مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

القسم الأوّل : ما التجأ به بعض الإماميّة (١) ـ بعد ما تحيّر وعجز عن حلّ شبهة ابن قبة وهي أنّ التّعبد بغير العلم ، مستلزم لتحليل الحرام أو تحريم الحلال والوقوع في المفسدة وتفويت المصلحة ـ من القول بالمصلحة السّلوكيّة ، ومعناه : هي المصلحة في السّلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل عليها ، كالتّسهيل على المكلّف ونحوه بلا دخل وتأثير لها في متعلّقها ، حسنا وقبحا ، مصلحة ومفسدة ، ففي التّطرق بالأمارة وتطبيق العمل عليها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له من دون أن ينقلب الواقع عمّا هو عليه ، بل يبقى على ما كان عليه من المصلحة والمفسدة أو الحسن والقبح ، فلا يكون الحكم تابعا للأمارة لا حدوثا ولا بقاء ، بل الأمارة تابعة له ، ونتيجة بقاء الواقع ، وجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه.

ولا يخفى : أنّ السّببيّة على هذا المعنى لا فرق بينها وبين الطّريقيّة في عدم دخول التّعارض معها في باب التّزاحم ، حيث إنّ المصلحة السّلوكيّة إنّما تكون قائمة بالأمارة الّتي تكون حجّة لا بمطلق الأمارة ولو لم تكن حجّة. وقد تقدّم أنّ دليل الحجّيّة لا يعمّ المتعارضين البتّة ، فيسقطان على ما هو مقتضى الأصل والقاعدة.

القسم الثّاني : ما التجأت به الأشاعرة ، من إنكار الحكم الواقعيّ بالمرّة والقول بأنّ الواقع ليس إلّا مؤدّى الأمارة ، فبقيام الأمارة على وجوب شيء تحدث فيه مصلحة ملزمة ، فيجب ، وعلى حرمته تحدث فيه مفسدة ملزمة ، فيحرم ، وهكذا ، ومعنى ذلك : هو أنّه لا واجب ولا حرام سوى مؤدّى الأمارة ، وعليه ، فلا مجال لشبهة

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١١٣ إلى ١١٥ ؛ ومصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٣٧٠.

٣٦١

ابن قبة المتقدّمة.

ولا يخفى : أنّ هذا المبنى فاسد جدّا ، لا ينبغي أن يتفوّه به عاقل ، وقد أورد عليه العلامة قدس‌سره باستلزامه للدّور ؛ إذ الواقع حينئذ متوقّف على قيام الإمارة ، وقيامها ـ أيضا ـ متوقّف على الواقع ، حيث إنّه لو لم يكن في الواقع شيء فما معنى حكاية الأمارة وكشفها عنه ، فتأمّل.

القسم الثّالث : ما التجأت به المعتزلة ، من أنّ الحكم الواقعيّ المشترك بين العالم والجاهل وإن كان موجودا مع قطع النّظر عن قيام الإمارة ، إلّا أنّه ينقلب ويتبدّل بقيامها على خلافه ، فيصير مؤدّى الأمارة حكم الله الواقعيّ بقاء بعد ما كان ذلك المشترك كذلك حدوثا ، فلا مجال إذا للدّور الّذي أورده العلّامة قدس‌سره على الأشاعرة.

فالأشاعرة والمعتزلة قائلتان بكون الحكم الواقعيّ تابعا للأمارة ، غاية الأمر ، بناء على قول الأشاعرة ، تكون التّبعيّة من البدو وزمن الحدوث بحيث لا حكم غير مؤدّاها ، فلا مخالفة ولا موافقة في البين ، وأمّا بناء على قول المعتزلة تكون التّبعيّة حسب البقاء إذا قامت الأمارة على الخلاف ، فعلى هذا المسلك قد توافق الأمارة للواقع ، وقد تخالفه له.

إذا عرفت تلك الأقسام ، فنقول : إنّ مقتضى القسم الثّاني والثّالث هو أنّ التّعارض بين الدّليلين ، إمّا يكون بوجه التّناقض أو بوجه التّضاد ، فإن كان بوجه التّناقض ، كدلالة أحد المتعارضين على وجوب شيء ، والآخر على عدم وجوبه ، يستحيل دخوله في باب التّزاحم ؛ بداهة ، أنّ التّزاحم إنّما يكون في موقف الامتثال والإطاعة ، ولا منشأ له إلّا العجز وعدم القدرة ، وأمّا التّعارض ـ على السّببيّة ـ فهو

٣٦٢

يرجع إلى اجتماع المصلحة الملزمة وعدمها في فعل شيء واحد ، كاجتماع الوجوب وعدمه فيه ، وهذا أمر محال مع قطع النّظر عن العجز وعدم القدرة في موقف الامتثال والإطاعة.

