مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

بالوجدان ؛ وذلك نظير الصّلاة ، حيث إنّ متعلّق حكم الوجوب هو الإتيان بها مع الطّهارة من الحدثين ومن الخبث ، والسّتر واستقبال القبلة ، فإذا كان متطهّرا ثمّ شكّ في بقاء طهارته ، يجري استصحاب طهارته فتحرز به ، وإذا احرز السّتر واستقبال القبلة ونحوهما بالوجدان ، يتمّ المتعلّق فيترتّب عليه الأثر وهو الصّحّة والإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء.

وتوهّم أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر وهو استصحاب عدم تحقّق الصّلاة مع الطّهارة ؛ إذ الشّكّ في الطّهارة بعد الصّلاة راجع إلى الشّكّ في أصل تحقّق الصّلاة مع الطّهارة ، فيتساقطان بالمعارضة ؛ مندفع ، بأنّ عنوان المجموع المركّب بما هو كذلك إذا كان موضوعا أو متعلّقا لحكم ، لكان عنوانا واحدا بسيطا ، وقد عرفت عدم إمكان إثباته بالاستصحاب ، وعليه ، فلا يصل الدّور إلى المعارضة ، فمثل هذا الفرض ، خارج عن فرض الكلام وهو ما إذا كان نفس كلّ جزء دخيلا في الحكم ، بلا دخل لعنوان المجموع بما هو مجموع ، فموضوع الإرث هو حياة الولد حين موت الوالد ، أو موت الوالد وحياة الولد حين موته ؛ وكذا موضوع جواز التّقليد هو العلم والعدالة ، لا عنوان المجموع ، ففي مثل هذا الفرض يكون الموضوع أو المتعلّق متحقّقا قطعا ، لكن أحد جزئيه محرز بالأصل ، والآخر بالوجدان ، ولا شكّ في تحقّقه حتّى يجري استصحاب عدمه.

وقد يقال في دفع هذا التّوهّم : إنّ المقام يكون من قبيل باب الحكومة ، بتقريب ، كون الشّكّ في تحقّق المجموع مسبّبا عن الشّكّ في تحقّق الجزء المشكوك فيه ، فيجري الاستصحاب بالنّسبة إلى الجزء حاكما على جريانه بالنّسبة إلى المجموع.

٢٦١

وفيه : أنّ السّببيّة لا بدّ وأن تكون شرعيّة ، كما إذا غسل ثوب متنجّس بماء مشكوك الطّهارة ، فيجري الاستصحاب بالنّسبة إلى الماء وهو حاكم على جريان الاستصحاب في الثّوب ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ السّببيّة فيه عقليّة ، كما لا يخفى.

إذا عرفت تلك المقدّمة ، فلنشرع إلى ذكر الصّور في الحادثين المفروضين ، فنقول : الصّور المتصوّرة فيهما ثمان ؛ إذ الحادثان ، إمّا يفرض فيهما الجهل بتاريخهما ، وإمّا يفرض الجهل بتاريخ أحدهما ، وفي كلا الفرضين صور أربع ،

أمّا صور فرض الجهل بتاريخ الحادثين : فالاولى : ما إذا كان الأثر فيهما للوجود الخاصّ «بمفاد كان التّامّة» نظير ترتّب أثر الإرث ـ مثلا ـ على سبق موت المورّث على موت الوارث وتقدّمه عليه ، فلا ريب في جريان أصالة عدم السّبق والتّقدّم هنا ، ومقتضاها عدم الإرث ، لكن هذا إذا لم يكن لتقدّم الحادث الآخر (موت الوارث) على هذا الحادث (موت المورّث) أثر ، وأمّا إذا كان لتقدّم كلّ منهما أثر ، فتجري أصالة عدم التّقدّم والسّبق في كلّ منهما بلا معارضة بين الأصلين ، لاحتمال التّقارن في البين ، حيث لا علم إجماليّا بأصل السّبق والتّقدّم.

نعم ، إذا كان في البين علم إجماليّ بتقدّم أحدهما على الآخر ، فلا تجري أصالة عدم السّبق والتّقدّم في أحدهما لمعارضة هذا الأصل بمثله في الآخر.

وبعبارة اخرى ، جريان الأصل فيهما موجب للمخالفة القطعيّة ، وفي خصوص أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، كما لا يخفى.

وكذا تجري أصالة عدم السّبق والتّقدّم في كلّ منهما لو كان الأثر مترتّبا لكلّ من التّقدّم والتّأخّر بلا معارضة ، لاحتمال التّقارن في البين ، إلّا إذا علم إجمالا بالسّبق ،

٢٦٢

فلا مجال حينئذ للرّجوع إلى أصالة عدم السّبق ، لما عرفت آنفا من تحقّق المعارضة بين الأصلين.

