مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

وهذا الوجه قريب بالوجه الثّاني ، فيظهر جوابه من جوابه ، حيث إنّ تماميّة الإطلاق البدليّ كتماميّة الإطلاق الشّموليّ غير متوقّفة على عدم المانع ، بل الإطلاقان إنّما يتمّان بمقدّمات الحكمة فقط ، غاية الأمر ، يقع بينهما التّمانع في مادّة الاجتماع.

وبعبارة اخرى : إنّ الإطلاق البدليّ لا يتوقّف على شيء عدا مقدّمات الحكمة ، كالإطلاق الشّموليّ ، فهما ينعقدان بمعونتها فقط ، غاية الأمر ، الإطلاق الشّموليّ مانع عن العمل بالإطلاق البدليّ ، لا عن أصل انعقاده ، كما أنّ الإطلاق البدليّ ـ أيضا ـ مانع عن العمل بالشّموليّ ، لا عن أصل انعقاده ، فيكون بينهما التّمانع والتّدافع ، كما يكون بين كلّ دليلين متعارضين.

هذا تمام الكلام في الموقف الأوّل (ما إذا كان التّعارض بين الدّليلين).

وأمّا الموقف الثّاني (ما إذا كان التّعارض بين اكثر منهما) ففيه صور مختلفة عمدتها خمسة :

الصّورة الاولى : ما إذا ورد عام وخاصّان متباينان ، يكون بينهما وبين العامّ عموم وخصوص مطلق ، نظير قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء الكوفيين ولا تكرم العلماء البصريّين ، فلا إشكال في تخصيص العامّ بكلّ واحد منهما بلا لزوم انقلاب النّسبة ، إلّا إذا استلزم ذلك استيعاب التّخصيص واستغراقه ، بحيث لم يبق تحت العامّ شيء من أفراده ، أو استلزم ذلك استهجان التّخصيص وهو التّخصيص الأكثر ، فيقع حينئذ التّعارض بين العامّ ومجموع الخاصّين ، فلا بدّ من إعمال المرجّحات السّنديّة ، فإن اخذ بالخاصّين إمّا ترجيحا على العامّ أو تخييرا بينه وبينهما ، يعمل بهما معا لعدم التّعارض بينهما بالذّات ، ولا يعمل بالعامّ ، وإن اخذ بالعامّ إمّا ترجيحا أو

٣٤١

تخييرا ، فحيث إنّ المعارض للعامّ هو مجموع الخاصّين لا الجميع وكلّ واحد واحد منهما ، يقع التّعارض بينهما بالعرض ، فلا محيص من معاملة المتعارضين مع الخاصّين ، فإن كان لأحدهما مزيّة مرجّحة ، يؤخذ به فيخصّص به العامّ ويطرح الخاصّ الآخر ، وإلّا فيؤخذ بأحدهما تخييرا ، فيخصّص به العامّ ويطرح الآخر.

هذا إذا كان بين الخاصّين تعارض بالعرض ، وأمّا إذا كان بينهما تعارض بالذّات ، نظير قولنا : لا تكرم النّحويّين من العلماء ، وأكرم النّحويّين منهم ، فلا بدّ من إعمال التّرجيح أو التّخيير بينهما أوّلا ، وتخصيص العامّ بالرّاجح منهما ثانيا. نعم ، في المثال يخصّص العامّ لو رجّح الخاصّ المنفي أو اخذ به تخييرا ، إذ المثبت من الخاصّين يوافق العامّ ، فلا تنافي بينه وبين العامّ حتّى يخصّصه.

وكيف كان ، لا مجال في فرض تعارض الخاصّين بالذّات لإعمال التّرجيح أوّلا في العامّ ؛ إذ التّرجيح فرع المعارضة ، ومع فرض تعارض الخاصّين بالذّات ، لا يعارض العامّ إلّا ما هو ذو المزيّة من الخاصّين أو ما اخذ به تخييرا ، وأمّا الآخر فيسقط عن صلاحيّة المعارضة معه ، وعليه ، فلا بدّ أوّلا من إعمال التّرجيح أو التّخيير بين الخاصّين ، ثمّ تخصيص العامّ بما اخذ به منهما ترجيحا أو تخييرا.

ثمّ إنّ في تلك الصّورة ، إن كان الخاصّان مختلفين من جهة كثرة الأفراد وقلّتها بأن كان أحدهما ذا أفراد كثيرة ، بحيث كان تخصيص العامّ به مستوعبا أو مستهجنا ، لزم أوّلا إعمال التّرجيح بين الخاصّين أو التّخيير ، فإن رجّح ما له أفراد كثيرة أو اخذ به تخييرا ، يعامل معه ومع العامّ معاملة التّباين فيلاحظ فيهما إعمال التّرجيح أو التّخيير ، وأمّا إن رجّح الخاصّ الآخر أو أخذ به تخييرا ، فلا بدّ من تخصيص العامّ به.

٣٤٢

وأمّا القول بأنّه يخصّص حينئذ العامّ بالخاصّ الآخر الّذي لا يلزم من التّخصيص به محذور الاستهجان ويعامل مع ما يلزم منه المحذور ، معاملة التّباين. (١)

ففيه ما لا يخفى من الخلل : حيث إنّ المفروض كون الخاصّ الآخر معارضا بهذا الّذي يلزم من تخصيص العامّ به الاستهجان ، فلا مناص إذا من علاج تعارضهما بالتّرجيح أو التّخيير أوّلا ، وتخصيص العامّ على تقدير وعلاج التّعارض بينه وبين الخاصّ على تقدير آخر ثانيا.