بتقريب : أنّ قيام إحدى الأمارتين على وجوب شيء موجب لحدوث مصلحة ملزمة فيه ، وقيام الاخرى على عدم وجوبه موجب لعدم المصلحة الملزمة فيه أو لزوالها عنه ، وهذا أمر مستحيل في نفسه.

وقد ظهر من هذا البيان ما في كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره من الخلل ، حيث قال : «وأمّا لو كان المقتضي للحجّيّة في كلّ من المتعارضين ، لكان التّعارض بينهما من تزاحم الواجبين في ما إذا كانا مؤدّيين إلى وجوب الضّدّين [كوجوب الحركة والسّكون] أو لزوم المتناقضين [كلزوم الحركة واللّاحركة] لا فيما إذا كان مؤدّى أحدهما حكما غير إلزاميّ [كعدم الوجوب] فإنّه حينئذ لا يزاحم الآخر ؛ ضرورة عدم صلاحيّة ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء». (١)

وجه ظهور الخلل في هذا الكلام ، هو ما عرفت من استحالة اجتماع الاقتضاء واللّااقتضاء ذاتا وفي نفسه ، فلا يصل الدّور إلى مرحلة التّزاحم حتّى يقال : بعدم مزاحمة اللّااقتضاء للاقتضاء. هذا إذا كان التّعارض بوجه التّناقض.

وإمّا إن كان بوجه التّضاد ، فكذلك لا يدخل التّعارض في باب التّزاحم مطلقا ، بلا فرق بين صور ثلاث من التّضاد وهي دلالة أحد الدّليلين على وجوب شيء والآخر على حرمته ، أو دلالة أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٨٥ إلى ٣٨٧.

٣٦٣

وجوب شيء آخر مع عدم ثالث لهما ، أو دلالة أحدهما كذلك مع وجود ثالث ، والوجه في عدم كون تلك الصّور الثّلاثة داخلة في باب التّزاحم ، بل تكون من باب التّكاذب في مرحلة الجعل والمبادي ، واضح.

أمّا الصّورة الاولى ، فلأنّ قيام الأمارة على وجوب شيء ، كالحركة ، موجب لحدوث المصلحة الملزمة فيه ، وقيام أمارة اخرى على حرمته ، موجب لحدوث مفسدة ملزمة فيه ويستحيل اجتماعهما مع قطع النّظر عن العجز وعدم القدرة.

وبعبارة اخرى : اجتماع هذين الملاكين في شيء واحد ، كاجتماع الحكمين (الوجوب والحرمة) فيه ، محال قطعا ، فلا يصل الدّور إلى التّزاحم في مرحلة الامتثال والإطاعة.

وأمّا الصّورة الثّانية ، فلأنّ المفروض فيها ؛ أنّ أحد الدّليلين يدلّ على وجوب شيء كالحركة ، والآخر يدلّ على وجوب شيء آخر كالسّكون ، بلا ثالث لهما ، وواضح ، أنّه لا يمكن اجتماع هذين التّكليفين في مرحلة الجعل وموقف التّشريع ، حيث إنّ الأمر بكلّ واحد من الحركة والسّكون تعيينا تكليف بالمحال ، وتخييرا طلب للحاصل حسب التّكوين ـ باعتبار أنّ المكلّف إمّا متحرّك أو ساكن ـ فلا يصل الدّور في تلك الصّورة إلى المزاحمة في مرحلة الامتثال والإطاعة.

وأمّا الصّورة الثّالثة ، فلأنّ المفروض فيها ، أنّ أحد الدّليلين يدلّ على وجوب شيء كالقيام ، والآخر يدلّ على وجوب شيء آخر كالجلوس مع وجود ثالث لهما ، كالاضطجاع ، وواضح ، أنّه لا يمكن اجتماع هذين التّكليفين في مرحلة الجعل وموقف التّشريع ، حيث إنّ الأمارة الدّالّة على وجوب الجلوس بالمطابقة ، تدلّ

٣٦٤

على عدم وجوب القيام بالالتزام ، وكذا الأمارة الدّالّة على وجوب القيام بالمطابقة ، تدلّ على عدم وجوب الجلوس بالالتزام ، ومقتضى ذلك ، وجوب القيام وعدم وجوبه وكذا وجوب الجلوس وعدم وجوبه ، وهذه كما ترى ، ترجع إلى المناقضة.

