مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

ممّا لا إشكال فيه ولكن خارجة عن فرض الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فيجب على المكلّف العمل بوظيفة الشّاك ما دام شاكّا ، وبوظيفة المتيقّن بعد زوال الشّكّ وحصول اليقين.

وأمّا إن تقدّم زمان اليقين على الشّكّ ، نظير ما إذا علم وتيقّن يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء وشكّ يوم الجمعة في عدالته يوم الأربعاء ، لأجل احتمال كون ذلك اليقين السّابق جهلا مركّبا ، فهذه الصّورة الّتي يسمّى الشّكّ فيها بالشّكّ السّاري هي مجرى قاعدة اليقين لا الاستصحاب ، وسيجيء البحث عن تلك القاعدة بعد الفراغ عن البحث في الاستصحاب.

الأمر الخامس : تقسيم الاستصحاب ، فنقول : إنّ الاستصحاب يقسّم باعتبارات ثلاث :

أحدها : باعتبار المستصحب ، فيقسّم تارة من جهة كونه وجوديّا وعدميّا ؛ واخرى من جهة كونه حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ ؛ والحكم الشّرعيّ ـ أيضا ـ يقسّم إلى التّكليفيّ والوضعيّ ، وإلى الكلّيّ والجزئيّ.

ثانيها : باعتبار منشأ اليقين بحدوث شيء ، فيقسّم من جهة أنّ منشأه هو الدّليل اللّبيّ من العقل والإجماع ؛ ومن جهة أنّ منشأه هو الدّليل اللّفظيّ من الكتاب والسّنة ؛ ومن جهة أنّ منشأه هو السّماع أو الرّؤية ، نظير ما إذا كان المستصحب من الامور الخارجيّة والموضوعات العينيّة الجزئيّة.

ثالثها : باعتبار منشأ الشّكّ في البقاء ، فيقسّم تارة من جهة أنّ منشأه هو احتمال انقضاء استعداد المقتضي للبقاء ، أو الشّكّ في مقدار استعداده له ، وهذا هو

١٢١

المسمّى بالشّكّ في المقتضي.

واخرى ، من جهة أنّ منشأه هو احتمال طروّ المانع بعد الفراغ عن العلم بوجود المقتضي وإحراز قابليّته للاستمرار والبقاء ، وهذا هو المسمّى بالشّكّ في الرّافع ، ولا يخلو ذلك من قسمين :

أحدهما : أن يكون الشّكّ في أصل وجود الرّافع ، كالشّكّ في طروّ الحدث الأصغر أو الأكبر بعد الوضوء أو الغسل ، وكالشّكّ في طروّ النّجاسة بعد الطّهارة.

ثانيهما : أن يكون الشّكّ في رافعيّة الموجود ، وهذا على أنحاء :

الأوّل : أنّ منشأ الشّكّ هو الشّبهة الحكميّة بأن لا يعلم حكم الشّيء الموجود ، كما إذا شكّ في رافعيّة المذي الخارج بعد الوضوء ، لأجل الجهل بحكمه من أنّه هل يرفع الوضوء كالبول وسائر النّواقض ، أم لا؟

الثّاني : أنّ منشأه هو الشّبهة المصداقيّة بأن لا يعلم كون الموجود من مصاديق ما هو رافع قطعا مع فرض العلم بمفهومه ، كالبلل المشتبه المردّد بين المذي والبول.

الثّالث : أنّ منشأه هو الشّبهة المصداقيّة ـ أيضا ـ بأن لا يعلم كون الموجود من مصاديق ما هو رافع قطعا ، مع فرض الجهل بمفهومه ، كالوضوء بالماء الكدر بالتّراب شديد الكدرة ، كالوحل ، فيشكّ في رافعيّته للحدث للشّكّ في أنّه وضوء بالماء ، أو لا ؛ وذلك ، لما في لفظ : «الماء» من الإجمال مفهوما.

هذا ، ولكن قد مثّل المحقّق العراقي قدس‌سره (١) للمقام باستصحاب شغل الذّمة بعد الإتيان بصلاة الظّهر يوم الجمعة ، نظرا إلى أنّ المثال يكون من باب الشّكّ في رافعيّة

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ١٨.

١٢٢

الموجود ، لكن لا لأجل ما اشير إليه من الأنحاء الثّلاثة ، بل لأجل تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود وهو صلاة الظّهر ، رافعا له ، وبين ما لا يكون كذلك ، بحيث لو كان الواجب هو الظّهر ، ارتفع شغل الذّمة ، وإن كان هو الجمعة ، لم يرتفع.

وفيه : ما لا يخفى ؛ إذ المسألة من فروع العلم الإجماليّ ، فتكون من مجاري الاشتغال والاحتياط ، لا من موارد الاستصحاب ، كما هو واضح.

وهنا تقسيمات اخرى للاستصحاب مذكورة في المفصّلات ، فراجع.