الصّورة الثّانية : ما إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق ، نظير قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم النّحويّين منهم ، ولا تكرم الكوفيّين من النّحويّين ، والنّسبة بين العامّ والخاصّين كالنّسبة بين نفس الخاصّين عموم وخصوص مطلق ـ أيضا ـ فنقول : إنّ حكم الخاصّين على أحد وجهين :

أحدهما : أن يكون على وجه وحدة المطلوب.

ثانيهما : أن يكون على وجه تعدّد المطلوب بمعنى : أنّ إكرام مطلق النّحويين يكون مبغوضا وإكرام الكوفيّين منهم مبغوضا آخر أشدّ ، فعلى الأوّل (وحدة المطلوب) يخصّص العامّ بأخصّ الخاصّين (لا تكرم الكوفيّين من النّحويّين) لأنّه كما يخصّص به العام ، يخصّص به الخاصّ الأعمّ ـ أيضا ـ حسب إحراز وحدة المطلوب فيهما ، ومع تخصيصه به ، يخرج عن الحجّيّة في ما عدا مورد الأخصّ ، فلا يصلح للمعارضة مع العامّ كي تلاحظ النّسبة بينه وبين العامّ ، فيخصّص به ، بل العامّ يبقى

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ١٦١. مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.

٣٤٣

على حجّيّته في ما عدا مورد الخاصّ الأخصّ وهو الكوفيّين من النّحويّين من غير أن يزاحمه حجّة اخرى.

وأمّا على الثّاني (تعدّد المطلوب) فتخصيص العامّ بأخصّ الخاصّين قهريّ قطعيّ على كلّ تقدير ، سواء كان مستقلّا أو في ضمن أعمّ الخاصّين (لا تكرم النّحويّين) فعلى القول بانقلاب النّسبة ـ بعد ذلك ـ بين العامّ والخاصّ الأعمّ ، من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، تقع المعارضة بينهما في مادّة الاجتماع وهو العالم النّحويّ غير الكوفيّ ، حيث إنّ مقتضى العامّ وجوب إكرامه ، ومقتضى الخاصّ الأعمّ حرمة إكرامه. نعم ، لا تعارض بينهما في مادّتي الافتراق وهما : العالم غير النّحويّ ، فيجب إكرامه ، والعالم النّحويّ الكوفيّ ، فيحرم إكرامه ، وأمّا على القول المختار من عدم انقلاب النّسبة في موارد التّخصيصات المنفصلة ، يخصّص العامّ بهما جميعا.

هذا إذا لم يلزم من تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين المفروضين ، التّخصيص المستوعب أو المستهجن ؛ وأمّا إذا لزم منه أحد الأمرين ، فالمحذور لا يكون إلّا من ناحية التّخصيص بالأعمّ ؛ إذ تخصيص العامّ به مستلزم لتخصيصه بالأخصّ ـ أيضا ـ بخلاف العكس ، فلا مناص من تخصيص العامّ بخصوص الأخصّ ، فيصير العامّ والخاصّ الأعمّ كالمتباينين ، فيرجع إلى إعمال المرجّحات السّنديّة بينهما ، كما مرّ في الصّورة الاولى.

ثمّ اعلم ، أنّ استهجان التّخصيص ـ كما في مورد أكثريّته ـ أو قبحه ـ كما في مورد استيعابه ـ ، يختلف باختلاف القضايا ، ففي القضايا الخارجيّة ، نظير «كلّ من في العسكر قتل» أو «كلّ من في الدّار هلك» ونحوهما يكون المعيار في الاستهجان أو

٣٤٤

الاستيعاب إنّما هو ملاحظة الأفراد الفعليّة المحقّقة ، وأمّا في القضايا الحقيقيّة ذوات الأفراد المحقّقة والمقدّرة ، فالمعيار في الأمرين المذكورين ليس مجرّد ملاحظة الأفراد الفعليّة المحقّقة ، بل الأعمّ منها ومن المقدّرة المفروضة ، ففي مثل قولنا : أكرم العلماء ، يجوز تخصيصه بقولنا : لا تكرم فسّاقهم حتّى فيما إذا استوعب هذا الخاصّ تمام الأفراد الفعليّة المحقّقة للعامّ أو أكثرها ، بلا محذور لغويّة العامّ ؛ بداهة ، أنّ هنا يلاحظ الأفراد المقدّرة المفروضة ـ أيضا ـ للعامّ ، فبهذه الملاحظة لم يلزم محذور لغويّة العامّ بالتّخصيص.

الصّورة الثّالثة : ما إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما نسبة العموم من وجه ، نظير قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم النّحويّين ويستحب إكرام الصّرفيّين ، فالنّسبة بين الخاصّين هو العموم من وجه ، حيث إنّ مادّة الاجتماع فيهما هو النّحويّ الصّرفيّ ، وأمّا النّسبة بين العامّ وكلّ من الخاصّين هو العموم المطلق ، كما هو واضح ، والحكم هنا هو تخصيص العامّ بكلّ واحد من الخاصّين حتّى بالنّسبة إلى مادّة اجتماعهما ، هذا إذا لم يكن التّخصيص مستلزما للاستهجان والاستيعاب ، وإلّا فالحكم هو ما ذكر في الصّورة الاولى.

