مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

ألا ترى ، أنّ الإناء الّذي ولغ فيه الكلب ، يجب تعفيره ، بخلاف الملاقي (بالكسر) لهذا الإناء ، فلا تعفير فيه ، وكذا يجب غسل ما لاقى البول مع الماء القليل مرّتين ، بخلاف ما لاقى ذلك الملاقي.

ومن هنا ظهر ضعف ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من إمكان الاستدلال على كون نجاسة الملاقي نجاسة اخرى مستقلّة بالجعل والتّعبّد ، أوّلا : بمفهوم : إذا كان الماء قدر كرّ ، لم ينجّسه شيء ، حيث إنّ ظاهر المفهوم وهو «ينجّسه» جعله نجسا ، بمعنى : أنّ الأعيان النّجسة واسطة لثبوت النّجاسة للماء ، فيصير الماء لأجل الملاقاة للنّجس ، فردا من النّجاسات ، مختصّا بالجعل ووجوب الاجتناب ؛ وثانيا : بقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١) حيث إنّ الظّاهر منه حتّى تعلم أنّه صار قذرا بواسطة الملاقاة ؛ وثالثا : بما دلّ على مطهّريّة الماء والأرض والشّمس وغيرها للاشياء ، فإنّ الظّاهر منه أنّها صارت نجسة فتطهّر بالمطهّرات. (٢)

فتحصّل : أنّ الظّاهر بين تلك الاحتمالات الأربعة هو الاحتمال الثّاني ، والباقي لا شاهد عليه في النّصوص والأخبار ، ولا في كلمات أصحابنا الأخيار ، فإذا لا مجال لأن يقال : بأنّ القول بنجاسة الملاقي مبنيّ على كونه من باب الشّئون أو من باب الاتّساع ، مستدلّا لذلك بأنّ تنجّس الملاقي (بالكسر) إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النّجس ، بناء على أنّ الاجتناب عن النّجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط. (٣)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥ ، ص ١٠٠.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٣) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٣٩.

٦١

وكذا لا مجال للاستدلال على ذلك ـ كما عن ابن زهرة قدس‌سره (١) ـ بقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٢) مع أنّك تعرف أنّ دون إثبات ذلك المدّعى بهذه الآية ، خرط القتاد ؛ إذ أوّلا : ليس المراد من «الرّجز» هو النّجس ؛ وثانيا : لو سلّم ذلك ، فلا تدلّ الآية إلّا على هجر نفس النّجس ، لا على هجره وهجر كلّ ما لاقاه ؛ وثالثا : أنّ وجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين حكم عقليّ ، بمعنى : أنّ العقل يحكم به لأجل العلم الإجماليّ من باب الاحتياط والمقدّمة العلميّة ، وليس شرعيّ حتّى يحكم بوجوب هجر ملاقيه شرعا.

وكذا لا مجال ـ أيضا ـ للاستدلال عليه برواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خاوية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال له الرّجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء». (٣)

تقريب الاستدلال : أنّه ليس مراد السّائل من قوله : «الفأرة أهون عليّ» هو أكل الفأرة مع السّمن أو الزّيت ، بل مراده أكل نفس السّمن أو الزّيت الملاقي (بالكسر) لها ، فقوله عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» ظاهر في أنّ نجاسة الملاقي (بالكسر) للميتة وحرمته ، عين نجاستها وحرمتها ، فوجوب الاجتناب عنها يقتضي

__________________

(١) راجع ، غنية النّزوع في ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة : ج ٢ ، ص ٣٧٩.

(٢) سورة المدّثر (٧٤) ، الآية ٥.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢ ، ص ١٤٩.

٦٢

الاجتناب عن ملاقيها ، اقتضاء المتبوع للتّابع ، بل يكون عينه على مبنى الاتّساع.

والسّر في عدم المجال لهذا الاستدلال هو أنّ الرّواية ضعيفة سندا وقاصرة دلالة ، أمّا ضعف السّند فلأجل اشتمالها على «عمرو بن شمر» الّذي لم يوثّقه أحد من أرباب علم الرّجال من القدماء ، بل ضعّفه النّجاشي قدس‌سره (١) وكذا العلّامة قدس‌سره فقال : «وهو ضعيف جدّا ، زيّد أحاديث في كتب جابر بن يزيد الجعفي ، ينسب إليه بعضها ، فالأمر ملتبس ، فلا أعتمد على شيء ممّا يرويه» (٢).

وأمّا قصور الدّلالة ، فلأجل أنّ الفأرة الواقعة في الخابية لعلّها قد تفسّخت واضمحلّت في السّمن أو الزّيت ، بحيث كان أكلها ملازما لأكلها ، ولذا علل عليه‌السلام حرمة أكلها بحرمة أكلها ، أو لعلّ السّائل استبعد كون الفأرة مع صغرها موجبة للنّجاسة والحرمة ، ولذا قال : «الفأرة أهون عليّ ، فقال عليه‌السلام في جوابه : إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» ومعناه : هو عدم الفرق في ذلك بين الكبير والصّغير.

وكيف كان ، لا دلالة صريحة أو ظاهرة للرّواية على ما ادّعي من العينيّة بناء على مسلك الاتّساع ، مع أنّ ظاهر التّعليل والاستناد إلى التّحريم في قوله عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم الميتة ...» دليل واضح على مسألة التّفسّخ والاضمحلال.

