مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

(بالفتح) فيندفع الإشكال ، إذ لا مانع من أن يبرز حكمان طوليّان بإنشاء فارد وجعل واحد بأن يعتبر الحكم الواقعي لموضوعه أوّلا ، ثمّ يفرض الشّكّ فيه فيعتبر الحكم الظّاهريّ ثانيا ، وبعد هذين الاعتبارين يبرز كليهما بلفظ واحد. (١)

وفيه : أنّه يمكن دفع الإشكال على مبنى الإيجاد في الإنشاء ـ أيضا ـ بأنّ المحذور إنّما هو جمع أمرين طوليّين في مرتبة واحدة ، بمعنى : أنّه لا يمكن جعل أمرين مختلفين في الرّتبة ، متّحدين فيها ، وإلّا لزم أن يصير أمران طوليّان ، عرضيّين ، وينقلب شيئان عمّا هما عليه.

وأمّا جعل أمرين طوليّين وإيجادهما في زمان واحد مع انحفاظ رتبتهما ، فلا محذور فيه تشريعا ، كما لا محذور فيه تكوينا ، ألا ترى ، أنّ المفتاح يتحرّك بتحريك اليد في زمان واحد ، فحركة اليد والمفتاح طوليّتان بينهما تقدّم وتأخّر رتبيّ ، لا تجتمعان في الرّتبة ، لكن تنشئان وتوجدان تكوينا في زمان واحد بإنشاء فارد وجعل واحد.

نعم ، هذا يتمّ بالنّسبة إلى مقام الثّبوت ، وأمّا بالنّسبة إلى مقام الإثبات ، فلا بدّ من إقامة قرينة على هذا الأمر.

الوجه الثّاني : ما هو راجع إلى مقام الثّبوت ـ أيضا ـ ، حاصله : أنّه لا يمكن إرادة الحكم الواقعيّ والظّاهريّ معا ، لأجل ما في ذيل الرّوايات من الغاية وهو قوله عليه‌السلام : «حتّى تعلم ...» بتقريب : أنّ الحكم وهو قوله عليه‌السلام : «نظيف» و «طاهر» فيه احتمالان : أحدهما : أن يكون واقعيّا ؛ ثانيهما : أن يكون ظاهريّا ، فعلى الأوّل : يراد

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٧١.

١٦١

بالعلم المأخوذ في الغاية هو الطّريقيّ المحض بلا دخل له في الحكم ؛ وذلك ، لأنّ الحكم الواقعيّ مشترك بين العالم والجاهل ، فلا يعقل كونه مغيّا بغاية العلم حتّى يرتفع به وينقطع أمده بارتفاع الجهل وتحقّق العلم.

وإن شئت ، فقل : إنّ الحكم الواقعيّ لا يدور مدار الجهل والعلم ، وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، بمعنى : أنّه ليس للعلم دخل في حدوث الحكم ولا بقاءه ، ولا في وجوده وعدمه ، بل العلم إنّما هو إرادة الواقع وكشفه والحكاية عنه ، فهو طريق محض.

نعم ، الحكم الواقعيّ الكلّي غايته النّسخ ، كما أنّ الحكم الواقعيّ الجزئيّ غايته تغيّر الموضوع وتبدّل الحالات ، كصيرورة الماء الطّاهر نجسا ، أو انقلابه ، كصيرورة الخمر خلّا ، أو استحالته ، كصيرورة الكلب ملحا.

وعلى الثّاني : (احتمال كون الحكم ظاهريّا) يراد بالعلم المأخوذ في الغاية هو الموضوعيّ ؛ إذ موضوع الحكم الظّاهريّ هو الشّكّ ، والعلم غاية للشّكّ بحيث يرتفع الشّكّ وينتهي أمده بالعلم ، فقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» معناه : كلّ شيء ما لم تعلم أنّه قذر ، أو حتّى تعلم أنّه قذر ، نظيف ، ما دام مشكوكا كونه قذرا وإلى أن يرتفع الشّكّ ويعلم قذارته.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو عدم إمكان إرادة الطّهارتين أو الحلّيّتين وهما الواقعيّة والظّاهريّة من الرّوايات ، وإلّا لزم اجتماع الطّريقيّة والموضوعيّة (الآليّة والاستقلاليّة) في العلم ، وهذا مستحيل.

وفيه : أنّ الطّريقيّ الملحوظ آليّا ، إنّما هو العلم الحاصل للمكلّف (بالفتح) ، و

١٦٢

كذا ما جعل غاية للشّكّ ، إنّما هو علمه ، وأمّا المكلّف (بالكسر) الجاعل المقنّن فإنّما يلحظ طبيعيّ العلم ، لحاظا استقلاليّا ، فيأخذه في لسان الدّليل ويقول ـ مثلا ـ : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» فإذا علم المكلّف وتحقّق في نفسه العلم بالقذارة ، يكون هذا العلم طريقا بالنّسبة إلى الطّهارة الواقعيّة ، وغاية بالنّسبة إلى الطّهارة الظّاهريّة.