وقد عرفت في ما تقدّم : استحالة اندراج التّعارض بالمناقضة تحت كبرى المزاحمة ، فإذا لا وجه لما يتوهّم من اندراج هذه الصّورة تحت التّزاحم ، بدعوى : أنّ قيام الأمارة على وجوب القيام ، موجب لحدوث المصلحة فيه ، وكذا قيام الأمارة على وجوب الجلوس ، موجب لحدوث المصلحة فيه ، فيتزاحم الحكمان والخطابان لقدرة المكلّف على ترك كليهما بعد عجزه عن الإتيان بهما ، فإمّا يتخيّر أو يتعيّن عليه أحدهما.

تنبيه :

ينبغي التّنبيه هنا على أمرين :

الأوّل : أنّ ما قلنا : من عدم كون التّعارض بالتّضاد ، داخلا في باب التّزاحم بلا فرق بين الصّور الثّلاثة المتقدّمة ، إنّما يتمّ فيما إذا كان قيام الامارة ـ بناء على القول بالسّببيّة ـ موجبا لحدوث المصلحة في فعل المكلّف ، وأمّا إذا كان موجبا لحدوث المصلحة في البناء والالتزام القلبيّ بما تؤدّي إليه الأمارة من الأحكام ، فربّما يتوهّم كون التّعارض ـ على هذا ـ داخلا في التّزاحم مطلقا ، بلا فرق بين ما تقدّم من الصّور ، بأن يقال : إنّ قيام الأمارة على وجوب القيام ـ مثلا ـ يوجب حدوث المصلحة في الالتزام به ، وقيام أمارة اخرى على وجوب الجلوس كذلك ، فيتزاحم الالتزامان الواجبان في مقام الامتثال.

٣٦٥

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الأمر ، التزام بباطل في باطل ، لبطلان القول بوجوب الموافقة الالتزاميّة وعدم دليل على وجوبها لا عقلا ولا نقلا ، كبطلان القول بالسّببيّة.

وثانيا : أنّ هذا النّوع من التّعارض يرجع بمعونة الدّلالة الالتزاميّة إلى التّناقض الّذي يستحيل اندراجه تحت كبرى المزاحمة ، كما تقدّم بيانه آنفا.

وثالثا : أنّه لا تزاحم بين وجوبي الالتزام ؛ لإمكان الالتزام بكليهما.

وأمّا إذا كان قيام الأمارة موجبا لحدوث المصلحة في فعل المولى من إيجاب شيء أو تحريمه ، بأن يقال : إنّ قيام الأمارة على وجوب القيام ـ مثلا ـ يوجب حدوث المصلحة في إيجابه ، وقيام أمارة اخرى على وجوب الجلوس يوجب حدوثها في إيجابه ، فالتّزاحم متصوّر معقول ، لكنّه أجنبيّ عن محلّ الكلام ، لكونه تزاحما في افق الملاكات ، فأمره بيد المولى له أن يجعل الوجوب للقيام أو يجعل الوجوب للجلوس ، وكذا الكلام لو قامت أمارة على وجوب شيء وأمارة اخرى على حرمته ، وأمّا العبد فيعامل مع الأمارتين معاملة المتعارضين ويرجع إلى الاصول العمليّة ، ففي مورد قيام الأمارتين ـ مثلا ـ على وجوب شيء وحرمته ، يدور الأمر بين المحذورين ، وحيث لا علم له بما جعله المولى من الوجوب أو الحرمة يتخيّر بحكم العقل ، كما أنّ قيام أمارة على وجوب شيء واخرى على عدم وجوبه تجري البراءة وهكذا.

الثّاني : أنّ كون التّعارض بالتّضاد داخلا في التّزاحم ليس على جميع التقادير حتّى فيما إذا كانت الأمارة غير معتبرة ؛ وذلك ، لأنّ السّببيّة ـ على القول بها ـ تقتضي أنّ قيام ما هو الحجّة من الأمارة موجب لحدوث المصلحة ، لا مطلقا ولو لم تكن حجّة.