لا يقال : إنّ الخاصّين يسقطان بالمعارضة عن الحجّيّة في مادّة الاجتماع ، فلا وجه لتخصيص العامّ بهما حتّى بالنّسبة إلى مادّة الاجتماع ، بل لا بدّ أن يكون العامّ هو المرجع بالنّسبة إليهما بعد تعارضهما وتساقطهما.

لأنّه يقال : هذا إنّما يتمّ بالنّسبة إلى مدلولها المطابقيّ فهما يسقطان عن الحجّيّة فيه لأجل المعارضة ، وأمّا بالنّسبة إلى مدلولهما الالتزاميّ وهو نفي الثّالث فلا يتمّ ذلك ، بل هما باقيان على الحجّيّة ، ففي المثال المتقدّم يدلّ أحد الخاصّين على

٣٤٥

الاستحباب ، والآخر يدلّ على الحرمة ، فهما يدلّان بالالتزام على نفي الوجوب الّذي هو مفاد العامّ ، ومقتضى هذا ، خروج مادّة الاجتماع عن دائرة العموم وكونه محكوما بغير حكمه ، وهذا هو معنى تخصيص العامّ حتّى بالنّسبة إلى مادّة الاجتماع.

الصّورة الرّابعة : ما إذا ورد عامّان بينهما عموم من وجه ، مع ورود خاصّ ـ أيضا ـ نظير قولنا : «أكرم النّحويّين» و «لا تكرم الصّرفيّين» و «يستحب إكرام النّحويّ غير الصّرفيّ» ، ففي هذه الصّورة ، تارة يكون مفاد الخاصّ إخراج مادّة افتراق أحد العامّين ، كما في المثال ، فإنّ الخاصّ وهو قولنا : يستحب إكرام النّحويّ غير الصّرفيّ يفيد خروج مادّة افتراق العامّ الأوّل (أكرم النّحويّين) ، واخرى يكون مفاد الخاصّ إخراج مادّة اجتماع العامّين ، كما في مثل «اكرم النّحويّين «ولا تكرم الصّرفيّين» و «يستحب إكرام النّحويّ الصّرفيّ» فإنّ الخاصّ في هذا المثال يفيد خروج مادّة الاجتماع (النّحويّ الصّرفيّ) فعلى الأوّل (إخراج مادّة الافتراق) تنقلب النّسبة بين العامّين بعد التّخصيص ، من العموم من وجه إلى العموم المطلق ؛ إذ بعد تخصيص العامّ الأوّل (أكرم النّحويّين) وإخراج النّحويّ غير الصّرفيّ من تحته يصير العامّ الأوّل أخصّ مطلقا من العامّ الثّاني (لا تكرم الصّرفيّين) فالمراد من «أكرم النّحويّين» هو «أكرم النّحويّين الصّرفيّين ، وهذا أخصّ مطلقا من «لا تكرم الصّرفيّين» فكأنّه قيل : لا تكرم الصّرفيّين إلّا الصّرفيّين النّحويّين.

وأمّا على الثّاني (إخراج مادّة الاجتماع) تنقلب النّسبة بين العامّين بعد التّخصيص ، من العموم من وجه إلى التّباين ، فيختصّ العامّ الأوّل (أكرم النّحويّين) بوجوب إكرام النّحويّ غير الصّرفيّ ، لكون النّحويّ الصّرفيّ مستحب الإكرام حسب

٣٤٦

الفرض ، ويختصّ العامّ الثّاني (لا تكرم الصّرفيّين) بحرمة إكرام الصّرفيّ غير النّحويّ ، لكون الصّرفيّ النّحويّ مستحبّ الإكرام حسب الفرض ، فيصير العامّان حينئذ متباينين ، فيجب إكرام النّحويّ غير الصّرفيّ ويحرم إكرام الصّرفيّ غير النّحويّ ، ويستحبّ إكرام الصّرفيّ النّحويّ.

الصّورة الخامسة : ما إذا ورد عامّان متباينان ، نظير قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، ففي هذه الصّورة قد يقال : بانقلاب النّسبة من التّباين إلى العموم المطلق تارة ، أو إلى العموم من وجه اخرى ، فالأوّل (العموم المطلق) كما إذا ورد دليل ثالث ، فقال : لا تكرم فسّاق العلماء بعنوان الاستثناء من العامّ الأوّل (أكرم العلماء) أو قال :

أكرم عدول العلماء بعنوان الاستثناء من العامّ الثّاني (لا تكرم العلماء) فتنقلب النّسبة من التّباين إلى العموم المطلق ، كما لا يخفى.

والثّاني (العموم من وجه) كما إذا ورد دليل رابع مخصّص للعامّ الأوّل (أكرم العلماء) فقال : أكرم النّحويّين من العلماء ، فتنقلب نسبة التّباين بعد التّخصيصين (تخصيص أكرم العلماء بالنّحويّين وتخصيص لا تكرم العلماء بالعدول) إلى العموم من وجه ، فمادّة الاجتماع هو النّحويّ الفاسق ، ومادّتا الافتراق هما : النّحويّ العادل ، والعالم الفاسق غير النّحويّ. هذا في ما إذا كانت النّسبة بين الدّليلين.