الصّورة الثّانية : ما إذا كان الأثر فيهما للوجود الخاصّ «بمفاد كان النّاقصة» نظير ما إذا قلنا : بترتّب الإرث على كون موت المورّث متّصفا بالتّقدّم على موت الوارث ، لا على نفس تقدّم موته على موته ، كما في الصّورة الاولى ، ففى جريان الاستصحاب وعدمه هنا قولان :

أحدهما : ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره من عدم جريانه الاستصحاب ، لعدم تعلّق اليقين والشّكّ بهذا الوجود (الوجود بمفاد كان النّاقصة) فلم يكن في الفرض علم ويقين بالاتّصاف بالتّقدّم أو التّأخّر أو التّقارن سابقا حتّى يستصحب عند الشّكّ في بقاءه لا حقا. (١)

ثانيهما : ما اختاره قدس‌سره من جريان الاستصحاب في مسألة العامّ والخاصّ ، فقال ما حاصله : إذا ورد عموم بأنّ النّساء تحيض إلى خمسين عاما إلّا القرشيّة وشككنا في كون امرأة قرشيّة ، فلا يجوز التّمسّك بالعامّ ، لكون الشّبهة مصداقيّة ، لكن لا مانع من إدخالها في العموم بمعونة الاستصحاب بأن يقال : الأصل عدم اتّصافها بالقرشية لانّها لم تتّصف بهذه الصّفة حين لم تكن موجودة والآن كما كانت. (٢)

والحقّ ما اختاره قدس‌سره في مبحث العامّ والخاصّ وهو جريان الاستصحاب في المقام ، فيقال : في المثال المتقدّم ، الأصل عدم اتّصاف موت المورّث بالتّقدّم على موت

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٤ و ٣٣٥.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٦.

٢٦٣

الوارث ، بتقريب ، أنّ عدم اتّصافه بالتّقدّم عليه كان متيقّنا حين لم يكونا موجودين ، فالآن كما كان ، وواضح ، أنّ اليقين بعدم اتّصاف شيء بشيء واستصحابه ، لا يحتاج إلى وجود ذلك الشّيء في زمان سابق حال كونه غير متّصف ، بل يكفي عدم اتّصافه به حال كونه معدوما ؛ إذ القضيّة السّالبة ـ على ما بيّن في محلّه ـ لا تحتاج إلى وجود الموضوع وإنّما تحتاج إليه القضيّة الموجبة ولو كانت بنحو معدولة المحمول ؛ ولذا قالوا : ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ولم يقولوا : نفى شيء عن شيء فرع ثبوت المنفي عنه ، نعم ، الاتّصاف بالعدم يحتاج إلى وجود الموضوع ، لأنّه موجبة معدولة لكونها ربط السّلب وإثبات عدم الاتّصاف ، وهذا خارج عن الكلام وهو عدم الاتّصاف الّذي لا يحتاج إلى وجود الموضوع لأنّها سالبة محصّلة ، لكونها سلب الرّبط وسلب الاتّصاف.

فتحصّل : أنّه يجري الاستصحاب في هذه الصّورة ، كما يجري في الصّورة الاولى ؛ اللهم إلّا أن يقال : بعدم حجّيّة استصحاب عدم الاتّصاف في المقام ونحوه ، حيث لا اعتبار لاستصحاب الأعدام الأزليّة ، فتأمّل.

الصّورة الثّالثة : ما إذا كان الأثر فيهما للعدم الخاصّ «بمفاد ليس النّاقصة» وهو العدم النّعتي ، قد اختار المحقّق الخراساني قدس‌سره هنا عدم جريان الاستصحاب ؛ وذلك لعدم اليقين بوجود أحد الحادثين ، كإسلام الوارث ، متّصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر ، كموت المورّث ، والقضيّة ، كما ترى ، موجبة معدولة المحمول تحتاج إلى وجود الموضوع ؛ إذ مفادها ربط السّلب وحمله على الموضوع وإثباته له ، لا سلب الرّبط ونفي الحمل ، كما في السّالبة المحصّلة.

٢٦٤

وفيه : أنّ حال هذه الصّورة حال الصّورة الثّانية ، حيث يجري فيها استصحاب عدم الاتّصاف ، لا استصحاب الاتّصاف بالعدم.

الصّورة الرّابعة : ما إذا كان الأثر فيهما للعدم الخاصّ «بمفاد ليس التّامّة» وهو العدم المحموليّ ، قد اختلفت كلمات الأعلام في جريان الاستصحاب وعدمه في هذه الصّورة ، ذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) إلى جريانه فيها ، وسقوطه بالمعارضة إذا كان الأثر لعدم كلّ من الحادثين في زمن الآخر ، ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) إلى عدم جريانه فيها ؛ إذ ـ مع قطع النّظر عن المعارضة ـ تكون الأدلّة قاصرة الشّمول له.

وكيف كان ، لا ثمرة عمليّة في ما إذا كان لعدم كلّ منهما أثر شرعيّ ، كموت المتوارثين ؛ وذلك ، لعدم جريان الاستصحاب على كلّ حال ، إمّا لأجل التّعارض والتّساقط ، أو لأجل عدم شمول الأدلّة له ، فالبحث علميّ محض لا تترتّب عليه ثمرة عمليّة.

نعم ، تترتّب على البحث ثمرة عمليّة في ما إذا كان الأثر مترتّبا على أحد العدمين دون الآخر ، فلا يجري الاستصحاب في ما له أثر على مسلك المحقّق الخراساني قدس‌سره ويجري فيه على مسلك الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ؛ وذلك نظير ما إذا شكّ في تقدّم موت الوالد المورّث ، على إسلام الولد الوارث ، حيث إنّ استصحاب عدم اسلام الولد إلى زمن موت الوالد ، يترتّب عليه أثر عدم الإرث ، وهذا بخلاف استصحاب عدم موت الوالد إلى زمن اسلام الولد ، بمعنى : استصحاب حياة الوالد إلى

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٤٩.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٥ و ٣٣٦.