ولك أن تقول في المنع عن دلالة الرّواية على المدّعى من وجوب الاجتناب عن الملاقي بعين وجوبه عن الملاقى (بالفتح) : بأنّ باب الطّهارات والنّجاسات الشّرعيّة ، كما أشرنا ، نظير باب النّظافات والقذارات العرفيّة ، بل أصل النّجاسة و

__________________

(١) راجع ، رجال النّجاشي : ص ٢٠٤ ، مكتبة الدّاوري.

(٢) رجال العلّامة الحلّي : ص ٢٤٢.

٦٣

الطّهارة وكذا الملاقاة والسّراية ، تكون من الامور العرفيّة ، كالامور المعامليّة ، فلا تأسيس للشّرع الأنور في البابين ، بل منه امضاء وتصويب ، غاية الأمر ، قد يخطّئهم في مقام التّطبيق بإخراج بعض المصاديق وإدراج بعضها الآخر.

ومن المعلوم : أنّ العرف يرى قذارة الملاقي (بالكسر) للقذر ، قذارة اخرى ، مستقلّة مغايرة لقذارة الملاقى (بالفتح) بلا عدّها عين تلك بالانبساط والاتّساع ، وبلا عدّها من شئونها ، فلا مجال إذا لأن يستفاد من دليل وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) ، وليس مقتضى دليل نجاسة الدّم أو الميتة أو نحوهما إلّا وجوب الاجتناب عن نفسهما فقط ، لا عن ملاقيهما ، أيضا.

ألا ترى ، أنّ معنى قوله عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» ليس إلّا تحريم الميتة وتنجيسها ، لا تحريم ملاقيه وتنجيسه ـ أيضا ـ من باب السّراية والاتّساع أو من باب الشّئون والاتّباع.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال ، ما محصّله : إنّ قوله عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم الميتة» إنّما سيق لردّ قول السّائل وهو : «إنّ الفأرة أهون عليّ» وأنّه استخفاف لحكم الله تعالى ، حيث حكم عليه‌السلام بحرمة كلّ ميتة ، وأمّا بيان نجاسة الملاقي (بالكسر) للفأرة ، فلا ، بل هو خلاف الظّاهر ، كما لا يخفى. (١)

وقد يستدلّ على وجوب الاجتناب عن الملاقي ، بأنّه تحصل عند الملاقاة ثلاثة علوم إجماليّة : الأوّل : العلم بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطّرف ؛ الثّاني : العلم بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطّرف ؛ الثّالث : العلم بنجاسة الملاقى (بالفتح) والملاقي

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥٥.

٦٤

(بالكسر) أو الطّرف ، وعليه ، فيجب الاجتناب عن الجميع ، لتحصيل البراءة اليقينيّة بعد اشتغال الذّمة قطعا بوجوب الاجتناب عن النّجس المعلوم في البين.

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ لا تأثير للعلم الإجماليّ الثّاني والثّالث بعد كونهما مسبوقين بالعلم الإجماليّ الأوّل الّذي نجّز التّكليف المعلوم بالإجمال وأثّر أثره بالنّسبة إلى الملاقى (بالفتح) والطّرف ، فلا ينجّز التّكليف بالنّسبة إلى الطّرف ثانيا بالعلم الإجماليّ الثّاني الدّائر بينه وبين الملاقي (بالكسر) أو بالعلم الإجماليّ الثّالث الدّائر بينه وبين الملاقى (بالفتح) والملاقي (بالكسر) ؛ بداهة ، أنّ المنجّز لا ينجّز ثانيا ، هذا مع أنّ العلم الإجماليّ الثّالث ليس إلّا تلفيق من الأوّل والثّاني.

هذا كلّه في الامور الثّلاثة الّتي ذكرناها من باب المقدّمة في تحقيق مسألة ملاقي النّجس من التّنبيه الخامس ، فإذا عرفت ذلك ، يظهر لك أنّ مقتضى التّحقيق في المسألة هو ما ذهب إليه المشهور من الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) بل تجري فيه البراءة أو استصحاب الطّهارة السّابقة ؛ وذلك ، لحصول الشّكّ في أنّ الشّيء بسبب ملاقاته للنّجس ، هل يصير نجسا ، أم لا؟ ففي مثل ذلك إمّا تجري البراءة عن نجاسة ذلك الشّيء ، أو استصحاب طهارته السّابقة.

وأضف إلى ذلك ، أنّه لم يكن الملاقي (بالكسر) بمجرّد ملاقاته لأحد أطراف العلم الإجماليّ طرفا له كي توجب ذلك وجوب التّحرز عنه لأجل تنجّز العلم الإجماليّ.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل (دوران الأمر بين المتباينين).