وأمّا إذا كانت النّسبة بين أكثر منهما ، فالكلام فيه ـ أيضا ـ كذلك ، نظير قولنا : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشّعراء ، حيث إنّ النّسبة بين كلّ واحد من الثّلاثة مع الآخر هو العموم من وجه ، ومادّة الاجتماع هو العالم الفاسق الشّاعر ، فإذا ورد دليل رابع مخرج لهذا المجمع ، انقلبت النّسبة المذكورة إلى التّباين ،

٣٤٧

وإذا ورد دليل مخرج لمادّة افتراق أحدها ، تنقلب النّسبة بينه وبين الآخرين من العموم من وجه إلى العموم المطلق وهكذا.

إذا عرفت ذلك ، فقد يقال : إنّ مدار تعارض الأدلّة الثّلاثة أو أزيد وعدم تعارضها هو هذه النّسبة المنقلبة الثّانية الّتي تحصل بعد تخصيص بعض الأدلّة ببعضها ، لا النّسبة الاولى المتحقّقة بينها ، ولكنّ الحقّ هو لحاظ النّسبة الاولى وعدم الاعتناء بمسألة انقلاب النّسبة ؛ إذ غاية ما قيل ، أو يمكن أن يقال في تقريب انقلاب النّسبة وجهان : (١)

أحدهما : أنّ تعارض الأدلّة إنّما يكون باعتبار دلالتها التّصديقيّة وكشفها وحكايتها عمّا هو مراد واقعا وجدّا ، ولا ريب ، في أنّ العامّ إذا خصّص يتضيّق دائرة كشفه وحكايته وتنقلب عمّا كانت عليه قبل التّخصيص ، فتنقلب حينئذ نسبته مع العامّ الآخر المباين ، من التباين إلى العموم المطلق أو العموم من وجه.

ثانيهما : أنّ النّسبة بين المتعارضين إنّما تلاحظ إذا كان كلّ منهما حجّة فعليّة مع قطع النّظر عن الآخر المعارض له ، وإلّا فلا معنى للتّعارض بين اللّاحجّتين أو بين الحجّة واللّاحجّة ، ومن المعلوم ، أنّ العامّ إذا خصّص بدليل خاصّ ولو كان منفصلا ، لا يكون حجّة فعليّة في جميع مدلوله وهو العموم ، بل يكون حجّة في غير مورد الخاصّ وهو المقدار الباقي تحته بعد تخصيصه ، فإذا لا محيص من لحاظ النّسبة بينه وبين العامّ الآخر ، فتنقلب النّسبة بين العامّين ، من التّباين إلى ما اشير إليه من إحدى النّسبتين.

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار ، ج ٤ ، ص ٤١١ ؛ فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٤٧ و ٧٤٨.

٣٤٨

هذا ، ولكن في كلا الوجهين ما لا يخفى :

أمّا الوجه الأوّل ، فلأنّا نسلّم أنّ تعارض الأدلّة إنّما يلاحظ بمقدار دلالتها وكشفها عن المراد الواقعيّ ، بمعنى الدّلالة التّصديقيّة على المراد ، لا الدّلالة التّصوريّة ، لكن من المعلوم ـ أيضا ـ أنّ الحجّيّة إنّما تدور مدار الكاشفيّة النّوعيّة الحاصلة من إلقاء الخطابات الظّاهرة في مقام الإفادة والاستفادة ، لا على الكاشفيّة الشّخصيّة الفعليّة ، ومن المقرّر ـ أيضا ـ أنّ المخصّص المنفصل ، إنّما هو هادم للحجّيّة لا لأصل الظّهور ، بمعنى : أنّه لا يمنع عن انعقاد ظهور العامّ في العموم ولا يرفع هذا الظّهور بعد انعقاده ، أيضا.

نعم ، إنّما يكون مضيّقا لدائرة حجّيّة الظّهور وكاشفا عن عدم حجّيّة العامّ في مورد الخاصّ ، وعليه ، فالظّهور النّوعيّ والكاشفيّة النّوعيّة المنعقدة للعامّ تبقى بحالها بلا تغيير وتبديل ، وبلا تحديد وتضييق ، ومع بقاءها بحالها ، كحال قبل التّخصيص لا مجال لدعوى انقلاب النّسبة بينه وبين العامّ الآخر أو الخاصّ المنفصل الآخر ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون عادة المتكلّم إفادة مقصوده بكلامين منفصلين ، وبين أن لا تكون كذلك ، فتلك العادة لا تأثير لها في انعقاد الكاشفيّة النّوعيّة للعمومات ، غاية الأمر ، لا يجوز ترتيب الأثر على العامّ والعمل بعمومه ، إلّا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة واليأس عن الظّفر بها.

وأمّا الوجه الثّاني ، فلأنّ التّعارض في الأدلّة وإن كان لا بدّ وأن يكون بين الحجّيتين ، إلّا أنّ موضوع الحجّيّة ليس إلّا ما انعقد للعامّ من الظّهور والكاشفيّة ، وقد عرفت في الجواب عن الوجه الأوّل ، أنّها لا تنثلم لأجل التّخصيص بالمخصّص

٣٤٩

المنفصل ، بل تبقى بحالها ، وإنّما تنثلم به حجّيتها ، والنّسب بين الأدلّة إنّما تلاحظ باعتبار ظهوراتها النّوعيّة ، ومعه لا مجال لدعوى انقلاب النّسبة.