(حجّيّة الاستصحاب)

الأمر السّادس : حجّيّة الاستصحاب ، فنقول : قد اختلف الأعلام في حجّيّة الاستصحاب على أقوال شتّى ، ولنذكر أهمّها :

أحدها : عدم الحجّيّة مطلقا ؛ ثانيها : الحجيّة مطلقا ؛ ثالثها : التّفصيل بين الحكم الشّرعيّ وغيره ؛ رابعها : التّفصيل بين ما كان سبب اليقين بالحكم الشّرعيّ هو الدّليل العقليّ وغيره ؛ خامسها : التّفصيل بين الشّكّ في المقتضي والشّكّ في الرّافع.

وقد ذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره إلى القولين الأخيرين (الرّابع والخامس) فأنكر حجّيّة الاستصحاب في ما إذا كان سبب اليقين بالحكم الشّرعيّ هو الدّليل العقليّ وأثبتها في غيره ؛ وكذا أنكر حجيّته في الشّكّ في المقتضي وأثبتها في الشّكّ في الرّافع. (١)

والعمدة هو النّظر إلى الأدلّة الّتي اقيمت على حجيّة الاستصحاب وإلى مقدار

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٥١.

١٢٣

دلالتها من حيث الضّيق والسّعة ، فنقول مستعينا بالله تبارك وتعالى :

قد استدلّ على حجيّة الاستصحاب بوجوه أربعة :

الأوّل : دعوى السّيرة القطعيّة العقلائيّة في العمل على وفق الحالة السّابقة ، بل استقرّت سيرة الحيوانات ـ أيضا ـ عليه ، فهي تمشى وتذهب إلى المرتع والمرعى السّابق وترجع إلى مراحها كذلك.

وهذا الوجه يبحث عنه من ناحيتين :

الاولى : من ناحية الصّغرى وأنّ هذه السّيرة ، هل هي ثابتة ، أم لا؟

الثّانية : من ناحية الكبرى وأنّها على تقدير ثبوتها ، هل تكون حجّة ، أم لا؟

أمّا النّاحية الاولى : فالتّحقيق فيها عدم ثبوت هذه السّيرة من جانب العقلاء ، بل هم يعملون على طبق الحالة السّابقة ، إمّا للاطمينان بالبقاء بحيث لو زال الاطمئنان لم يعملوا ، أو للاحتياط والرّجاء ، أو لغفلتهم عن البقاء ، ولعلّه من هذا القبيل جري الحيوانات على وفق الحالة السّابقة.

وأمّا النّاحية الثّانية : فالتّحقيق فيها ثبوت حجّيّة السّيرة ، حيث إنّ الشّارع لم يردع عنها ، وعدم الرّدع ـ مع القدرة عليه ـ دليل على القبول والرّضا.

ودعوى الرّدع بالآيات النّاهية عن العمل بغير علم مندفعة :

أوّلا : بورود تلك الآيات في اصول الدّين ؛ ثانيا : بأنّ الرّدع بها لا يتأتّى إلّا بوجه دائر على ما تقدّم في مبحث حجيّة خبر الواحد.

الوجه الثّاني : دعوى كون اليقين بحدوث شيء في زمان سابق موجبا للظّن ببقائه عند الشّكّ في بقاءه ، فيجب العمل على طبقه.

١٢٤

وفيه : أنّه يمنع صغرى وكبرى ؛ أمّا الصّغرى ، فلعدم حصول الظّنّ ولو كان نوعيّا ؛ وأمّا الكبرى ، فلما قرّر في مبحث حجيّة الظّنّ من حرمة العمل به للأدلّة الأربعة ، إلّا ما دلّ دليل على اعتباره بالخصوص ، فهو خارج عن أدلّة الحرمة تخصيصا ، بل تخصّصا على ما بيّناه في المباحث السّابقة.

الوجه الثّالث : دعوى الإجماع على حجيّة الاستصحاب.

وفيه : أوّلا : أنّ الإجماع لا يكون تعبّديّا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام إذ لا مستند للمجمعين سوى الوجوه المذكورة من السّيرة أو الظّنّ بالبقاء ، أو الرّوايات الّتي هي العمدة في المسألة وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من احتماله ، فالإجماع حينئذ يكون مدركيّا ، أو محتملا له.

وثانيا : أنّ المسألة مختلف فيها بلا شبهة ، فكيف يمكن دعوى الإجماع فيها.

وثالثا : أنّ المسألة إنّما هي من المسائل العمليّة الاصوليّة ، فلا مجال لدعوى الإجماع في أمثالها.

(أخبار الاستصحاب)

الوجه الرّابع : الرّوايات ، وهي كثيرة :

منها : الصّحيحة الاولى لزرارة ، قال : «قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من

١٢٥

ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوءه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشّكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر». (١)

والكلام في هذه الرّواية يقع تارة من جهة السّند ؛ واخرى من جهة الدّلالة.

أمّا السّند ، فقد يستشكل عليها لأجل الإضمار ، بأنّه من المحتمل كون المسئول غير المعصوم.

وفيه : أوّلا : أنّ جملة من الفحول قدس‌سرهم منهم المحدّث الأمين الأسترآبادي (٢) والمحدّث البحراني قدس‌سرهما (٣) نقلوها مسندة وعيّنوا المسئول وهو باقر العلوم عليه‌السلام.

