مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

وأمّا إذا شكّ في بقاء العذر وعدمه ، فعلى القول بحجّيّة الاستصحاب الاستقباليّ ، يستصحب العذر ويحكم ببقائه إلى آخر الوقت ويترتّب عليه الأثر الحاليّ وهو جواز البدار في أوّل الوقت ، فإن لم ينكشف الخلاف ، يحكم بصحّة العمل ولا شيء عليه ، ومع الانكشاف وزوال العذر قبل انقضاء الوقت ، يحكم بصحّة العمل ـ أيضا ـ بناء على الإجزاء ، وإلّا وجب عليه الإعادة ، كما لا يخفى ، والتّحقيق موكول إلى محلّه.

نعم ، هذا في غير مسألة التّيمّم ، وأمّا فيها فالأحوط ، بل الأقوى عند المشهور عدم جواز البدار عند الشّكّ في زوال العذر إلى آخر الوقت ، استنادا إلى مثل صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سمعته يقول : إذا لم تجد ماء وأردت التّيمّم ، فأخّر التّيمّم إلى آخر الوقت ، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض». (١)

هذه الصّحيحة ، كما ترى ، موردها هو الشّكّ في زوال العذر ، وإلّا فمع العلم ببقاء العذر يجوز البدار بلا إشكال ، كما أنّ في فرض العلم بزوال العذر ، لا يجوز له البدار ، فتقيّد بهذه الصّحيحة ، صحيحتا الحلبي الدّالّتان على جواز البدار في التّيمّم مطلقا حتّى مع الشّكّ في زوال العذر.

ففي الصّحيحة الاولى ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرّجل إذا أجنب ولم يجد الماء ، قال عليه‌السلام : «يتيمّم بالصّعيد ، فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصّلاة». (٢)

وفي الصّحيحة الثّانية ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا لم يجد الرّجل

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٢ من أبواب التّيمّم ، الحديث ١ ، ص ٩٩٣.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٤ من أبواب التّيمّم ، الحديث ١ ، ص ٩٨١.

١٨١

طهورا وكان جنبا ، فليتمسّح من الأرض وليصلّ ، فإذا وجود ماء ، فليغتسل ، وقد أجزاءه صلاته الّتي صلّى». (١)

ولكن خالف في المسألة ، السّيّد الطّباطبائي اليزدي قدس‌سره فأفتى بجوار البدار مع الشّكّ في زوال العذر (٢). والتّحقيق موكول إلى محلّه.

(اليقين الوجدانيّ والتّعبّديّ)

التّنبيه الثّالث : أنّ المتيقّن من مصبّ الاستصحاب هو اليقين الوجدانيّ بحدوث شيء والشّكّ في بقاءه ، وأمّا اليقين التّعبّديّ بحدوث شيء والشّكّ في بقاءه ، كما في موارد قيام الأمارات والاصول على حدوث شيء ثمّ شكّ في بقاءه على تقدير حدوثه ، فهل يجري فيه الاستصحاب ، أم لا؟ وجهان.

والتّحقيق في المقام يستدعي أن يقع الكلام تارة في الأمارات ، واخرى في الاصول.

أمّا الأمارات ، فالحكم فيها بجريان الاستصحاب وعدمه يختلف باختلاف المباني فيها من كونها طريقيّا أو موضوعيّا ، فبناء على ما هو التّحقيق في الأمارات من الطّريقيّة والكاشفيّة يشكل على جريان الاستصحاب في مواردها ؛ وذلك ، لأنّه لا يقين بالحدوث مع أنّه ممّا لا بدّ منه ، بل لا شكّ في البقاء ـ أيضا ـ إذ المراد من الشّكّ في البقاء المأخوذ في الاستصحاب هو الشّكّ في بقاء المتيقّن ، لا مطلق الشّكّ ،

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٤ من أبواب التّيمّم ، الحديث ٤ ، ص ٩٨٢.

(٢) راجع ، العروة الوثقى : ج ٢ ، ص ٢١٦ ، المسألة الثّالثة. (طبع مؤسّسة النّشر الإسلاميّ ، قم).

١٨٢

والمفروض أنّه لا شكّ في بقاءه في مورد الأمارات ، بل المتحقّق هو الشّكّ في البقاء على تقدير الثّبوت والحدوث ، ومقتضى هذا عدم جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على حدوث شيء لو شكّ في بقاءه ، لعدم اليقين بحدوث الحكم ، نظرا إلى احتمال عدم مصادفتها للواقع ، كما لا يخفى.

وأمّا بناء على الموضوعيّة ، فالحكم فيها ـ أيضا ـ يختلف باختلاف معنى الموضوعيّة ، فلو اريد بالموضوعيّة معنى كون قيام الأمارات على وجوب شيء ـ مثلا ـ موجبا لحدوث الملاك في الفعل مع تقييده بكون وجوبه مؤدّى للأمارة ، فيشكل ـ أيضا ـ جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الوجوب الواقعيّ والوجوب الظّاهريّ النّاشي من قيام الأمارة ؛ وذلك ، لعدم تعلّق اليقين بالوجوب الواقعيّ ، فلا يقين بحدوثه وعدم الشّكّ في بقاء الوجوب الظّاهريّ ، حيث إنّه كان مقيّدا بقيام الأمارة ، ولا دلالة لها عليه في الزّمان الثّاني ، وإلّا لما صار مشكوكا فيه ، وهذا لا فرق بين الشّبهة الحكميّة والموضوعيّة.