ثمّ إنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره فصّل بين ما إذا كانت النّسبة بين المتعارضات متّحدا فلا تنقلب النّسبة ، بل حكمها حكم المتعارضين ، فإن كانت النّسبة ، العموم من وجه ، وجب الرّجوع إلى المرجّحات ، وإن كانت النّسبة ، العموم المطلق خصّص بهما ، وبين ما إذا كانت النّسبة بينها مختلفة ، فقد تنقلب النّسبة ، وقد يحدث التّرجيح. (١)

وفيه : أنّك قد عرفت : أنّ مقتضى التّحقيق ، عدم انقلاب النّسبة وأنّ المعيار هو الظّهور النّوعيّ المنعقد للعامّ الّذي لا ينثلم بالمخصّص المنفصل ، بلا فرق بين صورة اتّحاد نسبة المتعارضات وصورة اختلافها.

تذييل :

لا بأس في ذيل مسألة انقلاب النّسبة بالتّعرض للبحث عن أدلّة ضمان العارية والإشارة إلى النّسبة بينها وإلى العلاج فيها لو كان بينها منافاة ومعارضة ، وإلى أنّ المقام ليس من باب انقلاب النّسبة وعدمه ، فنقول :

إنّ روايات الباب على خمس طوائف :

الاولى : ما تدلّ بإطلاقها أو عمومها على عدم الضّمان في العارية مطلقا بلا تقييد بشيء ، نظير صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وقال : ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن». (٢)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٠٢ إلى ١١١.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ١ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ٦ ، ص ٢٣٧.

٣٥٠

الثّانية : ما تدلّ على نفي الضّمان مع عدم الاشتراط وإثبات الضّمان مع الاشتراط ، كرواية الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلّا أن يكون اشترط عليه». (١)

الثّالثة : ما تدلّ على نفي الضّمان في غير عارية الدّنانير وإثبات الضّمان في عاريتها ، كرواية عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمانا إلّا الدّنانير ، فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا». (٢)

الرّابعة : ما تدلّ على نفي الضّمان في غير عارية الدّراهم وإثباته في عاريتها ، كرواية عبد الملك بن عمرو ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس على صاحب العارية ضمان ، إلّا أن يشترط صاحبها إلّا الدّراهم ، فإنّها مضمونة اشترط صاحبها أم لم يشترط». (٣)

الخامسة : ما تدلّ على نفي الضّمان في غير عارية الذّهب والفضّة وإثباته في عاريتهما ، كرواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله أو أبي ابراهيم عليهما‌السلام قال : «العارية ليس على مستعيرها ضمان ، إلّا ما كان من ذهب أو فضّة فإنّهما مضمونان ، اشترطا أم لم يشترطا». (٤)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ١ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ١ ، ص ٢٣٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ١ ، ص ٢٣٩.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ٣ ، ص ٢٤٠.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ٤ ، ص ٢٤٠.

٣٥١

هذه هي الرّوايات فلا بدّ من ملاحظة النّسبة بينها ، فنقول : إنّ الطّائفة الاولى عامّة ، فالنّسبة بينها وبين سائر الطّوائف هو العموم مطلقا ، وأمّا الطّائفة الثّانية فنسبتها مع الطّوائف الاخرى هو العموم من وجه ، فمادّة الاجتماع هي عارية الدّينار والدّرهم أو الذّهب والفضّة مع الاشتراط ، ومادّتا الافتراق هما الاشتراط في غير عارية الدّينار والدّرهم أو الذّهب والفضّة ، كعارية الكتب والأثواب وغيرهما ، وعارية الدّينار والدّرهم أو الذّهب والفضّة بلا اشتراط.

ولا ريب : أنّ مقتضى القاعدة تخصيص الطّائفة الاولى بجميع المخصّصات من الطّوائف الأخر ؛ وذلك لما ذكر من أنّه إذا كانت النّسبة بين المخصّصات العموم من وجه يخصّص العامّ بجميعها.

وأمّا الطّائفة الثّالثة والرّابعة فلكلّ منهما عقدان : سلبيّ وإيجابيّ ، تدلّان بالعقد السّلبيّ على عدم الضّمان في غير عارية الدّينار والدّرهم ، وبالعقد الإيجابيّ على ثبوت الضّمان في عاريتهما ، إلّا أنّهما بمنزلة طائفة واحدة.

بتقريب : أنّ الطّائفة الثّالثة تدلّ بالإطلاق على نفي الضّمان في عارية الدّرهم وبالنّص على ثبوته في عارية الدّينار ، والطّائفة الرّابعة عكس ذلك ، فتدلّ بالإطلاق على نفي الضّمان في عارية الدّينار وبالنّص على ثبوته في عارية الدّرهم ، فيجمع بين سلب كلّ مع إيجابه بتقييد الإطلاق ، والسّلب بالإيجاب ، فإطلاق الثّالثة وإن كان مقتضاه نفي الضّمان في عارية الدّرهم إلّا أنّه يقيّد بالرّابعة المصرّحة بوجود الضّمان في عارية الدّرهم ، وكذلك إطلاق الرّابعة وإن كان مقتضاه نفي الضّمان في عارية الدّينار

٣٥٢

إلّا أنّه يقيّد بالثّالثة المصرّحة بثبوت الضّمان في عارية الدّينار ، وهذا جمع عرفيّ ينتج نفي الضّمان في غير عارية الدّينار والدّرهم وإثباته فيهما.

