مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

الصّلاة (١). هذا تمام الكلام في القسم الثّاني من استصحاب الكلّيّ.

وأمّا القسم الثّالث : فالحقّ عدم جريان الاستصحاب فيه ، لما حقّق في محلّه من أنّ وجود الكلّيّ إنّما هو بوجود فرده ، فإذا ارتفع الفرد ـ الّذي يكون الكلّيّ موجودا بوجوده ـ يقينا كما هو المفروض ، فلا شكّ في بقاء الكلّيّ حتّى يستصحب ، وأمّا وجوده بوجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل أو لارتفاعه ، فهو مشكوك من أوّل الأمر ، فلا يقين بحدوثه.

وبعبارة اخرى : ما تعلّق به اليقين لم يتعلّق الشّكّ ببقائه ، بل زال وارتفع يقينا ، وما يكون مشكوكا من أوّل الأمر لم يتعلّق به اليقين ، فلا مجال للاستصحاب في القسم الثّالث.

وممّا أشرنا إليه انقدح الفرق بين القسم الثّالث والثّاني من استصحاب الكلّيّ ، بأنّ اليقين في الثّالث تعلّق بوجود كلّيّ متخصّص بخصوصيّة فرديّة معيّنة ، وقد ارتفع هذا الوجود بلا شبهة ، والشّكّ تعلّق بوجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة اخرى من دون تعلّق يقين به سابقا ، وعليه ، فالشّكّ لم يتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين ولم يكن من قبيل الشّكّ في البقاء كي يجري فيه الاستصحاب ، وهذا بخلاف اليقين في القسم الثّاني ، فإنّه تعلّق بوجود الكلّيّ المردّد بين الخصوصيّتين والفردين (القصير والطّويل) فيكون ما تعلّق به الشّكّ عين ما تعلّق به اليقين ، ولذا يحتمل بقاءه بعينه ، فيستصحب.

وكذا انقدح أنّه لا مجال لما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من التّفصيل بين ما إذا احتمل حدوث فرد مقارن مع وجود الفرد الأوّل ، فيجري فيه الاستصحاب ، بدعوى :

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ١٣٢.

٢٠١

أنّ الكلّيّ المستصحب الثّابت لا حقا عين الكلّيّ المتيقّن الموجود سابقا ، وبين ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأوّل ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بدعوى : أنّ الكلّيّ المعلوم سابقا قد ارتفع يقينا ، والموجود بوجود فرد آخر مشكوك الحدوث من أوّل الأمر. (١)

والوجه في عدم المجال لهذا التّفصيل هو ما عرفت : من أنّ الكلّيّ موجود بعين وجود فرده ، ولا وجود له بحياله ، والمفروض أنّ الموجود الفرد الأوّل قد ارتفع وزال قطعا ، ووجوده بوجود فرد آخر ، مشكوك من أوّل الأمر بلا فرق بين الصّورتين من التّفصيل المذكور.

وقد اورد على تفصيل الشّيخ قدس‌سره بالنّقض عليه : بأنّه لو صحّ الاستصحاب في القسم الثّالث من الكلّيّ في الصّورة الاولى ، لزم عدم جواز الدّخول في الصّلاة متوضّئا فيما إذا قام المكلّف من نومه محتملا لحدوث الجنابة حال النّوم ؛ وذلك لاستصحاب كلّيّ الحدث حينئذ ، حيث يحتمل اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة والحدث الأكبر الّذي لا يرتفع بالوضوء ، مع أنّ عدم جواز الدّخول في الصّلاة متوضّئا ممّا لم يفت به أحد حتّى الشّيخ قدس‌سره ، وهذا كاشف عن عدم صحّة الاستصحاب في القسم الثّالث من الكلّيّ مطلقا.

وفيه : أنّ استصحاب الحدث الكلّيّ في الفرض المذكور ، محكوم بأصالة عدم حدوث الجنابة ، ومعه لا يجب إلّا الوضوء.

ثمّ إنّ هنا صورة ثالثة لاستصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث قد صوّرها الشّيخ

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٩٦.