٦٥

(دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر)

أمّا المورد الثّاني : فالمقصود من البحث فيه هو الأقلّ والأكثر الارتباطيّ ، لا الاستقلاليّ ؛ وذلك ، لأنّ الاستقلاليّ ، معناه : هو أنّ كلّ واحد من الأقلّ والأكثر مستقلّ في الامتثال بلا ارتباط بينهما أصلا ، بحيث لو أتى المكلّف بالأقلّ ، ثمّ انكشف له وجوب الأكثر ، يتحقّق الامتثال بمقدار الأقلّ ، فيجب عليه حينئذ الامتثال زائدا على هذا المقدار ، نظير ما إذا شكّ المديون في مقدار الدّين ، بأنّه هل كان خمسين درهما ـ مثلا ـ أو مائة درهم؟ فلا ريب في أنّه إذا أدّى الدّين بمقدار خمسين درهما ، ثمّ انكشف له وجوب الأكثر (مائة درهم) يجزي الأداء بمقدار الأقلّ ويجب عليه أداء الزّائد على هذا المقدار ، فإذا لا حاجة إلى البحث في أطراف ذلك ، لوضوح الحكم فيه ، بأنّ المكلّف إذا علم بوجوب الأكثر بعد امتثال الأقلّ يأتي به على ما مرّ ذكره ، وإذا شكّ فيه ينحلّ العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ وشكّ بدويّ في وجوب الأكثر ، فتجري فيه البراءة العقليّة والنّقليّة مطلقا ، سواء كانت الشّبهة وجوبيّة أو تحريميّة من الموضوعيّة والحكميّة ، وهذا بخلاف الأقل والأكثر الارتباطيّ ، فيقع البحث فيه.

فنقول : إنّ الكلام هنا يقع من جهتين : الاولى : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بالنّسبة إلى الأجزاء الخارجيّة ؛ الثّانية : دوران الأمر بينهما بالنّسبة إلى الأجزاء التّحليليّة ، كدوران الأمر بين الإطلاق والتّقييد ، وبين الجنس والفصل.

أمّا الجهة الاولى : فالأقوال فيها ثلاثة :

أحدها : أنّ الشّكّ في الأقلّ والأكثر ملحق بالشّكّ في التّكليف ، فتجري فيه البراءة عقلا ونقلا.

٦٦

ثانيها : أنّ الشّكّ فيه ملحق بالشّكّ في المكلّف به ، فتجري فيه الاشتغال عقلا ونقلا.

ثالثها : أنّه يفصّل بين البراءة العقليّة ، فلا تجري ، بل مقتضى الحكم العقليّ هو الاشتغال ، وبين البراءة الشّرعيّة ، فتجري ، وهذا ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وتبعه المحقّق النّائيني قدس‌سره (٢).

والحقّ هو القول الأوّل : ومستند ذلك بالنّسبة إلى البراءة العقليّة ـ كما أشاره إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ـ وجهان :

الوجه الأوّل : أنّ وجوب الأقلّ متيقّن ، إمّا بوجوب نفسيّ إذا كان الواجب هو نفسه ، أو بوجوب غيريّ إذا كان الواجب هو الأكثر ، وهذا بخلاف وجوب الأكثر ، فإنّه ممّا يشكّ فيه بشكّ بدويّ ، فتجري فيه البراءة قضاء لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

ولا يخفى : أنّ هذا الدّليل يتوقّف على ثبوت أمرين في المقام : أحدهما : اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيريّ ؛ إذ لو لم تتّصف به ، لما صحّ أن يقال : وجوب الأقلّ متيقّن على كلّ تقدير (من النّفسيّ أو الغيريّ) إذ المفروض حينئذ أنّه لا وجوب لها إلّا نفسيّا فقط ، وهذا ممّا يشكّ في تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر.

هذا ، ولكن يشكل على هذا الأمر بأنّه لم يثبت ، بل ثبت في مبحث مقدّمة الواجب ، أنّ الأجزاء الدّاخليّة يستحيل اتّصافها بالوجوب الغيريّ ؛ بداهة ، أنّ

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٥١.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٢٧ إلى ٢٣٤.

٦٧

الوجوب الغيريّ نظرا إلى كونه وجوبا تبعيّا ، يتوقّف على وجوب أمر آخر ، وواضح أنّه لا توقّف بين المركّب والأجزاء ، ولا غيريّة ولا اثنينيّة بينهما ، بل المركّب هو عين الأجزاء بالأسر ، لا تفاوت بينهما إلّا بالاعتبار ، حيث إنّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط الانضمام (بشرط شيء) فهي المركّب والكلّ بعينه ، وإذا لوحظت لا بشرط الانضمام (لا بشرط) فهي الأجزاء.

ثانيهما : كون العلم بوجوب الأقلّ الجامع بين النّفسيّ والغيريّ موجبا لانحلال العلم بوجوب النّفسيّ المردّد تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر ، فلولا الانحلال لا مجال لجريان البراءة عن وجوب الأكثر ، كما هو واضح.

هذا ، ولكن قد يقال : بعدم كون العلم بالوجوب الجامع موجبا لانحلال العلم بالوجوب النّفسيّ المردّد تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر ؛ إذ يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتّفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال ، وهنا ليس كذلك ، إذ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النّفسيّ ، والمعلوم بالتّفصيل هو الجامع بينه وبين الغيريّ ، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ.

وفيه : أنّ مقتضى التّحقيق هو الانحلال ، بلا حاجة فيه إلى السّنخيّة بين المعلوم بالتّفصيل والمعلوم بالإجمال ؛ إذ المفروض ثبوت الوجوب للأقلّ نفسيّا كان أو غيريّا ، وأمّا وجوب الأكثر فيشكّ فيه بدويّا وهو مجرى البراءة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الوجوب النّفسيّ إذا تعلّق بالمركّب ذي الأجزاء ، معناه :

اتّساع ذلك الوجوب بالنّسبة إلى الأجزاء ، فلو شكّ ـ مثلا ـ في أنّ الجزء العاشر ، هل يكون واجبا أم لا؟ مرجعه إلى أنّ الواجب هو الأجزاء التّسعة قطعا ، والشّكّ إنّما هو

٦٨

في الجزء العاشر ، فتجري فيه البراءة.