نعم ، نقلها شيخ الطّائفة قدس‌سره في التّهذيب (٤) مضمرة.

وثانيا : أنّ الإضمار من مثل «زرارة» الّذي كان من الأساطين لا يوجب الخلل في الرّواية لكونه أجلّ شأنا وأرفع قدرا من أن يسأل عن غير المعصوم ، وإلّا لكان اللّازم تعيين المسئول ولو بنصب قرينة ، ولولاه لعدّ ذلك من مثله خيانة ، فإضمار زرارة يدلّ على كون المسئول هو المعصوم عليه‌السلام يقينا ، غاية الأمر ، إنّه لا يعلم كونه هو الباقر عليه‌السلام أو الصّادق عليه‌السلام ، وهذا المقدار من الجهل لا يضرّ باعتبار الرّواية.

وأمّا الدّلالة ، فالتّحقيق في أنّها تامّة أو غير تامّة ، يقتضي بسط الكلام في الرّواية ، فنقول : فيها فقرتان ، كلتاهما قول الرّاوي ، إحداهما : سؤال عن شبهة حكميّة

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، ص ١٧٤ و ١٧٥.

(٢) راجع ، الفوائد المدنيّة : ص ١٤٢ بحث التّمسّك بالاستصحاب.

(٣) راجع ، الحدائق النّاضرة : ج ١ ، ص ١٤٣.

(٤) راجع ، تهذيب الأحكام : ج ١ ، ص ٨ ، الحديث ١١.

١٢٦

وهو قول السّائل : «الرّجل ينام وهو على وضوء ...». ثانيتهما : سؤال عن شبهة موضوعيّة وهو قول السّائل : «فإن حرّك على جنبه شيء وهو لا يعلم ...».

أمّا الفقرة الاولى ، فهي أجنبيّة عن البحث في حجيّة الاستصحاب ، سواء كان منشأ الشّبهة فيها هو مفهوم النّوم وأنّه هل يعمّ الخفقة والخفقتين ، فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، أم كان منشأ الشّبهة احتمال كون الخفقة والخفقتين ناقضين للوضوء مستقلّا ، كالنّوم وغيره من سائر النّواقض ، وكيف كان ، أجاب الإمام عليه‌السلام بعدم النّاقضيّة.

أمّا الفقرة الثّانية ، فهي مرتبطة بالبحث في حجيّة الاستصحاب ، بتقريب ، أنّ السّائل لاشتغال قلبه بشيء قد يعرضه قبل النّوم حالة خفقة ، بحيث لا يرى ولا يسمع ، فيشكّ في تحقّق النّوم النّاقض للوضوء وعدم تحقّقه ، فيسأل المعصوم عليه‌السلام وأجاب عليه‌السلام بعدم وجوب الوضوء مع هذا الشّكّ ، حيث قال عليه‌السلام : «لا ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ...» ، فالرّواية بهذا التّقريب تكون من أدلّة حجيّة الاستصحاب في موردها وهو الوضوء بلا شبهة ، بمعنى : أنّه يستفاد منها البناء على الوضوء المتيقّن مع الشّكّ في طروّ الحديث الرّافع له ، وهذا لا خلاف ولا كلام فيه ، إنّما الكلام في تعميمها والتّعدّي عن موردها وهو مبتن على أنّ قوله عليه‌السلام : «لا» جواب لقول زرارة : «فإن حرّك على جنبه شيء ...» على وجه الإيجاز والإشارة ، فمرجعه إلى أنّه لا يجب الوضوء حال الشّكّ في تحقّق النّوم ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ؛ وأنّ قوله عليه‌السلام : «وإلّا ...» جملة شرطيّة بنحو الاختصار والإشارة ، والجواب محذوف فمرجعه إلى قوله عليه‌السلام : وإن لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ؛ وأنّ قوله عليه‌السلام : «فإنّه

١٢٧

على يقين من وضوءه» تعليل للجواب المحذوف (فلا يجب عليه الوضوء) وقائم مقامه ، ـ كما هو المتداول كثيرا حتّى ورد في التّنزيل ، نظير قوله عزوجل : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) إذ من الواضح ، عدم التّرتّب بين الجملتين في الآية ، فالجواب محذوف وهو «لن يضرّ الله» ـ وهذا التّعليل المركّب من الصّغرى وهي قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوءه» ومن الكبرى وهي قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين أبدا بالشّكّ ...» له احتمالات ثلاث :

أحدها : أن يكون المراد من اليقين هو المتعلّق بخصوص الوضوء ، وبالشّكّ هو المتعلّق بخصوص النّوم ، فمرجعه إلى أنّه لا يجوز نقض اليقين بالوضوء بالشّكّ في النّوم.

هذا الاحتمال مردود ؛ إذ عليه يصير التّعليل كتكرار للمعلّل ، فتصير العبارة هكذا : «لا يجب الوضوء على المتيقّن به ، الشّاكّ في النّوم ، فإنّه على يقين من وضوءه ، وشكّ في نومه» ، أو «فإنّه المتيقّن من وضوءه ، الشّاكّ في نومه ، ولا يجوز نقض يقينه بالوضوء بالشّكّ في النّوم ، بمعنى : لا يجب الوضوء على المتيقّن به ، الشّاكّ في النّوم» ، وهذا كما ترى.

