آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩
هذا ، ولكن اختار المحقّق النّائيني قدسسره عدم جريان الاستصحاب ، بدعوى : أنّ الشّكّ في بقاء الزّمان كاللّيل والنّهار مطلقا ، يرجع إلى الشّكّ في المقتضي ؛ إذ هو شكّ في استعداد الشّيء للبقاء في نفسه بلا حدوث شيء موجب لانعدامه ، وهذا ممّا لا يجري فيه الاستصحاب. (١)
وفيه : أنّك عرفت سابقا ، أنّ إطلاق روايات الاستصحاب يعمّ صورة الشّكّ في المقتضي ـ أيضا ـ فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.
وأمّا الشّبهة الحكميّة ، فلها أقسام أربعة :
أحدها : أن يكون الشّكّ فيها لأجل شبهة مفهوميّة ؛ وذلك نظير ما إذا شكّ في مفهوم «الغروب» الّذي جعل غاية لوجوب الصّيام ، وأنّه هل هو استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقيّة؟
ثانيها : أن يكون الشّكّ فيها لأجل تعارض الأدلّة ؛ وذلك نظير ما إذا شكّ في آخر وقت العشاءين ، وأنّه هل هو انتصاف اللّيل ـ كما هو المشهور ـ أو طلوع الفجر مع القول بحرمة التّأخير عن نصف اللّيل عمدا؟ كما عن بعض.
ثالثها : أن يكون الشّكّ فيها لأجل احتمال حدوث تكليف آخر جديد بعد الفراغ عن زوال تكليف سابق لتحقّق غايته وانقضاء أمده ؛ وذلك نظير العلم بوجوب الجلوس إلى الزّوال والشّكّ في وجوبه بعد تحقّق الزّوال ، لاحتمال حدوث تكليف جديد.
رابعها : أن يكون الشّكّ فيها لأجل احتمال كون تقييد الحكم بالزّمان من باب
__________________
(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٣١.
تعدّد المطلوب بعد الفراغ عن زوال تكليف سابق لتحقّق غايته وانقضاء أمده.
فقد فصّل الشّيخ الأنصاري قدسسره (١) وكذا المحقّق الخراساني قدسسره في جريان الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة بتمام أقسامها ، بين ما إذا اخذ الزّمان قيدا للفعل ، فلا يجري ، وبين ما إذا اخذ ظرفا له ، فيجري.
ولكن الصّواب هو عدم جريان الاستصحاب فيها بالنّسبة إلى القسمين الأوّلين مطلقا ، لا في الموضوع ، ولا في الحكم ؛ توضيحه : أنّ الإهمال وإن كان ممكنا واقعا متحقّقا في مقام الإثبات ، كالإجمال ، لكنّه غير ممكن حسب مقام الثّبوت ، فالشّيء المأمور به إمّا مرسل مطلق غير مقيّد بزمان خاصّ ، أو محدود مقيّد به ولا صورة اخرى ثالثة ، ومعنى قيديّة الزّمان الخاصّ الّذي يكون قيدا للوجوب أو للواجب ، انتفاء الوجوب أو الواجب بعده ، وأمّا ظرفيّة الزّمان فتكوينيّة فلسفيّة ، لا جعليّة تشريعيّة.
وعليه : فكلّ زمان خاصّ اخذ في لسان الدّليل ، نظير قوله تعالى : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أو قوله جلّ جلاله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) يكون قيدا دخيلا لا محالة ، لا ظرفا ووعاء صرفا ، فلو شكّ في بقاء هذا الزّمان وارتفاعه من ناحية الشّبهة المفهوميّة ، أو تعارض الأدلّة ، فلا مجال لاستصحاب الموضوع كالنّهار واللّيل ؛ إذ ليس هنا يقين وشكّ ، بل يكون هنا يقينان : أحدهما : اليقين باستتار القرص أو انتصاف اللّيل ؛ ثانيهما : اليقين بعدم ذهاب الحمرة المشرقيّة أو بعدم طلوع الفجر ، نظير ما إذا ارتكب زيد العادل ، معصية صغيرة فشكّ
__________________
(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢١٠ و ٢١١.
بعده في بقاء عدالته لأجل الشّبهة في مفهوم الفسق ـ من كونه متحقّقا بارتكاب الكبيرة فقط أو الأعم منه والصّغيرة ـ حيث لا مجال هنا لاستصحاب الموضوع وهو العدالة ، لعدم الشّكّ ، بل ليس في البين إلّا يقينان وهما اليقين بارتكاب الصّغيرة ، واليقين بعدم ارتكاب الكبيرة ، وكذا لا مجال لاستصحاب الحكم كوجوب الصّيام ، أو حرمة الإفطار في النّهار ، أو جواز الأكل والشّرب في اللّيل ، أو وجوب العشاءين أداء.
والوجه فيه : هو أنّ استصحاب الحكم مشروط بإحراز بقاء موضوعه ، والمفروض أنّه هنا مشكوك ؛ إذ موضوع الوجوب هو الصّيام الواقع في النّهار والمقيّد به ، ومع الشّكّ في بقاء النّهار ، يشكّ في بقاء الموضوع ، فالتّمسّك بكبرى قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين ...» والحال هذه يكون تمسّكا بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة وهو غير جائز بلا شبهة ؛ بداهة ، أنّه ليس في وسع الكبرى إثبات الصّغرى ، ولا في وسع العامّ إثبات مصاديقه.