وقد مثّل بعض الأعاظم قدس‌سره لكلّ واحد منهما مثالا ، وأجاد فيما أفاده فيه ، حيث قال : «والاولى [الشّبهة الحكميّة] كما إذا أفتى مفت بوجوب شيء في زمان مع تردّده في الزّمان الثّاني ، فلا يجري استصحاب الوجوب في الزّمان الثّاني ، لكون الوجوب الواقعيّ مشكوكا من أوّل الأمر ، والوجوب الحادث لفتوى المفتي كان مقيّدا بالفتوى ، والمفروض كونه متردّدا في الزّمان الثّاني ، فهو معلوم الانتفاء ؛ والثّانية [الشّبهة الموضوعيّة] كما إذا قامت البيّنة على نجاسة ماء في الأمس ـ مثلا ـ ثمّ شكّ في بقاء نجاسته في اليوم ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ؛ إذ النّجاسة الواقعيّة مشكوكة

١٨٣

من أوّل الأمر ، والنّجاسة الحادثة لقيام الأمارة مقيّدة بحال قيام الأمارة ، والمفروض قيام البيّنة على النّجاسة في الأمس دون اليوم ، فالنّجاسة الحادثة منتفية يقينا». (١)

وأمّا لو اريد بالموضوعيّة معنى كون قيام الأمارة على وجوب شيء ـ مثلا ـ موجبا لحدوث مصلحة في ذات الفعل بما هو هو بلا تقييده بما اشير إليه آنفا ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الوجوب الظّاهريّ حينئذ ، لصيرورته بعد قيام الأمارة متيقّنا ، فإذا شكّ في بقاءه ، يستصحب بلا مانع ، وهذا بخلاف الوجوب الواقعيّ ، فيشكل جريان الاستصحاب بالنّسبة إليه ، لكونه مشكوكا من أوّل الأمر.

وقد تصدّى المحقّق الخراساني قدس‌سره لدفع إشكال جريان الاستصحاب بناء على الطّريقيّة ، وبناء على بعض صور الموضوعيّة (٢) ، بقوله : «أنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التّعبّد والتّنزيل شرعا إنّما هو في البقاء ، لا في الحدوث ، فيكفي الشّكّ فيه على تقدير الثّبوت ، فيتعبّد به على هذا التّقدير ، فيترتّب عليه الأثر فعلا فيما كان هناك أثر».

وقال قدس‌سره في وجه دفع الإشكال بهذا البيان : «أنّ الحكم الواقعيّ الّذي هو مؤدّى الطّريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته ، حجّة على بقاءه تعبّدا للملازمة بينه وبين ثبوته واقعا».

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على نفسه بقوله : «إن قلت : كيف ، وقد اخذ اليقين بالشّيء في

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٩٦.

(٢) والمراد به : هو ما اريد بالموضوعيّة معنى كون القيام على وجوب شيء ـ مثلا ـ موجبا لحدوث الملاك في العمل المقيّد يكون وجوبه مؤدّى للأمارة.

١٨٤

التّعبّد ببقائه ، في الأخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثّبوت» فأجاب قدس‌سره عن هذا الإيراد بما حاصله : إنّ ذكر اليقين في الأخبار ليس لأجل موضوعيّته ودخله في الاستصحاب ، بل إنّما يكون لأجل طريقيّته إلى الثّبوت ، فإذا قامت الأمارة على الثّبوت يتعبّد به ، لأجل قيام الأمارة ، وبالبقاء ، لأجل الاستصحاب الدّال على الملازمة بينهما. (١)

هذا ، ولكن يمنع عمّا قال قدس‌سره في وجه دفع الإشكال ، وكذا ما أجاب قدس‌سره عن الإيراد على نفسه.

أمّا قوله قدس‌سره في وجه دفع الإشكال ، فلأنّ هذا القول يقتضي أن يكون مفاد أدلّة الاستصحاب هو الحكاية والإخبار عن الملازمة بين البقاء والثّبوت واقعا ، فإن كان المراد منها هو الملازمة الواقعيّة ، يرد عليه أوّلا : أنّه لزم أن يكون الاستصحاب الحاكي عنها ، من الأمارات ، لا من الاصول العمليّة ، وهذا خلف ؛ وثانيا : أنّه لزم أن يكون الأمارة الدّالّة على الثّبوت ، دالّة على البقاء ، لدلالة دليل الملزوم على اللّازم بالالتزام ، كما يدلّ على نفس الملزوم بالمطابقة ، فالاستصحاب دالّ على الملازمة ، والأمارة دالّة على الحدوث والبقاء معا ، ونتيجة ذلك هو كون التّعبّد بالبقاء مستندا إلى الأمارة لا إلى الأصل ، وهذا كما ترى ؛ وثالثا : أنّه لا ملازمة واقعيّة بين الحدوث والبقاء ، كما لا يخفى.

وإن كان المراد من الملازمة هو الظّاهريّة التّعبّديّة ، يرد عليه أوّلا : أنّه لزم ـ أيضا ـ الانقلاب والخلف ؛ وثانيا : لزم أن يكون التّعبّد بالبقاء ، مستندا إلى الأمارة

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠٩ و ٣١٠.