وبعبارة اخرى : اللّاحظ في موقف الجعل والإنشاء ، إنّما هو المكلّف (بالكسر) المقنّن ، ومن المعلوم ، أنّه إنّما يلحظ طبيعيّ العلم استقلاليّا ، كما يلحظ طبيعيّ الطّهارة والقذارة ، كذلك ، فيجعله في متن الخطاب ، إلّا أنّ المكلّف (بالفتح) الممتثل تارة يعلم الطّهارة الواقعيّة فيكون علمه بالقذارة طريقيّا ، واخرى يعلم الطّهارة الظّاهريّة ، فيكون علمه بالقذارة غاية وموضوعا.

وعليه : فلا يلزم اجتماع الطّريقيّة والموضوعيّة (الآليّة والاستقلاليّة) في العلم الّذي جعل غاية في ذيل الرّوايات المتقدّمة.

هذا ، ولكن أجاب بعض الأعاظم قدس‌سره عن الوجه الثّاني من الإشكال بنحو آخر ، فقال : ما حاصله : إنّ العلم في ذيل الرّوايات يكون غاية للحكم بالبقاء والاستمرار ، فيدلّ على استصحاب الحكم السّابق ، واقعيّا كان ، أو ظاهريّا ، فبقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف ...» تمّت إفادة الحكمين لما اشير إليه من شمول كلمة : «شيء» لمعلوم العنوان ومشكوكه ، وقوله عليه‌السلام : «حتّى تعلم ...» إشارة إلى الحكم ببقاء الحكم مطلقا ، واستصحابه إلى زمن العلم بالنّجاسة ، فلا يكون العلم غاية للحكم الواقعيّ ولا للظّاهري حتّى يلزم محذور اجتماع الطّريقيّة والموضوعيّة ، بل يكون

١٦٣

موضوعيّا وغاية للاستصحاب ، لارتفاع الشّكّ بالعلم ، ومن المعلوم ، أنّه مع ارتفاع الشّكّ لا يبقى موضوع للاستصحاب. (١)

وفيه : أنّه قد تقدّم في تقرير الإشكال الثّاني ، أنّ الحكم الواقعيّ لا يكون مغيّا بغاية العلم ، ولا يدور مدار العلم والجهل وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، بل يبقى ويستمرّ ما لم ينسخ ، أو يتبدّل موضوعه ، أو يتغيّر ، فلا معنى لجعل العلم غاية للحكم الواقعيّ ، وإشارة إلى الحكم ببقائه واستمراره.

الوجه الثّالث : ما هو راجع إلى مقام الإثبات ، محصّله : أنّ ظاهر صدر الرّوايات وهو قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف» أو «حلال» مع قطع النّظر عن الغاية يعطي أن يكون المحمول فيه حكما واقعيّا ، فيكون مساقه مساق الأدلّة المتكفّلة لبيان الأحكام الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة ، ولكنّ الغاية المذكورة في الذّيل ، توجب هدم ظهور الصّدر في ذلك ، فإنّ الحكم الواقعيّ لا يكون مغيّا بالعلم بالخلاف ، بل غاية الحكم الواقعيّ إنّما هي انتهاء زمانه بحسب الجعل الشّرعيّ ، كالغروب الّذي اخذ غاية لوجوب الصّوم والصّلاة ، أو تبدّل موضوعه وانقلابه عمّا كان عليه ، كغليان العصير الموجب لارتفاع الحلّيّة ، وأمّا العلم بضدّ الحكم أو الموضوع ، فليس غاية للحكم الواقعيّ. (٢)

هذا الإشكال ، كما ترى ، إثباتيّ ، راجع إلى مقام الاستظهار والدّلالة ، ولقد أجاد قدس‌سره فيما أفاده في تقريره.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٧٢.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣٦٨ و ٣٦٩ و ٣٧٠.

١٦٤

وبالجملة : أنّ ما اختاره صاحب الفصول قدس‌سره والمحقّق الخراساني قدس‌سره في مفاد الرّوايات تكلّف ، لا يساعده ظهور الرّوايات صدرا وذيلا ، بل المنساق المتبادر منها هو بيان الحكم الظّاهريّ فقط والنّظر إلى قاعدتي الطّهارة والحلّيّة ، كما أنّ المنساق المتبادر من قوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر هو الطّهارة الظّاهريّة بملاحظة الشّكّ ، لا الاستصحاب والحكم ببقاء الطّهارة السّابقة إلى زمن العلم بالنّجاسة ، خلافا للشّيخ الأنصاري قدس‌سره حيث قال : بأنّ الرّواية تفيد الاستصحاب بتقريب ، أنّ طهارة الماء معلومة بحسب أصل الخلقة ، لا تكون الرّواية بصدد بيانها ، فالمراد منها هو الاستصحاب والحكم بالبقاء والاستمرار. (١)

وإن شئت ، فقل : إنّ الحكم بطهارة الماء في الرّواية لا يكون مستندا إلى اليقين بطهارته السّابقة حتّى يكون استصحابا ، بل هذه الحكم ، إنّما هو لأجل الشّكّ فقط ، فيكون ظاهريّا.