وأمّا استصحاب عدم تحقّق الغاية ، كاللّيل والمغرب ، بما هو غاية ، ففيه : أنّه إن اريد بهذا الاستصحاب إثبات نهاريّة الزّمان الّتي يترتّب عليها وجوب الإمساك ، فهو من أجلى مصاديق الاصول المثبتة ، لكونه من باب إثبات أحد الضّدّين بنفي الضّدّ الآخر ؛ وإن اريد به استصحاب نفس عدم تحقّق الغاية ، فلا مجال له ؛ إذ ليس عدم تحقّق الغاية حكما شرعيّا ولا موضوعا ذا حكم شرعيّ ، حيث إنّ وجوب الصّيام حكم مترتّب على النّهار واليوم ، لا على عدم تحقّق اللّيل ؛ وإن اريد به استصحاب الحكم ، بدعوى : أنّ استصحاب عدم تحقّق الغاية بوصف كونها غاية ، ليس إلّا عبارة اخرى عن استصحاب الحكم ؛ بداهة ، أنّ عدم الغاية بوصف كونها
غاية ، عبارة عن بقاء الحكم ، فاستصحابه ليس إلّا استصحاب الحكم ، فلا مجال له ـ أيضا ـ لما عرفت من الإشكال في استصحاب الحكم في الشّبهة الحكميّة النّاشئة من الشّبهة المفهوميّة ، أو من تعارض الأدلّة ، هذا بالنّسبة إلى القسمين الأوّلين (من الأقسام الأربعة للشّبهة الحكميّة).
أمّا القسم الثّالث (الشّكّ في الحكم لأجل احتمال حدوث تكليف آخر جديد) : فالصّواب فيه عدم جريان الاستصحاب بالإضافة إلى وجود التّكليف السّابق ؛ لعدم الشّكّ في بقاءه ، بل المتيقّن زواله وارتفاعه ، وجريانه بالإضافة إلى عدمه ، بناء على القول بحجّيّة الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، لكون الشّكّ حينئذ في حدوث تكليف جديد ، والأصل عدمه ؛ وأمّا بناء على القول بعدم حجّيّته فيها ، فلا يجري الاستصحاب في المقام ؛ فلذا ذهب المحقّق النّائيني قدسسره (١) إلى عدم جريان استصحاب العدم وأنّ المرجع هو الاشتغال أو البراءة ، فقال ، ما محصّله : أمّا استصحاب عدم المجعول وهو الحكم ، فلا يجري ، لكونه استصحابا للعدم الأزليّ الثّابت عند عدم موضوعه المعبّر عنه بالعدم المحموليّ (مفاد ليس التّامة) ؛ وأمّا استصحاب عدم الجعل ـ بتقريب : أنّ جعل الوجوب للجلوس في المثال المتقدّم بعد الزّوال ، مشكوك فيه فالأصل عدمه ـ فهو من الاصول المثبتة ، حيث إنّه لا أثر له إلّا عدم المجعول الّذي يكون من لوازم عدم الجعل عقلا.
ولكن يمكن الجواب عنه أوّلا : بأنّ استصحاب العدم الأزليّ قد عرفت ما فيه من النّفي والإثبات ، والنّقض والإبرام ، وعرفت منّا ـ أيضا ـ تارة إثباته ، واخرى
__________________
(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٤٢ إلى ٤٤٨.
إنكاره ، وسيأتي التّكلّم فيه مرّة اخرى ، أيضا.
وثانيا : بأنّ استصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول ليس من الاصول المثبتة ؛ إذ لا فرق بين الجعل والمجعول إلّا بالاعتبار ، كالفرق بين الإيجاد والوجود ونحوهما.
وإن شئت ، فقل : إنّ العرف لا يرى التّفاوت والتّغاير بين الجعل والمجعول ، بل معنى عدم الجعل عندهم هو عدم المجعول ، والتّغاير بينهما إنّما هو بحسب الاعتبار والدّقّة ، وهذا أجنبيّ عن مورد الكلام.
أمّا القسم الرّابع : (الشّكّ في الحكم لأجل احتمال كون التّقييد بالزّمان من باب تعدّد المطلوب) فالظّاهر جريان استصحاب كلّيّ الحكم وطبيعيّة المتعلّق بالجامع بين المطلق والمقيّد ، أو الجامع بين المطلوب الأعلى (إتيان العمل في الوقت) وبين المطلوب الأدنى (إتيان العمل في خارج الوقت) وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب من اليقين بالطّبيعيّ ، كالوجوب ـ مثلا ـ وجامعه المتعلّق بالجامع بين الفعل المطلق والمقيّد ، ومن الشّكّ في بقاءه لأجل الشّكّ في أنّ الطّلب هل هو متعلّق بالفعل المطلق الّذي هو المطلوب الأدنى ، ولكن إيقاعه في الزّمان الخاصّ مطلوب الأعلى ، أو متعلّق بالفعل المقيّد فقط وهو كلّ المطلوب ، بحيث يرتفع الطّلب وينتهي أمده بعد انقضاء زمانه ، وهذا هو القسم الثّاني من استصحاب الكلّيّ الّذي يجري لو كان هناك أثر مترتّب على الكلّيّ ، فلو جرى كان القضاء تابعا للأداء ، وإلّا لاحتاج إلى أمر جديد ، وهو واضح ، كما أنّه يحتاج إلى أمر جديد لو قيل : بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة رأسا على ما ذهب الفاضل النّراقي قدسسره وبعض الأعاظم قدسسره. هذا تمام الكلام في التّنبيه الخامس.