٢٠٢

الأنصاري قدس‌سره ـ أيضا ـ واستثناها من ذلك القسم ، فقال : بجريان الاستصحاب فيها ، وهو ما يتسامح فيه العرف ويعدّ الأوّل والآخر والسّابق واللّاحق ، شيئا واحدا ، وأمرا فاردا مستمرّا ممتدّا ، لا متكثّرا متعدّدا ، نظير ما إذا شكّ في بقاء السّواد الشّديد وارتفاعه بتبدّله بالبياض ، أو تنزّله إلى السّواد الضّعيف ، ونظير ما إذا شكّ في بقاء العدالة العليا لزيد وارتفاعها بتبدّلها بالفسق أو تنزّلها إلى المرتبة السّفلى ، فقال قدس‌سره : باستصحاب كلّيّ السّواد والعدالة في المثالين.

وفيه : أوّلا : أنّ الاستصحاب في أمثال المثالين ـ بعد وحدة المتيقّن والمشكوك ، بكون الشّدّة والضّعف من الحالات ـ يكون من استصحاب الفرد لا الكلّيّ ؛ وثانيا : لو سلّم ذلك فهو من القسم الأوّل من استصحاب الكلّيّ لا الثّالث. وقد أفاد الإمام الرّاحل قدس‌سره في المقام ـ أيضا ـ ما لا يخلو عن فائدة ، فراجع. (١)

بقي في المقام قسم رابع لاستصحاب الكلّيّ قد تعرّضه بعض الأعاظم قدس‌سره وهو ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فرد واحد ، نظير ما إذا علم بوجود زيد في الدّار وبوجود متكلّم فيها ـ أيضا ـ يحتمل انطباقه على زيد وعلى غيره ، فعلم بخروج زيد منها ، ففي مثل الفرض يستصحب وجود الإنسان في الدّار ـ مع قطع النّظر عن خصوصيّة الزّيديّة ـ إذا كان له أثر شرعيّ ؛ وذلك ، لتماميّة أركان الاستصحاب.

ثمّ أورد قدس‌سره عليه : بأنّ هذا الاستصحاب قد يبتلي بالمعارض ، كما في مثل ما إذا علم شخص بجنابته ليلة الخميس ، فاغتسل ، ثمّ رأى في ثوبه منيّا يوم الجمعة ويعلم بكونه جنبا حين خروج هذا المنيّ المرئي ، فيحتمل انطباق عنوانين على هذا المنيّ ،

__________________

(١) راجع ، الرّسائل : ص ١٣٣ (مطبعة مهر).

٢٠٣

أحدهما : عنوان الجنابة ليلة الخميس الّتي قد ارتفعت بالاغتسال منها قطعا ؛ ثانيهما : عنوان الجنابة الاخرى ، فهنا وإن كان استصحاب كلّيّ الجنابة جاريا بلا اعتبار خصوصيّة خاصّة ، لكنّه معارض باستصحاب الطّهارة الحاصلة من الاغتسال من الجنابة ، فيتساقطان بالمعارضة ، ومعه لا بدّ من الرّجوع إلى أصل البراءة ، حيث يشكّ في وجوب الاغتسال ثانيا. (١)

هذا ، ولكن في أصل جريان الاستصحاب تأمّل ، فتأمّل.

(تذنيبان)

الأوّل : قد عرفت أنّه لا يجري استصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث ولا استصحاب الفرد ، لما تقدّم من أنّ أحد الفردين الّذي كان الكلّيّ موجودا بوجوده قد ارتفع يقينا ولا شكّ في بقاءه ، والفرد الآخر المحتمل حدوثه حال وجود الأوّل أو مقارنا لارتفاعه بلا تخلّل عدم ، مشكوك الحدوث من الأوّل ، لكن لو كان هناك أثر بسيط للجامع بين الفردين بنحو الطّبيعة السّارية ، فالظّاهر أنّه لا قصور في استصحاب ذلك الأثر لتماميّة أركانه واتّحاد القضيّتين ، فكان على يقين من حدوث الأثر ، فشكّ في بقاءه بارتفاع الفرد المعلوم حدوثه لاحتمال قيام فرد آخر مقامه ، كاستصحاب بقاء الخيمة بحالها عند احتمال قيام عمود آخر مقام العمود الأوّل.