ثانيها : أن يكون المراد باليقين هو المتعلّق بخصوص الوضوء ، وبالشّكّ هو المتعلّق بعموم النّاقض ولو كان غير نوم ، فمعنى الحديث هو «لا يجوز نقض اليقين بالوضوء بالشّكّ في مطلق الحديث».

هذا الاحتمال ـ أيضا ـ محلّ منع ؛ إذ عليه يصير المعلّل والتّعليل معا هكذا : «لا يجب الوضوء على المتيقّن به ، الشّاكّ في النّوم ، فإنّه على يقين من وضوءه وشكّ في

__________________

(١) سورة آل عمران (٣) ، الآية ٩٧.

١٢٨

نومه» ، أو «فإنّه المتيقّن من وضوءه ، الشّاكّ في نومه ، ولا يجوز نقض يقينه بالوضوء بالشّكّ في الحدث».

ففي هذا الاحتمال تكرار مع عدم الانسجام والتّلاؤم بين الجزء المعطوف عليه من التّعليل الّذي يكون صغرى له وهو قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوءه ...» وبين الجزء المعطوف الّذي يكون كبرى له وهو قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين بالشّكّ» إذ الشّكّ في المعطوف عليه مختصّ بالنّوم ، وأمّا الشّكّ في المعطوف ، فمطلق متعلّق بالحدث الشّامل له ولسائر النّواقض.

ثالثها : أن يكون المراد من اليقين والشّكّ هو مطلقهما بإلغاء الخصوصيّة عنهما ، فمعنى الحديث هو أنّ اليقين ـ بما هو يقين مشتمل على استحكام وصلابة ـ لا يجوز ولا ينبغي أن ينقض وينثلم بالشّكّ الّذي لا استحكام فيه بوجه ، سواء كان متعلّقهما هذا أو ذاك أو ذلك ، فمعيار عدم جواز نقض هذا بذاك ، ليس إلّا يقينيّة اليقين وشكّيّة الشّكّ.

وإن شئت ، فقل : إنّ معياره ليس إلّا صلابة اليقين ورخاوة الشّكّ بلا أيّ دخل وتأثير للمتعلّق ، كما لا يخفى على من له أدنى تأمّل ودقّة.

وعليه : فالتّعليل المركّب من الصّغرى والكبرى ناظر إلى قاعدة كلّيّة ارتكازيّة وهو عدم جواز نقض الأمر المبرم المستحكم ، بالأمر غير المبرم بلا اختصاص بمورد دون مورد.

ولا ريب : أنّ هذا الاحتمال هو ظاهر الرّواية ، فيكون إلغاء الخصوصيّة مبنى لتعميمها والتّعدّي عن موردها ، وقد تدلّ على تلك القاعدة الكلّيّة ـ أيضا ـ

١٢٩

قرينتان : وهما : الخارجيّة ؛ والدّاخليّة.

أمّا الخارجيّة ، فهى عبارة عن ذكر نفس الفقرة الدّالّة على عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ في الرّوايات الواردة في أبواب مختلفة ـ أيضا ـ نظير باب النّجاسات والصّوم والصّلاة (١) ، كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، فتدلّ هذه الرّوايات على أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، قاعدة كلّيّة وضابطة عامّة غير مختصّة بباب دون باب.

وأمّا الدّاخليّة ، فهي امور :

الأوّل : أنّ اليقين والشّكّ ، كالحبّ والبغض ، والقدرة والعجز ، والكراهة والإرادة ، يكونان من الصّفات الحقيقيّة ، ذوات الإضافة الّتي تحتاج إلى المتعلّق ـ مضافا إلى الموضوع ـ فذكر المتعلّق في الصّحيحة بعد اليقين ، كما في قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوءه» إنّما يكون لهذه الجهة ، حيث إنّ اليقين يحتاج إلى الطّرفين ، وذكر خصوص الوضوء في التّعليل يكون لأجل ذكره في السّؤال والجواب ، لا لأجل دخله بخصوصيّة الوضوئيّة في عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ.

وعليه : فإطلاق كبرى التّعليل وهي قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشّكّ» هو المتّبع في الاستصحاب بلا اختصاص بباب الوضوء المذكور في صغرى التّعليل.

وبالجملة : إنّ حدّ الأوسط في القياس المتألّف في الصّحيحة هو نفس اليقين ، لا اليقين بالوضوء.

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، أبواب النّجاسات ؛ وج ٥ ، كتاب الصّلاة ، أبواب الخلل ؛ وج ٧ ، كتاب الصّوم ، أبواب أحكام شهر رمضان.

١٣٠

الثّاني : إنّ لفظ : «النّقض» في كبرى التّعليل وهي قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين ...» دليل على أنّ المعيار هو نفس اليقين وأنّه لكونه أمرا مبرما ، لا ينقض بمثل الشّكّ غير المبرم.