(الاستصحاب التّعليقيّ)
التّنبيه السّادس : قد اختلفت كلمات الأعلام في حجّيّة الاستصحاب الجاريّ في الأحكام التّعليقيّة ، نظير الحكم بحرمة عصير العنب ونجاسته إذا غلى ، ثمّ صار زبيبا بعد مدّة وشكّ في بقاء هذا الحكم التّعليقيّ بالنّسبة إلى عصير الزّبيب ، فهل يصحّ استصحاب الحكم المذكور وإثباته لعصير الزّبيب إذا غلى ، أم لا؟
ذهب العلّامة الطّباطبائي (١) (بحر العلوم قدسسره) إلى حجّيّته وتبعه الشّيخ الأنصاري (٢) والمحقّق الخراساني قدسسرهما (٣) ولكن ذهب السّيّد محمّد المجاهد قدسسره إلى عدم حجّيّته (٤) ، مصرّحا بأنّ والده قدسسره السّيّد علي الطّباطبائي قدسسره (صاحب رياض المسائل) ـ أيضا ـ قائل بعدم الحجّيّة وتبعه بعض الأعاظم قدسسره (٥). والحقّ هو الحجّيّة.
قبل الورود في بيان وجه ذلك ، لا بأس بالإشارة إلى أمر وهو أنّ القضايا الشّرعيّة المتكفّلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام وإن كان أكثرها تنجيزيّة ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وقوله عزوجل : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وقوله جلّ جلاله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) إلّا أنّها قد تكون تعليقيّة ،
__________________
(١) راجع ، المصابيح : ص ٤٤٧ (مخطوط).
(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٢٢ إلى ٢٢٤.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣١٩ و ٣٢٠.
(٤) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٢٢.
(٥) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٣٨.
كالحكم بحرمة العصير العنبيّ ونجاسته إذا غلى ولم يذهب ثلثاه.
ولا يخفى : أنّ الموضوع في هذا المثال وهو العصير العنبيّ مع قطع النّظر عن الشّرط وهو الغليان ، معناه : واضح ، كما أنّ معنى الغليان واضح ليس فيه كلام ، فعند تحقّق الموضوع مع الشّرط يترتّب عليه الحكم وهو الحرمة أو النّجاسة ، بلا فرق بين أن يحصل الغليان في العصير العنبيّ بنفسه ، وبين أن يحصل بالنّار ونحوها ، خلافا لما عن شيخ الشّريعة الأصفهاني قدسسره (١) تبعا لابن حمزة قدسسره (٢) من الفرق بينهما ماهويّا ، فلو حصل الغليان بنفسه يترتّب عليه أحكام الخمر من الحرمة والنّجاسة ، فلا يطهر العصير مع هذا الغليان إلّا بذهاب الثّلثين البتّة ، وأمّا لو حصل بالنّار ونحوهما ، فيترتّب عليه حكم الحرمة دون النّجاسة ، فيحلّ بعد ذهاب ثلثيه بلا شبهة.
إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الوجه في ما قلناه : من حجّيّة الاستصحاب التّعليقيّ هو تماميّة أركانه من اليقين السّابق ، والشّكّ اللّاحق المتعلّقين بحكم موضوع واحد ، بتقريب : أنّ العنب عند صيرورته زبيبا لا يكون موضوعا آخر غير الموضوع الّذي حكم فيه بالحرمة والنّجاسة إذا غلى ـ حتّى يقال : إنّ ما هو المتيقّن بكونه موضوعا للحكم المذكور ، غير ما هو المشكوك كونه موضوعا له ـ وذلك ، لأنّ الزّبيبيّة ليست من المقوّمات الموجبة لتعدّد الموضوع ولاختلاف القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) بل هي من الطّواري والحالات اللّاحقة غير الموجبة لاختلاف القضيّتين وانثلام الوحدة بينهما ، وعليه ، فلا مانع من استصحاب الحكم المتيقّن المترتّب على عصير العنب عند غليانه ،
__________________
(١) راجع ، دروس في فقه الشّيعة : ج ٢ ، ص ١٨٢.
(٢) الوسيلة في ضمن سلسلة ينابيع الفقهيّة : ج ٢١ ، ص ١٥٧.
بعد صيرورته زبيبا ، فيحكم بالحرمة والنّجاسة هنا ـ أيضا ـ عند غليانه.
وقد أورد عليه المنكرون للحجّيّة بوجوه :
منها : المناقشة في المثال ، وأنّ العنوانين (العنب والزّبيب) متباينان عرفا ، وموضوعان مختلفان ، وعليه ، فالقضيّتان (المتيقّنة والمشكوكة) مختلفتان ، فلا مجال للاستصحاب.
وفيه : أنّه مناقشة في المثال ، ومثل ذلك لا يوجب عدم كون الاستصحاب التّعليقيّ حجّة.
ومنها : المعارضة بين الاستصحاب التّعليقيّ ، وبين الاستصحاب التّنجيزيّ ، بتقريب : أنّه كما يجري في الزّبيب الاستصحاب التّعليقي المقتضي لحرمته ونجاسته ، فيقال : إنّ العنب قبل صيرورته زبيبا كان عصيره بشرط الغليان حراما ونجسا ، فبعد صيرورته زبيبا يكون كذلك ، كذا يجري فيه الاستصحاب التّنجيزي المقتضي لحلّيّته وطهارته ، فيقال : إنّ الزّبيب قبل غليانه يكون حلالا وطاهرا ، فبعد غليانه وعند الشّكّ في طروّ الحرمة والنّجاسة عليه ، يكون كذلك ، والاستصحابان في عرض واحد فيتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى أصالة الطّهارة والحلّيّة.