٢٦٥

ذلك الحين ، فإنّه لا أثر له ؛ إذ موضوع الإرث ليس حياة الوالد مع وارث المسلم بل موضوعه هو موته مع وارث المسلم ، ونظير ما إذا علم بموت أخوين : أحدهما : ذو ولد ، دون الآخر ، وشكّ في تقدّم كلّ منهما على الآخر ، فاستصحاب عدم موت من له ولد إلى زمن موت الآخر ، يترتّب عليه إرثه منه ، بخلاف استصحاب عدم موت من لا ولد له إلى زمن موت الآخر ، فلا يترتّب عليه الأثر ؛ إذ إرثه حينئذ لولده ، لا لأخيه الّذي لا ولد له.

وفي هذين المثالين ونحوهما من الأمثلة ، يجري الاستصحاب في ما له أثر على مسلك الشّيخ الأنصاري قدس‌سره لعدم المعارض ، ولا يجري على مسلك المحقّق الخراساني قدس‌سره لأجل اختلال أركانه.

وقد أفاد المحقّق الخراساني قدس‌سره في وجه ذلك ، ما حاصله : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب من إحراز اتّصال زمان الشّكّ بزمان اليقين ، كما هو مقتضى كلمة : «الفاء» في قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، فشككت ...» وعليه ، فلا تعمّ أدلّة الاستصحاب مورد انفصال زمان الشّكّ عن زمان اليقين بيقين آخر مثله ، لخروج هذا المورد عنها تخصّصا ، لكونه نقضا لليقين باليقين لا بالشّكّ ، ولا تعمّ ـ أيضا ـ موارد الشّكّ في الانفصال واحتماله وعدم إحراز الاتّصال ؛ وذلك لكون الشّبهة حينئذ مصداقيّة ، فلا مجال فيها للرجوع إلى العموم ، حيث إنّ المقام يكون من قبيل الشّبهة المصداقيّة للمخصّص المتّصل الّتي لا يقول أحد بالرّجوع إلى العامّ فيها ، بخلاف الشّبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل ، فيجوز الرّجوع فيها إلى العامّ على بعض المسالك. (١)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٤ و ٣٣٥.

٢٦٦

وفيه : أنّ المعتبر في الاستصحاب ، كما عرفت سابقا ، إنّما هو سبق زمن المتيقّن على زمن المشكوك ، لا سبق اليقين على الشّكّ ، بمعنى : أنّ الاستصحاب يجري لو كانا حادثين معا وفي زمان واحد ، بل ولو حدث الشّكّ أوّلا ثمّ اليقين ، فالمتقدّم هو المتيقّن (الحدوث) ، والمتأخّر هو المشكوك فيه (البقاء) ، نعم ، زمن اليقين سابق على زمن الشّكّ غالبا ، كما هو المقصود في قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، فشككت ...» ، ومعنى اتّصال زمن الشّكّ بزمن اليقين حينئذ ، عدم تخلّل يقين آخر مخالف للأوّل بينهما ، وإلّا كان من نقض اليقين باليقين لا بالشّكّ.

وعليه : فلا إشكال في جريان الاستصحاب في المثال المتقدّم (ما إذا شكّ في تقدّم موت الوالد المورّث على إسلام الولد الوارث) لوجود الاتّصال ، حيث تيقّن بعدم إسلام الوارث يوم الأربعاء ـ مثلا ـ ويشكّ في بقاء هذا العدم إلى زمن موت المورّث من دون أن يتخلّل بينهما يقين فاصل آخر.

ولا يخفى عليك : أنّ الشّبهة المصداقيّة في الامور الوجدانيّة (الشّكّ واليقين) غير معقولة ، فلا معنى للشّكّ في أنّ له يقينا أو شكّا ، أم لا ، بمعنى : أنّ الشّكّ واليقين ليس نظير الفسق والعدالة ، فتأمّل.

فظهر من ذلك ، أنّه لا مجال للشّكّ في أنّ الشّكّ كان يوم الخميس ـ مثلا ـ حتّى يكون متّصلا بزمن اليقين وهو يوم الأربعاء ، أو كان يوم الجمعة حتّى يكون منفصلا عنه ، بل الشّكّ في أنّ الإسلام ، هل حدث في زمن حدوث الموت أم لم يحدث في هذا الزّمان ، موجود حتّى يوم الجمعة ، فليس الشّكّ في الشّكّ ، كما ليس الشّكّ في اليقين بعدم الإسلام يوم الأربعاء.

٢٦٧

نعم ، زمان المشكوك فيه وهو موت المورّث مشكوك ، لاحتمال كونه يوم الخميس ، أو يوم الجمعة ، فإن كان زمان الموت يوم الخميس وزمان الإسلام يوم الجمعة ، فلا إرث ، وإن كان بالعكس فالإرث ثابت.

وبالجملة : لا مجال للشّكّ في اليقين والشّكّ ، حتّى تصير الشّبهة مصداقيّة لكبرى الاستصحاب ، بل الشّكّ إنّما هو في حدوث الإسلام ووجوده زمن موت المورّث ؛ وذلك لأجل العلم الإجماليّ بكون أحدهما يوم الخميس والآخر يوم الجمعة ، وهذا المقدار لا يضرّ بالاستصحاب ، فيستصحب عدم إسلام الوارث إلى موت المورّث لتماميّة أركان الاستصحاب من اليقين والشّكّ وعدم تخلّل يقين آخر بينهما ، والعلم الإجماليّ وإن كان يقينا ، إلّا أنّه لا يكون ناقضا لليقين التّفصيليّ ، بل النّاقض لليقين التّفصيليّ لا بدّ أن يكون يقينا تفصيليّا ، كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر مثله».