١٨٥

على الثّبوت ، لا إلى الأصل ؛ وثالثا : أنّه لو سلّمت الملازمة ، لزم أن يكون بين حدوث تنجيز التّكليف وبقاءه ، ملازمة ، وهذا ممنوع ؛ إذ قد يحدث التّنجيز ولا يبقى ، ألا ترى ، أنّه لو علم إجمالا بالحرمة تنجّزت ، ثمّ لو قامت بيّنة على حرمة بعض أطراف العلم الإجماليّ ينحلّ العلم فينتفي التّنجيز ، لدورانه مداره وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، فأين الملازمة بين حدوث التّنجيز وبقاءه ، فتأمّل.

وأمّا جوابه قدس‌سره عن الإيراد على نفسه ، فلأنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب يقتضي أن يكون اليقين موضوعا له وإن كان طريقا إلى متعلّقه ومرآتا له ، فقوله عليه‌السلام : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ» مقتضاه عدم جواز نقض نفس اليقين لأجل إبرامه واستحكامه ، بالشّكّ الّذي لا شأن له إلّا الوهن ، ولا هويّة له إلّا الحيرة.

فتحصّل : أنّ ما تصدّى المحقّق الخراساني قدس‌سره من دفع الإشكال في المقام مردود بالتّقريب الّذي مرّ آنفا.

والّذي ينبغي أن يقال في دفع الإشكال : هو أنّ أصل الإشكال إنّما يلزم بناء على القول بأنّ جعل حجّيّة الأمارات ليس إلّا المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطاء ، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره.

ولكن التّحقيق عندنا خلاف ذلك ، على ما حرّرنا في مباحث الظّنّ ، ملخّصه : أنّ الأمارات المعتبرة العقلائيّة الّتي أمضاها الشّرع ، لا تعدّ من الظّنون حتّى تكون أدلّة حجّيّتها واعتبارها مخصّصة لأدلّة عدم حجّيّة الظّنّ ، بل تكون علوما عرفيّة ويقينات عادية ، بحيث يعامل العرف معها معاملة العلم واليقين ، فتكون خارجة عن

١٨٦

أصالة عدم حجّيّة الظّنّ ، وعن أدلّة عدم اعتباره ، خروجا تخصّصيّا.

ولك أن تقول : إنّ المراد من اليقين المأخوذ في كبرى الاستصحاب ، صدرا وذيلا ، ليس هو اليقين المصطلح عند أهل المنطق والفلسفة ، بل المراد منه هو الحجّة واللّاحجّة ، أعمّ من أن يكون يقينا مصطلحا عليه ، أو يقينا عاديا عرفيّا ، كالأمارة المعتبرة ، فمعنى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ ، ولكن انقضه بيقين آخر» هو لا تنقض الحجّة باللّاحجة ، ولكن انقض الحجّة بالحجّة ؛ ولذا لو علم بطهارة شيء فقامت البيّنة على أنّه تنجّس ، انتقض اليقين بالطّهارة حدوثا ، بالبيّنة على النّجاسة بقاء ، وكذا العكس.

وعلى أيّ تقدير ، لا مجال لما اشير إليه من الإشكال على جريان الاستصحاب ـ في موارد قيام الأمارة على حدوث شيء لو شكّ في بقاءه ـ بأنّه لا يقين بالحدوث ، بل لا شكّ في البقاء ـ أيضا ـ إذ الأمارات علوم وحجج معتبرة ، فقيام الأمارة على ثبوت شيء ، علم بالحدوث ، وقيامها على خلاف الاستصحاب والتّعبّد بالبقاء ، نقض للعلم بالعلم والحجّة بالحجّة. هذا كلّه في الأمارات.

أمّا الاصول ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في مواردها ، فمثل قاعدة الطّهارة ، مقتضاها طهارة ما شكّ في طهارته حتّى يعلم قذارته وتقوم الحجّة على نجاسته ، فلا يشكّ في البقاء حتّى يستصحب ، بل هي باقية حتّى يعلم الزّوال والارتفاع ، وكذا قاعدة الحلّ ؛ وأمّا البراءة والاشتغال والتّخيير ، فلا مجال لتوهّم جريانه في مواردها ، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في التّنبيه الثّالث.

١٨٧

(أقسام استصحاب الكلّيّ)

التّنبيه الرّابع : أنّ المستصحب ينقسم إلى الكلّيّ والجزئيّ ؛ والكلّيّ ينقسم إلى أنّه إمّا يكون من المتأصّلات ، أو يكون من الاعتباريّات ، كالوجوب والحرمة ، أو الملكيّة والزّوجيّة ، أو يكون من الانتزاعيّات ، كالعادل والفاسق المنتزعين من اتّصاف الذّات بمبدإ الاشتقاق ، كاتّصاف زيد بالعدل ، أو اتّصاف بكر بالفسق ، فلا وجود لعنوان العادل أو الفاسق في الخارج ، بل الموجود فيه هو ذات زيد ووصفه (العدل) ، وذات بكر ووصفه (الفسق).

ثمّ إنّ استصحاب الكلّيّ إنّما يجري إذا كان له بنفسه أثر من دون دخل للخصوصيّة في ترتّبه عليه ، كحرمة مسّ كتابة القرآن الكريم ، وعدم جواز الدّخول في الصّلاة والطّواف بالنّسبة إلى كلّيّ الحدث من الأصغر والأكبر ، فلا معنى في مثله لاستصحاب الخصوصيّة ، بل لا بدّ فيه من استصحاب الكلّيّ.

وأمّا إذا كان الأثر للخصوصيّة لا الكلّيّ ، كحرمة المكث في المسجد والعبور عن المسجدين بالنّسبة إلى خصوص الحدث الأكبر ، فلا يصحّ استصحاب الكلّيّ.