إن قلت : لازم ما ذكر من استصحاب الأثر والمسبّب ـ لا المؤثّر والسّبب ـ في الفرض المذكور ، جريان استصحاب في الفروض الآخر من الأسباب والمسبّبات

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٨ و ١١٩.

٢٠٤

الشّرعيّة في أبواب مختلفة مع أنّه ممّا لم يلتزم به أحد ، بلا فرق بين كونها في الأحكام التّكليفيّة ، نظير ما إذا علم بوجوب الصّوم عليه إلى مدّة معيّنة بنذر أو شبهه ، فشكّ بعد انقضاءه تلك المدّة في وجوبه عليه لاحتمال نذره ثانيا مقارنا لانقضاء زمان النّذر الأوّل ، وبين كونها في الأحكام الوضعيّة ، نظير ما إذا تزوّج زيد هندا انقطاعيّا إلى مدّة علم بانقضائها ، فشكّ بعد تلك المدّة في بقاء الزّوجيّة لاحتمال تزويجها ثانيا مقارنا لانقضاء المدّة ، ففى أمثال هذه الأمثلة وإن كان لا يجري الاستصحاب في الأسباب ، حيث إنّ الفرد الأوّل من السّبب الّذي كان متيقّنا قد ارتفع قطعا ، والفرد الثّاني منه مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، لكن لازم ما ذكر في هذا التّذنيب جواز جريان الاستصحاب في المسبّبات والآثار ، كنفس الزّوجيّة ووجوب الصّوم ، مع أنّ هذا ممّا لم يقل به أحد.

قلت : قياس الأمثلة بما ذكر في التّذنيب مع الفارق ؛ بداهة ، أنّ الأمثلة إنّما تكون من باب القسم الثّالث من استصحاب الكلّيّ ؛ إذ الفرد المتيقّن من الزّوجيّة ـ مثلا ـ قد ارتفع وانعدم بانقضاء أجله ؛ والفرد المشكوك منها يكون مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، فالمشكوك في الزّمان اللّاحق غير الفرد المتيقّن في الزّمان السّابق ، فلا مجال للاستصحاب أصلا ، بل الأصل هنا يقتضي عدم حدوث المشكوك من الفرد في الزّمان اللّاحق ، وهذا بخلاف ما في التّذنيب من مثال الخيمة والعمود ؛ إذ المستصحب هنا امر وحدانيّ شخصيّ وهو هيئة الخيمة لا يتبدّل ولا يتعدّد بتبدّل الأعمدة وتعدّدها.

أضف إلى ذلك ، أنّ السّببيّة والمسبّبيّة في الأمثلة إنّما تكون شرعيّة تعبّديّة ، ومقتضى ذلك أنّ استصحاب المسبّب والأثر ، كالزّوجيّة ـ مثلا ـ يكون مبتلى

٢٠٥

بالأصل الحاكم وهو أصالة عدم حدوث فرد جديد من السّبب ، فيترتّب عليه عدم المسبّب شرعا ، وهذا بخلاف مثال الخيمة ؛ إذ السّببيّة والمسبّبيّة فيه عقليّ محض ، فلا يجري الأصل في السّبب (أصالة عدم حدوث عمود جديد) حتّى يقدّم على استصحاب المسبّب (هيئة الخيمة) ويترتّب عليه عدمه.

التّذنيب الثّاني : قد عرفت القسم الثّاني من استصحاب الكلّي ولاحظت بعض أمثلته العرفيّة ، كالبقّ والفيل ، وكذا بعض أمثلته الشّرعيّة ، كالحدث المردّد بين الأكبر والأصغر فيما إذا خرج البلل المردّد بين البول والمنيّ فتوضّأ ، وحيث إنّ هذا الفرض كان له صور وشقوق متعدّدة من جهة الجهل بالحالة السّابقة على خروج البلل ، أو العلم بها من حيث الطّهارة أو الحدث من الأكبر أو الأصغر وكانت مبتلى بها ، نتعرّض لها تبعا للمحقّق العراقيّ قدس‌سره (١) وأفردنا كلّ واحدة من صورها بالبحث من جهة جريان الاستصحاب وعدمه.

الاولى : عدم العلم بالحالة السّابقة ، أو العلم بكونها هي الطّهارة ، والتزم المحقّق العراقي قدس‌سره فيها بجريان استصحاب الحدث ، وبأنّ هذا هو المتيقّن من مورد كلماتهم.