هذا ، ولكن تقع المعارضة بين الطّائفة الثّالثة والرّابعة ، وبين الطّائفة الخامسة الدّالّة على عدم الضّمان في غير عارية الذّهب والفضّة وعلى ثبوت الضّمان في عاريتهما ، بتقريب : أنّ العقد السّلبيّ من الطّائفتين النّافيتين للضّمان في غير عارية الدّينار والدّرهم ، معارض بالعقد الإيجابيّ من الطّائفة الخامسة المثبتة للضّمان في عارية الذّهب والفضّة ، والنّسبة عموم من وجه ، فمادّة الافتراق للعقد السّلبيّ من الطّائفة الثّالثة والرّابعة ، من العقد الإيجابيّ من الطّائفة الخامسة ، نفي الضّمان في مثل عارية الكتب أو الأثواب أو نحوهما ممّا ليس من قبيل الدّنانير أو الدّراهم ، ومادّة الافتراق للعقد الإيجابيّ من الطّائفة الخامسة والعقد السّلبيّ من الطّائفة الثّالثة والرّابعة ، ثبوت الضّمان في عارية الدّينار والدّرهم ، ومادّة الاجتماع من الطّائفتين ومن الخامسة ، عارية الذّهب والفضّة غير المسكوكين كالحليّ ، فمقتضى العقد السّلبيّ منهما ، عدم الضّمان فيهما ، ومقتضى العقد الإيجابيّ منهما ، ثبوت الضّمان فيهما ، فيتعارضان.

ولا ريب : أنّ مقتضى القاعدة عندئذ تساقط المتعارضين والرّجوع إلى الطّائفة الاولى الدّالّة على نفي الضّمان في العارية مطلقا وهو المسمّى بالعامّ الفوق. نعم ، في المقام خصوصيّة تقتضي ترجيح العقد الإيجابيّ ـ في مادّة الاجتماع ـ على العقد السّلبيّ وتقديمه عليه.

توضيح ذلك : أنّا لو حملنا إطلاق العقد الإيجابيّ للطّائفة الخامسة الدّالّة على

٣٥٣

ثبوت الضّمان في مطلق الذّهب والفضّة ، على خصوص الدّينار والدّرهم ، كان حملا على فرد نادر وتقييدا مستهجنا ؛ لندرة استعارتهما جدّا لو لم تكن منتفية رأسا ، حيث لا يتأتّى الانتفاع بهما غالبا ، إلّا بالتّصرّف في عينهما في مقام البيع والشّراء ، والعارية كالوقف لا بدّ فيها من بقاء العين حتّى ينتفع بها ، فكما لا يصحّ وقف الدّنانير والدّراهم ـ كما ذهب إليه بعض الأصحاب ـ كذلك لا تصحّ عاريتهما ، وهذا بخلاف مثل الحليّ ، فعاريته أمر متداول متعارف ، وعليه ، فلا بدّ من الأخذ بالطّائفة الخامسة بعقدها الإيجابيّ في مادّة الاجتماع وهو عارية الذّهب والفضّة غير المسكوكين ، وتقديم هذا العقد الإيجابيّ على العقد السّلبيّ من الطّائفتين (الثّالثة والرّابعة) ثمّ تخصيص العامّ الفوق (الطّائفة الاولى) الدّال على عدم الضّمان في العارية مطلقا ، بهذا العقد الإيجابيّ ومقتضاه هو الضّمان في عارية مطلق الذّهب والفضّة. هذا كلّه في المقام الأوّل ، (التّعارض البدئيّ غير المستقرّ).

٣٥٤

(التّعارض المستقرّ غير البدئيّ)

وأمّا المقام الثّاني (التّعارض المستقرّ غير البدئيّ) فالكلام فيه يقع في مواضع :

(الأصل في التّعارض)

الموضع الأوّل : هل الأصل في التّعارض ـ بناء على القول بطريقيّة الأمارات ـ هو التّساقط أو التّخيير؟ وجهان بل قولان ، والحقّ هو التّساقط ، سواء ثبتت حجّيّة الأمارات من ناحية بناء العقلاء وسيرتهم ـ كما هو الحقّ ـ أو من ناحية الأدلّة اللّفظيّة ، أمّا بناء العقلاء فوجه التّساقط هو أنّه لا بناء ولا سيرة منهم على العمل بها عند المعارضة ، وعليه ، فيصير كلّ من الظّاهرين المتعارضين ، محكوما بحكم المجمل أو مجملا بالعرض ، وإن وصل الدّور إلى الشّكّ ، فيقال : إنّ البناء والسّيرة دليل لبّي لا إطلاق له كي يؤخذ به ، والمتيقّن منه صورة عدم المعارضة.

وأمّا الأدلّة اللّفظيّة فوجه التّساقط هو ما ذكر في مبحث العلم الإجماليّ من أنّ المحتملات ، في شمول تلك الأدلّة للمتعارضين وعدم شمولها ، ثلاثة : أحدها : شمول تلك الأدلّة بإطلاقها لكلتا الحجّتين المتعارضتين ؛ ثانيها : شمولها لإحداهما دون الاخرى ؛ ثالثها : عدم شمولها لشيء منهما ؛ والأوّل : يرجع إلى التّعبّد بالمتناقضين أو المتضادّين ؛ والثّاني : ترجيح بلا مرجّح ، فيرجع إلى ترجّح بلا مرجّح ، فيتعيّن الاحتمال الثّالث.