وقد تقدّم : أنّ دليل الحجّيّة لا يعمّ المتنافيين المتعارضين ، فإذا لا مجال لتوهّم

٣٦٦

رجوع التّعارض إلى التّزاحم رأسا وبالمرّة ، سواء كانت السّببيّة ، بمعنى : حدوث المصلحة بقيام الأمارة في فعل العبد (جارحيّا كان أو جانحيّا) أو بمعنى : حدوث المصلحة بقيام الأمارة في فعل المولى.

فتحصّل : أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوليّة ليس إلّا التّساقط حتّى بناء على القول بالسّببيّة في الطّرق والأمارات. هذا تمام الكلام في الموضع الثّاني.

(مقتضى الرّوايات في المتعارضين)

الموضع الثّالث : هل مقتضى الرّوايات في الخبرين المتعارضين هو التّخيير أو التّوقّف أو الأخذ بذي التّرجيح والمزيّة ، احتمالات ثلاثة ، منشأها اختلاف الأخبار ؛ إذ هي على طوائف :

الاولى : ما يدلّ على التّخيير ، كمكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزّمان عليه‌السلام : «أدام الله عزّك ، يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التّشهد الأوّل إلى الرّكعة الثّالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر ، فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التّكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد. الجواب : إنّ فيه حديثين ، أمّا أحدهما ، فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى ، فعليه التّكبير ، وأمّا الآخر ، فإنّه روى أنّه إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانية ، فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التّشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التّسليم كان صوابا». (١)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١٣ من أبواب السّجود ، الحديث ٨ ، ص ٩٦٧.

٣٦٧

وفيه : أوّلا : أنّ هذه المكاتبة أجنبيّة عن باب تعارض الأدلّة لوجهين : أحدهما : أنّ السّائل سأل عن حكم الواقعة ـ كما هو مقتضى الظّاهر ـ وأنّه هل هو التّكبير ، أم لا؟ لا عن تعارض الأدلّة والمناسب على هذا وإن كان بيان الحكم الواقعيّ والجواب ب «نعم» أو «لا» إلّا أنّ التّكبير لأجل استحبابه وورود الحديثين فيه ، أجاب عليه‌السلام بأنّ أيّهما أخذت كان صوابا ، فالتّخيير هنا تخيير في المسألة الفقهية وهو التّخيير في الواقعة المسئول عن حكمها ، لا تخيير في المسألة الاصوليّة ، وهو التّخيير عند تعارض الأدلّة بالأخذ بأحدها.

ثانيهما : أنّ التّعارض هو التّنافي بين الدّليلين وتكاذبهما الرّاجع إلى التّناقض أو التّضاد بحيث يكون أحدهما صوابا ، والآخر باطلا في الواقع ، ولا يمكن أن يكون كلاهما صوابا واقعا ، وإلّا لزم الجمع بين النّقيضين أو الضّدّين ، مع أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : كان صوابا ، أنّ الأخذ بأيّ من الحديثين صواب واقعا ، فيعلم أنّ المورد أجنبيّ عن باب تعارض الأدلّة.

وثانيا : أنّ مورد المكاتبة ، خارج عن محلّ النّزاع وداخل في موارد الجمع العرفيّ ، حيث إنّ النّسبة بين الحديثين هو العموم المطلق ومقتضاها هو التّخصيص والحكم بعدم استحباب التّخيير في خصوص مورد السّؤال ، إلّا أنّ الإمام عليه‌السلام حكم بالتّخيير وقال : وبأيّهما أخذت من باب التّسليم كان صوابا ، وليس ذلك إلّا لأجل كون التّكبير في مورد السّؤال وغيره ذكرا مندوبا يجوز فعله وتركه ، وعليه ، فيقتصر في هذا الحكم على المورد من دون التّعدّي إلى غيره.

وكرواية الحسن بن الجهم عن الرّضا عليه‌السلام قال : «قلت له : تجيئنا الأحاديث

٣٦٨

عنكم مختلفة ، فقال : ما جاء عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما ، فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما ، فليس منّا ، قلت : يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة ، بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحقّ ، قال : فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت». (١)

دلالة هذه الرّواية على التّخيير ممّا لا اشكال فيه ، إلّا أنّها مرسلة ، وفي انجبارها بعمل الأصحاب تأمّل.