إذا علمت هذا ، فنقول : إنّ الشّكّ في بقاء الكلّيّ الّذي كان متحقّقا بتحقّق فرد من أفراده ، على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الشّكّ في بقاءه لأجل الشّكّ في بقاء فرده.

الثّاني : أن يكون لأجل الشّكّ في تعيين ذلك الفرد ، لكونه مردّدا بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع.

١٨٨

الثّالث : أن يكون لأجل الشّكّ في تحقّق فرد آخر ، مع القطع بارتفاع ما كان متحقّقا أوّلا.

أمّا القسم الأوّل : فيجري فيه استصحاب الكلّيّ ، إذا كان له الأثر ، كاستصحاب الكلّيّ الحدث الّذي كان متحقّقا بتحقّق الأصغر منه ، فشكّ في بقاءه ، لأجل الشّكّ في بقاءه.

أمّا القسم الثّاني : فيجري فيه ـ أيضا ـ استصحاب الكلّيّ ، فيترتّب عليه أثره ، نظير ما إذا خرج بلل مشتبه بين البول والمني ، فتوضّأ ، حيث يعلم حينئذ بارتفاع الحدث لو كان هو الأصغر ، وببقائه لو كان هو الأكبر ، وكذا لو اغتسل في الفرض ، فيعلم بارتفاع الحدث لو كان هو الأكبر ، وببقائه لو كان هو الأصغر ، ففي الفرضين يجري استصحاب الكلّيّ الحدث ، فيترتّب عليه أثره من حرمة مسّ كتابة القرآن الكريم ، وعدم جواز الدّخول في الصّلاة والطّواف ، بل هذا الاستصحاب يجري ولو كان الفرد مردّدا بين مقطوع الارتفاع ومحتمل البقاء ، فلا ملزم لأن يكون الفرد مردّدا بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ، كما لا يخفى.

نعم ، لا يجري استصحاب الفرد ، لأجل كونه مردّدا بين ما لا يشكّ في بقاءه للقطع بارتفاعه ، وبين ما لا يشكّ فيه للقطع ببقائه ، فيجب حينئذ ، الاحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل لدوران الأمر بين المتباينين.

وقد اورد على استصحاب القسم الثّاني من الكلّيّ بأنّه أصل مسبّبيّ محكوم بأصل آخر سببيّ ، بتقريب : أنّ الشّكّ في بقاء الكلّيّ مسبّب عن الشّكّ في حدوث ما هو مقطوع البقاء من الفرد الطّويل ، والأصل عدم حدوثه ، وهذا يقتضي عدم جريان

١٨٩

الاستصحاب في الكلّيّ ، ففي المثال المتقدّم ، حيث إنّ الشّكّ في بقاء الحدث الكلّيّ مسبّب عن الشّكّ في حدوث الجنابة الّتي لا ترتفع بالوضوء ، فمقتضى أصالة عدم حدوثها ، ارتفاع كلّيّ الحدث رأسا ، أمّا الأكبر فبالأصل ، وأمّا الأصغر فبالوجدان.

ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره أوّلا : بأنّ بقاء الكلّيّ وارتفاعه ليس من لوازم حدوث الفرد الطّويل وعدم حدوثه ، بل إنّما يكون من لوازم كون الحادث المتيقّن الحدوث ، ذاك الفرد المتيقّن الارتفاع ، أو المتيقّن البقاء. (١)

وبعبارة اخرى : ليس الشّكّ في بقاء الكلّيّ مسبّبا عن الشّكّ في حدوث الفرد الطّويل كي تجري أصالة عدم حدوثه ، فتوجب ارتفاع الكلّيّ رأسا ، بل مسبّب عن الشّكّ في كون الحادث طويلا أو قصيرا ، وواضح ، أنّ كون الحادث طويلا ليس مسبوقا بالعدم كي يستصحب عدمه ؛ إذ هو حين الحدوث كان مردّدا بين الطّويل والقصير ، اللهمّ إلّا أن يقال : باستصحاب العدم الأزليّ ، فحينئذ لا يجري استصحاب الكلّيّ.

نعم ، حدوث الفرد الطّويل مسبوق بالعدم ، فيجري فيه الأصل إلّا أنّ الشّكّ في بقاء الكلّيّ ليس مسبّبا عنه ، فلا يقدح جريان استصحاب العدم في الفرد ، بجريان الاستصحاب في الكلّيّ.

وثانيا : بأنّ الشّكّ في بقاء الكلّيّ لو سلّم كونه مسبّبا عن الشّكّ في حدوث الفرد الطّويل ، فمجرّد ذلك لا يكفي في الحكومة ، بل الملاك في الحكومة أمران :

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣١١ و ٣١٢.

١٩٠

أحدهما : كون ثبوت المشكوك الثّاني من الآثار الشّرعيّة للأصل السّببيّ حتّى يصير الأصل السّببيّ رافعا للشّكّ المسبّبيّ تعبّدا ، فلا يجري الأصل المسبّبيّ حينئذ لانتفاء موضوعه تعبّدا وهو الشّكّ ؛ وذلك ، كما في استصحاب الطّهارة بالنّسبة إلى قاعدتها ، حيث إنّ موضوع قاعدة الطّهارة وهو الشّكّ ، ينتفي تعبّدا باستصحاب الطّهارة ، فتثبت الطّهارة المشكوك بقاءها بالاستصحاب الحاكم على قاعدة الطّهارة تعبّدا ، ومعه لا مجال للقاعدة ؛ ثانيهما : كون انتفاء المشكوك الثّاني من الآثار الشّرعيّة للأصل السّببيّ الحاكم ؛ وذلك ، كما في تطهير ثوب متنجّس ـ مثلا ـ بماء مستصحب الطّهارة ، حيث إنّ طهارة هذا الثّوب تكون أثرا شرعيّا مترتّبا على استصحاب طهارة الماء ، ولولاه لكان ثوب المفروض مجرى لاستصحاب النّجاسة.