بقي هنا شيء ، وهو أنّ مقتضى أدلّة حجّيّة الاستصحاب وهي الصّحاح الثّلاث المتقدّمة الّتي هي العمدة في المقام ، هو حجّيّته مطلقا بلا اختصاص بباب دون باب ، ولكن لبعض الأصحاب تفاصيل في الباب ، لا حاجة بنا إلى نقل جميعها ونقدها ، بل نكتفي على نقل ثلاثة منها ونقدها.

الأوّل : ما اختاره المحقّق قدس‌سره (٢) من التّفصيل بين الشّكّ في المقتضي وبين الشّكّ في الرّافع بالالتزام بحجّيّة الاستصحاب في الشّكّ في الرّافع دون الشّكّ في المقتضي ،

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٧٧.

(٢) راجع ، معارج الاصول : ص ٢٠٩ و ٢١٠.

١٦٥

واختار ذلك ـ أيضا ـ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره. (١)

الثّاني : ما اختاره المحقّق السّبزواري قدس‌سره (٢) من التّفصيل في مورد الشّكّ في الرّافع بين الشّكّ في وجود الرّافع ، فالاستصحاب حجّة ، وبين الشّكّ في رافعيّة الموجود ، فليس بحجّة.

الثّالث : ما اختاره الفاضل التّوني قدس‌سره (٣) من التّفصيل بين الحكم التّكليفيّ ، فالاستصحاب فيه حجّة ، وبين الحكم الوضعيّ ، فليس بحجّة.

(الشّكّ في المقتضي والرّافع)

أمّا التّفصيل الأوّل ، فالبحث فيه يقع في مقامين :

أحدهما : في تعيين المراد من الشّكّ في المقتضي والرّافع.

ثانيهما : في نقل الدّليل عليه ونقده.

أمّا المقام الأوّل : فقد عيّن الشّيخ قدس‌سره المراد منه بأتمّ بيان وأوضح كلام ، فقال : «إنّ الشّكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به الشّكّ من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشّكّ في بقاء اللّيل والنّهار ، وخيار الغبن بعد الزّمان الأوّل ، وقد يكون من جهة طروّ الرّافع مع القطع باستعداده للبقاء ، وهذا على أقسام ...» (٤).

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٥١.

(٢) راجع ، ذخيرة المعاد : ص ١١٥ و ١١٦.

(٣) راجع ، الوافية ، ص ٢٠٠ و ٢٠٣.

(٤) فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤٦.

١٦٦

حاصل كلامه قدس‌سره هو أنّ معنى كون الشّيء ذا اقتضاء ، كونه ذا استعداد وقابليّة للاستمرار ، فيبقى ويدوم ما لم يرفعه رافع ، فالشّكّ في بقاء مثل هذا الشّيء لأجل احتمال طروّ الرّافع ، شكّ في الرّافع ، والشّكّ في بقاء شيء لأجل الشّكّ في مقدار قابليّته واستعداده للبقاء في عمود الزّمان ، لا لأجل احتمال طروّ الرّافع ، شكّ في المقتضي.

ويظهر من هذا البيان أنّه لا مجال لبعض احتمالات في المقام :

منها : أن يكون المراد من المقتضي هو السّبب قبال الشّرط والمانع ، كما هو المصطلح عند الحكماء.

ومنها : أن يكون المراد منه هو الموضوع ، كما هو المصطلح عند الفقهاء ، حيث عبّروا عن المقتضي بالموضوع ، وعن القيد المعتبر وجوده في الموضوع ، بالشّرط في باب التّكليف ، وبالسّبب في باب الوضع ، كما عبّروا عن القيد المعتبر عدمه في الموضوع ، بالمانع.

ومنها : أن يكون المراد من المقتضي هو ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد.

وأمّا المقام الثّاني : فقد استدلّ الشّيخ قدس‌سره على هذا التّفصيل بجملة : «لا تنقض اليقين» ونحوها ـ الواقعة في روايات الاستصحاب من الصّحاح الثّلاث وغيرها ـ من جهتين :

الاولى : من جهة المادّة.

الثّانية : من جهة الهيئة.

أمّا الاولى : فحاصل كلامه قدس‌سره هو أنّ «النّقض» قد يطلق ويراد به المعنى الحقيقيّ وهو رفع الهيئة الاتّصاليّة وإزالتها ، كما في نقض الحبل ، فيقال : «نقضت الحبل

١٦٧

أو نقض الحبل» وكما في نقض الغزل ، فقال الله عزوجل : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(١) ، وقد يطلق ويراد به المعنى المجازيّ وهو على قسمين : أحدهما : ما هو أقرب إلى المعنى الحقيقيّ وهو رفع الأمر الثّابت الّذي فيه اقتضاء الاستمرار واستعداد البقاء ، بحيث يبقى ويدوم لو خلّي ونفسه ولم يطرأ رافع له ؛ ثانيهما : ما هو أبعد من المعنى الحقيقيّ وهو رفع الأمر الثّابت مطلقا وإن لم يكن فيه استعداد البقاء ، وحيث إنّ المفروض عدم استعمال النّقض في الرّوايات في معناه : الحقيقيّ ، لعدم تعلّقه بمثل الحبل والغزل الّذي يكون ذا هيئة اتّصاليّة قابلة للنّقض والهدم ، بل تعلّق باليقين والعلم الّذي يكون أمرا بسيطا ، فلا بدّ من حمله على القسم الأوّل من المعنى المجازيّ وهو الأقرب إلى المعنى الحقيقيّ ، لأجل ما اشتهر من القاعدة الأدبيّة وهو إذا تعذّرت الحقيقة ، فأقرب المجازات أولى.