وفيه : أنّ الطّهارة والحلّيّة الثّابتان للزّبيب كانتا مشروطتين بعدم الغليان ، فلا تنافيان الحرمة والنّجاسة المعلّقتين على وجود الغليان حتّى تقع المعارضة بين الاستصحابين.
وبعبارة اخرى : أنّ الاستصحاب التّعليقي المقتضي لحرمة الزّبيب ونجاسته إنّما هو بعد غليانه فيكون حاكما على الاستصحاب التّنجيزي المقتضي لحلّيّته الزّبيب
وطهارته ؛ إذ هو مشروط بعدم الغليان فلا مجال إذا لتوهّم المعارضة.
هذا ، ولكن تفصّى المحقّق النّائيني قدسسره عن تلك المعارضة : بأنّ الاستصحاب التّعليقيّ يكون حاكما على الاستصحاب التّنجيزيّ ، بتقريب ، أنّ الشّكّ في حلّيّة الزّبيب وطهارته بعد الغليان ، يكون مسبّبا عن الشّكّ في أنّ المجعول الشّرعيّ ، هل هو حرمة العنب المغليّ ونجاسة مطلقا حتّى حال صيرورته زبيبا ، أو حرمته ونجاسته حال العنبيّة فقط ، فإذا كان مقتضى الاستصحاب التّعليقيّ هو الحرمة والنّجاسة مطلقا ، كان مقتضاه حرمة الزّبيب المغليّ ونجاسته ، كالعنب المغليّ ، فلا مجال حينئذ للشّكّ في حلّيّته وطهارته حتّى يصل الدّور إلى المعارضة. (١)
ويمكن الإيراد عليه بوجهين : أحدهما : أنّ الشّكّين (الشّكّ في حلّيّة الزّبيب وطهارته ، والشّكّ في حرمة العنب المغليّ ونجاسته) ليسا بطوليّين وفي رتبتين كي يكونا من باب السّبب والمسبّب ، بل هما عرضيّان وفي رتبة واحدة مسبّبان عن علم إجماليّ متحقّق في البين وهو العلم بأنّ الحكم المجعول في حال الزّبيبيّة إمّا هو الحلّيّة والطّهارة أو الحرمة والنّجاسة.
ومن المعلوم : أنّ العلم الإجماليّ بحكم الزّبيب يكون مسبوقا بيقينين وعلمين تفصيليّين وهما اليقين بحلّيّة الزّبيب وطهارته قبل الغليان ، واليقين بحرمة العنب ونجاسته على تقدير الغليان ، وعليه ، فهنا استصحابان متعارضان : الأوّل : استصحاب حلّيّة الزّبيب قبل الغليان بنحو التّنجيز ، وهذا يقتضي حلّيّة الزّبيب المغليّ ؛ الثّاني : استصحاب حرمة العنب بعد الغليان بنحو التّعليق ، وهذا يقتضي حرمة الزّبيب
__________________
(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٧٤ و ٤٧٥.
المغليّ ، فيتساقطان ، والمرجع حينئذ قاعدة الطّهارة والحلّ والبراءة.
ثانيهما : أنّه لو سلّم كون الشّكّين طوليين ، وأنّهما كانا من باب السّبب والمسبّب ، لكنّه ليس الأصل السّببيّ (الاستصحاب التّعليقيّ) حاكما على الأصل المسبّبيّ (الاستصحاب التّنجيزيّ) إلّا في ما إذا كان الحكم في الشّكّ المسبّبيّ من آثار الأصل السّببيّ شرعا ؛ وذلك ، نظير الثّوب المتنجّس المغسول بماء مشكوك الطّهارة والنّجاسة مع العلم بحالته السّابقة وأنّها الطّهارة ، أو بدونه ، ففي مثل هذا يكون استصحاب طهارة الماء ، أو أصالة طهارته ، حاكما على استصحاب نجاسة الثّوب الثّابتة المتيقّنة قبل الغسل بهذا الماء ؛ إذ من المعلوم ، أنّ طهارة الثّوب إنّما هو من آثار طهارة الماء شرعا.
وأمّا إذا كان الحكم في الشّكّ المسبّبيّ من آثار الأصل السّببيّ عقلا ، فلا مجال للحكومة ، كما في مثال الزّبيب ؛ إذ حرمته بعد الغليان إنّما هو من اللّوازم العقليّة لجعل الحرمة على العنب بشرط الغليان مطلقا ولو صار زبيبا ، فلازم جعل الحرمة كذلك ، هو حرمة الزّبيب المغليّ وعدم حلّيّته ـ أيضا ـ عقلا لا شرعا ، كما لا يخفى ، ففي مثل ذلك لا مجال للحكومة ، بل يقال حينئذ : لم لا ينعكس الأمر ، كما عن المحقّق العراقي قدسسره ، بتقريب : أنّ التّعبّد ببقاء الحرمة المطلقة الشّامل لحال الزّبيبيّة ، كما أنّه ملازم لارتفاع الحلّيّة السّابقة عقلا في هذا الحال ، كذلك التّعبّد ببقاء الحلّيّة السّابقة في هذا الحال ، ملازم عقلا للتّعبّد بارتفاع الحرمة التّعليقيّة في هذا الحال. (١)
وبالجملة : ينفي أوّلا : السّببيّة والمسبّبيّة بين الشّكّين هنا حتّى تتحقّق
__________________
(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ١٧١.