الثّالث : أنّ لفظ : «أبدا» في كبرى التّعليل إشارة إلى أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، قاعدة كليّة أبديّة لا تختصّ بمورد دون مورد.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ كون عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ قاعدة ارتكازيّة ، ينافي ما ذكرناه سابقا من عدم تحقّق السّيرة العقلائيّة على العمل بالاستصحاب وأنّ عملهم على طبق الحالة السّابقة مبنيّ على الاطمئنان أو الرّجاء أو الغفلة.

وقد دفع هذا التّوهم ، بعض الأعاظم قدس‌سره بأنّ القاعدة مسلّمة ارتكازيّة ، ولا منافاة لما ذكر سابقا ؛ بتقريب : أنّ اليقين والشّكّ بمنزلة الطّرفين ، يكون أحدهما مأمونا من الضّرر ، والآخر محتمل الضّرر ، فإذا دار الأمر بينهما ، لا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطّريق المأمون ، وأنّ إنكار السّابق ، راجع إلى تطبيق هذه الكبرى على الاستصحاب ، حيث لا يصدق النّقض عرفا لاختلاف موقفين ، فإنّ اليقين متعلّق بالحدوث فقط ، والشّكّ متعلّق بالبقاء ، فلا اتّحاد في المتعلّق حتّى ينقض اليقين بالشّكّ ، وعليه ، فتطبيق هذه الكبرى على الاستصحاب إنّما هو بالتّعبّد الشّرعيّ لأجل هذه الصّحيحة وغيرها ، ولا بدع في كون الكبرى مسلّمة ارتكازيّة مع كون بعض الصّغريات غير واضحة ، ككبرى استحالة اجتماع الضّدّين وصغرى اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد ذي جهتين ، حيث إنّ هذه الكبرى ممّا لا خلاف في امتناعها ، وأمّا الصّغرى فخلافيّة. (١)

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٩.

١٣١

وفيه : أنّ قياس المقام بالطّريقين المذكورين يكون مع الفارق ؛ إذ اختيار الطّريق المأمون من الضّرر وترك الآخر الّذي هو محتمل الضّرر ، أمر عقلائيّ ارتكازيّ بلا شبهة ، وليس من باب النّقص المبحوث عنه ، بل يكون من باب الأخذ باليقين وترك الشّكّ والاحتمال ، أو من باب الأخذ والعمل بالاحتمال وترك العمل باليقين لو انعكس الأمر.

وبالجملة : ليس في مثال الطّريقين أثر من النّقض المتنازع فيه ، بل أخذ واختيار لطريق مأمون من الضّرر ، وترك لطريق غير مأمون منه ، وهذا أمر ارتكازيّ لا خلاف فيه ، وأمّا كبرى عدم جواز نقض اليقين بحدوث شيء بالشّكّ في بقاء ذلك الشّيء ، فليس كذلك ، ولا يساعده الارتكاز ولم تقم عليه السّيرة العقلائيّة ، كما قامت في ذلك المثال.

وكيف كان ، إنّ هذه الصّحيحة تدلّ بإطلاقها على أنّ الاستصحاب حجّة مطلقا ، سواء كان متعلّق اليقين حكما كلّيّا أو جزئيّا أو موضوعا خارجيّا ، وبلا فرق بين الشّكّ في المقتضي والشّكّ في الرّافع ، ولا ينبغي أن يتوهّم لزوم استعمال اللّفظ : وهو قوله عليه‌السلام «لا يجوز نقض اليقين بالشّكّ» في أكثر من معنى واحد ، لوضوح أنّ المراد من الصّحيحة ليس إلّا عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، غاية الأمر ، يتعدّد متعلّق اليقين على ما أشرنا ، نظير ما قرّر في حديث الرّفع من شموله لكلتي الشّبهتين ، (الحكميّة والموضوعيّة) وأنّه يدلّ على رفع المجهول مطلقا ، سواء كان منشأ الجهل عدم تماميّة البيان من ناحية الشّريعة بفقد النّص ، أو إجماله ، أو تعارض النّصين ، أو كان منشؤه هي الامور الخارجيّة ، كالعمى والظّلمة.

١٣٢

ومنها : الصّحيحة الثّانية لزرارة ، قال : «قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منّي ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصّلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ، قال عليه‌السلام : تعيد الصّلاة وتغسله ، قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ، قلت : فإن ظننت أنّه قد أصاب ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصّلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ أبدا ، قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصاب ، فلم أدر أين هو ، فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال : لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشّكّ الّذي وقع في نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة ، قال : تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ، ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا ، قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشّكّ». (١)

هذه الصّحيحة ، كما ترى ، مشتملة على ستّة أسئلة وأجوبة ، وكيف كان ، لا إشكال فيها من جهة السّند ، والإضمار فيها ـ كما نقله الشّيخ قدس‌سره ـ غير قادح ، لما عرفته سابقا في الصّحيحة الاولى ، فلا بدّ فيها من التّكلّم في مقامين :

الأوّل : فقه الحديث.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ج ١ ، ص ٤٢١ ، الباب ٢٢ ، الحديث ٨.