وكرواية حارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فتردّ إليه». (٢)

والظّاهر أنّ هذه الرّواية لا نظر لها إلى حكم التّخيير والتّوسعة عند تعارض الأدلّة ، بل هي ناظرة إلى حجّيّة خبر الثّقة ، كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

وكرواية علي بن مهزيار ، قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السّفر ، فروى بعضهم : صلّها في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلّا على الأرض ، فوقّع عليه‌السلام موسّع عليك بأيّة عملت». (٣)

وفيه : أنّ الظّاهر سؤال السّائل عن حكم الواقعة لا عن تعارض الأدلّة ، سيّما مع ملاحظة ما في «الحدائق النّاظرة» (٤) من زيادة جملة : «فأعلمني كيف تصنع أنت

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠ ، ص ٨٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١ ، ص ٨٧ و ٨٨.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤ ، ص ٨٨.

(٤) راجع ، الرّسائل : ج ٢ ، ص ٤٥ و ٤٦.

٣٦٩

لأقتدي بك في ذلك» بعد قوله : «على الأرض» ، كما أنّ ظاهر الجواب ـ أيضا ـ هو أنّ الحكم الواقعيّ هو التّخيير في نافلة الفجر بين الإتيان بها في المحمل ، والإتيان بها على الأرض ؛ بداهة ، أنّ الواقع لو لم يكن كذلك لكان الأنسب بيان الحكم الواقعيّ لا الحكم بالتّخيير بين العمل بالحديثين ، فالعمل في قوله عليه‌السلام : بأيّة عملت ، هو العمل في المسألة الفقهيّة ، والمراد من قوله : بأيّة ، هو التّخيير فيها ، وذلك لكون الصّلاة المسئول عن حكمها مندوبة نافلة ، فمورد الرّواية من الامور المندوبة ، والمسألة فقهيّة لا اصوليّة ، وحمل الجواب على العمل والأخذ في المسألة الاصوليّة ومورد تعارض الأدلّة ، بعيد عن ظاهر الرّواية غاية البعد. وإلى غير ذلك من الرّوايات الأخر.

هذه هي الطّائفة الاولى الّتي قيل أو يمكن أن يقال : بدلالتها على التّخيير ، وقد عرفت ما فيها من قصور الدّلالة وضعف السّند.

وكيف كان ، فالظّاهر أنّه لا وجه لما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) من دعوى تواتر هذه الطّائفة ، ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام حيث قال : «ولا أدري كيف ادّعى الشّيخ الأنصاري قدس‌سره دلالة الأخبار المستفيضة بل المتواترة عليه». (٢)

الطّائفة الثّانية : ما يدلّ على التّوقّف عند التّعارض والاختلاف ، إلى أن يلقى الإمام أو يلقى خبيرا يخبره عن الواقع ، وهذه كثيرة : منها : رواية سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣٩.

(٢) الرّسائل : ج ٢ ، ص ٤٨.

٣٧٠

يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتّى يلقى من يخبره وهو في سعة حتّى يلقاه». (١)

هذا الحديث ، كما ترى ، يأمر بالوقوف والإرجاء على تقدير تساوي الخبرين في المرجّحات لا من الابتداء.

ومنها : مكاتبة محمّد بن علي بن عيسى : «كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آباءك وأجدادك ، قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه أو الرّد إليك في ما اختلف فيه ، فكتب عليه‌السلام ما علمتم أنّه قولنا فألزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا». (٢)

هذه الرّواية ، كما ترى ، يحتمل أن يكون المراد من الرّد إليهم عليهم‌السلام ترك العمل بالحديثين لا التّوقّف إلى زمن اللّقاء ، فتأمّل.

ومنها : سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت : «يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه ، قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله ، قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامّة». (٣)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥ ، ص ٧٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٦ ، ص ٨٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢ ، ص ٨٨.

٣٧١

ولا يخفى : أنّ هذه الرّواية إنّما تأمر بالوقوف وعدم العمل بواحد منهما من أوّل الأمر.

ومنها : رواية جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في حديث ، قال : «... إن اشتبه فقفوه عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا». (١)

قيل : إنّ مورد الحديث هو الخبر المتشابه لا تعارض الخبرين ، فتأمّل.

هذا ، ولكن يمكن الجمع بين هذه الطّائفة والطّائفة الاولى ، بحمل الثّانية على فرض التّمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام ، وحمل الاولى على فرض عدم التّمكن من لقاءه ولو في زمن الحضور ، كما أشار إلى هذا الجمع شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره. (٢)

والمراد بالتّمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام وعدمه ، هو النّوع العرفيّ منهما لا العقليّ ، فربّما يكون بعض الرّواة أو السّائلين متمكنا من اللقاء دون بعض ، كما أنّه ربّما يكون راو واحد متمكّنا منه في بعض الأحيان والأزمنة ، وغير متمكّن منه في أزمنة اخرى ، فكلتا الطّائفتين راجعتان إلى زمن الحضور.