الحكومة ، وثانيا : لو فرض إثباتهما ، فلا مجال ـ أيضا ـ لعدم ترتّب أثر شرعيّ على الأصل السّببيّ.
وقد تفطّن المحقّق النّائيني قدسسره لهذا الوجه الثّاني ، حيث أورد على نفسه : ب «أنّ» عدم حلّيّة الزّبيب وطهارته ، ليس من الآثار الشّرعيّة المترتّبة على حرمة العنب المغليّ ونجاسته ، بل لازم جعل حرمه العنب ونجاسته مطلقا حتّى مع تبدّله إلى الزّبيب ، هو عدم حلّيّة والطّهارة عقلا ، وإلّا لزم اجتماع الضّدّين ، فاستصحاب الحرمة والنّجاسة التّعليقيّة لا يثبت عدم حلّيّة الزّبيب المغليّ وطهارته ؛ لأنّ إثبات أحد الضّدّين بالأصل لا يوجب رفع الضّدّ الآخر ، إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت».
وأجاب قدسسره عنه بالفرق بين السّببيّة والمسبّبيّة الجارية في الشّبهات الحكميّة ، وبينها الجارية في الشّبهات الموضوعيّة ، بأنّ شرطيّة التّرتّب الشّرعيّ إنّما هو في الاستصحاب الموضوعيّة ، وأمّا الاستصحابات الحكميّة فيترتّب عليها جميع الآثار حتّى العقليّة ؛ وذلك ، لأنّ أحد طرفي المشكوك فيه بالشّكّ المسبّبيّ في الشّبهات الموضوعيّة إنّما هو من آثار المشكوك فيه بالشّكّ السّببيّ شرعا ، مع قطع النّظر عن التّعبّد بالأصل الجاري في السّبب ، وعند ذلك يرفع الأصل السّببي موضوع الأصل المسبّبي ، وأمّا الشّبهات الحكميّة فلا يعتبر فيها ذلك ، بل نفس التّعبّد بالأصل السّببيّ يقتضي رفع الشّكّ المسبّبيّ شرعا ؛ لأنّ المسبّب يصير أثرا شرعيّا للسّبب بالتّعبّد بالأصل الجاري فيه.
ثمّ ذكر قدسسره سرّ ذلك ، فراجع كلامه قدسسره. (١)
__________________
(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٧٧.
وفيه : أوّلا : أنّه لا فرق في اعتبار شرعيّة ترتّب المسبّب على السّبب في الحكومة ، بين الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة ، فلا بدّ أن يكون الحكم في الشّكّ المسبّبي من آثار الأصل السّببيّ شرعا مطلقا ، كما في مثال الثّوب ونحوه ، على ما تقدّم ، ودعوى الفرق بينهما تطويل بلا طائل ، وإطالة بلا فائدة.
وثانيا : أنّه قد تقدّم بيان عدم الطّوليّة وفقد السّببيّة والمسبّبيّة بين الحرمة والنّجاسة في العنب المغليّ ، وبين الحلّيّة والطّهارة في الزّبيب بعد الغليان ، فقلنا : إنّ النّسبة بين الحكمين هي العرضيّة والمضادّة المستتبعة لملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر ، ومن الواضح ، أنّ مقتضى العرضيّة والمضادّة ، عدم المجال لتقديم الاستصحاب التّعليقيّ وترتيب لازمه من نفي الحلّيّة والطّهارة.
ومنها (من الوجوه الّتي اورد على الاستصحاب التّعليقيّ) : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من ثبوت المستصحب واليقين بحدوثه في زمان ، ومن الشّكّ في بقاءه وارتفاعه في زمان آخر ، وليس في الاستصحاب التّعليقيّ إلّا مجرّد قابليّة المستصحب للثّبوت والحدوث باعتبار وتقدير ، فلا يقين بثبوته وحدوثه حتّى يشكّ في بقاءه.
وبعبارة اخرى : لا بدّ في حجّيّة الاستصحاب من ثبوت حكم تكليفيّ أو وضعيّ ، أو ثبوت موضوع ذي حكم كذلك في زمان قطعا ، كما لا بدّ ـ أيضا ـ من الشّكّ في بقاءه وارتفاعه بسبب من الأسباب حتّى تتمّ أركان الاستصحاب ، وأمّا مجرّد القابليّة والشّأنيّة للثّبوت باعتبار وتقدير ، كما هو المفروض في الاستصحاب التّعليقيّ ، فغير كاف في اعتبار الاستصحاب والحجّيّة.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني قدسسره ، بما لا يخلو عن قوّة ، محصّله : أنّ المعتبر
في الاستصحاب ليس إلّا الشّكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته ، أعمّ من أن يكون ذلك الثّبوت فعليّا ، أم يكون تعليقيّا ، والمعلّق قبل وجود المعلّق عليه وإن لم يكن موجودا فعلا ، لكنّه موجود بنحو التّعليق ، وهذا المقدار من الوجود والثّبوت كاف في جريان الاستصحاب. (١)
ولك أن تقول : إنّ الاستصحاب إنّما يدور مدار فعليّة الشّكّ واليقين ، سواء كان المتيقّن المستصحب فعليّا ، أم لا ؛ إذ مقتضى أدلّة حجّيّته وتناسب الحكم والموضوع وأنّ ما هو اليقين لا ينبغي أن ينقض بالشّكّ ، هو كون الموضوع والمدار هو نفس اليقين والشّكّ فلا بدّ من كونهما فعليّين ، وأمّا المستصحب المتيقّن ، فلا تعتبر فيه الفعليّة ، كما لا يعتبر فيه الوجود ـ أيضا ـ بل الاستصحاب يجري فيه بلا شبهة وإن كان عدميّا.