وجه ذلك واضح جدّا ؛ لأنّه حين خروج البلل المردّد (البول والمنيّ) تيقّن بحدوث طبيعيّ الحدث ، فإذا توضّأ يشكّ في ارتفاعه ، فيجري استصحاب هذا الجامع الكلّيّ بلحاظ ما له من الأثر المشترك فيه وهو عدم جواز مسّ كتابة القرآن وعدم جواز الدّخول في الصّلاة أو الطّواف.

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ١٣٨ و ١٣٩.

٢٠٦

نعم ، لا يترتّب على الاستصحاب المذكور ، الآثار المترتّبة على خصوص الفرد وهو الحدث الأكبر ، كحرمة المكث في المساجد والدّخول في المسجدين وحرمة قراءة العزائم.

هذا ولكن التّحقيق يقتضي أن يقال : حيث إنّ الحدث مردّد بين الحدثين ومعلوم بالإجمال ، فلا مناص من الاحتياط بالجمع بين الوظيفتين ، إمّا لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجماليّ ، أو لتساقطها لو جرت.

الصّورة الثّانية : العلم بالحالة السّابقة وهو الحدث لا الطّهارة ، مع فرض كونه من الحدث الأكبر (الجنابة) ، فلا مجال فيها لاستصحاب كلّيّ الحدث المردّد ، بل هو خارج عن محلّ كلامهم قطعا ؛ إذ الكلام في ما إذا شكّ في بقاء الحدث بعد فعل الوضوء وهنا يقطع ببقائه معه ، لعدم زوال الجنابة بالوضوء فيجب الغسل ، سواء كان البلل المشتبه بولا أو منيّا ، وسواء قيل : بتأثير الحدث بعد الحدث ، أو لا ، حيث إنّ المفروض في هذه الصّورة كون حالته السّابقة على خروج البلل ، هو الحدث الأكبر.

الصّورة الثّالثة : العلم بالحالة السّابقة وهو الحدث لا الطّهارة ، مع فرض كونه من الحدث الأصغر ، فلا مجال فيها ـ أيضا ـ لاستصحاب كلّي الحدث ؛ إذ المفروض أنّ الحدث الأصغر متيقّن سابقا ، فيشكّ بعد خروجه في بقاءه وعدم تبدّله بالأكبر ، فيستصحب ويحكم ببقائه وعدم تبدّله بالأكبر ، وحينئذ لا يبقى المحلّ لاستصحاب الكلّي.

إن شئت ، فقل : إنّ الحدث الأصغر متيقّن معلوم تفصيلا ، والحدث الأكبر مشكوك بشكّ بدويّ ، فيجري فيه الأصل النّافي وهو أصالة عدم حدوث الأكبر ؛ أو

٢٠٧

فقل : إنّ العلم الإجماليّ هنا ينحلّ بالعلم التّفصيليّ بالنّسبة إلى الحدث الأصغر والشّكّ البدويّ بالنّسبة إلى الحدث الأكبر ، بل لا علم إجماليّا هنا إلّا ظاهرا وصورة ، فلا انحلال حقيقة ، بلا فرق فيه بين الأقوال الثّلاثة في الحدثين من التّخالف كالسّواد والحلاوة والتّضادّ والاتّحاد مع اختلافهما في الشّدّة والضّعف.

(تذييل)

«أصالة عدم التّذكية»

المشهور بل المتسالم عليه بين الأصحاب قدس‌سرهم جريان أصالة عدم التّذكية إذا شكّ في تذكية حيوان ، فيترتّب عليه الأثران وهما الحرمة والنّجاسة ، وقد خالفهم في ذلك جماعة : منهم الفاضل التّوني قدس‌سره والتزم بأنّ النّجاسة ليست من آثار عدم التّذكية والمذبوحيّة ، مستدلّا بأنّ عدم التّذكية لازم لأمرين : أحدهما : الحياة ؛ ثانيهما : الموت بحتف الأنف ، وليس عدم التّذكية بما هو هو موجب للنّجاسة ولا ملزومه الأوّل (الحياة) ، بل الموجب لها هو ملزومه الثّاني (الموت بحتف الأنف) فعدم التّذكية لازم أعم لما يوجب النّجاسة.

