظة : «ينجّسه» أو «لا ينجّسه» أو نحوهما من الألفاظ الظّاهرة في الاحتمال الثّاني وهو كون نجاسة الملاقي

٥٩

من باب التّأثير والعلّيّة ، وكذا بعض النّصوص ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ ، لم ينجّسه شيء» (١) ومفهومه «إذا لم يكن قدر كرّ ، ينجّسه شيء» فإنّ ظاهر هذا التّعبير هو التّأثير والعلّيّة ، بمعنى : أنّ نجاسة الشّيء كالدّم ، سببا لنجاسة الماء على تقدير عدم كريّته.

وقد ادّعى المحقّق العراقي قدس‌سره أنّ كلمات الأصحاب مشحونة بالسّراية ، بمعنى : السّببيّة ، كما يشهد له بناءهم على ملاحظة السّببيّة والمسبّبيّة بين الملاقي والملاقى ، والتزامهم بعدم معارضة أصالة الطّهارة في الملاقي مع استصحاب النّجاسة في الملاقى. (٢)

والّذي يدلّ على ما قلناه من كون الاحتمال الثّاني هو الظّاهر : أنّ تنجيسات الشّرعيّة ليست إلّا كالتّنجيسات العرفيّة ، فكما أنّ ملاقي القذارات العرفيّة يصير قذرا بالاكتساب والعلّيّة ، كذلك الملاقي للقذارات الشّرعيّة.

ولك أن تستظهر السّببيّة والعلّيّة في مسألة الطّهارة والنّجاسة من أدلّة مطهّريّة الماء والأرض والشّمس ، وتقول : كما أنّ المطهّرات تكون من علل زوال النّجاسة وارتفاعها ، كذلك المنجّسات تكون من علل تحقّق النّجاسة وحدوثها ، فلا سراية ، بمعنى : الاتّساع ، ولذا يختلف الملاقي في كثير من الأحكام مع الملاقى (بالفتح).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦ ، ص ١١٨.

(٢) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣٥٥.

٦٠