أمّا الجهة الثّانية : فحاصل كلامه قدس‌سره هو أنّه لا مجال للنّهي عن نقض اليقين بالشّكّ حقيقة ؛ لانتقاضه به قهرا وبلا اختيار ، فلا بدّ من أن يراد باليقين هو المتيقّن ، وقد عرفت آنفا : أنّ المتيقّن ، تارة يكون فيه اقتضاء الاستمرار واستعداد البقاء ، بحيث لو خلّي ونفسه يستمرّ ويبقى ، وهذا أقرب إلى مفهوم النّقض الحقيقيّ ؛ واخرى لا يكون كذلك ، فكلمة : «لا تنقض اليقين» تدلّ مادّته وهيئته على حجّيّة الاستصحاب إذا كان الشّكّ في البقاء من ناحية الشّكّ في الرّافع ، لا من ناحية الشّكّ في مقدار الاستعداد والاقتضاء.

هذا ، ولكن لا يخفى ضعف كلتا الجهتين. أمّا الجهة الاولى ، فلأنّ مادّة النّقض

__________________

(١) سورة النّحل (١٦) ، الآية ٩٢.

١٦٨

ليس معناها هو رفع الهيئة الاتّصاليّة ، بل هو عبارة عن الحلّ والهدم ، غاية الأمر ، لا بدّ أن يكون المنقوض أمرا مبرما مستحكما ، سواء كان حسيّا ، ماديّا ، كالحبل والغزل ونحوهما ممّا يكون ذا هيئة اتّصاليّة ، أو مجرّدا نفسيّا ، كاليمين أو العهد أو اليقين أو نحوها ، والشّاهد على كون النّقض هو الهدم والحلّ ، ولو كان المنقوض نفسيّا ، قوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)(١) وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)(٢) ، وقوله جلّ جلاله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ)(٣).

وعليه : فلكون اليقين أمرا مبرما مستحكما ، يصحّ ويحسن إسناد النّقض إليه بلا حاجة إلى ارتكاب تجوّز وتأويل.

وأمّا الجهة الثّانية ، فلأنّ هيئة «لا تنقض» ليس المراد منها هو النّهي عن نقض نفس اليقين ؛ إذ اليقين ينتقض بطروّ الشّكّ قهرا ، فلا يكون نقضه وعدم نقضه تحت اختيار المكلّف ، حتّى يتعلّق به النّهى ، بل المراد منها هو النّهي عن نقضه بحسب ما له من الآثار ، فمعنى : لا تنقض اليقين ، راجع إلى قولنا : عامل حال الشّكّ في البقاء ، معاملة اليقين ، ورتّب آثاره ، واجر على وفقه ، وهذا أمر مقدور اختياريّ ، كما لا يخفى.

وبعبارة أوفى : ليس المراد من النّهي هو النّهي عن النّقض حقيقة ، لكونه

__________________

(١) سورة النّحل (١٦) : الآية ٩١.

(٢) سورة الرّعد (١٣) : الآية ٢٥.

(٣) سورة النّساء (٤) : الآية ١٥٥.

١٦٩

خارجا عن الاختيار ـ حتّى في فرض تعلّق النّقض بالمتيقّن ـ بل المراد هو النّهي بحسب البناء والجري العمليّ ، فإذا لا ملزم لحمل اليقين على المتيقّن وإرادة المعنى المجازيّ الّذي هو أقرب إلى مفهوم النّقض ، منه وهو الشّيء الّذي يكون فيه استعداد للاستمرار واقتضاء للبقاء. هذا تمام الكلام في التفصيل الأوّل (جريان الاستصحاب عند الشّكّ في الرّافع ، وعدمه عند الشّكّ في المقتضي).

(الشّكّ في وجود الرّافع)

وأمّا التّفصيل الثّاني (جريان الاستصحاب عند الشّكّ في وجود الرّافع ، وعدمه عند الشّكّ في رافعيّة الموجود) ، فتقريبه : أنّه إذا كان الشّكّ في أصل وجود الرّافع ، كان رفع اليد عن اليقين السّابق المتعلّق بحدوث الشّيء ، نقضا لليقين بالشّكّ وهو غير جائز بمقتضى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» في أدلّة الاستصحاب ؛ وأمّا إذا كان الشّكّ في رافعيّة ما هو موجود قطعا ، فرفع اليد عن اليقين السّابق كان نقضا لليقين باليقين بوجود محتمل الرّافعيّة ، لا نقض له بالشّكّ ، ولا فرق فيه بين أن تكون الشّبهة موضوعيّة ، كالشّكّ في البلل الخارج بعد تحصيل الطّهارة ، بأنّه هل هو بول ، أو مذي؟ وبين أن تكون الشّبهة حكميّة ، كالشّكّ في ناقضيّة الرّعاف ، أو الخفقة ، أو الخفقتين ، فرفع اليد عن اليقين بالطّهارة في المثالين إنّما هو لأجل اليقين بوجود ما يحتمل رافعيّته وناقضيّته ، لا لمجرّد الشّكّ في رافعيّة الموجود وناقضيّته ولو لم يكن هناك يقين بوجوده.