هذا ، ولكن قد يقال في توجيه الكلام المحقّق الخراساني قدس‌سره : إنّ الشّكّ هنا لا يحصل إلّا بعد العلم بالانتقاض (انتقاض اليقين بعدم الإسلام يوم الأربعاء باليقين بالإسلام يوم الجمعة) توضيح ذلك : أنّ الشّكّ في حدوث الإسلام ووجوده زمن الموت ، لا يحصل إلّا بعد حصول العلم بالموت ، ولا يحصل العلم به ، إلّا يوم الجمعة الّذي يعلم فيه بوجود الإسلام ـ أيضا ـ وعليه ، فزمان الشّكّ هو يوم الجمعة ، وزمان اليقين هو يوم الأربعاء ، فيوم الخميس فاصل بينهما ، ومقتضاه اندراج المقام تحت قضيّة انفصال زمن الشّكّ عن زمن اليقين قطعا ، لا احتمالا حتّى تصير الشّبهة مصداقيّة ، كي يقال : إنّها غير معقولة في الامور الوجدانيّة.

٢٦٨

وفيه : أوّلا : أنّ هذا التّوجيه ليس بمراده قدس‌سره لأنّه علّل عدم جريان الاستصحاب في المسألة بعدم إحراز الاتّصال واحتمال الانفصال ، لا بإحراز الانفصال ، ولذا قال : «ومعه لا مجال للاستصحاب ، حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشّكّ من نقض اليقين بالشّكّ» ولم يقل : حيث احرز أنّه من نقض اليقين باليقين.

وثانيا : قد عرفت عدم اعتبار سبق اليقين على الشّكّ ، بل المعتبر سبق المتيقّن على المشكوك وإن حدث اليقين والشّكّ معا ، كما في المقام ، ففي يوم الجمعة يتيقّن بوجود الإسلام والموت معا ، وفي نفس اليوم يتيقّن بعدم الإسلام والموت يوم الأربعاء ، ويشكّ في حدوث الإسلام حين الموت ، فعدم الإسلام حين الموت متيقّن حدوثا ومشكوك بقاء ، ولا يقين آخر فاصلا بينهما كي يكون من نقض اليقين باليقين.

نعم ، هنا يقين آخر وهو في يوم الجمعة متعلّق بنفس وجود الإسلام فعلا وهذا ليس في وسعه النّقض لليقين الأوّل ؛ إذ متعلّق اليقين الأوّل عدم الإسلام حين الموت حدوثا ، ومتعلّق الشّكّ هذا العدم بقاء ، لا عدم وجود نفس الإسلام حتّى ينقض باليقين بوجود الإسلام ، فمتعلّق اليقين الثّاني غير متعلّق اليقين الأوّل فلا مجال للنّقض. هذا كلّه في صور فرض الجهل بتاريخ كلا الحادثين.

أمّا صور فرض الجهل بتاريخ أحدهما والعلم بتاريخ الآخر ، فالاولى : أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود الخاصّ من التّقدّم والتّأخّر وهو الوجود المحموليّ الّذي يكون «بمفاد كان التّامّة».

٢٦٩

الثّانية : أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود الخاصّ منهما وهو الوجود النّعتيّ الّذي يكون «بمفاد كان النّاقصة».

الثّالثة : أن يكون الأثر مترتّبا على العدم الخاصّ منهما وهو العدم النّعتيّ الّذي يعبّر عنه «بمفاد ليس النّاقصة».

الرّابعة : أن يكون الأثر مترتّبا على العدم الخاصّ منهما وهو العدم المحموليّ الّذي يعبّر عنه «بمفاد ليس التّامّة».

أمّا الصّورة الاولى ، فلها فروض أربعة :

أحدها : ما إذا كان الأثر لأحد السّبقين دون الآخر ، كما إذا فرض ترتّب أثر الإرث على سبق موت المورّث على موت الوارث ، أو سبق إسلام الوارث على موت المورّث ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، بمعنى : أنّه تجري أصالة عدم السّبق ويحكم بعدم ترتّب الإرث.

ثانيها : ما إذا كان الأثر لكلّ واحد من السّبقين ، مع فرض التّقارن بينها وعدم العلم الإجماليّ بسبق أحدهما دون الاخرى ، فتجري أصالة عدم سبق هذا ولا ذاك بلا معارضة.

ثالثها : ما إذا كان الأثر لكلّ واحد منهما مع فرض العلم الإجماليّ بسبق أحدهما دون الآخر ، فلا تجري أصالة عدم سبق هذا لمعارضتها بأصالة عدم سبق ذاك ، فإن جرت كلتاهما لزمت المخالفة القطعيّة ، وإن جرت إحداهما دون الاخرى ، لزم التّرجيح بلا مرجّح البتّة.