١٣٣

الثّاني : وجه دلالتها على حجّيّة الاستصحاب وبيان كيفيّة الاستدلال بها عليها :

أمّا المقام الأوّل : فقد عرفت أنّ زرارة سأل الإمام عليه‌السلام ستّة أسئلة :

أحدها : هو السّؤال عن حكم الإتيان بالصّلاة ـ مع نجاسة ثوبه ـ نسيانا ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الإعادة وبوجوب غسله للصّلوات الآتية ، وتدلّ على هذا الحكم روايات أخر (١) ، قد علّل ذلك في بعضها المتضمّن للفرق بين النّاسي والجاهل ، بأنّ النّاسي تهاون في التقصير دون الجاهل.

ثانيها : هو السّؤال عن العلم الإجماليّ بنجاسة الثّوب والصّلاة معها ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الإعادة ـ أيضا ـ كوجوبها على تقدير العلم التّفصيليّ.

ثالثها : هو السّؤال عن الظّنّ بالنّجاسة والصّلاة معه ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الغسل بعد العلم بها بعد الصّلاة وعدم وجوب الإعادة ، وعلّل عليه‌السلام ذلك بقوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ...» والمراد بالشّكّ في التّعليل هو عدم اليقين ولو كان ظنّا ـ كما هو المفروض في السّؤال ـ لا الشّكّ المصطلح المنطقي ، وإلّا لم ينطبق على ما في السّؤال ، وهذا كما ترى.

رابعها : هو السّؤال عن كيفيّة التّطهير على تقدير العلم الإجماليّ بالنّجاسة ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب غسل جميع النّاحية المعلوم نجاستها حتّى يحصل اليقين بطهارتها كلّها.

خامسها : هو السّؤال عن وجوب النّظر والفحص وعدمه على تقدير الشّكّ

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤٢ من أبواب النّجاسات ، ص ١٠٦٣ و ١٠٦٤.

١٣٤

في الإصابة ، فأجاب عليه‌السلام بعدم الوجوب ، إلّا أن يريد إزالة الشّكّ الّذي وقع في نفسه كي لا يقع في المشقّة والحرج إذا لاقى أشياء ، ثمّ انكشف وظهر كونه نجسا ، فله حينئذ الفحص والنّظر ، لكن لا يجب عليه.

سادسها : هو السّؤال عن رؤية النّجاسة في الصّلاة ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الإعادة إن كانت الرّؤية بعد العلم الإجماليّ بالنّجاسة والشّكّ في موضعها ، وبعدم وجوب الإعادة لو لم تكن الرّؤية مسبوقة بالعلم الإجماليّ ، بأن يرى النّجاسة في الأثناء ، ولا يدري أنّها كانت قبلها أو طرأت في الأثناء ، فحكم عليه‌السلام بقطع الصّلاة وغسل الثّوب والبناء عليها لو لم يلزم فعل المنافي ، كاستدبار القبلة أو الفصل الطّويل ، وعلّل عليه‌السلام ذلك بقوله عليه‌السلام : «لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشّكّ».

ولا يخفى : أنّ حكم رؤية النّجاسة في الأثناء له صورتان مذكورتان في الرّواية ، وهما «رؤية النّجاسة في الأثناء بعد العلم الإجماليّ بها والشّكّ في موضعها قبل الصّلاة» و «رؤية النّجاسة في الاثناء مع الشّكّ في كونها قبل الصّلاة» فحكم الإمام عليه‌السلام في الاولى بوجوب الإعادة وفي الثّانية بعدم وجوبها ، وهنا صورة اخرى ثالثة غير مذكورة في الرّواية بمنطوقها وهي رؤية النّجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصّلاة ، فقد اختلف الأعلام في حكم هذه الصّورة ، فعن الشّيخ قدس‌سره أنّ عدم وجوب الإعادة على تقدير العلم بالنّجاسة بعد إتمام الصّلاة ووقوع جميع أجزاءها معها ، دليل على عدم وجوبها لو رأى النّجاسة في الأثناء وقبل الإتمام بالأولويّة القطعيّة ، كما هو واضح.

١٣٥

وقد أجاب عنه قدس‌سره بعض الأعاظم قدس‌سره بما حاصله : إنّ عدم وجوب الإعادة حكم تعبّديّ لا يعلم ملاكه حتّى يتعدّى عن مورده إلى غيره بالأولويّة ، فلعلّه كانت خصوصيّة تقتضي عدم وجوب الإعادة في ما لو وقع جميع أجزاء الصّلاة مع النّجاسة وعلم بها بعد الصّلاة وكانت تلك الخصوصيّة مفقودة في ما لو رأى ها في الأثناء.

والظّاهر أنّ نفس الرّواية تدلّ على وجوب الإعادة في الصّورة الثّالثة ، لأجل ما فيها من التّعليل ، حيث إنّه عليه‌السلام علّل عدم وجوب الإعادة في الصّورة الثّانية باحتمال عروض النّجاسة في الأثناء وأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشّكّ.