وفيه : أنّ نقض اليقين باليقين إنّما هو يصدق إذا تعلّق اليقين الثّاني بارتفاع

١٧٠

متعلّق اليقين الأوّل ، كما إذا تيقّن بارتفاع الطّهارة ، أو العدالة المتيقّنة ، أو تيقّن بوجود ما هو يرفعهما قطعا ، وأمّا اليقين بوجود شيء يحتمل كونه رافعا ويشكّ في رافعيّته لشيء ، فليس ناقضا لليقين المتعلّق بذلك الشّيء ؛ إذ اليقين المفروض ليس يقينا بارتفاعه أو بوجود ما يرفعه قطعا حتّى ينافي اليقين به ويناقضه ، بل يكون يقينا بمجرّد وجود شيء وشكّا في رافعيّته ، فلو رفعت اليد عن اليقين الأوّل في الفرض كان رفع اليد عن اليقين بالشّكّ ونقضا له به ، لا رفع اليد عن اليقين باليقين ونقضا له به.

والحاصل : ليس الشّكّ في رافعيّة الموجود إلّا شكّا في وجود الرّافع بما هو رافع وإن كان يقينا بأصل وجوده ، فيصير مجرى للاستصحاب.

(الشّكّ في الحكم التّكليفي والوضعيّ)

وأمّا التّفصيل الثّالث (جريان الاستصحاب عند الشّكّ في الحكم التّكليفيّ وعدمه عند الشّكّ في الحكم الوضعيّ) : فالتّحقيق فيه يستدعي بيان كيفيّة جعل الحكم الوضعيّ من أنّه هل يكون مجعولا مستقلّا مطلقا ، أو يكون منتزعا من الحكم التّكليفيّ ومجعولا بتبعه مطلقا ، أو يفصّل بين بعض فيكون مجعولا مستقلّا ، وبعض آخر فيكون منتزعا ، وجوه : والأخير هو الصّحيح.

توضيح ذلك : أنّ الحكم الوضعيّ ـ كما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ـ على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما لا يتطرّق إليه الجعل التّشريعيّ أصلا ولو تبعا وإن كان مجعولا

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠٢ و ٣٠٣.

١٧١

ـ عرضا وتبعا ـ بنفس جعل موضوعه تكوينا ، وهذا كالسّببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرّافعيّة لما هو سبب التّكليف وشرطه ومانعة ورافعه.

الثّاني : ما لا يتطرّق إليه الجعل التّشريعيّ ، إلّا تبعا للتّكليف فيكون منتزعا منه ، وهذا كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعة وقاطعه.

الثّالث : ما يمكن أن يكون مجعولا مستقلّا ، كالملكيّة والزّوجيّة ، كما يمكن أن يكون مجعولا تبعا للتّكليف بكونه منشأ لانتزاعه.

ولا يخفى : أنّ القسم الأوّل من الحكم الوضعيّ ، كالشّرطيّة والمانعيّة ... للتّكليف ، منجعل بجعل التّكليف ، حيث إنّ التّكليف كالوجوب ـ مثلا ـ تارة يكون مجعولا بلا اعتبار قيد وجوديّ أو عدميّ في موضوعه ، فيكون مطلقا ؛ واخرى يكون مجعولا إمّا مع اعتبار وجود قيد في موضوعه بحيث يصير هذا القيد شرطا له ، كالبلوغ أو العقل في وجوب الصّلاة ـ مثلا ـ وكالاستطاعة في وجوب الحجّ ، وإمّا مع اعتبار عدمه في موضوعه ، بحيث يصير هذا القيد مانعا عنه ، كالجنون المانع عن الوجوب ، فالشّرطيّة أو المانعيّة حينئذ مجعول بتبع التّكليف.

ومن هنا ظهر : أنّ ما هو عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من عدم تطرّق الجعل إليهما ، إنّما يصحّ بالنّسبة إلى أسباب الجعل والتّقنين وشروطه ومباديه ، كأسباب الإيجاب والتّحريم وشروطهما ومباديهما ، لا بالنّسبة إلى أسباب المجعول والقانون ، وشروطه وموانعه كأسباب الوجوب والحرمة وشروطهما وموانعهما.

توضيح المقام : أنّ أسباب الجعل (الإيجاب أو التّحريم) ومباديه القريبة

١٧٢

والبعيدة ، كالمصلحة أو المفسدة الكامنة ، والحسن أو القبح ، والحبّ أو البغض ، والشّوق والميل ، والإرادة أو الكراهة وغيرها وإن كانت امورا واقعيّة تكوينيّة لا يتطرّق إليها الجعل التّشريعيّ رأسا ، لكنّها خارجة عن محلّ الكلام بلا شبهة ؛ إذ الكلام إنّما هو في الشّرطيّة والمانعيّة ونحوهما بالنّسبة إلى نفس التّكليف المجعول ، كالوجوب والحرمة.