وبالجملة : أنّ الحقّ المختار في المسألة هو جريان البراءة العقليّة في وجوب الأكثر لتماميّة المقتضي ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في جريانها من جهة فقد المانع ، فقد ذكروا أنّ هنا جهات تمنع عن إجراء البراءة العقليّة :

الاولى : ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ انحلال العلم الإجماليّ مستلزم لمحذور الخلف أو محذور استلزام وجود الانحلال عدمه ، أمّا محذور الخلف فبتقريب : أنّ مقتضى كون التّكليف بالنّسبة إلى الأقلّ متيقّنا ، سواء كان لنفسه أو لغيره ، هو لزوم فرض تنجّز التّكليف مطلقا ولو كان متعلّقا بالأكثر ، فلو كان وجوب الأقلّ ، كذلك ، مستلزما لعدم تنجّزه فيما إذا كان متعلّقا بالأكثر ، يلزم خلاف ما فرض أوّلا ، وأمّا محذور استلزام وجود الانحلال عدمه ، فلأنّ مقتضى فرض عدم تنجّز الأكثر هو عدم وجوب الأقلّ مطلقا ـ حتّى إذا كان التّكليف متعلّقا بالأكثر ـ وواضح ، أنّ عدم وجوب الأقلّ كذلك ، معناه : عدم الانحلال. (١)

قد أجاب عنه قدس‌سره بعض الأعاظم قدس‌سره بما حاصله : أنّ الانحلال لا يتوقّف على تنجّز التّكليف بالنّسبة إلى الأكثر ، بل إنّما يتوقّف على العلم بوجوب ذات الأقلّ على كلّ تقدير ، سواء كان وجوبه في الواقع مطلقا مأخوذا بنحو لا بشرط عن الانضمام ، أو كان وجوبه في الواقع مقيّدا مأخوذا على نحو بشرط الانضمام ، فالمعلوم هو ذات الأقلّ ، والمشكوك هو كونه مطلقا أو مقيّدا ، وحيث إنّ الإطلاق لا يكون مجرى للبراءة ، لأنّه ليس أمرا ثقيلا ولا أنّ رفعه موجبا للامتنان ، فالأصل جار بالنّسبة إلى

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٢٨.

٦٩

التّقييد ، لثقله وكون رفعه منّة على العباد. (١)

هذا ، ولكنّ الحقّ في الجواب عن المحقّق الخراساني قدس‌سره أن يقال : إنّ العلم إنّما هو بالنّسبة إلى الأقلّ فقط ، وأمّا الأكثر فهو مشكوك بشكّ بدويّ تجري فيه البراءة ، فلا يكون علم إجماليّ بالنّسبة إلى الأكثر كي يلزم محذور الخلف أو يلزم من وجود الانحلال عدمه.

وبعبارة اخرى : أنّه لا علم إجماليّا في البين أصلا ، بل هنا وجوب واحد نفسيّ تعلّق بالأقلّ قطعا والشّكّ في امتداده وانبساطه إلى الأكثر ، فيرفع بالبراءة ، فالعلم الإجماليّ هنا صوريّ محض لا واقع له ولا وجوب غيريّ أصلا ، وإذا فلا يصل الدّور إلى لزوم المحذورين المتقدّمين.

الجهة الثّانية : ما ذكره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ الأحكام تابعة للملاكات في المتعلّقات على مذهب العدليّة ، فيجب تحصيل غرض المولى بحكم العقل ، وهذا يتوقّف على وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر ، لعدم العلم بتحصيل الغرض لو اقتصر بالأقلّ ؛ إذ يحتمل دخل الأكثر في حصوله.

وقد أجاب قدس‌سره عنه أوّلا : بأنّ الكلام لا يكون على مبنى العدليّة فقط ، بل عامّ فلا غرض على بعض المباني حتّى يجب تحصيله بحكم العقل ، وإذا لا مانع من الرّجوع إلى البراءة ؛ وثانيا : بأنّه لا يمكن القطع بحصول الغرض في المقام على كلّ تقدير ، أمّا مع الإتيان بالأقلّ فلاحتمال دخل الأكثر ، مضافا إلى احتمال دخل قصد الوجه في حصول الغرض ، وأمّا مع الإتيان بالأكثر فلاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله ، فلو

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٣١.

٧٠

أتي بالأكثر بقصد الأمر الجزمي ، يلزم التّشريع المحرّم ، فلو أتي بقصد الأمر الاحتماليّ يلزم عدم القطع بحصول الغرض ، لاحتمال دخل قصد الوجه فيه.

وبالجملة : تحصيل القطع بحصول الغرض في المقام غير ممكن ، فلا يبقى في البين إلّا الحذر من العقاب وتحصيل المؤمّن منه ، والعقاب على ترك الأكثر ، مندفع بالأصل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا ، ولكن لا يخفى ضعف هذين الجوابين : أمّا الأوّل : فلأنّه جدليّ ، حيث إنّ جواز رجوع الأشعريّ ومن تبعه إلى البراءة بحكم العقل ، لا يجدي القائل ببطلان مسلكه ، كما عن المشهور من العدليّة.