وهذا التّعليل ظاهر في أنّ عدم وجوب الإعادة إنّما هو للشّكّ في كون النّجاسة قبل الصّلاة أو حدثت في الأثناء ، فيدلّ على وجوب الإعادة لو علم بكونها قبل الصّلاة. (١)

ولا يخفى : أنّ هذا الجواب لا يخلو من جودة ومتانة.

وأمّا المقام الثّاني : (وجه دلالة الرّواية على حجّيّة الاستصحاب) فيمكن دعوى وضوح دلالة الرّواية على حجّيّة الاستصحاب ؛ إذ قوله عليه‌السلام : «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ أبدا» في الجواب عن السّؤال الثّالث ، وكذا قوله عليه‌السلام : «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشّكّ» في الجواب عن السّؤال السّادس دليل واضح عليها ، بل هذه الصّحيحة لأجل اشتمالها على التّعليل وهو قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين .. ..» وعلى كلمة : «لا ينبغي» أوضح دلالة عليها من الصّحيحة الاولى.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٥٢.

١٣٦

نعم ، قد يستشكل فيها بأنّ قوله عليه‌السلام : «فليس ينبغي أن تنقض ...» في الجواب عن السّؤال الثّالث حيث إنّه مسبوق بالعلّة لا يفيد حجّيّة الاستصحاب ، بتقريب : أنّ الإمام عليه‌السلام علّل عدم وجوب الإعادة بعدم جواز نقض اليقين بالشّكّ مع أنّه لو كانت الإعادة واجبة ، كانت نقضا لليقين باليقين ، لا نقضا له بالشّكّ ؛ إذ المفروض هو رؤية النّجاسة في الثّوب بعد إتمام الصّلاة مع العلم بإتيانها معها لا الشّكّ.

وعليه : فالتّعليل لا ينطبق على المورد ، ولأجل ذلك تصدّى المحقّق الخراساني قدس‌سره لتوجيه تطبيق التّعليل على المورد بما حاصله : أنّ شرط الصّلاة فعلا حين الالتفات إلى الطّهارة ليس هي طهارة البدن والثّوب الواقعيّة ، بل هو إحراز طهارتهما ولو بأصل أو قاعدة وحينئذ قضيّة استصحاب الطّهارة حال الصّلاة وإحرازها به ، عدم وجوب الإعادة ولو انكشف وقوعها في النّجاسة بعد إتمامها. (١)

هذا ، ولكن التّحقيق في المقام يتوقّف على الإشارة ، أوّلا : إلى النّزاع المعروف بين الفقهاء في الطّهارة والنّجاسة ، وثانيا : إلى أنّه هل تترتّب عليه ثمرة أم لا؟

أمّا النّزاع فهو هل الطّهارة شرط في الصّلاة أو النّجاسة مانعة عنها؟ والمسألة ذات أقوال ثلاثة :

الأوّل : شرطيّة الطّهارة.

الثّاني : مانعيّة النّجاسة.

الثّالث : الجمع بينهما ، وهذا القول مستحيل ؛ إذ لا يعقل أن يجعل شيء شرطا وضدّه مانعا ، كيف وأنّ الشّرط ما يتوقّف عليه تأثير المقتضي والمانع ما يمنع عن

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٩٠ و ٢٩٢.

١٣٧

تأثير المقتضي مع وجوب شرطه ، ولو كان الشيء شرطا للمقتضي وكان ضدّه مانعا عنه لزم اجتماع الضّدّين ، فهل يمكن جعل الحركة شرطا لشيء والسّكون مانعا عنه ، فيبقى في المسألة القول الأوّل والثّاني ويدور الأمر بينهما.

وأمّا ترتّب الثّمرة وعدمه ، فيحتاج إلى بسط الكلام في المسألة ، فنقول :

إنّه لا خلاف بين الأعلام في أنّ الغافل عن النّجاسة غير الملتفت إليها ، تصحّ صلاته ، سواء قيل : بشرطيّة الطّهارة لها ، أو بمانعيّة النّجاسة عنها ، وكذا لا خلاف بينهم في أنّ النّجاسة الواقعيّة غير المحرزة لا تكون مانعة عن الصّلاة ، فلا تجب إعادة الصّلاة على من صلّى مع الطّهارة الظّاهريّة المحرزة بالقطع الوجداني أو المحرزة تعبّدا بالأمارات أو بالاصول العمليّة ، كقاعدة الطّهارة أو استصحابها ولو انكشف وقوع الصّلاة في النّجاسة بعد إتمامها ، والدّليل عليه هو نصوص المقام ومنها تلك الصّحيحة ولم يقل أحد بالإعادة في الصّور المذكورة.