وقد أشرنا إلى كونهما منجعلين لما هو شرط للتّكليف أو مانع منه بنفس جعله وبتبع إنشاءه وتقنينه ، فنفس التّكليف مجعول بالأصالة ، وأمّا هذه الامور فمجعولة بالعرض والتّبع.

فتحصّل : أنّ القسم الأوّل من الحكم الوضعيّ منتزع مجعول بتبع التّكليف.

وأمّا القسم الثّاني من الحكم الوضعيّ ، كالشّرطيّة أو المانعيّة بالنّسبة إلى المكلّف به ، بمعنى : شرطيّة شرط الواجب أو الحرام ، أو مانعيّة المانع من الواجب أو الحرام ، فهو ـ أيضا ـ منتزع مجعول بتبع التّكليف ، بلا فرق بينه وبين القسم الأوّل من هذه الجهة ، وإنّما الفرق بينهما هو أنّ الشّرطيّة أو المانعيّة في القسم الأوّل منتزع من اعتبار وجود شيء أو عدمه في موضوع التّكليف وهو شخص المكلّف ، وهذا بخلاف القسم الثّاني ، فإنّ الشّرطيّة أو المانعيّة فيه منتزع من اعتبار وجود شيء أو عدمه في متعلّق التّكليف وهو نفس الفعل المكلّف به ، كاعتبار وجود الطّهارة أو التّستّر أو استقبال القبلة في الصّلاة ، وكاعتبار عدم جزء ما لا يؤكل لحمه فيها.

وبالجملة : إذا امر بشيء أو نهي عنه مقيّدا بوجود شيء أو بعدمه في موضوع التّكليف ، كالاستطاعة في الحجّ ، والحيض في الصّلاة ، فوجوده شرط للتّكليف أو

١٧٣

عدمه مانع منه ؛ وإذا امر بشيء أو نهي عنه مقيّدا بوجود شيء أو عدمه في متعلّق التّكليف ، كاستقبال القبلة وأجزاء ما لا يؤكل في الصّلاة ، فوجوده شرط للمكلّف به أو عدمه مانع عنه.

وانقدح ممّا ذكرناه في الشّرطيّة أو المانعيّة ، حال الجزئيّة فهي ـ أيضا ـ تنتزع من الأمر المتعلّق بالمركّب ، بمعنى : أنّها تكون مجعولة بتبع التّكليف ، نظير جزئيّة القراءة أو الرّكوع أو السّجود ونحوها للصّلاة ، فإنّها تنتزع من الأمر الّذي تعلّق بالمركّب منها.

وأمّا القسم الثّالث من الحكم الوضعيّ ، كالملكيّة والزّوجيّة ونحوهما ، ففيه قولان :

أحدهما : ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) من كونه منتزعا من التّكليف ومجعولا بتبعه ، لا بالأصالة.

ثانيهما : ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) من كونه مجعولا على حدّة وبالأصالة.

والقول الأوّل وإن كان ممكنا حسب مقام الثّبوت ، لكن لا يساعده مقام الإثبات ، بل ظهور الأدلّة هو الجعل بالأصالة ، فظاهر قوله عليه‌السلام : «النّاس مسلّطون على أموالهم» (٣) هو الطّوليّة وكون السّلطنة وجواز التّصرّفات مترتّبة على الملكيّة ،

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٣٠.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠٥ و ٣٠٦.

(٣) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥٨ و ٤٦٧ و ٤٦٩.

١٧٤

لا العكس ، بمعنى : مسبوقيّة هذه السّلطنة بملكيّة الأموال لهم الّتي تستفاد من الإضافة في قوله : «أموالهم».

وكذا ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه (من نفسه ، خ ل)» (١) فإنّ عدم الحلّيّة في عقد المستثنى منه ، والحلّيّة في عقد المستثنى من آثار الملكيّة وفي طولها ، كما هو واضح.

إذا عرفت هذا التّحقيق ، فاتّضح لك : أنّ الحكم الوضعيّ ، إذا كان مجعولا مستقلّا ، كالملكيّة والزّوجيّة ونحوهما ، يجري فيه الاستصحاب بناء على جريانه في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، وأمّا إذا كان مجعولا بتبع التّكليف ، سواء كان باعتبار وجود شيء أو عدمه في موضوع التّكليف ، أو كان باعتباره وجوده أو عدمه في متعلّقه ، كالشّرطيّة أو المانعيّة ، فالاستصحاب وإن يجري فيه إلّا أنّ الاستصحاب في منشأ انتزاعه يغني عن استصحاب نفسه ، فإذا شكّ في بقاء شرطيّة ستر العورة للصّلاة بعد ما كانت متيقّنة ، يستصحب ويقال : إنّ الأمر بالصّلاة كان مقيّدا بسترها ، فالآن كما كان ، وهذا الاستصحاب يغني عن جريان الاستصحاب في نفس الشّرطيّة ، فحينئذ لا مجال للتّفصيل الثّالث.