ومن الواضح : أنّ عدم التّذكية اللّازم للحياة مغاير لعدمها اللّازم للموت حتف الأنف ، فالأوّل (الحياة) هو المتيقّن في الزّمان الأوّل ، والمفروض أنّه غير باق في الزّمان الثّاني ، بل مع فرض البقاء لا يجدي كما لا يخفى ، والثّاني (الموت بحتف الأنف) مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، فكيف يتمسّكون لإثبات النّجاسة بأصالة عدم التّذكية! (١)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٩٨ و ١٩٩.

٢٠٨

ثمّ إنّه يمكن تقريب الاستدلال لما اختاره الفاضل التّوني قدس‌سره بوجهين آخرين :

الأوّل : أنّ موضوع الحرمة والنّجاسة عنوان وجوديّ وهو الميتة ، وموضوع الحلّيّة والطّهارة ـ أيضا ـ عنوان وجوديّ وهو المذكّى ، فلا بدّ من إحراز العنوانين الوجوديّين وجدانا أو تعبّدا ، ومن المعلوم ، أنّ أصالة عدم التّذكية لا تثبت عنوان الميتة تعبّدا حتّى تترتّب عليه الحرمة والنّجاسة ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، حيث إنّ إثبات أحد الضّدّين (الميتة) بنفي الضدّ الآخر (المذكّى) من أظهر مصاديق أصل المثبت ، فلا مناص من إجراء أصالة العدم في كلا العنوانين وهي أصالة عدم التّذكية وأصالة عدم الموت بحتف الأنف وحينئذ يقع التّعارض بين الأصلين ، والمرجع بعد تساقطهما أصالة الحلّ والطّهارة.

الثّاني : أنّ موضوع الحرمة والنّجاسة لو سلّم كونه نفس عدم التّذكية لا عنوان الميتة ، فليس المراد به هو مطلق عدم التّذكية ، بل المراد عدمها حال زهاق روح الحيوان لا حال حياته ، وواضح جدّا ، أنّ هذا العدم المقيّد ليس له حالة سابقة حتّى يستصحب ؛ إذ زهاق روحه إمّا يكون من ناحية التّذكية ، أو من ناحية عدم التّذكية ، فليس لنا هنا زمان كان فيه الزّهاق بلا تذكية حتّى يجري الأصل عند الشّكّ في البقاء ، فهذا العدم المقيّد بمفاد «ليس النّاقصة» ليس له حالة سابقة متيقّنة ، وأمّا عدم التّذكية حال حياة الحيوان بمفاد «ليس التّامّة» فهو وإن كان متيقّنا سابقا ، لكن لا يجدي استصحابه وليس له أثر إلّا أن يثبت به ذلك العدم الخاصّ ، وهذا الإثبات ، كما ترى ، يكون من الاصول المثبتة ، فالمرجع حينئذ هو أصالة الحلّيّة والطّهارة.

هذا ، ولكن يرد على مقالة الفاضل التّوني قدس‌سره بأنّه أوّلا : ليس المراد من الميتة

٢٠٩

هو خصوص ما مات بحتف أنفه ، بل المراد منها ـ بحسب عرف الشّارع سيّما المتشرّعة ـ مطلق ما لم يذكّ بشرائط التّذكية الشّرعيّة من التّسمية ، واستقبال القبلة والذّبح بالحديد وإسلام الذّابح ، فما لم يذكّ بهذه الشّرائط واختلّ أحدها ، يسمّى ميتة وإن لم يزهق روحه حتف أنفه ، وعليه ، فغير المذكّى هو الميتة تترتّب عليه الحرمة والنّجاسة ، كترتّبها عليها ، فلا مجال للأصل المثبت لو جرت أصالة عدم التّذكية.