رابعها : ما إذا كان الأثر مترتّبا على سبق أحدهما على الآخر ، وكذلك على

٢٧٠

تأخّره عن الآخر ، فلا مانع من أصالة عدم السّبق ، كما لا مانع ـ أيضا ـ من أصالة عدم التّأخّر ، ولا معارضة في الفرض لاحتمال التّقارن.

نعم ، مع العلم الإجماليّ بسبق أحدهما على الآخر ، لا تجري أصالة عدم السّبق لمعارضتها بأصالة عدم تأخّر أحدهما عن الآخر ، ولا يحتمل التّقارن حتّى ترتفع المعارضة.

أمّا الصّورة الثّانية والثّالثة ، فقد استشكل المحقّق الخراساني قدس‌سره على جريان الاستصحاب فيهما ، لما تقدّم منه قدس‌سره في فرض الجهل بتاريخ الحادثين : من أنّ الاتّصاف بالوجود أو العدم ليست له حالة سابقة حتّى يستصحب. (١)

وفيه : ما تقدّم هناك من أنّ الاتّصاف بالوجود أو بالعدم وإن لم يكن له حالة سابقة ، لكن عدم الاتّصاف ، له حالة سابقة ، فيستصحب هذا العدم ، كما هو مختاره قدس‌سره في مبحث العامّ والخاصّ ، فراجع. (٢)

أمّا الصّورة الرّابعة ، فقد اختار الشّيخ الأنصاري (٣) والمحقّق الخراساني (٤) والمحقّق النّائيني قدس‌سرهم (٥) التّفصيل بين ما كان تاريخه مجهولا ، فقالوا : بجريان الاستصحاب فيه ، وبين ما كان تاريخه معلوما ، فقالوا : بعدم جريان الاستصحاب فيه.

أمّا جريان الاستصحاب في المجهول ، فوجهه ، هو أنّ عدمه متيقّن وتبدّله إلى

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٧.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٦.

(٣) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٤٩ و ٢٥٠.

(٤) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٧.

(٥) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٥٠٨ و ٥٠٩.

٢٧١

الوجود زمن وجود الآخر مشكوك ، فيستصحب عدمه ؛ وذلك نظير إسلام الوارث وموت المورّث ، حيث إنّ موضوع الإرث مركّب من أمرين : وهما : وجود الإسلام وعدم الحياة.

وأمّا عدم جريان الاستصحاب في المعلوم ، فقد ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره له وجها والمحقّق النّائيني قدس‌سره وجها آخر.

أمّا الوجه الّذي ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره فهو ما تقدّم في فرض الجهل بتاريخ كلا الحادثين من كون الشّبهة مصداقيّة ، لعدم إحراز اتّصال زمان الشّكّ بزمان اليقين ، بتوضيح : أنّا إذا علمنا بعدم الحادثين وهما : إسلام الوارث وموت المورّث يوم الأربعاء ـ مثلا ـ وعلمنا بموته يوم الخميس وشككنا يوم الجمعة في أنّ إسلام الوارث وقع ليلة الخميس حتّى يرث ، أو يوم الجمعة حتّى لا يرث ، والمفروض أنّ الأثر مترتّب على عدم الموت زمن وجود الإسلام ، لا على العدم مطلقا حسب عمود الزّمان ، والمفروض ـ أيضا ـ تردّد زمن الإسلام بين ليلة الخميس ويوم الجمعة ، لم يحرز حينئذ اتّصال زمان الشّكّ باليقين ؛ إذ حدوث الإسلام إن كان ليلة الخميس ، فالاتّصال حاصل ، وإن كان يوم الجمعة ، فلا ، بل الانفصال هنا حاصل ، فتكون الشّبهة مصداقيّة ، لكبرى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين ...». (١)

وفيه : ما تقدّم هناك من أنّ الشّبهة المصداقيّة في الامور الوجدانيّة غير معقولة ، والميزان في الاستصحاب هو اليقين والشّكّ الفعليّان وهما حاصلان في المقام ، ولا يعبأ باليقين التّقديريّ. وبعبارة اخرى ، المراد من اتّصال زمان الشّكّ باليقين ، عدم

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٩٣ و ١٩٤.

٢٧٢

تخلّل يقين آخر بين اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق ، والأمر في المقام كذلك.

وأمّا الوجه الّذي ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره فحاصله : أنّ مقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متيقّنا في عمود الزّمان وجرّه إلى زمن اليقين بالارتفاع ، وهذا لا يتأتّى في معلوم التّاريخ ؛ إذ ليس لنا فيه شكّ وجدانا بحسب عموده حتّى نبقيه ونجرّه بالتّعبّد استصحابا ، فعدم الموت في المثال المتقدّم متيقّن يوم الأربعاء ، وحدوث الموت معلوم يوم الخميس وما بعده ، فأين الشّكّ فيستصحب!

وفيه : أنّ عدم الموت بما هو وبحسب عمود الزّمان ، ليس متعلّق الأثر ، بل الأثر يكون مترتّبا عليه إذا كان في زمن حدوث الآخر وهو إسلام الوارث ، ومن المعلوم ، أنّ زمن حدوثه مشكوك فيه وأنّه هل كان ليلة الخميس حتّى يرث ، أو يوم الجمعة حتّى لا يرث ، كما حرّرناه آنفا.

فتحصّل : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في المقام بلا فرق بين معلوم التّاريخ ومجهوله.