غاية الأمر ، وردت الطّائفة الاولى فيمن لا يتمكّن من اللقاء عرفا ، والطّائفة الثّانية وردت فيمن يتمكّن منه عرفا ولو في يوم أو اسبوع أو شهر ، ولذا قال الرّاوي في رواية سماعة بن مهران بعد ما نهي عن العمل بالحديثين «قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامّة».

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧ ، ص ٨٦.

(٢) تقريرات بحوثه القيّمة بقلم الرّاقم.

٣٧٢

الطّائفة الثّالثة : ما يدلّ على التّرجيح وهي الّتي وردت بألسنة مختلفة :

منها : ما دلّ على التّرجيح بمخالفة العامّة أو مخالفة ما يميل إليه حكّامهم ، كرواية الحسن بن الجهم ، قال : «قلت للعبد الصّالح عليه‌السلام : هل يسعنا في ما ورد علينا منكم إلّا التّسليم لكم؟ فقال : لا والله ، لا يسعكم إلّا التّسليم لنا ، فقلت : فيروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه خلافه ، فبأيّهما نأخذ ، فقال : خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه». (١)

وكرواية محمّد بن عبد الله ، قال : «قلت للرّضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه». (٢)

ومنها : ما دلّ على التّرجيح بما وافق الكتاب ، كرواية عبد الرّحمن بن أبي عبد الله ، قال : «قال الصّادق عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ...». (٣)

وكرواية الميثمي عن الرّضا عليه‌السلام : «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين ، فأعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما ، فاتّبعوا

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١ ، ص ٨٥.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤ ، ص ٨٥ و ٨٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ، ص ٨٤.

٣٧٣

ما وافق الكتاب ، فما لم يكن في الكتاب ، فأعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...». (١)

ومنها : ما دلّ على التّرجيح بمخالفة العامّة وموافقة الكتاب والشّهرة وصفات الرّاوي والاحتياط ، كمقبولة عمرو بن حنظلة ، قال : «سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ، إلى أن قال : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا النّاظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم [حديثنا] فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، فلا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل [ليس يتفاضل] واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، إلى أن قال : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم ، قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنة وخالف العامّة ، فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسّنة ووافق العامّة ، قلت : جعلت فداك! إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسّنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرّشاد ، فقلت : جعلت فداك! فإن وافقهما الخبران جميعا ، قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر ، قلت : فإن وافق حكّامهم

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ص ٨٢.

٣٧٤

الخبرين جميعا ، قال : إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات». (١)

هذه الرّواية وإن كان صدرها راجعا إلى الحكمين وترجيح أحدهما على الآخر عند الاختلاف بالصّفات من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة ، فيقدّم حكم الحاكم الأعدل الأفقه الأصدق ، إلّا أنّ ظاهر ذيلها راجع إلى الرّوايتين المختلفتين ، حيث إنّه بعد ما فرض السّائل تساوي الحاكمين في الصّفات وأنّ اختلافهما في حكمهما ليس وجهه إلّا اختلافهما في مدركهما وهو الحديث ، أحاله الإمام عليه‌السلام إلى النّظر إلى مستند الحكمين من الحديثين ، فقال عليه‌السلام : بترجيح المجمع عليه منهما والأخذ به وترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور.

وكمرفوعة زرارة ، قال : «سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ ، قال : يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النّادر ، فقلت يا سيّدي! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال : خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة ، فاتركه وخذ بما خالفهم ، فقلت : ربما كان معا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع ، فقال : إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط ، فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما وتأخذ به وتدع الآخر». (٢)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، ص ٧٥ و ٧٦.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، الباب ٩ من صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ص ٣٠٣.

٣٧٥

هذا تمام الكلام في مقتضى الرّوايات ، وقد عرفت أنّ فيها احتمالات ثلاث.

واختار المحقّق الخراساني قدس‌سره تقديم الاحتمال الأوّل وهو التّخيير على الآخرين من التّوقّف والتّرجيح ، ولذا حمل قدس‌سره الطّائفة الثّالثة وهي أخبار التّرجيح على خلاف ظاهرها من كونها في مقام تخيير الحجّة عن اللّاحجّة ، أو استحباب ترجيح حجّة ذات مزيّة على حجّة فاقدة لها ، مستدلّا لذلك بوجوه ، عمدتها هو أنّ تلك الأخبار لو حملت على وجوب التّرجيح لزم تخصيصها بغير الرّواية المشهورة.