وثانيا : لو سلّم مغايرة العنوانين (غير المذكّى والميتة) وأنّ الميتة معناها هو ما مات حتف أنفه ، فلا نسلّم اختصاص الحرمة والنّجاسة بعنوان الميتة ، بل ظاهر الكتاب والسّنة ترتّبهما على عنوان غير المذكّى ـ أيضا ـ أمّا الكتاب فهو قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)(١) إذ المراد من كلامه تعالى ، هو حرمة أكل غير المذكّى ، كحرمة أكل الميتة ، كما أنّ المراد من قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(٢) هو حلّيّة أكل المذكّى ، وأمّا السّنة فهو قوله عليه‌السلام في ذيل موثّقة ابن بكير : «فإن كان ممّا يؤكل لحمه ، فالصّلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكّي وقد ذكّاه الذّبح» (٣) فالحكمان (الحرمة والنّجاسة) كما يترتّبان على عنوان الميتة ، كذلك يترتّبان على عنوان غير المذكّى ، غاية الأمر ، أحد العنوانين وهو الميتة خاصّ ، والآخر وهو غير المذكّى عامّ ، ولا محذور فيه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المترتّب في الآية على عنوان غير المذكّى ليس إلّا

__________________

(١) سورة الأنعام (٦) ، الآية ١٢١.

(٢) سورة المائدة (٥) ، الآية ٣.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١ ، ص ٢٥٠.

٢١٠

خصوص الحرمة ، لا النّجاسة ، كما أنّ المترتّب فيها على عنوان المذكّى هو خصوص الحلّيّة ، لا الطّهارة ، ولذا قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)(١) فهاتان الآيتان تدلّان على حرمة أكل غير المذكّى وحلّيّة أكل المذكّى ، وأمّا النّجاسة والطّهارة ، فلا.

ولو اغمض عن ذلك كلّه ووصل الدّور إلى تعارض الأصلين (أصالة عدم التّذكية ، وأصالة عدم الموت بحتف أنفه) فالمرجع هو استصحاب الحرمة والطّهارة الثّابتتين حال الحياة ، لا القاعدتان (الحلّيّة والطّهارة) وذلك ، لحكومة الاستصحاب على القاعدة ، والتّفكيك بين الطّهارة والحلّيّة غير قادح ، ألا ترى ، أنّ جملة من أجزاء الحيوان المذكّى مع كونها طاهرة ، حرام أكلها. هذا مجمل الكلام في مورد أصالة عدم التّذكية ، ولكن تحقيق هذا الأصل وتفصيل الكلام فيه قد تقدّم في مبحث البراءة (٢) ، فراجع.

ثمّ إنّه ينبغي هنا أن نشير إلى صور الشّكّ في حلّيّة اللّحم وحرمته ، فنقول : يقع الكلام تارة في الشّبهة الموضوعيّة ؛ واخرى في الشّبهة الحكميّة.

أمّا الشّبهة الموضوعيّة ، فهي على أقسام أربعة :

الأوّل : ما إذا كان الشّكّ في الحلّيّة والحرمة ، لأجل دوران الأمر بين كون اللّحم من مأكول اللّحم ، كالشّاة ، أو من غيره ، كالأرنب ، بعد الفراغ عن العلم بوقوع التّذكية مع شرائطها المقرّرة على الحيوان.

__________________

(١) سورة الأنعام (٦) ، الآية ١١٨.

(٢) راجع ، مفتاح الاصول : ج ٣ ، ص ٣٤٢ إلى ٣٤٩.

٢١١

الثّاني : ما إذا كان الشّكّ فيهما ، لأجل احتمال طروّ عنوان على الحيوان ، مانع عن قبوله للتّذكية ، كالجلل ، أو الوطء ، أو الارتضاع من لبن خنزيرة ، بعد الفراغ عن العلم بقابليّته للتّذكية ذاتا.

الثّالث : ما إذا شكّ فيهما ، لأجل احتمال عدم قبول الحيوان للتّذكية ذاتا ، بعد الفراغ عن العلم بوقوع التّذكية عليه مع شرائطها المقرّرة ، نظير ما إذا كان الحيوان المذبوح مردّدا بين الشّاة والكلب.

الرّابع : ما إذا كان الشّكّ فيهما ، لأجل احتمال عدم وقوع التّذكية على الحيوان ، إمّا لاحتمال عدم تحقّق أصل الذّبح ، أو لاحتمال اختلال بعض شرائط التّذكية ، كالتّسمية ، أو إسلام الذّابح ، أو نحوهما ؛ وذلك كلّه بعد الفراغ عن العلم بقبوله للتّذكية.