نعم ، لا بدّ من أن يكون المستصحب ممّا يترتّب على استصحابه أثر عمليّ ، فلو ورد «العصير العنبيّ إذا غلى يحرم أو ينجس» ثمّ صار العنب زبيبا ، فشكّ أنّ عصيره ـ أيضا ـ يحرم أو لا؟ ، فالصّواب في هذا الفرض جريان الاستصحاب وعدم منع التّعليق منه بلا ارتياب ؛ وذلك ، لما اشير إليه آنفا من أنّ الاستصحاب ، يشترط فيه أمران : أحدهما : فعليّة الشّكّ واليقين ؛ ثانيهما : كون المستصحب ذا أثر شرعيّ عمليّ ، وكلاهما هنا حاصلان ، أمّا فعليّتهما فواضحة ؛ وأمّا الأثر العمليّ فكذلك ، حيث إنّ التّعبّد بالقضيّة التّعليقيّة في المثال المفروض ، تترتّب عليه فعليّة حكم الحرمة والنّجاسة لدى فعليّة الغليان.
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٢٠ إلى ٣٢٢.
وبعبارة اخرى : تستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان حال العنبيّة ، حال الزّبيبيّة ـ أيضا ـ وينتج فعليّة الحرمة على تقدير فعليّة الغليان في هذه الحال ، كما في تلك الحال بلا إشكال ، ولمّا كان التّعليق والتّرتّب شرعيّا لا عقليّا ، لم يكن لشبهة الإثبات مجال أصلا.
ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدسسره قد أنكر حجّيّة الاستصحاب التّعليقيّ معلّلا بوجوه :
أحدها : أنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يوجد ويتقرّر بوجود موضوعه وتقرّره بأجزائه وشروطه ؛ وذلك ، لأنّ نسبة الموضوع إلى الحكم ، نسبة العلّة إلى المعلول ، فلا يعقل تقدّم الحكم على موضوعه ، والموضوع في مثال العنب مركّب من جزءين وهما : العنب والغليان ، سواء كان بنحو الوصف ، فيقال : «العنب المغليّ يحرم وينجس» أو بنحو الشّرط فيقال : «العنب إذا غلى يحرم وينجس».
وعليه : فقبل فرض الغليان ، لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقاءه ، لما تقدّم من أنّه يعتبر في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون للمستصحب نحو وجود ونوع تقرّر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركّب فقط ، لا يترتّب عليه حكم شرعيّ ، إلّا إذا انضمّ إليه جزءه الآخر.
ثانيها : أنّ الأثر المترتّب على أحد جزئي المركّب ، ليس إلّا أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر ، لترتّب عليه الأثر ، وهذا أمر عقليّ لا شرعيّ ؛ إذ هو إنّما يكون من لوازم جعل الحكم على الموضوع المركّب ، فهذه قضيّة تعليقيّة عقليّة ، فلا مجال لاستصحابها.
ثالثها : أنّ الأثر المترتّب على أحد جزئي المركّب وهو «لو انضمّ إليه الجزء
الآخر لترتّب عليه الأثر» ، مضافا إلى كونه أمرا عقليّا ، كما عرفت في الوجه الثّاني ، يكون مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزئيه ، فلا معنى لاستصحابه ، ألا ترى ، أنّ العنب المجرّد عن الغليان ليس له أثر إلّا كونه لو انضمّ إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النّجاسة ، وهذا المعنى ممّا لا شكّ في بقاءه ، فلا يجري الاستصحاب في مثل ذلك. (١)
هذا ، ولكن لا يخفى ضعفه تلك الوجوه :
أمّا الوجه الأوّل ، فللإيراد عليه : أوّلا : بأنّ الحكم المعلّق على شيء مركّب ، كما تقدّم ، ليس عدما محضا ، بل هو حكم متعلّق للجعل ، له ثبوت ، غاية الأمر ، يكون ثبوته تعليقيّا باعتبار كون أحد جزئي موضوعه متحقّقا ، لا يترتّب عليه الأثر الفعليّ إلّا بتحقّق جزءه الآخر ، وهذا المقدار من الثّبوت كاف في جريان الاستصحاب.
وثانيا : بأنّ المعتبر في الاستصحاب ، كما تقدّم ـ أيضا ـ ليس إلّا أمرين : أحدهما : فعليّة الشّكّ واليقين ؛ ثانيهما : كون المتيقّن ذا أثر شرعيّ ، وأمّا فعليّة المتيقّن ، فلا تعتبر ، والمفروض أنّ اليقين والشّكّ هنا فعليّان متعلّقان بقضيّة تعليقيّة شرعيّة ، موضوعها العنب الّذي تبدّل بعض حالاته بأن صار زبيبا ، فيجري استصحاب هذه القضيّة ويتعبّد ببقائها ويكون أثر القضيّة المستصحبة حرمة العصير الزّبيبيّ إذا غلى ، بل المستصحب في هذا المثال هو نفس الحرمة المعلّقة الّتي تصير فعليّة بفعليّة ما علّق عليه من الغليان.