٣٥٥

لا يقال : إنّ مقتضى الأصل عند المعارضة هو التّخيير لا التّساقط ، بتقريب : أنّ كلّا من الدّليلين المتعارضين محتمل الإصابة للواقع ، والمانع من شمول دليل الحجّيّة لكلّ واحد منهما ، ليس إلّا ما اشير إليه من التّعبّد بالمتناقضين أو المتضادّين ، وهذا إنّما يلزم ، لو اخذ بإطلاق دليل الحجّيّة ، مع القول : بحجّيّة كلّ مطلقا حتّى عند الأخذ بالآخر ، لكن لنا رفع اليد عن هذا الإطلاق ، بتقييده بترك الأخذ بالآخر ، فهذا حجّة لو ترك ذاك ، وذاك حجة لو ترك هذا.

لأنّه يقال : مقتضى التّقييد المذكور ، حجّيّة كليهما عند ترك الأخذ بهما رأسا وبالمرّة ، فيعود المحذور البتّة.

لا يقال : يمكن القول بتقييد حجّيّة كلّ منهما بالأخذ به ، لا بترك الأخذ بالآخر ، بمعنى : أنّ كلّ واحد من المتعارضين حجّة عند الأخذ به ، ومقتضى هذا التّقييد هو التّخيير وجواز الأخذ بأيّ من المتعارضين.

لأنّه يقال : إنّ التّقييد المذكور يقتضي عدم حجّيّة شيء منهما عند عدم الأخذ وتركهما رأسا ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد حتّى القائل بالتّخيير.

(نفي الحكم الثّالث بالمتعارضين)

الموضع الثّاني : هل للمتعارضين المتساقطين بحكم الأصل والقاعدة الأوّليّة ، أن ينفيا الثّالث ، أم لا؟ نظير ما يدلّ أحد المتعارضين على وجوب شيء بالمطابقة والآخر على حرمته كذلك ، فيدلّان على عدم إباحته بالالتزام ، فهل تسقط حجّيتهما بالنّسبة إلى هذا المدلول الالتزاميّ ـ أيضا ـ بعد سقوطها بالنّسبة إلى المطابقيّ

٣٥٦

بالمعارضة ، أم لا؟ هذا في الشّبهة الحكميّة.

وكذلك في الشّبهة الموضوعيّة ، نظير ما قامت بيّنة على كون هذه الدّار ـ مثلا ـ لزيد ، وبيّنة اخرى على كونها لعمرو ، فتدلّان على عدم ملكيّتها لبكر ـ مثلا ـ بالالتزام ، فبعد تساقطهما بالنّسبة إلى المدلول المطابقيّ ، هل تسقط حجّيتهما بالنّسبة إلى هذا المدلول الالتزاميّ ، أم لا؟

قبل الورود في البحث لا بدّ من تحرير محل النّزاع وهو ما إذا لم يعلم بمطابقة أحد المتعارضين للواقع ، وإلّا نفس العلم بالمطابقة كاف في نفي الثّالث ، وهذا أمر واضح.

إذا عرفت هذا ، فنقول : تارة يلاحظ النّزاع بناء على القول بالطّريقيّة في حجّيّة الأمارات ؛ واخرى بناء على القول بالسّببيّة فيها. أمّا على القول بالطّريقيّة ، فالمسألة ذات قولين :

أحدهما : ما ذهب إليه جمع من الأساطين (١) من أنّ المتعارضين المتساقطين بحكم الأصل والقاعدة ، ينفيان الثّالث وهذا هو الصّواب.

ثانيهما : ما ذهب إليه بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) من عدم مانعيّة الالتزام بحكم ثالث بعد تساقط المتعارضين.

أمّا القول الأوّل ، فوجهه مبتن على مسلك المختار ، ـ كما مرّ في بعض البحوث

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٥٦ و ٧٥٧ ؛ ونهاية الدّراية : ج ٢ ، ص ٩١ ؛ ومنتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٣٢.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٣٦٨ و ٣٦٩.

٣٥٧

الاصوليّة ـ ، من عدم تبعيّة الدّلالة الالتزاميّة للمطابقيّة إلّا في مجرّد الوجود لا في الحجّيّة ـ أيضا ـ وهو أنّ الدّلالة الالتزاميّة وإن كانت دلالة على اللّازم ، والدّلالة على اللّازم والحكاية عنه وإن كانت متفرّعة على الدّلالة على الملزوم والحكاية عنه بالمطابقة وتكون تابعة لها وفي طولها ، إلّا أنّ الدّلالتين كليتهما حكايتان وفردان من الكشف والظّهور ، فتكونان مشمولتين لأدلّة الاعتبار والحجّيّة في عرض واحد ورتبة واحدة ، لا طوليّة ولا تبعيّة بينهما من هذه النّاحية.

وعليه : فلا يلزم من سقوط إحدى الدّلالتين عن الاعتبار والحجّيّة لأجل المانع ، سقوط الاخرى عنها بلا مانع ، ففي الخبرين المتعارضين أو الدّليلين الآخرين تسقط الدّلالة المطابقيّة منهما عن الحجّيّة لأجل المعارضة ؛ وأمّا الدّلالة الالتزاميّة فلا معارض لها حتّى تسقط ـ أيضا ـ بالمعارضة ، فتبقى بحالها نافية.