(استصحاب الصّحة عند الشّكّ في عروض المانع أو القاطع)

التّنبيه الثّاني عشر : إذا شكّ في صحّة العبادة عند الشّكّ في المانع أو القاطع ، فهل يجري استصحاب صحّة الأجزاء السّابقة ويحكم بصحّة العبادة ، أم لا يجري؟

والتّحقيق فيه يقتضي التّكلّم ، تارة : فيما إذا كانت الشّبهة حكميّة ؛ واخرى : فيما إذا كانت موضوعيّة.

٢٧٣

أمّا الشّبهة الحكميّة ، فقد فصّل الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) بين ما إذا كان الشّكّ في صحّة العبادة ناشئا عن الشّكّ في طروّ المانع ، فقال : بعدم جريان الاستصحاب فيه ، وبين ما إذا كان الشّكّ في صحّتها ناشئا عن الشّكّ في طروّ القاطع ، فقال : بجريانه فيه.

وفيه : أوّلا : أنّه لا فرق بين المانع والقاطع ، بل القاطع هو نفس المانع ، توضيح ذلك ، أنّ ما يعتبر في الصّلاة إمّا وجوديّ ، كالنّيّة والتّكبير والقراءة ونحوها ، أو عدميّ ، كعدم الحدث والقهقهة ونحوهما ، ويعبّر عن هذا الأمر العدميّ بالمانع ، ولا ثالث في البين حتّى يسمّى بالقاطع.

نعم ، ما يعتبر عدمه في الصّلاة على قسمين : أحدهما : أن يعتبر عدمه فيها مطلقا حتّى لو حدث في الأكوان المتخلّلة بين الأجزاء كان مانعا مبطلا ، أيضا ؛ ثانيهما : أن يعتبر عدمه فيها حال الاشتغال بالأجزاء فقط لا مطلقا ، فيسمّون القسم الأوّل قاطعا ، والقسم الثّاني مانعا ، وهذا مجرّد اصطلاح وتسمية ، لا تأثير له في جريان الاستصحاب وعدمه.

وثانيا : أنّه لو سلّم الفرق بين المانع والقاطع بأنّه موجب لانتقاض الهيئة الاتّصالية المعتبرة في الواجب دون المانع ، فنقول : لا مناص من الالتزام بأنّه يعتبر عدم ما سمّي بالقاطع في الصّلاة ؛ إذ الالتزام بأنّ عدمه غير معتبر فيها مساوق للالتزام بعدم اعتبار هيئة الاتّصال فيها ، وهذا كما ترى ، وعليه ، فالقاطع يكون ذا جهتين ، فمن جهة أنّ وجوده ناقض يسمّى بالقاطع ، ومن جهة أنّه يعتبر عدمه في الصّلاة يسمّى بالمانع ، وعليه ، فقول الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بجريان الاستصحاب فيه بنحو مطلق غير تامّ ؛ إذ

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٥٦ و ٢٥٧.

٢٧٤

من جهة المانعيّة لا يجري فيه الاستصحاب كما هو المفروض.

وثالثا : أنّ إشكال جريان الاستصحاب في المانع آت في القاطع ـ أيضا ـ بتقريب ، أنّ الهيئة الاتّصاليّة لمجموع الأجزاء ، مشكوكة الحدوث لا البقاء ، والهيئة الاتّصاليّة للأجزاء السّابقة ، مقطوعة البقاء ، فلا يبقى المجال حينئذ للاستصحاب ؛ بداهة ، أنّ الشّيء لم ينقلب عمّا هو عليه.

وأمّا الشّبهة الموضوعيّة ، فلا مانع من إجراء الاستصحاب فيها مطلقا ، سواء كان الشّكّ في وجود المانع بعد الفراغ عن المانعيّة ، وفي وجود القاطع بعد الفراغ عن القاطعيّة أو الشّكّ في مانعيّة الموجود ، وفي قاطعيّة الموجود كما إذا شكّ في أصل وجود الحدث أو البكاء وأنّه هل وجد ، أم لا؟ وكما إذا شكّ في أنّ ما صدر عنه هل يكون بكاء أو فعلا كثيرا؟

ففى كلتا الصّورتين من المانع والقاطع تكون الأجزاء الوجوديّة من التّكبير والقراءة ونحوهما محرزة بالوجدان ، والجزء العدميّ وهو عدم وجود المانع أو عدم مانعيّة الموجود ، وكذا عدم وجود القاطع أو عدم قاطعيّة الموجود يكون محرزا بالأصل ، ومقتضى ذلك صحّة الصّلاة.

والأمر كذلك في ما إذا شكّ في وجود الشّرط بقاء بعد اليقين به حدوثا ، نظير الطّهارة الحدثيّة أو الخبثيّة ، فيستصحب وجوده ، ونتيجة ذلك صحّة الصّلاة ، لكون المشروط (الصّلاة) محرزا بالوجدان ، والشّرط محرزا بالأصل والتّعبّد.

٢٧٥

(استصحاب الامور الاعتقاديّة)

التّنبيه الثّالث عشر : قد يتوهّم أنّ الاستصحاب يجري في الامور الخارجيّة الجوارحيّة فقط ، لكونه من الاصول العمليّة المختصّة بالأعمال ، فلا يجري في الامور الباطنيّة الجوانحيّة ، وهو مندفع ، بأنّ معنى كون الاستصحاب من الاصول العمليّة أنّها قرّرت لتعيين وظائف الجاهل بالواقع في موقف العمل في ما إذا لم تكن له أدلّة اجتهاديّة كاشفة عن الواقع ، لفظيّة كانت ، كالكتاب والسّنّة ، أو لبيّة ، كالإجماع والعقل.