إذا عرفت هذا ، تعريف : أنّ المقام ليس من هذا القبيل ؛ إذ ليس عدم بقاء الكلّيّ المشكوك بقاءه من الآثار الشّرعيّة لأصالة عدم حدوث الفرد الطّويل ، بل إنّما هو من الآثار العقليّة لها ، وعليه ، فلا حكومة لها على استصحاب الكلّيّ ، فيندفع الإشكال على القسم الثّاني من الاستصحاب الكلّيّ.

لا يخفى : أنّ هذين الجوابين (أوّلا وثانيا) لا يخلو عن الجودة والمتانة.

بقى هنا جوابان آخران عن الإشكال :

الجواب الأوّل : أنّ بقاء الكلّيّ والقدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ والفرد الطّويل الّذي في ضمنه ، نظرا إلى أنّ الكلّيّ عين الفرد ، لا أنّه من لوازمه ، فلا سببيّة ومسبّبيّة في البين ، بل عينيّة وهو هويّة. (١)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣١٢.

١٩١

وفيه : ما لا يخفى ، أنّ مجرّد كون الكلّيّ عين الفرد لا ينفع في المقام ؛ إذ إشكال جريان أصالة عدم الحدوث في الفرد وحكومته على الاستصحاب الكلّيّ ، بناء على العينيّة باق بطريق أولى ؛ بداهة ، أنّ جريان الاستصحاب في الكلّيّ على العينيّة أولى بالإشكال منه على السّببيّة.

الجواب الثّاني : أنّ للأصل السّببيّ هنا (أصالة عدم حدوث الفرد الطّويل) معارضة بمثلها وهو أصالة عدم حدوث الفرد القصير ، كما أنّ أصالة عدم كون الحادث طويلا ، يعارضها أصالة عدم كون الحادث قصيرا ، فيصل الدّور بعد تساقط الأصلين إلى الأصل المسبّبيّ وهو استصحاب بقاء الكلّيّ. (١)

وقد أورد عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بما محصّله (٢) : أنّ الدّوران بين فردي الطّويل والقصير على وجهين :

أحدهما : أن يكون لكلّ من الفردين أثر مختصّ به ، وأثر آخر مشترك فيه ، كالمثال المتقدّم وهو البلل المردّد بين البول والمني ، حيث إنّ البول يوجب الوضوء والمني يوجب الغسل وحرمة المكث في المساجد والعبور عن المسجدين ، وكلاهما يوجبان حرمة مسّ كتابة القرآن الكريم وعدم جواز الدّخول في الصّلاة والطّواف ، ففى هذا الوجه يتعارض الأصلان فيتساقطان ، لكن لا يجري استصحاب الكلّيّ ، بل يجب الاحتياط ، لأجل العلم الإجماليّ الدّائر بين المتباينين لو لم يكن في البين أصل معيّن للفرد تعبّدا ، وإلّا فيعمل على طبق ذلك الأصل ، على ما سيجيء بعيد هذا.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤١٨.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٠٦ و ١٠٧.

١٩٢

ثانيهما : أن يكون لكلّ منهما أثر مشترك ، وللفرد الطويل أثر مختصّ به ، فيكون من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، نظير ما إذا تنجّس ثوب ـ مثلا ـ بنجس مردّد بين البول وعرق الجنب من الحرام ـ بناء على القول بنجاسته ـ حيث إنّ وجوب الغسل مرّة ثانية أثر مختصّ بالبول فقط ، كما أنّ وجوب الغسل مرّة واحدة أثر مشترك بينهما ، ففى هذا الوجه لا يجري استصحاب الكلّيّ ، لحكومة الأصل السّببيّ عليه وهو أصالة عدم حدوث البول ، أو أصالة عدم كون الحادث بولا ، ولا تعارضها أصالة عدم حدوث العرق ، أو أصالة عدم كون الحادث عرق الجنب من الحرام ، لعدم ترتّب أثر خاصّ عليها ؛ إذ المفروض وجوب الغسلة الاولى على كلّ تقدير.

لا يقال : إنّ أصالة عدم حدوث الفرد القصير له أثر ـ أيضاً ـ وهو إثبات حدوث الفرد الطّويل ؛ لأنّه يقال : هذا مبنيّ على القول بالأصل المثبت.

فتحصّل : أنّ الاصول السّببيّة في الوجه الأوّل وإن كانت متعارضة متساقطة ، إلّا أنّه لا يكون المرجع عندئذ استصحاب الكلّيّ ، لما اشير إليه من وجود العلم الإجماليّ الدّائر بين المتباينين ، وهذا لا يقتضي إلّا وجوب الاحتياط بالجمع بين أثري الحادثين لو لم يكن في البين أصل معيّن لأحد الفردين (القصير والطّويل) ؛ وأمّا الوجه الثّاني ، فلا يجري فيه ـ أيضا ـ استصحاب الكلّيّ ، لكن لأجل حكومة الأصل السّببيّ عليه من دون معارض له ، حيث لا يجري الأصل في الفرد القصير ، لكونه فاقدا للأثر.