وعليه : فالمانع ـ على القول بالمانعيّة ـ هو النّجاسة المحرزة المعلومة ، لا النّجاسة الواقعيّة ولو لم تحرز ، وإلّا لزم القول بالإعادة في ما ذكر من الصّور ولم يلتزم بها أحد من القائلين بالمانعيّة ، وكذلك الشّرط ـ على القول بالشّرطيّة ـ ليس هي الطّهارة الواقعيّة ، وإلّا لزم القول بالإعادة في تلك الصّور ، كما أنّه ليس الشّرط ـ أيضا ـ إحراز الطّهارة ، ولذا لا إشكال في عدم وجوب الإعادة على من تيقّن بنجاسة ثوبه وصلّى فيه للاضطرار ثمّ انكشف طهارته بعد إتمام الصّلاة وانكشف ـ أيضا ـ عدم الاضطرار وأنّه لم يكن يتضرّر لو لم يلبسه ، فالصّلاة في هذا الفرض لا تعاد مع أنّ المصلّي لم يحرز الطّهارة حينما صلّى ، فيعلم أنّ الشّرط ليس هو الإحراز ،

١٣٨

وكذا لا إشكال في عدم وجوب الإعادة على من ليس له إلّا ثوب واحد متنجّس حسب اعتقاده فصلّى فيه ثمّ انكشف طهارته ـ بناء على القول بوجوب الصّلاة فيه ، كما قال به جماعة ، منهم السّيّد الطّباطبائي اليزدي قدس‌سره (١) خلافا للمشهور القائل بوجوب إتيان الصّلاة عاريا ـ فالصّلاة في هذا الفرض لا تعاد ولو انكشف عدم انحصار الثّوب في المتنجّس ـ أيضا ـ فيعلم أنّ الشّرط ليس هو إحراز الطّهارة.

ونتيجة ذلك ، أنّ الشّرط هي الطّهارة الأعمّ من الواقعيّة غير المحرزة حين الدّخول في الصّلاة ، والظّاهريّة المحرزة بالأصل أو الأمارة الذّاتيّة أو الجعليّة ، لا خصوص الطّهارة الواقعيّة ولا خصوص الطّهارة المحرزة ، وهذا بخلاف المانع ، فإنّه ليس إلّا خصوص النّجاسة المحرزة المعلومة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الحقّ هو عدم ترتّب الثّمرة على النّزاع المذكور ؛ إذ قد أشرنا إلى أنّ الغافل عن النّجاسة غير الملتف إليها ، تصحّ الصّلاة معها بلا فرق بين القولين ، وكذا تصحّ صلاة الملتفت المحتمل المحرز للطّهارة بالأصل أو الأمارة ولو انكشف وقوع الصّلاة مع النّجاسة ، بلا فرق بينهما ـ أيضا ـ وأمّا الملتفت المحتمل غير المحرز للطّهارة ولو بمعونة الاصول العمليّة ، فتبطل صلاته لو انكشف وقوعها مع النّجاسة على القولين ، أيضا.

فتحصّل : أنّه لا ثمرة بين القولين ، بل الصّلاة في الفروض المذكورة ، إمّا تصحّ مطلقا ، أو تبطل مطلقا.

وقد يتوهّم ترتّب الثّمرة بين القولين في ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الثّوبين ،

__________________

(١) العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٢٠٢ ، مسألة ٤ ، فصل ، الصّلاة في النّجس.

١٣٩

فصلّى مع كلّ منهما احتياطا ، ثمّ انكشف نجاستهما ، فبناء على القول بشرطيّة الطّهارة لزم بطلان كلتا الصّلاتين لوقوعهما مع النّجاسة الواقعيّة ولم تحرز الطّهارة ولو بالأصل ، لتساقط الأصلين في الطّرفين بالمعارضة ، وكذا على القول بمانعيّة النّجاسة الواقعيّة ، وأمّا بناء على القول بمانعيّة النّجاسة المحرزة فتصحّ إحدى الصّلاتين ؛ إذ المفروض عدم إحراز نجاسة كلا الثّوبين قبل الصّلاة.

وأجاب عن هذا التّوهّم بعض الأعاظم قدس‌سره بقوله : «إنّ العلم الإجماليّ مانع عن جريان الأصل في كلّ طرف بخصوصه لأجل المعارضة ، ولا مانع من جريان الأصل في أحد الطّرفين أو الأطراف لا بقيد الخصوصيّة إذا كان له أثر عمليّ ، كما في المقام ، فنقول : بعد العلم بنجاسة أحد الثّوبين مع احتمال نجاسة الآخر ، إنّ أحد الثّوبين نجس قطعا ، وأمّا الآخر ، فالأصل طهارته ، فيحكم بصحّة إحدى الصّلاتين في المثال». (١)

هذا ، ولكنّ الحقّ هو التّفصيل في الفرض المذكور بين الموردين :

الأوّل : ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الثّوبين وطهارة الآخر.

الثّاني : ما إذا علم بنجاسة أحدهما واحتمل نجاسة الآخر.

أمّا المورد الأوّل : فيحكم فيه بصحّة إحدى الصّلاتين مطلقا ، بلا فرق بين القول بشرطيّة الطّهارة ولو كانت ظاهريّة ، وبين القول بمانعيّة النّجاسة المحرزة ؛ إذ على القول بشرطيّة الطّهارة ، أنّ المفروض هو العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الثّوبين فقط ، وعليه ، فوقعت إحدى الصّلاتين في ثوب طاهر ظاهرا ، فتكون صحيحة ؛ وعلى

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٥٦.

١٤٠