وبعبارة اخرى : معنى كون الاستصحاب من الاصول العمليّة أنّها ليست من الطّرق والأمارات والأدلّة الاجتهاديّة ، لا أنّها تختصّ بالأعمال والأفعال الخارجيّة الجوارحيّة ، وقد عرفت وحرّر في غير موضع ، أنّ الاستصحاب يجري في أيّ مورد كان فيه اليقين بالحدوث والشّكّ في البقاء وكان قابلا للتّعبّد ، بلا فرق بين أن يكون المستصحب أمرا خارجيّا ، أم يكون أمرا نفسانيّا ؛ ولذا يجري الاستصحاب في الأحكام ، كالوجوب والحرمة والطّهارة والنّجاسة ونحوها مع أنّها ليست من الامور الخارجيّة ، وكذا يجري في مثل الفسق والعدالة والاجتهاد والفقاهة ونحوها من الامور النّفسانيّة الّتي لا تكون من أفعال الجوارح المعبّر عنها بالأعمال.

وبالجملة : أنّ الاستصحاب لا يختصّ جريانه بأفعال الجوارح ، بل يعمّ أفعال الجوانح والصّفات النّفسانيّة والامور الاعتباريّة ، نعم ، لا يجري في الامور الاعتقاديّة الّتي يجب فيها المعرفة والاعتقاد ، كالتّوحيد والنّبوّة والمعاد وغيرها ، لعدم قبولها للتّعبّد.

٢٧٦

وعليه : فلا مجال لما عن الكتابيّ من التّمسّك باستصحاب النّبوّة ، وكذا باستصحاب أحكام الشّريعة السّابقة في موضعين : أحدهما : إثبات معذوريّة نفسه في البقاء على دينه ؛ ثانيهما : إلزام المسلم ودعوته إلى دينه.

أمّا وجه عدم المجال بالنّسبة إلى التّمسّك باستصحاب النّبوّة في الموضع الأوّل ، فهو إمّا يكون متيقّنا ببقاء نبوّة نبيّه. فلا مجال حينئذ للاستصحاب الّذي أحد أركانه هو الشّكّ في البقاء ، أو يكون شاكّا فيه ، فيجب عليه الفحص ولا يجوز له إجراء الاستصحاب الّذي هو من الاصول قبل الفحص عن النّبوّة الّتي هو من الاصول الاعتقاديّة ، فيجب الفحص أوّلا ، كما يجب في الفروع الّتي هي أدنى وأنزل من الاصول الاعتقاديّة ، فهو إمّا يصل بالفحص إلى الواقع والحقّ ويعرفه ويعتقد به ، فلا يبقى له الشّكّ حينئذ حتّى يحتاج إلى الأصل ، وإمّا لا يصل به إليه فيبقى شكّه ، ولمّا كانت النّبوّة من الامور الاعتقاديّة المعتبر فيها المعرفة والاعتقاد ، لم يكن لجريان الاستصحاب فيها مجال وفائدة ، لكونه من الاصول التّعبّديّة ، اللهمّ إلّا أن يقال : بكفاية الظّنّ فيها في الفرض والاستصحاب ممّا يفيد الظّنّ ، فتأمّل.

وأمّا وجه عدم المجال بالنّسبة إلى التّمسّك باستصحاب أحكام الشّريعة في الموضع الأوّل ـ أيضا ـ فهو أنّه على تقدير تيقّنه ببقاء الشّريعة السّابقة ، لا مجال لاستصحابها ؛ وعلى تقدير الشّكّ فيه لا بدّ من الفحص ، فلو فحص ولم يرتفع له الشّكّ ، لا مجال للتّمسّك بالاستصحاب لرفع الشّكّ إلّا على تقدير ثبوت حجّيّة الاستصحاب في الشّريعتين ؛ إذ على تقدير الاستصحاب في الشّريعة السّابقة فقط ، لا يمكن له التّمسّك به لإثبات بقاء أحكام تلك الشّريعة ، لكون الاستصحاب من جملة

٢٧٧

تلك الأحكام ، فيلزم أن يثبت هو بنفسه وهو ضروريّ البطلان ؛ وعلى تقدير حجّيّته في الشّريعة اللّاحقة فقط ، لا يمكن له التّمسّك به ـ أيضا ـ لإثبات بقاء أحكام الشّريعة السّابقة ؛ وذلك ، لكونه متفرّعا على أن يكون اللّاحقة حقّا ، وواضح ، أنّه لو التزم بحقّيّتها لم يبق مجال للاستصحاب ، لليقين حينئذ بارتفاع الأحكام السّابقة.