هذا كلّه إذا لم يكن في البين أصل منقّح للموضوع معيّن للفرد ، وإلّا فلا مجال لاستصحاب الكلّيّ ، فلو كان محدثا بالأصغر فخرج منه بلل مردّد بين البول والمني ثمّ توضّأ فشكّ في بقاء الحدث ، فمقتضى استصحاب القسم الثّاني من الكلّيّ وإن كان بقاء

١٩٣

الحدث ، إلّا أنّ هنا أصلا معيّنا للفرد وهو استصحاب الحدث الأصغر ؛ وذلك ، لأنّ الحدث الأصغر كان متيقّنا معلوما تفصيلا ، إنّما الشّكّ في بقاءه وعدم تبدّله بالأكبر ، فيستصحب ذلك ويحكم ببقائه ، وحينئذ يكفي الوضوء ولا يجب الغسل ، ومعه لا يصل الدّور إلى استصحاب الكلّيّ.

وإن شئت ، فقل : إنّ العلم الإجماليّ في الفرض لا يكون منجّزا ، لعدم ترتّب الأثر على أحد طرفيه وهو بوليّة الرّطوبة ؛ إذ أثرها حدوث الأصغر ، والمفروض حصوله قبل خروج البلل ، أو فقل : إنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ وهو حدث الأصغر معلوم تفصيلا قبل خروج البلل المشتبه ، وأمّا الحدث الأكبر وهو الطّرف الآخر ، فمشكوك ، وإذا ينحلّ العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ ، بل لا علم إجماليّا في الفرض من الابتداء حتّى يصل الدّور إلى الانحلال ، فالعلم الإجماليّ والانحلال كلاهما صوريّان.

وبالجملة : إنّ في الفرع المفروض يكفي الوضوء ولا يجب الغسل.

نعم ، من كان متوضّأ ، ثمّ خرجت منه الرّطوبة المردّدة بين البول والجنابة ، فلا يكفي الوضوء البتّة ، بل يجب الغسل ـ أيضا ـ لوجود العلم الإجماليّ الدّائر بين الحدث الأصغر والأكبر وهو يقتضي الجمع بين الوضوء والغسل ؛ إذ لو كان الحدث هو الأصغر وجب الوضوء ، لكونه ناقضا للوضوء السّابق ولو كان هو الأكبر وجب الغسل ، فالعلم الإجماليّ في هذا الفرع يكون منجّزا ، لأجل ترتّب الأثر على كلا الطّرفين ، فيجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل ، وهذا بخلاف الفرع المتقدّم.

ثمّ إنّه لا يتفاوت فيما ذكرنا ـ من عدم جريان استصحاب الحدث الكلّيّ مع

١٩٤

وجود أصل منقّح للموضوع معيّن للفرد ـ بين الأقوال الثّلاثة في الحدثين (الأصغر والأكبر) من كونهما متضادّين ، أو متّحدين ، أو متخالفين ، فعلى القول بتضادّ الحدثين يقال في الفرع المتقدّم : (لو كان محدثا بالأصغر فخرج منه بلل مردّد بين البول والمني ثمّ توضّأ فشكّ في بقاء الحدث) : كان الحدث الأصغر متيقّنا ويشكّ في تبدّله بالأكبر ، فالأصل عدم التّبدّل ، وعلى القول باتّحادهما حسب الحقيقة واختلافهما حسب المرتبة من جهة القوّة والضّعف يقال فيه : كانت المرتبة الضّعيفة متيقّنة ، والأصل عدم حدوث المرتبة القويّة ، وعلى القول بتخالفهما ، نظير السّواد والحلاوة ، يقال فيه : الأصل عدم اجتماع الأكبر المشكوك مع الأصغر المتيقّن.

فتحصّل : أنّ استصحاب القسم الثّاني من الكلّيّ ، إنّما يجري إذا لم يكن في البين أصل منقّح معيّن للفرد ، وإلّا فلا يجري كما في الفرع المتقدّم ، بلا تفاوت في عدم جريانه بين الأقوال الثّلاثة في الحدثين.

(الشّبهة العبائيّة)

اعلم ، أنّ هنا شبهة وهي معروفة بالشّبهة العبائيّة (١) ومبنيّة على القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشّبهة المحصورة ، تقريب ذلك : أنّه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباء ، وغسل أحد طرفيه ثمّ لاقى شيء لهذا الطّرف المغسول ، لا يحكم بنجاسة الملاقي ؛ وذلك ، للعلم بطهارة الملاقى من طرف العباء بعد غسله ، إمّا لأجل الطّهارة السّابقة ، أو لأجل الطّهارة الطّارئة بعد الغسل ، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقي للطّرف

__________________

(١) هذه الشّبهة منسوبة إلى العالم التّقي الفحل السّيّد اسماعيل الصّدر قدس‌سره.