__________________

(١) عوالي اللّئالي : ج ٢ ، ص ١١٣.

١٧٥

(تنبيهات الاستصحاب)

(فعليّة اليقين والشّكّ)

التّنبيه الأوّل : أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ مقتضى أدلّة الاستصحاب من الصّحاح الثّلاث المتقدّمة وغيرها ، هو اعتبار اليقين بالحدوث والشّكّ في البقاء إذا كانا فعليّين ، فظاهر كبرى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» هو أنّ اليقين الفعليّ بحدوث شيء ، لا ينقض بالشّكّ الفعليّ في بقاءه ، فلا اعتبار باليقين أو الشّكّ التّقديريّ ، كما أنّ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ)(١) ظاهر في رجسيّة ما هو خمر بالفعل ، فلا حرمة لما لا يكون خمرا فعلا بل معلّق على شيء ، كالعصير العنبيّ الّذي يصير خمرا إذا غلى ، وكذا قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(٢) ظاهر في حرمة الحيوان الّذي يكون ميتة بالفعل دون المعلّق على شيء كالّذي صار ميتة إذا مات حتف أنفه أو ذبح بوجه غير شرعيّ.

ثمّ إنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) وكذا المحقّق الخراساني قدس‌سره (٤) تبعا له قد فرّعا على هذا التّنبيه فرعين :

الفرع الأوّل : من أحدث ثمّ غفل وصلّى ، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصّلاة أم لا؟ فقد حكما قدس‌سرهما بعدم جريان استصحاب الحدث بالنّسبة إلى الصّلاة الّتي صلّيها

__________________

(١) سورة المائدة (٥) ، الآية ٩٠.

(٢) سورة المائدة (٥) ، الآية ٣.

(٣) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٥.

(٤) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠٨.

١٧٦

حال الغفلة ، فتكون صحيحة ، تعليلا بأنّه كان غافلا حين الدّخول في الصّلاة ولم يكن شاكّا فعلا حتّى يستصحب الحدث ، ويحكم ببطلان صلاته للإتيان بها مع الحدث الاستصحابيّ ، وبعد الفراغ من الصّلاة وإن كان شاكّا فعلا ، لكن لا مجال لإجراء استصحاب الحدث حينئذ والحكم ببطلان صلاته نظرا إلى وقوعها بلا طهارة ؛ وذلك ، لحكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب أو تخصيصها له ، فيقتضي صحّة الصّلاة وعدم وجوب إعادتها.

نعم ، يجري الاستصحاب بعد الفراغ من الصّلاة وصيرورته شاكّا بالفعل ، بالنّسبة إلى الصّلوات الآتية ، وهذا لا كلام فيه.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ بناء على كون قاعدة الفراغ من الاصول التّعبّديّة الشّرعيّة ـ المقرّرة للشّاك في ترك شطر أو شرط للعمل ، بعد الفراغ منه ـ فإنّه تجري وتكون حاكمة على الاستصحاب بلا شبهة ، ونتيجة ذلك صحّة الصّلوات الماضية بخلاف الصّلوات الآتية فتجري فيها الاستصحاب ، كما هو واضح.

وأمّا بناء على كون القاعدة من الأمارات العقلائيّة ـ الكاشفة نوعا عن عدم وقوع النّسيان أو الغفلة في العمل ـ فلا يتمّ القول بحكومة القاعدة على الاستصحاب بل يجري الاستصحاب حينئذ ؛ إذ القاعدة على هذا إنّما تجري في صورة احتمال الغفلة أو النّسيان ، لا في صورة العلم بالغفلة ، كما هو المفروض في الفرع المتقدّم.

تقريب ذلك : أنّ التّرك العمديّ لجزء أو شرط ، لا يتصوّر بالنّسبة إلى المكلّف الّذي يكون في موقف الامتثال ومقام الإطاعة ، فلا محالة كان تركهما مستندا إلى النّسيان والغفلة ، وواضح ، أنّ هذا خلاف الأصل ؛ إذ الأصل يقتضي عدم الغفلة

١٧٧

والنّسيان ، بل مقتضى طبيعة الإنسان هو الالتفات والذّكر حال العمل ، ونتيجة ذلك ، أنّ الفراغ عن العمل يكون من الأمارات العرفيّة النّوعيّة (المضاة شرعا) الكاشفة عن عدم وقوع النّسيان والغفلة في العمل وأنّه صدر عن المكلّف تامّا بلا نقيصة.

والشّاهد على ذلك ، قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك». (٢)

ولا ريب : في أنّ كاشفيّة قاعدة الفراغ عن عدم وقوع النّسيان أو الغفلة ، يتوقّف على فرض احتمالهما ، دون العلم بهما وقت العمل ، كما هو المفروض في الفرع الأوّل ، فالقاعدة لا تجري فيه كي يكون حاكمة على الاستصحاب.

وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان لا يجري حال الغفلة وحين الدّخول في العمل ، حيث إنّه لا شكّ فعليّا في تلك الحال ، لكن لا مانع من جريانه بعد العمل ، فيجري استصحاب الحدث ويحكم ببطلان الصّلاة المأتي بها ، كما يجري بالنّسبة إلى الصّلوات الآتية. هذا بناء على كون قاعدة الفراغ من الأمارات العقلائيّة. هذا كلّه في الفرع الأوّل.