وأمّا الثّاني : فلوجوه ، منها : أنّ ما ذكره قدس‌سره من عدم إمكان القطع بحصول الغرض إنّما يتمّ في التّعبّديّات ، لا في التّوصّليّات ؛ بداهة ، عدم اعتبار قصد الوجه فيها ، فإذا يلزم القول بالاحتياط في التّوصّليّات دون التّعبّديّات ، وهذا التّفكيك ممّا لم يلتزم به أحد حتّى الشّيخ الأنصاري قدس‌سره.

ومنها : أنّ اعتبار قصد الوجه ـ لو قيل : به ـ مختصّ بصورة الإمكان ، لا مطلقا حتّى على تقدير عدم إمكانه ، لأجل عدم معرفة الوجه ، كما هو كذلك في المقام ، وإلّا لزم عدم إمكان الاحتياط رأسا وعدم حسنه أصلا في أمثال المقام ؛ إذ لا يمكن قصد الوجه في الاحتياط ، فلا يحصل العلم بفراغ الذّمّة حينئذ عن الشّغل اليقينيّ بالتّكليف المعتبر فيه قصد الوجه ، مع أنّك ترى ، أنّ الاحتياط ممكن وحسن هنا عند الكلّ حتّى الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ، ولا كلام فيه ، نعم ، وقع الكلام بين الأعلام من جهة وجوب الاحتياط وعدمه ، وهذا غير إمكانه وحسنه.

٧١

ومنها : أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه ، بل لا دخل له قطعا.

ومنها : أنّ اعتبار قصد الوجه ـ لو كان ـ إنّما هو في الواجبات المستقلّة دون الضّمنيّة وهي الأجزاء ، كما في المقام ، بمعنى : أنّ المراد من الوجه عند القائل به هو وجه نفس الواجب ، لا وجه أجزاءه من وجوبها الغيريّ أو وجوبها العرضيّ.

ومنها : أنّه لو سلّم اعتبار قصد الوجه في جميع الواجبات ، فلا دليل على اعتباره بنحو الجزم ، بل يكفي القصد بنحو الاحتمال والرّجاء وهو حاصل في المقام.

وقد أجاب المحقّق النّائيني قدس‌سره عن أصل الإشكال بما حاصله : أنّ الغرض بالقياس إلى المأمور به ـ حسب مقام الثّبوت ـ على قسمين : أحدهما : إنّ نسبته إلى الفعل المأمور به الّذي يترتّب عليه الغرض ، نسبة المعلول إلى علّته التّامّة ، كالقتل المترتّب على فري الأوداج ، وكالإحراق المترتّب على الإلقاء في النّار ونحوهما من الأفعال التّوليديّة ، وكالطّهارة المترتّبة على الوضوء وهو الغسلتان والمسحتان.

ثانيهما : إنّ نسبته إلى الفعل ، نسبة المعلول إلى العلل الإعداديّة ، لا إلى العلل التّوليديّة ، كحصول السّنبل من الحبّة ، وكحصول المصالح والملاكات من الصّوم والصّلاة ، حيث إنّ الفعل الصّادر من المكلّف ليس إلّا هو الزّرع والسّقي ونحوهما من المقوّمات والعلل الإعداديّة ، وأمّا حصول السّنبل فمتوقّف على مقدّمات اخرى خارجة عن قدرة المكلّف ، كحرارة الشّمس ، وهبوب الرّياح ونحوهما ، فالغرض في القسم الأوّل يترتّب على نفس الفعل المأمور به بلا توسّط أمر خارج عن قدرة المكلّف ، وفي القسم الثّاني لا يترتّب عليه ، بل يتوقّف حصوله (الغرض الأقصر) على مقدّمات خارجة عن قدرة المكلّف.

٧٢

وعليه : فالغرض ـ حسب مقام الإثبات ـ إذا كان من قبيل الأوّل ، يجب القطع بحصوله ، سواء تعلّق الأمر بنفس الغرض ـ كالإحراق ، أو القتل ، أو الطّهارة ـ أو بعلّته ـ كالإلقاء ، أو فري الأوداج ، أو الوضوء ـ ففي مثل ذلك لو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، يجب الاحتياط بإتيان الأكثر.

وأمّا إذا كان من قبيل الثّاني ، فليس حصول الغرض متعلّقا للتّكليف ؛ إذ لا يصحّ التّكليف بغير المقدور ، فلا يجب على المكلّف إلّا إتيان نفس ما امر به وهو الفعل المأمور به ، ففي مثل ذلك لو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، يجب الإتيان بالأقلّ للعلم بوجوبه على كلّ حال ويجري الأصل في الأكثر ، لعدم العلم به. هذا فيما إذا علم بكون الغرض داخلا في أحد القسمين.

وأمّا إذا شكّ في ذلك ولم يعلم أنّه من أيّ قسم منهما ، فلا مناص من الرّجوع إلى الأمر وملاحظته ، فإن تعلّق بنفس الغرض ، كالأمر بالطّهارة من الحدث في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(١) يعلم أنّ الغرض مقدور لنا ، ويجب الاحتياط عند الدّوران ، كما يحتاط عند الشّكّ في المحصّل ؛ وإن تعلّق بنفس الفعل المأمور به ـ كالأمر بالصّلاة والصّوم ونحوهما ـ يعلم أنّ الغرض ليس بمقدور لنا ، فلا يجب الاحتياط عند الدّوران ، بل اللّازم هو الإتيان بما أمر به فقط بلا لزوم إحراز أنّه هل يكون وافيا بغرض المولى أم لا؟ إذ ليس إحرازه من وظيفتنا ، بل هو من وظيفة الآمر ، نظرا إلى أنّ الغرض ، كالتّكليف لا بدّ من قيام البيان عليه ووصوله إلى العبد ، إمّا بنفسه ، أو بطريقه ، كإيجاب الاحتياط ، وكما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في

__________________

(١) سورة المائدة (٥) ، الآية ٦.