وأمّا وجه عدم المجال بالنّسبة إلى التّمسّك باستصحاب النّبوّة في الموضع الثّاني (إلزام المسلم ودعوته إلى دينه) فهو أنّ إجراء الاستصحاب يتوقّف على اليقين بالحدوث والشّكّ في البقاء ، والمفروض أنّه لا يقين للمسلم بنبوّة نبيّ الكتابي ، إلّا من طريق دين نفسه وشريعته المصدّق لنبوّة ذلك النّبيّ ؛ إذ كتبهم المنزلة من عند الله تعالى حرّفوها ، بحيث لا يرضى العاقل إسنادها إليه تعالى بوجه أصلا ، والتّواتر وإن كان حاصلا في الجملة وفي بعض الطّبقات ، لكنّه ليس بموجود في جميعها ، كما يكون موجودا كذلك بالنّسبة إلى بلد المكّة ـ مثلا ـ فليس للمسلم يقين بنبوّة نبيّ الكتابيّ إلّا من طريق شريعة الإسلام ومن ناحية إخبار القرآن ونبيّ الإسلام ، حيث إنّ تصديق نبيّ الإسلام يوجب تصديق نبوّة نبيّ غير الإسلام.

ومن المعلوم : أنّ نبيّ الإسلام كما يخبر بنبوّة ذلك النّبيّ وبكتابه وشريعته ، كذلك يخبر بنبوّة نفسه وبانقضاء أمد تلك النّبوّة ، فلا شكّ في البقاء حتّى تستصحب ، بل فرض شكّ المسلم بما هو مسلم في بقاء نبوّة نبيّ الكتابيّ خلف ؛ إذ الإنسان مع هذا الشّكّ لا يكون مسلما حتّى يحتاج إلى الاستصحاب.

أمّا وجه عدم المجال بالنّسبة إلى التّمسّك باستصحاب أحكام الشّريعة السّابقة في الموضع الثّاني ـ أيضا ـ فقد تقدّم البحث عنه في التّنبيه الثّامن ، فراجع.

٢٧٨

(عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص)

التّنبيه الرّابع عشر : قد اختلف كلمات الأعلام في أنّ موارد التّخصيصات الأزمانيّة والأفراد الطّوليّة للعامّ ، هل يجري استصحاب حكم المخصّص أو يرجع إلى عموم العامّ ، كما في التّخصيصات الأفراديّة؟

ولا يخفى : أنّ هذا البحث ليس بكبرويّ ومن ناحية ملاحظة التّعارض بين العموم والاستصحاب ، لوضوح أنّ الاستصحاب أصل عمليّ ليس في وسعه المعارضة مع العموم الّذي هو دليل اجتهاديّ ، بل البحث في المقام صغرويّ ، وأنّه إذا ورد عامّ وخرج عنه بعض الأفراد في بعض الأحيان ، ثمّ شكّ في حكم ذلك الفرد المخرج بالنّسبة إلى ما بعد ذلك الحين ، فهل المورد من موارد الرّجوع إلى العموم ، أو من موارد الرّجوع إلى الاستصحاب ؛ وذلك نظير قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فهو عامّ قد خرج عنه العقد الغبنيّ عند العلم بالغبن ، بدليل التّخصيص ، فإن اختصّ الخروج بزمان ظهور الغبن فقط ، كان معناه : هو الرّجوع إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بعد ذلك الزّمان ، فيكون خيار الغبن فوريّا ، وإن استصحب حكم المخصّص وهو الخيار ولم يرجع إلى العامّ ، كان خيار الغبن متراخيا غير فوريّ.

ذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره إلى التّفصيل في جانب العموم بين الصّورتين : إحداهما : ما إذا اخذ الزّمان في العموم قيدا ، بمعنى : اخذ فيه عموم الأزمان أفراديّا ، كعموم الأفراد بحيث يكون أخذ كلّ زمان ، موضوعا لحكم مستقلّ لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الزّمان ، فيرجع حينئذ إلى عموم العام ؛ وذلك نظير «أكرم العلماء

٢٧٩

كلّ يوم» ثمّ قام الإجماع على «حرمة إكرام زيد يوم الجمعة» وشكّ في وجوب إكرامه بعد هذا اليوم ، فحينئذ يعمل بالعموم عند الشّكّ ، ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم ، وجب الرّجوع إلى سائر الاصول لعدم قابليّة المورد للاستصحاب ، حيث إنّ هنا يكون الموضوع متعدّدا بتعدّد الزّمان ، فلو استصحب حكم المخصّص كان من باب إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ثانيتهما : ما إذا اخذ الزّمان في العامّ ظرفا ، بمعنى : اخذ فيه لبيان استمرار الحكم ، فيرجع حينئذ إلى استصحاب حكم المخصّص ؛ وذلك نظير «أكرم العلماء دائما» ثمّ خرج فرد في زمان وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزّمان ، فالظّاهر عندئذ جريان الاستصحاب ؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزّمان ، تخصيص زائد على التّخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التّخصيص هو الأفراد دون الأزمنة. (١)

هذا ، ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى أنّ التّفصيل المذكور جار في جانب الخاصّ ـ أيضا ـ فتصير الصّور أربعة :

الاولى : ما يؤخذ الزّمان فيها ظرفا في جانب العامّ والخاصّ كليهما ، بحيث يكون دالّا على مجرّد استمرار الحكم فيهما بلا تكثير بالنّسبة إلى الأفراد ، والحكم في هذه الصّورة ليس إلّا الرّجوع إلى استصحاب حكم المخصّص ، لا إلى عموم العامّ ؛ وذلك لكون الحكم في العامّ حينئذ واحدا مستمرّا في عمود الزّمان ، فقطع استمراره بالتّخصيص الزّمانيّ في قطعة من الزّمان ، فلا عموم استمراريّا حتّى يرجع إليه عند الشّكّ.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٧٤.

٢٨٠