وأمّا الوجه الثّاني : فلما تقدّم من أنّ مصبّ الكلام ومورد النّقض والإبرام في
__________________
(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٦٣ إلى ٤٦٦.
الاستصحاب التّعليقيّ إنّما هو القضايا التّعليقيّة الشّرعيّة ، كقضيّة حرمة العصير العنبيّ ونجاسته إذا غلى لو شكّ في بقاءها أو في بقاء ما فيها من الحكم المعلّق على تقدير تبدّل بعض حالات موضوعها ، كصيرورة العنب زبيبا ، فليس في مصبّ الكلام أثر من المعنى العقليّ أو القضيّة التّعليقيّة العقليّة حتّى يستلزم القول بالأصل المثبت.
نعم ، المعنى العقليّ أو القضيّة التّعليقيّة العقليّة إنّما يكون في القضايا التّعليقيّة العقليّة ، بأن كانت مشتملة على أحكام متعلّقة بموضوعات مركّبة ، وقد وجد أحد أجزاء تلك الموضوعات.
وبعبارة أوضح : إنّ مفروض البحث هنا هو الحكم الشّرعيّ المجعول بنحو الشّرط والتّعليق ، فلا معنى لإرجاع مثل هذا إلى قضيّة جعل الحكم على موضوع مركّب وجد أحد جزئيه فقط حتّى يقال : إنّ استصحابه على هذا التّقدير من الاصول المثبتة ، لكون التّعليق حينئذ من القضايا العقليّة.
اللهمّ إلّا أن يقال : برجوع القضايا التّعليقيّة الظّاهريّة إلى القضايا التّنجيزيّة لبّا ، برجوع القيود والشّروط في القضايا إلى الموضوعات لا الأحكام ، بأن يقال : مثلا ، قضيّة العصير العنبيّ إذا غلى يحرم ، ترجع إلى قضيّة العصير المغليّ يحرم ، فالموضوع مركّب لبّا من جزءين ، فلو وجد أحد جزئيه فقط وهو العصير وصار فعليّا ، لكان الأثر المترتّب عليه هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر وهو الغليان وصار فعليّا ، لترتّب عليه أثر الحرمة والنّجاسة. وهذا التّعليق ، كما ترى ، أمر عقليّ غير قابل للاستصحاب الّذي هو من الاصول التّعبّديّة.
وفيه : أنّ المرجع لتشخيص مثل هذه المسألة هو العرف ، لا الدّقة ، والقيود
كالشّروط ترجع عندهم إلى الحكم ، وهذا هو ظاهر القضيّة التّعليقيّة ، فالموضوع في المثال المتقدّم هو نفس العصير أو العنب ، والغليان يكون شرطا للحكم لا جزءا لموضوعه.
وإن شئت ، فقل : الحكم في المثال يكون معلّقا على الشّرط في لسان الدّليل بعد الفراغ عن ترتّبه على موضوع بسيط ، وليس مجعولا على موضوع مركّب وجد أحد جزئيه حتّى يحكم العقل بأنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر ، كى يقال : هذا المعنى عقليّ مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزئيه ، فلا معنى لاستصحابه.
وأمّا الوجه الثّالث : فلأنّ الكلام ليس في العنب الباقي على حالته العنبيّة من دون تبدّل بعض حالاته حتّى يقال : إنّ حرمته على تقدير غليانه مقطوعة لا شكّ فيها ، فلا معنى لاستصحابها ، بل الكلام فيما إذا تبدّل بعض حالات العنب بأن صار زبيبا ، ويكون هذا سببا للشّكّ في البقاء ، بحيث يشكّ حال كونه زبيبا في بقاء حرمته المعلّقة على الغليان حال كونه عنبا.
ثمّ إنّ الشّيخ الأنصاري قدسسره بعد ما أشار إلى صحّة الاستصحاب التّعليقيّ في المثال المتقدّم ، وأنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في اعتباره من حيث الأخبار ، أو من حيث العقل ، بين أنحاء تحقّق المستصحب ، ذهب إلى وجه آخر لتصحيح الاستصحاب في المقام ، وعدل عن الاستصحاب التّعليقيّ إلى الاستصحاب التّنجيزيّ ، بدعوى : أنّ الغليان حال العنبيّة كان سببا للحرمة ، فالاستصحاب يقتضي بقاء السّببيّة حال الزّبيبيّة ـ أيضا ـ والسّببيّة لا تكون ـ كالحرمة ـ معلّقة على تحقّق
الغليان في الخارج حتّى يقال : إنّ استصحابها ـ أيضا ـ كاستصحاب الحرمة ، تعليقيّ ؛ إذ السّببيّة إنّما استفيدت من القضيّة الشّرطيّة الشّرعيّة وهي قولنا : العصير العنبيّ إذا غلى يحرم ، ومن المعلوم ، أنّ صدق القضيّة الشّرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها. (١)
ولكن يرد عليه : بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كانت الملازمة والسّببيّة مجعولة شرعا ، فيكون التّرتّب ، حينئذ ، بين الغليان والحرمة وهما : السّبب والمسبّب ، فلا يلزم القول بالأصل المثبت ، وأمّا لو لم يكن مجعولة شرعا ، بل هي منتزعة عن التّكليف ، كما هو مختاره قدسسره فلا مجال للاستصحاب حينئذ ؛ بداهة ، أنّه لو فرض عدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع وهو التّكليف (الحرمة حال الزّبيبيّة) ، فلا يجري الاستصحاب في الوضع الّذي يكون منتزعا منه.