٧٣

التّكليف ، كذلك تجري في الغرض.

ولا يخفى : أنّ المقام من هذا القبيل ، لتعلّق الأمر بنفس الفعل المأمور به ، فيعلم أنّ الغرض ليس متعلّقا للتّكليف ، فيجب الإتيان بما تعلّق به وهو الأقلّ ، وأمّا الأكثر ، فالمرجع فيه هو الأصل النّافي وهو البراءة. (١) انتهى محصّل كلامه قدس‌سره ، وهو لا يخلو عن جودة.

وقد أورد عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بما حاصله : أنّ الغرض المترتّب على المأمور به ، قسمان : أحدهما : الأقصى الّذي نسبته إلى المأمور به ، نسبة المعلول إلى علّته المعدّة وهو خارج عن الاختيار ، فلا يكون مأمورا به كي يجب تحصيله واستيفائه ؛ ثانيهما : الغرض الأدنى الإعداديّ الّذي نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول الى علّته التّامّة وهو لكونه مقدورا تحت الاختيار ، يجب القطع بحصوله ، فلا مناص إذا من الإتيان بالأكثر ، فعدم تعلّق الأمر بالغرض إنّما يصحّ في الغرض الأقصى لا الإعداديّ ، والتّحقيق فى الجواب أن يقال : قد يتعلّق الأمر بنفس الغرض ، فلا بدّ من تحصيله ولو بإتيان الأكثر عند الشّكّ ، وقد يتعلّق بنفس الفعل ، فلا يجب على المكلّف إلّا إتيان ما تعلّق به أمر المولى بمقدار ما أمر به ، وأمّا هل يكون هذا المقدار وافيا بغرضه ، فليس إحراز ذلك من وظائف المكلّفين ، بل يكون من وظائف الآمر تعالى ، وبالجملة : الغرض كالتّكليف فكما يجب أن يكون التّكليف واصلا إلى العبد بنفسه أو بطريقه كإيجاب الاحتياط ، كذلك الغرض ، وكما يجب أن يتمّ على التّكليف البيان ، كذلك الغرض ، وكما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان فى التّكليف ، كذلك تجري في الغرض

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٦٥ إلى ١٨١ ؛ أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ٢٩٠ إلى ٢٩٥.

٧٤

وتفويته. (١) هذا ، ولكن أنت ترى ، أنّ هذا الكلام ليس إيرادا على كلام المحقّق النّائيني قدس‌سره بل يكون شرحا وتفسيرا له ، فتأمّل.

الجهة الثّالثة : (من الجهات المانعة عن إجراء البراءة العقليّة) أنّ التّكليف المردّد تعلّقه بالأقلّ والأكثر ، تكليف واحد تعلّق بالأجزاء على وجه تقييد بعضها ببعض ثبوتا وسقوطا ؛ وذلك ، للارتباطيّة الأجزاء ، فلا يعقل سقوطه بالإضافة إلى بعض الأجزاء ، وعدم سقوطه بالإضافة إلى بعض آخر منها ، وحيث إنّه يحتمل وجوب الأكثر في المقام ، فهو ملازم لاحتمال عدم سقوط التّكليف رأسا ، ونتيجته هو اندراج المقام في باب العلم بثبوت التّكليف والشّكّ في سقوطه ، فتجري قاعدة الاشتغال والاحتياط ؛ إذ العلم بشغل الذّمّة يقتضي العلم بفراغها ، ولا يحصل العلم بالفراغ إلّا بإتيان الأكثر.

وإن شئت ، فقل : إنّ ارتباطيّة الأجزاء توجب وحدة متعلّق التّكليف ، فتوجب وحدة نفس التّكليف ثبوتا وسقوطا ، بحيث لا يعقل سقوطه بالنّسبة إلى بعض الأجزاء دون بعض ، ومع احتمال وجوب الأكثر لا يسقط بإتيان الأقلّ ، فالمقام مندرج في باب الشّكّ في السّقوط ، لا في الثّبوت ، فيلزم الاحتياط.

وفيه : أنّ الشّكّ في السّقوط على قسمين : أحدهما : ما يرجع إلى مقام الامتثال والإطاعة وفراغ الذّمة ، لا إلى مقام الجعل واشتغال الذّمّة ، نظير ما علم بوجوب صلاة الظّهر ، وشكّ في الإتيان بها ، وهكذا صلاة العصر أو صلوات اخرى ، فيجري الاحتياط والاشتغال هنا بحكم العقل ، وهو واضح جدّا.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٣٧.

٧٥

ثانيهما : ما يرجع إلى مقام الجعل والتّشريع وإلى صدور الفعل من المولى ، بمعنى : أنّ الشّكّ ناش من عدم وصول التّكليف إلى المكلّف ، فلا علم للعبد بما هو مجعول من ناحية المولى ؛ وذلك ، نظير المقام ، حيث إنّ الشّكّ في سقوط التّكليف بإتيان الأقلّ ناش من الشّكّ في جعل المولى التّكليف للأقلّ فقط ، أو إلى حدّ الأكثر على وجه الانبساط ، فالمرجع حينئذ البراءة.