نعم ، ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى نفى الثّالث ـ أيضا ـ لكن بأحد المتعارضين لا بهما ، بمعنى : أنّ المتعارضين وإن كانا ساقطين في مدلوليهما المطابقيين ، إلّا أنّ حجّيّة أحدهما لا بعينه صالحة لنفي الثّالث. (١)

وفيه : أنّ الأحد لا بعينه ، إمّا يراد به المفهوميّ ، أو المصداقيّ :

والمفهوميّ منه ممّا لا شأن له ، ووزانه وزان سائر المفاهيم ممّا لا يصلح للحجّيّة ؛ والمصداقيّ منه لا وجود له في الخارج كي يكون حجّة ؛ بمعنى : أنّ عنوان أحدهما أمر انتزاعيّ فاقد للمصداق الخارجيّ ، فلا معنى لحجّيّته ، فإذا فرض عدم حجّيّة هذا الخبر وذاك لأجل التّعارض ، فمن أين يجيء أحدهما ويصير حجّة نافية للحكم الثّالث.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٨٥.

٣٥٨

اللهم إلّا أن يكون مراده قدس‌سره ما إذا علم بمطابقة أحد المتعارضين للواقع ، فيكون نظير موارد العلم الإجماليّ ، كالصّلاة الواجبة المردّدة بين الظّهر والجمعة ، فالحجّة المعتبرة الدّالّة على وجوب الصّلاة في ظهر يوم الجمعة معلومة محرزة لا ترديد فيها ، إنّما الشّكّ والتّرديد في الواجب عند مقام التّطبيق ، فتأمّل.

أمّا القول الثّاني ، (وهو قول بعض الأعاظم قدس‌سره) فوجهه مبتن على ما اختاره قدس‌سره من تبعيّة الدّلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الوجود والحجّيّة كليهما ، خلافا لما اخترناه ، من كون التّبعيّة إنّما هو في الوجود فقط دون الحجّيّة ، وذكر قدس‌سره للقول بعدم التّبعيّة في الحجّيّة موارد من النّقض ، ولكن نكتفي بذكر موردين منها : أحدهما : ما لو قامت بيّنة على وقوع قطرة من البول على ثوب ـ مثلا ـ وعلمنا بكذبها ، لكن يحتمل نجاسته بشيء آخر ، كالدّم ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثّوب ، لأجل أنّ إخبار البيّنة عن وقوع البول على الثّوب مطابقة ، إخبار عن نجاسته التزاما لمكان الملازمة ، وبعد سقوط البيّنة عن الحجّيّة في الملزوم للعلم بالخلاف ، لا مانع من الرّجوع إليها بالنّسبة إلى اللّازم ، ولا نظنّ أن يلتزم به فقيه ؛ ثانيهما : ما لو كانت دار تحت يد زيد ، وادّعاها عمرو وبكر ، فقامت بيّنة على كونها لعمرو ، وبيّنة اخرى لبكر ، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقيّ للمعارضة ، هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزاميّ والحكم بعدم كون الدّار لزيد وأنّها مجهول المالك؟ (١)

هذا ، ولكن في كلا النّقضين نظر : أمّا الأوّل ، فلأنّ الإخبار عن البول ، إخبار عن نجاسة خاصّة وهي النّجاسة البوليّة لا مطلقا ، ولا معنى لبقائها بعد العلم بكذب

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٣٦٨ و ٣٦٩.

٣٥٩

تنجّس الثّوب بالبول ، واحتمال النّجاسة بسبب آخر ، كوقوع الدّم ، أمر آخر أجنبيّ عن البيّنة المفروضة ، فيندفع باستصحاب الطّهارة أو بقاعدتها ، فليس مدلولا التزاميّا للبيّنة.

وأمّا الثّاني ، فلأنّه لا اشتراك للبيّنتين في نفي الثّالث ؛ إذ البيّنة المدّعية لكون الدّار ملك عمرو ، تدلّ التزاما على عدم كونها لزيد لكن لا مطلقا ، بل العدم اللّازم لكونها ملك عمرو ، وكذا البيّنة المدّعية لكون الدّار ملك بكر ، تدلّ على عدم كونها لزيد ، لكن لا مطلقا ، بل العدم اللّازم لكونها ملك بكر ، فالبيّنتان متعارضتان في المدلول الالتزاميّ ـ أيضا ـ فتتساقطان بالمرّة ، والنّتيجة ثبوت ملكيّة دار لزيد ؛ والعجب أنّه قدس‌سره أشار إلى هذه النّكتة ، أيضا.

هذا كلّه بناء على القول بالطّريقيّة في حجّيّة الأمارات ، وهو الحقّ.

وأمّا بناء على القول بالسّببيّة والموضوعيّة ، فعن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ التّعارض حينئذ يندرج في باب التّزاحم مطلقا ، فيصير المتعارضان متزاحمين ، وعليه ، فمقتضى القول بالسّببيّة هو التّخيير لا التّساقط. (١)

ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى التّفصيل وأنّ التّعارض ـ بناء على السّببيّة ـ يدخل في باب التّزاحم على بعض التّقادير. (٢) والحقّ عدم دخول التّعارض بناء عليها في باب التّزاحم مطلقا ، بل على هذا المسلك ـ أيضا ـ يجري حكم التّعارض من التّساقط بحكم الأصل والقاعدة العقليّة.

توضيح ذلك : أنّ السّببيّة المتصوّرة في الأمارة على أقسام ثلاثة :

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣٧.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٨٥.

٣٦٠