١٩٥

الآخر ـ أيضا ـ ؛ وذلك ، لما اشير إليه من ابتناء الشّبهة على القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشّبهة المحصورة ، هذا ممّا لا إشكال ولا شبهة فيه إنّما الشّبهة فيما لو لاقى شيء طرفي العباء كليهما فإنّ مقتضى ملاقاته للطّرفين هو الحكم بطهارته حيث إنّ المفروض أنّه لاقى طاهرا (الطّرف المغسول) وأحد طرفي الشّبهة (الطّرف غير المغسول) الّذي عرفت : أنّ ملاقاته لا توجب النّجاسة ، مع أنّ مقتضى استصحاب الكلّيّ هو الحكم بنجاسته ، فلا بدّ حينئذ إمّا من رفع اليد عن الاستصحاب في القسم الثّاني من الكلّيّ ، أو من القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشّبهة المحصورة ، والجمع بينهما ممتنع في المثال.

هذا ، ولكن تلك الشّبهة مندفعة بوجوه :

الأوّل : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره محصّله : أنّ المثال ليس من باب استصحاب الكلّيّ ، لعدم التّردّد بين الفردين (القصير والطّويل) ، كالحيوان المردّد بين البقّ والفيل ، بل التّردّد في مثال العباء إنّما يكون في خصوصيّة محلّ النّجاسة ومكانها مع العلم بخصوصيّة الفرد ، وواضح جدّا ، أنّ التّردّد في خصوصيّة المكان أو الزّمان ، لا يوجب أن يصير المتيقّن كلّيّا ، فالشّكّ في مثال العباء ليس في بقاء الكلّيّ من النّجاسة حتّى يجري الاستصحاب فيه ، بل الشّكّ فيه إنّما هو في بقاء فرد من النّجاسة الّذي يكون مردّدا من حيث مكانه بأنّه هل هو طرف الأيمن أو الأيسر ، نظير ما إذا علمنا بوجود زيد في الدّار فانهدم الطّرف الشّرقيّ منها ، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه ، ولو كان في الطّرف الغربيّ فهو حيّ ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكة ، إلّا أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّيّ ، وكذا نظير ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم ثمّ تلف

١٩٦

أحد الدّراهم ، فلا معنى لاستصحاب الكلّيّ بالنّسبة إلى درهم زيد لكونه جزئيّا مردّدا بين التّالف والباقي. (١)

هذا ، ولكن يرد على هذا الدّفع : بأنّ الشّبهة باقية بحالها ، والطّريقة المذكورة لا يدفعها ، بتقريب : أنّ لبّ الإشكال هو عدم إمكان اجتماع استصحاب النّجاسة في مسألة العباء مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشّبهة ، سواء كان استصحاب المفروض من قبيل استصحاب الكلّيّ ، أو الجزئيّ ، فلا يدور الإشكال مدار التّسمية ، فكما لا مانع من استصحاب حياة زيد ووجوده في مثال الدّار ، كذلك لا مانع من استصحاب النّجاسة في مثال العباء.

وأمّا مثال الدّرهم فهو أجنبيّة عن المقام ؛ إذ عدم جريان الاستصحاب فيه مستند إلى ابتلائه بالمعارض ، حيث إنّ أصالة عدم تلف مال زيد من الدّرهم ، معارضة بأصالة عدم تلف مال غيره من الدّرهم.

الوجه الثّاني : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره ـ أيضا ـ من أنّ الاستصحاب في مثال العباء ، لا يجري على تقدير ، ولا يجدي على تقدير آخر ، بيان ذلك : أنّ الاستصحاب في مسألة العباء لا يمكن أن يجري في مفاد «كان النّاقصة» لعدم الحالة السّابقة اليقينيّة ، فلا يمكن أن يشار إلى طرف معيّن من العباء ويقال : إنّ هذا الطّرف كان نجسا سابقا وشكّ في بقاء نجاستها الآن ، فنستصحبها ، إذ أحد طرفيه مقطوع الطّهارة ، والآخر مشكوك النّجاسة من أوّل الأمر ؛ وأمّا الاستصحاب في مفاد «كان التّامّة» فهو وإن كان جاريا حيث إنّه يقال : إنّ نجاسة العباء كانت موجودة سابقا

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٠ ؛ وفوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٢١ و ٤٢٢.

١٩٧

يقينا ، ونشكّ في ارتفاعها ، فنستصحبها ، إلّا أنّه لا يجدي ؛ إذ لا تترتّب عليه نجاسة الملاقي ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، لأنّ الحكم بنجاسة الملاقي يتوقّف على أمرين :

أحدهما : نجاسة الملاقى (بالفتح) ؛ ثانيهما : تحقّق الملاقاة خارجا ، ومن المعلوم جدّا : أنّ استصحاب وجود النّجاسة في العباء ليس من آثاره الشّرعيّة الملاقاة للنّجس ، بل هي من آثاره العقليّة ، ومعه لا تثبت بالاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء. (١)

وفيه ما لا يخفى : إذ لقائل أن يقول : بالاستصحاب في مفاد «كان النّاقصة» بلا تعيين لموضع النّجاسة ، بتقريب : أنّ طرفا من هذا العباء كان نجسا سابقا ، فالآن كما كان ، وعليه ، فالملاقاة مع العباء محرزة بالوجدان ، ونجاسته محرزة بالتّعبّد ، فيحكم حينئذ بنجاسة الملاقي ، فتعود الشّبهة.