وبالجملة : لا علم إجماليّا في البين ، بل علم تفصيليّ بالتّكليف بالنّسبة إلى حدّ الأقلّ ، وشكّ بدويّ في انبساطه إلى حدّ الأكثر ، ومقتضى ذلك هو أنّ اشتغال الذّمّة بمقدار الأقلّ مقطوع ، فيلزم الفراغ ، وأمّا بمقدار الأكثر فمشكوك فيه ، فيرجع إلى الأصل العقليّ وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من وجهي مستند البراءة العقليّة.

الوجه الثّاني : أنّ الأقلّ واجب يقينا ، إمّا بوجوب استقلاليّ لو كان الواجب هو نفسه ، أو بوجوب ضمنيّ لو كان الواجب هو الأكثر ؛ لانحلال التّكليف بالمركّب إلى التّكليف بكلّ واحد واحد من أجزاءه ، فالتّكليف بالأقلّ معلوم ، والعقاب على تركه عقاب مع البيان ، وتعلّقه بالأكثر مشكوك فيه ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان فتجري البراءة العقليّة ، والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل ، هو أنّ وجوب الأقلّ يدور أمره في الوجه الأوّل بين النّفسيّ والغيريّ ، بخلاف الوجه الثّاني ، فإنّ وجوبه يدور بين النّفسيّين ، غاية الأمر ، على أحد التّقديرين نفسيّ استقلاليّ ، وعلى التّقدير الآخر نفسيّ ضمنيّ ، فيقال : كما أشرنا آنفا ، تعلّق التّكليف بالأقلّ معلوم ، سواء كان بنحو التّكليف النّفسيّ الاستقلاليّ ، أو النّفسيّ الضّمنيّ ، فلا يمكن تركه لكونه

٧٦

موجبا للعقاب مع البيان ، ولكن تعلّقه بالأكثر مشكوك فيه ، فتجري البراءة العقليّة ، ويكون العقاب على تركه عقاب بلا بيان.

هذا كلّه بالنّسبة إلى البراءة العقليّة.

وأمّا بالنّسبة إلى البراءة النّقليّة ، فلا إشكال في أنّها تجري إذا قلنا : بجريان البراءة العقليّة ، كما هو الحقّ ، فإمّا ترفع الجزئيّة المشكوكة والمؤاخذة على تركها ، أو يرفع وجوب المشكوك جزئيّته على اختلاف بين الأعلام في أنّ المرفوع بحديث الرّفع ، هل هو الوضع أو التّكليف؟ إنّما الإشكال فيما إذا قلنا : بعدم جريان البراءة العقليّة ، فقد وقع الخلاف عندئذ في جريان البراءة النّقليّة ، فذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى جريانها (١) وهو الحقّ.

والسّر فيه : أنّه لا مانع من شمول عموم حديث الرّفع ، لوجوب ما زاد على الأقلّ وهو الحكم التّكليفيّ ، أو جزئيّته وهو الحكم الوضعيّ ، حيث إنّ كلّا منهما مجعول شرعيّ ، غاية الأمر ، يكون التّكليف متعلّقا للجعل بلا واسطة ، والوضع متعلّقا له مع الواسطة ، فمن رفع الوجوب يستكشف عدم الجزئيّة كشفا لميّا ، ومن رفع الجزئيّة يستكشف عدم الوجوب كشفا إنيّا ؛ إذ الوجوب منشأ لانتزاع الجزئيّة ، ووزان منشإ الانتزاع أو المنتزع عنه بالنّسبة إلى المنتزع ، وزان العلّة بالنّسبة إلى المعلول.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : بمنع شمول الحديث للمقام ، بتقريب ، أنّ رفع الأمر بالأكثر ورفع وجوبه لا يثبت الأمر بالأقلّ ووجوبه ، إلّا بالأصل المثبت وهو ليس

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٥.

٧٧

بحجّة ، فلا مجال إذا لجريان البراءة النّقليّة بالنّسبة إلى الأكثر.

وبعبارة اخرى : إنّ مفاد الحديث ليس إلّا الرّفع فقط ، دون الوضع والإثبات ، فهو ناظر إلى عقد سلبيّ وهو رفع وجوب الأكثر ، أو جزئيّته ، لا إلى عقد إثباتيّ وهو إثبات وجوب الأقلّ.

والجواب عنه يظهر ممّا ذكرناه ، من أنّ الحكم والتّكليف واحد تعلّق بالأقلّ قطعا بنفس تعلّقه بالعنوان ، كالصّلاة ـ مثلا ـ والشّكّ إنّما هو في انبساطه إلى الأكثر ، فيرفع هذا بالبراءة ، لا أصل التّكليف ، فلا يثبت أصل التّكليف ، فلا يثبت أصل التّكليف بحديث الرّفع حتّى يلزم الأصل المثبت ، بل التّكليف ثابت إلى حدّ الأقلّ بنفس ثبوته للعنوان وهي الصّلاة ـ مثلا ـ وإذا يكون مفاد الحديث هو الرّفع والنّفي فقط ، دون الوضع والإثبات.