الفرع الثّاني : من أحدث والتفت قبل الصّلاة وشكّ في بقاء حدثه ، ثمّ غفل وصلّى ، فقد حكم الشّيخ الأنصاري قدس‌سره والمحقّق الخراساني قدس‌سره ببطلان صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشّكّ ، تعليلا بأنّه كان شاكّا بالفعل قبل الصّلاة ، فكان محدثا

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧ ، ص ٣٣١ و ٣٣٢.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ٣ ، ص ٣٤٣.

١٧٨

قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابيّ.

والكلام في هذا الفرع ينبغي أن يقع في صورتين :

إحداهما : ما لو قطع بعدم تطهيره ورفعه للحدث الاستصحابيّ بعد الشّكّ.

ثانيتهما : ما لو شكّ بعد الصّلاة في أنّه هل تطهّر بعد الشّكّ في الطّهارة قبل الصّلاة ورفع الحدث الاستصحابيّ ، أم لا؟

أمّا الصّورة الاولى : فيرد عليها بأنّ الصّلاة وإن حكم في الفرض ببطلانها ، لكن ليس ذلك لأجل الاستصحاب قبل الدّخول في الصّلاة ، كما عن العلمين قدس‌سرهما لأنّ المفروض أنّه بعد الالتفات والشّكّ قبل الصّلاة صار غافلا قبلها ، ومعلوم ، أنّ استصحاب الحدث لا يجري حينئذ حتّى يقتضي بطلان الصّلاة ؛ إذ الاستصحاب يتقوّم باليقين والشّكّ حدوثا وبقاء ، ومع طروّ الغفلة لا يكون شاكّا حين الدّخول في الصّلاة كي يكون محدثا بحدث استصحابيّ وتصير صلاته باطلة ، بل بطلان الصّلاة إنّما هو لأجل عدم جريان قاعدة الفراغ في المقام ؛ وذلك ، لاختصاصها بما إذا طرأ الشّكّ بعد الفراغ ، وهذا الشّكّ إنّما هو نفس ما كان قبل الصّلاة بالنّظر العرفيّ المسامحيّ ، وإنّما الغيريّة دقّيّة عقليّة ، وإذا لم تجر قاعدة الفراغ بعد الصّلاة ، تجري قاعدة الاشتغال المقتضية للإعادة ، كما لا يخفى.

أمّا الصّورة الثّانية : فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ فيها والحكم بصحّة الصّلاة ، بل تجري القاعدة حتّى مع اليقين بالحدث قبل الصّلاة ، بأن كان محدثا قبلها يقينا ، فغفل وصلّى فشكّ بعد الصّلاة في أنّه توضّأ بعد ذلك الحدث اليقينيّ ، أم لا ، فيحكم هنا بصحّة صلاته لقاعدة الفراغ. هذا تمام الكلام في التّنبيه الأوّل.

١٧٩

(الاستصحاب الفعليّ والاستقباليّ)

التّنبيه الثّاني : إنّ عموم التّعليل الوارد في بعض أدلّة الاستصحاب ، نظير قوله عليه‌السلام : «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ ...» وكونه ارتكازيّا ، يقتضي عدم الفرق في حجّيّة الاستصحاب بين الاستصحاب الفعليّ ، بأن يكون المتيقّن سابقا والمشكوك فيه فعليّا ـ كأكثر موارد الاستصحاب ـ وبين الاستصحاب الاستقباليّ ، بأن يكون المتيقّن فعليّا والمشكوك فيه استقباليّا ، كاليقين بالقدرة على القيام في الصّلاة حين الإتيان بالتّكبيرة والشّكّ في بقاءها إلى إتيان سائر الأجزاء.

ولا يقدح في هذا التّعميم ، اختصاص مورد بعض الأدلّة بالاستصحاب الفعليّ ، كقوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت».

نعم ، يعتبر في جريان الاستصحاب الاستقباليّ كالفعليّ ، ترتّب الأثر الحاليّ عليه ؛ ولذا لا يجري في مثل مورد اليقين بعدالة زيد في اليوم الحاضر مع الشّكّ في بقاءها غدا لعدم ترتّب ثمرة فعليّة عليه ، بخلاف مورد جواز البدار لذوي الأعذار ، فيجري فيه الاستصحاب الاستقباليّ لترتّب الأثر الحاليّ.

توضيح ذلك : أنّ العاجز عن شطر واجب أو شرطه في أوّل الوقت إذا علم ببقاء عجزه إلى آخر الوقت ، فلا إشكال في أنّه يجوز له البدار ، كما أنّه إذا علم بزوال عذره إلى آخر الوقت ، لا يجوز له البدار ، بل يجب عليه الانتظار ، لكون المأمور به هو طبيعيّ العمل ، لا خصوص العمل في أوّل الوقت ، فلا يجوز له الإتيان بالفاقد النّاقص في أوّل الوقت ، إلّا مع تعذّر جميع أفراد الواجد التّام.

١٨٠