تقريب ذلك : أنّ موافقة الكتاب أو مخالفة العامّة لو كانتا من المزايا المرجّحة ، لزم تقديم الخبر المشهور وإن كان مخالفا للكتاب ، على الخبر الشّاذ النّادر وإن كان موافقا له ، حيث إنّ التّرجيح بالشّهرة متقدّم على التّرجيح بهما حسب مفاد المقبولة ، وعليه ، فيلزم خروج الخبر المشهور عن مثل قوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» ، وتخصيص هذا الكلام بغير مورد الخبر المشهور مع أنّه آب عن التّخصيص قطعا وبلا شبهة ، فلا مناص إذا من حمل تلك الرّوايات على تمييز الحجّة عن اللّاحجّة ، أو على استحباب التّرجيح. (١)

ولا يخفى : أنّ مقتضى التّحقيق في المسألة هو التّخيير ؛ إذ الرّوايات الدّالّة على التّوقف محمولة على صورة التّمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام دون غيره ، وأمّا روايات التّرجيح فما ادّعاه المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّها محمولة على تمييز الحجّة عن اللّاحجّة هو الصّحيح. نعم ، لا مجال لما ادّعاه قدس‌سره من حملها على استحباب التّرجيح ؛ إذ لا يناسب هذا الحمل مع قوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» حيث إنّ معنى ذلك هو

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٩١ إلى ٣٩٦.

٣٧٦

وجوب أخذ ما يوافق قولنا ووجوب ترك ما يخالفه.

والوجه في ما اخترناه يظهر من ملاحظة كلّ واحد واحد من المرجّحات المذكورة في الرّوايات.

(التّرجيح بصفات الرّاوي)

فنقول : أمّا التّرجيح بصفات الرّاوي ، فعمدة الأخبار الدّالّة عليه هي مقبولة عمر بن الحنظلة وهي مخدوشة سندا ودلالة.

أمّا السّند ، فلعدم ورود التّوثيق لعمر بن الحنظلة في كتب الرّجال ، نعم ، وردت في باب الوقت رواية دالة على توثيق الإمام عليه‌السلام له وهي رواية عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن يزيد بن خليفة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ عمر بن الحنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال عليه‌السلام : إذا لا يكذب علينا» (١) ، لكن هذه الرّواية ضعيفة السّند ، لا يمكن إثبات وثاقته بها ، إلّا أنّ الأصحاب قد تلقّوها (المقبولة) بالقبول واستندوا إليها وعملوا بها قديما وحديثا ، ولذا أفتوا بمضمون هذه الجملة : «وما يحكم له فإنّما يأخذوه سحتا وإن كان حقّه ثابتا» الّتي وردت في خصوص هذه الرّواية ولم ترد في روايات اخرى من أخبار القضاء.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «وهو [عمر بن الحنظلة] وإن لم يوثّقه الأصحاب ، لكن خصوص هذه الرّواية متلقاة بالقبول ، بل تدور رحى باب القضاء مدارها». (٢)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٥ من أبواب المواقيت ، الحديث ٦ ، ص ٩٧.

(٢) تنقيح الاصول : ج ٤ ، ص ٥٥٤.

٣٧٧

وأمّا الدّلالة ، فلأنّ الظّاهر عدم ارتباط مفاد المقبولة بباب تعارض الأخبار والأدلّة وترجيح خبر وحجّة على خبر وحجّة اخرى ، بل وردت بأسرها ـ صدرا وذيلا ـ في موارد المنازعة وفصل الخصومة.

تقريب ذلك : ـ على ما قوّاه الإمام الرّاحل قدس‌سره ـ أنّ قول السّائل : «بينهما منازعة في دين أو ميراث» إنّما يكون من باب المثال لا الانحصار ، والغرض هو السّؤال عن جواز الرّجوع في المخاصمات والمنازعات إلى سلاطين الجور والقضاة ، فأجاب عليه‌السلام : بأنّ التّحاكم إليهم ولو في حقّ تحاكم إلى الطّاغوت ، وأنّ ما يحكم له فإنّما يأخذوه سحتا ، لأنّه أخذه بحكم الطّاغوت ، ثمّ بعد هذا الجواب سأل عن التّكليف والوظيفة في موارد المنازعة والمخاصمة ، فأجاب عليه‌السلام بقوله : ينظران إلى من كان منكم.