ولك أن تقول : وزان حديث الرّفع بالنّسبة إلى أدلّة الأجزاء ، وزان الاستثناء بالنّسبة إلى المستثنى منه ، فكما أنّ في مثل قولنا : «أكرم العلماء إلّا فسّاقهم» ليس مفاد الاستثناء إلّا إخراجا للفسّاق من العلماء عن تحت العموم وعدم وجوب إكرامهم ، بخلاف وجوب إكرام الباقي وهو العدول منهم ؛ إذ هو داخل تحت العموم بلا نظر للاستثناء إليه ، فكذلك ليس مفاد الحديث إلّا إخراجا للجزء المشكوك ، بخلاف باقي الأجزاء ، إذ هو داخل تحت عموم أدلّة الأجزاء ، وهكذا الأمر في جميع التّخصيصات والتّقييدات.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء الخارجيّة).

أمّا الجهة الثّانية : (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء التّحليليّة)

٧٨

فاعلم ، أنّ الأجزاء التّحليليّة على أنواع ثلاثة :

أحدها : أن تكون من قبيل شرط المأمور به المنتزع عن أمر خارجيّ وله ما بحذائه في الخارج ، كالطّهارة المنتزعة من الوضوء والغسل والتّيمّم.

ثانيها : أن تكون من قبيل خصوصيّة الموضوع القائمة به ، العارضة له بلا كونه من مقوّماته ، كالإيمان بالنّسبة إلى الرّقبة.

ثالثها : أن تكون من قبيل خصوصيّة الموضوع القائمة به ، العارضة له مع كونه من مقوّماته ، كالنّاطقيّة للحيوان ، والظّهريّة لصلاة الظّهر ، والعصريّة لصلاة العصر.

والحقّ أنّه إذا شكّ في دخل شيء من تلك الأنواع الثّلاثة في الموضوع ، تجري فيه البراءة ، عقليّة كانت ، أو نقليّة ، نظير ما إذا شكّ في الصّلاة على الميّت ، هل الواجب هي الصّلاة مطلقا أو هي مع الطّهور ، فترفع الشّرطيّة بالبراءة ، وكذا نظير ما إذا شكّ في أنّ الواجب ، هل هي عتق الرّقبة مطلقا ، أو عتق الرّقبة المؤمنة ، فترفع خصوصيّة الإيمان بالبراءة ، وكذا نظير ما إذا شكّ في أنّ الواجب ، هل هو إطعام مطلق الحيوان أو الحيوان النّاطق ، فترفع خصوصيّة النّاطقيّة بالبراءة.

والحريّ هنا ، ذكر الدّليل على جريان كلّ واحد من البراءة العقليّة والنّقليّة في المقام ، فنقول :

أمّا البراءة العقليّة ، فالدّليل عليها هو أنّها تجري في كلّ مشكوك لو اخذ في موضوع الدّليل ، كان اللّازم هو لحاظه واعتباره في الموضوع ثبوتا (مقام الجعل والتّشريع) وبيانه إثباتا (مقام الإيصال والتّبليغ) من غير فرق فيه بين المنتزع عن خارج ، كالطّهارة المنتزعة من الغسلات والمسحات ، وبين المنتزع عن خصوصيّة في

٧٩

الموضوع ، عارضة له ، غير مقوّمة أو مقوّمة له ، فتجري البراءة العقليّة في جميع ذلك لو لم يتمّ البيان ولم تنهض الحجّة في مقام الإثبات ، كما هو المفروض ، وإلّا يلزم العقاب بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل.

هذا ، ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى عدم جريان البراءة العقليّة في تلك الأنواع الثّلاثة ، بتقريب : أنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر بالنّسبة إلى الأجزاء الخارجيّة لا يكاد يتوهّم هنا ؛ ضرورة عدم اتّصاف الأجزاء التّحليليّة بالوجوب المقدّميّ عقلا.

توضيح ذلك : أنّ الأجزاء الخارجيّة في مثل الصّلاة ، كالحمد والسّورة ونحوهما ، تتّصف بالوجوب الغيريّ ، فيقال : الأقلّ واجب قطعا ، إمّا بوجوب نفسيّ ، أو غيريّ ، فيشكّ في الزّائد عليه ، فتجري فيه البراءة ؛ وهذا بخلاف الأجزاء التّحليليّة ، فليس لها وجوب غيريّ كي يقال : ـ مثلا ـ الصّلاة على الميّت أو الرّقبة ، أو الحيوانيّة ـ مثلا ـ واجب قطعا ، إمّا بوجوب نفسيّ أو غيريّ ، فيشكّ في الطّهارة أو الإيمان أو النّاطقيّة ، فتجري فيه البراءة العقليّة ؛ وذلك ، لأنّه ليس للأجزاء التّحليليّة وجود على حدة ، وليس لها ما بحذائها في الخارج وليست بمقدّمة للكلّ ، بل هنا وجود واحد ، فالتّقييد والاشتراط لا وجود لهما خارجا غير وجود المجموع حتّى يقال : بوجوبهما نفسيّا ضمنيّا ، فضلا عن الوجوب الغيريّ المقدّميّ. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه لا مجال للوجوب الغيريّ في الأجزاء الخارجيّة كي يوجب الفرق بينها وبين الأجزاء التّحليليّة في جريان البراءة ، بل الوجوب في كلّ منهما واحد

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٨.

٨٠