وأمّا التّعليل الّذي ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره لعدم إمكان جريان الاستصحاب في مفاد «كان النّاقصة» بأنّ أحد طرفي العباء ، مقطوع الطّهارة ، والطّرف الآخر مشكوك النّجاسة من أوّل الأمر ، فهو جار في جميع صور استصحاب الكلّيّ ؛ إذ الخصوصيّة في جميعها مجهولة غير معلومة ، نظير ما إذا دار الأمر بين الحدث الأصغر والأكبر على ما تقدّم ، حيث إنّ الحدث الأصغر بعد التّوضؤ مقطوع الزّوال ، والأكبر مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، وكذلك ما إذا دار الأمر بين الفيل والبقّ بعد مضيّ زمان لا يبقى البقّ بعده ، حيث إنّ البقّ مقطوع الزّوال حينئذ ، والفيل مشكوك الوجود من أوّل الأمر ، فمثل هذا الأمر لا يمنع عن جريان الاستصحاب في الكلّيّ ، بداهة ، قوام الاستصحاب باليقين والشّكّ وهما حاصلان في الفرض.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١١.

١٩٨

الوجه الثّالث : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره محصّله : أنّ القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشّبهة ، إنّما يتمّ إذا لم يكن في البين أصل حاكم مقتض لنجاسته ، وإلّا فلا يتمّ ، توضيح ذلك : أنّ الحكم بطهارة الملاقي المفروض ، إمّا يكون لأجل الاستصحاب الحكميّ وهو استصحاب طهارته ، أو لأجل الاستصحاب الموضوعيّ ، وهو أصالة عدم ملاقاته للنّجس ، إلّا أنّ استصحاب بقاء النّجاسة في العباء يكون أصلا حاكما مقتضيا لنجاسة ملاقيه ؛ إذ الشّكّ في طهارة الملاقي ونجاسته مسبّب عن الشّكّ في نجاسة العباء وعدمه ، وعليه ، فلا يلزم اجتماع استصحاب النّجاسة مع طهارة الملاقي حتّى يقال : بعدم إمكانه. (١)

الوجه الرّابع : ما عن بعض المحقّقين قدس‌سره : من أنّ الاستصحاب في مسألة العباء لا يجدي ولا تترتّب عليه نجاسة الملاقي إلّا بالتّلازم العقليّ ؛ وقد علّل ذلك بقوله : «لأنّ نجاسة الجامع لو فرض محالا وقوفها على الجامع وعدم سريانها إلى هذا الطّرف أو ذاك ، فلا تسري إلى الملاقي ، لأنّ نجاسة الملاقي موضوعها نجاسة هذا الطّرف أو ذاك الطّرف لا الجامع بما هو جامع ، وإثبات نجاسة أحد الطّرفين بخصوصه بنجاسة الجامع يكون بالملازمة العقليّة». (٢)

وفيه : أنّ المسألة في مثل العباء إنّما هي مسألة الكلّ والأجزاء لا الكليّ والأفراد ، فلا جامع كلّيّا حتّى يقال : إنّ الكلّيّ والجامع بما هو هو ، لا يقبل الطّهارة والنّجاسة ، لكونه أمرا مجرّدا غير مادّي ، ويقال : ـ أيضا ـ لو فرض محالا نجاسته ، فلا تسري إلى الملاقي.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٣.

(٢) بحوث في علم الاصول : ج ٦ ، ص ٢٥٤.

١٩٩

هذه هي الوجوه المتمسّك بها لدفع الشّبهة العبائيّة ، وقد عرفت ضعف بعضها ، ولكن التّحقيق في دفعها يقتضي أن يقال ـ تبعا للمحقّق العراقي قدس‌سره ـ : بأنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي في مسألة العباء لو استصحبت نجاسته ، وجه ذلك : أنّ نجاسة الملاقي إنّما تكون من آثار نجاسة الملاقى وأحكامها على نحو مفاد «كان النّاقصة» وأنت تعلم ، أنّ هذا العنوان لا حالة له سابقة متيقّنة ؛ إذ كلّ واحد من طرفي العباء يكون مشكوك النّجاسة قبل غسل أحد طرفيه ، وبعد غسله يكون طرف المغسول طاهرا قطعا ، والطّرف غير المغسول مشكوك النّجاسة من أوّل الأمر ؛ وأمّا استصحاب الجامع بين المحلّين مع قطع النّظر عن الانطباق على أحدهما ، فلا مجال له لعدم قبول الجامع بما هو هو للنّجاسة والطّهارة.

نعم ، يقبل الجامع والطّبيعيّ ، النّجاسة على تقدير الانطباق وتحقّقه بتحقّق الطّرف أو الفرد ، والمفروض أنّ الطّرف هنا ، إمّا هذا الطّرف ، أو ذاك (في الدّوران بين المحلّين) كما أنّ الفرد هنا إمّا هذا الفرد ، أو ذاك (في الدّوران بين الفردين) وقد عرفت : حال الطّرفين ، أو الفردين وأنّه لا يقين سابقا بهما.

وأمّا استصحاب نجاسة القطعة الشّخصيّة المردّدة ، فهو كاستصحاب الفرد المردّد الّذي لا يجري ؛ وأمّا استصحاب وجود النّجاسة في العباء على وجه مفاد «كان التّامّة» فهو جار لتماميّة أركانه ، لكنّه غير مجد لإثبات نجاسة الملاقي ؛ إذ هو إنّما يكون من آثار نجاسة الملاقى بنحو «كان النّاقصة» حيث تسري نجاسة الملاقى إلى الملاقي.

نعم ، استصحاب صرف وجود النّجاسة يجدي في ترتيب أثر عدم صحّة الصّلاة ، لما في الأخبار من منع وجود النّجاسة في ثوب المصلّي ، أو بدنه عن صحّة

٢٠٠