وقد اورد على هذا الكلام ـ أيضا ـ بوجهين آخرين غير تامّين :
أحدهما : ما عن المحقّق النّائيني قدسسره محصّله : أنّ الملازمة بين العنب المغليّ وبين نجاسته وحرمته ، ملازمة بين تمام الموضوع والحكم ، والشّكّ في بقاء الملازمة بين الموضوع والحكم ، لا يعقل إلّا بالشّكّ في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النّسخ ، ولا إشكال فيه وهو غير الاستصحاب التّعليقيّ المصطلح عليه. (٢)
وجه عدم تماميّة هذا الإيراد : هو أنّ الموضوع ليس العنب المغليّ ، بل هو العنب ؛ لما تقدّم من رجوع القيد إلى الحكم لا الموضوع هذا ، مضافا إلى أنّ الشّكّ ليس في مورد العصير العنبيّ المغليّ حتّى يقال : لا يعقل هذا الشّكّ إلّا بالشّكّ في نسخ
__________________
(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٢٣ و ٢٢٤.
(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٧٢.
الملازمة ، بل هو في العصير الزّبيبيّ ، وهذا ـ أيضا ـ لا من ناحية النّسخ ، بل لأجل أنّ سببيّة الغليان للحرمة هل تدور مدار العنبيّة ، أم تبقى مع صيرورة العنب زبيبا ، أيضا؟ فلا يكون الشّكّ من ناحية النّسخ ، كي يورد بأنّ استصحاب عدم النّسخ غير الاستصحاب التّعليقيّ.
ثانيهما : ما عن الإمام الرّاحل قدسسره من الإشكال المثبتيّة ، بأنّ جعل الملازمة والسّببيّة وإن كان شرعيّا ، لكن وجود اللّازم والمسبّب عند وجود صاحبهما عقليّ ، فيكون مثبتا. (١)
وجه عدم تماميّة هذا الإيراد : أنّ مقتضى استصحاب السّببيّة حال الزّبيبيّة هو أنّ الشّارع جعلها في هذه الحال ـ أيضا ـ كحال العنبيّة ، ومعنى ذلك تعميم دليل العصير العنبيّ إذا غلى يحرم لهذه الحال كتلك الحال ، فالاستصحاب يتمّم الدّليل الاجتهاديّ ، فكأنّه قيل : العصير الزّبيبيّ إذا غلى يحرم.
وعليه : فكما أنّ ترتّب الحرمة على العصير العنبيّ بشرط الغليان ، أمر شرعيّ ، كذلك ترتّبها على العصير الزّبيبيّ بشرطه ، أمر شرعيّ ، فلا يلزم جريان الأصل المثبت.
وبعبارة أوضح : معنى استصحاب السّببيّة حال الزّبيبيّة ، أنّ الحرمة لا تدور مدار العنبيّة فقط ، بل حكم لجسم خاصّ وهو العصير عند غليانه ، سواء كان من العنب أو من الزّبيب ، فدليل العصير العنبي إذا غلى يحرم ، يعمّ العصير العنبيّ بالأصالة ، والعصير الزّبيبيّ بمعونة الأصل ، فالسّببيّة الشّرعيّة إنّما تحرز حال الزّبيبيّة بالاستصحاب تعبّدا ، وتترتّب عليها آثارها الشّرعيّة قهرا ، وهذا ليس من الأصل المثبت أصلا.
__________________
(١) راجع ، الاستصحاب : ص ١٣٨.
(استصحاب أحكام الشّرائع السّابقة)
التّنبيه السّابع : أنّ المعروف هو صحّة استصحاب عدم النّسخ ، بل عن المحدّث الأسترآبادي أنّه من الضّروريّات (١) ، ولكن اشكل على هذا الاستصحاب بوجهين :
الوجه الأوّل : ما يكون مشتركا بين استصحاب حكم من أحكام شريعتنا المقدّسة ، وبين استصحاب حكم من أحكام الشّرائع السّابقة ، محصّله : أنّ الاستصحاب لا بدّ فيه من اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) على ما اشير إليه في غير موضع ، والمفروض تعدّد الموضوع فيهما وعدم الاتّحاد بينهما ، لا بالنّسبة إلى الشّرائع السّابقة ، ولا بالنّسبة إلى شريعتنا.
أمّا بالنّسبة إلى الشّرائع السّابقة ، فيقال في تقريب ذلك : أنّ المكلّف المتيقّن بالحكم فيها ، قد مات ، والمكلّف الشّاكّ الموجود فعلا ، لم يكن متيقّنا به ولم يعلم ثبوت الحكم له من الأوّل حتّى يشكّ في بقاءه فيستصحبه ، بل شكّه فيه ، شكّ في أصل ثبوته لاحتمال نسخه ، لا في بقاءه بعد الفراغ عن ثبوته ، فإذا لا مجال للاستصحاب في حقّه ، بل إثبات الحكم له يكون من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
وأمّا بالنّسبة إلى شريعتنا ، فيقال في تقريب ذلك : من كان متيقّنا بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ هو المكلّف الموجود في عصر الحضور وقد مات ، والمكلّف الموجود في هذا الزّمان ، المعدوم في ذلك العصر ، لم يكن متيقّنا به حتّى يشكّ في بقاءه ، بل هو شاكّ من الأوّل لاحتمال نسخه ، فلا مجال في حقّه الاستصحاب.
__________________
(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٣٢.