ولا ريب : أنّ هذه الجمل المتعاقبة المتتالية من قوله عليه‌السلام : ينظران إلى قوله عليه‌السلام : «والرّاد علينا ، الرّاد على الله» ، ظاهرة في القضاء والحكم الفاصل للخصومة ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» ؛ وقوله عليه‌السلام : «الحكم ما حكم أعدلهما وأفقههما وأورعهما» ظاهران ـ أيضا ـ في كون التّرجيح راجعا إلى باب الحكم والقضاء ، لا الرّواية أو الرّاوي والفتوى. وتشهد لذلك روايتان :

إحداهما : ما رواه الصّدوق قدس‌سره بإسناده عن داود بن الحصين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجلين اتّفقا على عدلين ، جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضى الحكم ، قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر». (١)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ ، ص ٨٠.

٣٧٨

هذه الرّواية يحتمل كونها قطعة من المقبولة ، لا رواية مستقلّة.

ثانيتهما : ما رواه الشّيخ بإسناده عن موسى بن أكيل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل عن رجل ، يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما ، فاختلفا في ما حكما ، قال : وكيف يختلفان ، قال : حكم كلّ واحد منهما للّذي اختاره الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضى حكمه». (١)

فهاتان الرّوايتان تدلّان على نفوذ حكم الحاكم الأعدل الأفقه ، ومضمونهما عين مضمون المقبولة وحيث إنّه لم يستدلّ بهما أحد على التّرجيح في باب تعارض الأحاديث والأدلّة ، وليس هذا إلّا لعدم ارتباطهما بهذا الباب ، بل مرتبطتان بباب المحاكمة وفصل الخصومة ، يعرف أنّ المقبولة حالها ، حالهما بلا شبهة. هذه تمام الكلام في التّرجيح بصفات الرّاوي.

(التّرجيح بالمجمع عليه)

وأمّا التّرجيح بالمجمع عليه ، ـ كما ورد في المقبولة ـ فمضافا إلى كونه واردا في باب القضاء ، معناه : هو الخبر المشهور لا المجمع عليه الاصطلاحيّ وهو الإجماع ؛ وذلك ، لأنّه قوبل فيها بينه وبين الشّاذ الّذي ليس بمشهور ، حيث قال عليه‌السلام : ويترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور ، كما قوبل في المرفوعة بين المشهور والشّاذ النّادر ، حيث

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥ ، ص ٨٨.

٣٧٩

قال عليه‌السلام : يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النّادر ، والمراد من الشّهرة ـ أيضا ـ هي الشّهرة الرّوائيّة لا العمليّة الاستناديّة ولا الفتوائيّة.

وعليه : فحيث إنّ الشهرة ـ كما سيأتي ـ بمعنى الوضوح حسب اللّغة ، علم أنّ المجمع عليه ليس من المرجّحات ، بل يكون من المميّزات ، بمعنى : كون الخبر المجمع عليه حجّة ، والخبر الشّاذ النّادر غير حجّة.

توضيح ذلك : أنّ المراد من المجمع عليه هو الخبر الّذي أجمع الأصحاب على صدوره منهم عليهم‌السلام ولذا قال عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» وقال عليه‌السلام تاكيدا : «وإنّ الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله» فالخبر المجمع عليه أمر بيّن رشده فيكون حجّة ، فالشّاذ النّادر وهو غير المجمع عليه المعارض له يكون لا حجّة ، فيجب اتّباع الحجّة دون غيره ، لما ورد من أنّ الخبر المخالف للكتاب والسّنّة يجب طرحه ، ومن المعلوم ، أنّ المراد من السّنّة هو الخبر المقطوع الصّدور ، لا خصوص الحديث النّبوي.

(التّرجيح بالشّهرة)

وأمّا التّرجيح بالشّهرة ، ـ كما ورد في المرفوعة وغيرها ـ فمعناه ـ حسب اللّغة ـ الوضوح والجلاء ، ومنه يقال : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر ، فالخبر المشهور هو الواضح الصّدور فيكون حجّة ، والخبر المقابل للمشهور المعارض له وهو الشّاذ النّادر يكون لا حجّة ساقطا عن الحجّيّة. وعليه ، فالشّهرة إنّما هو لأجل تمييز الحجّة عن اللّاحجّة.

٣٨٠