ولا يخفى : أنّ القسم الرّابع تجري فيه أصالة عدم التّذكية دون سائر الأقسام ، فتترتّب عليها الحرمة والنّجاسة بناء على المختار ، حيث لا مغايرة بين العنوانين (غير المذكّى والميتة) إلّا من ناحية اللّفظ ، كما علمت آنفا.

وأمّا الشّبهة الحكميّة ، فلها ـ أيضا ـ أقسام :

الأوّل : ما كان الشّكّ في الحلّيّة والحرمة لفقد النّص وعدم الدّليل ـ من الكتاب والسّنّة ـ على الحرمة بعد الفراغ عن العلم بوقوع التّذكية على الحيوان ، كالشّكّ في حلّيّة أكل اللّحم الأرنب.

الثّاني : ما كان الشّكّ فيهما ، لأجل الشّكّ في قابليّة الحيوان للتّذكية ، كما في الحيوان المتولّد من الشّاة والكلب من دون إلحاقه بواحد منهما.

٢١٢

الثّالث : ما كان الشّكّ فيهما لأجل الشّكّ في اعتبار أمر كذا أو كذا في التّذكية ، كما إذا شكّ في اعتبار كون الذّبح بالحديد في التّذكية وعدمه ؛ وهذا القسم هو ما يجري فيه أصالة عدم التّذكية ، والحكم بالحرمة والنّجاسة ، كما عرفت. هذا تمام الكلام في التّنبيه الرّابع.

(استصحاب الامور التّدريجيّة)

التّنبيه الخامس : قد يقال : إنّ مقتضى اعتبار الشّكّ في البقاء في الاستصحاب ، عدم جريانه في الامور التّدريجيّة المتصرّمة غير القارّة من الزّمان والزّماني ؛ وذلك ، لعدم قرار وبقاء فيها ، بل هي امور توجد وتنصرم شيئا فشيئا ، والبقاء هو استمرار عين وجود الشّيء ـ بجميع حدوده وشئونه ـ في الآن الثّاني والثّالث وهكذا ، بعد ما حدث في الآن الأوّل ، كما مرّ ، نظير ذلك في مبحث المشتق في أسماء الزّمان ، كالمقتل ونحوه ، فقيل هناك : بخروجها عن محلّ النّزاع ، بتقريب : أنّ النّزاع إنّما يكون في الذّات الّتي انقضى عنها المبدا ، لا الذّات الّتي انقضى نفسها ، والزّمان في مثل «المقتل» يكون نفسه منقضيا مع المبدا.

وهنا ـ أيضا ـ بيان آخر بالنّسبة إلى عدم جريان الاستصحاب في الامور التّدريجيّة ، محصّله : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) ومن المعلوم المبرهن : أنّ الامور التّدريجيّة ممّا لا شيء فيها ثابتا حتّى يكون بعينه مشكوكا بعد ما كان متيقّنا ، بل المشكوك قطعة وجزء منها ، والمتيقّن قطعة اخرى وجزء آخر ، قد انصرم وانقضى ، فالقضيّتان مختلفتان ، لا اتّحاد بينهما أصلا ، ولعلّه إلى

٢١٣

هذا المعنى أشار الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بقوله : «أمّا نفس الزّمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء اللّيل والنّهار ، لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السّابق فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا». (١)

هذا ، ولكن التّحقيق يقتضي التكلّم تارة في مورد استصحاب الزّمان والحركة ، واخرى في مورد استصحاب الزّمانيّ المقيّد بالزّمان ، أمّا استصحاب الزّمان والحركة ونحوهما من المتصرّمات ، فالحقّ جريانه فيها ؛ وذلك ، لا لعدم اعتبار الشّكّ في البقاء في الزّمانيات ، كما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) ، بل لكونها ـ كالامور القارّة ـ ذوات هويّات شخصيّة ، ووجودات خارجيّة بسيطة يفرض البقاء فيها (٣) على ما نوضحه قريبا ؛ فحينئذ لا بدّ لنا من المتكلّم في مقامين :

الأوّل : في أنّ مستند جريان الاستصحاب ، ليس عدم اعتبار الشّكّ في البقاء.

الثّاني : في أنّ مستنده هو كون المتصرّمات ذوات هويّات شخصيّة.

أمّا المقام الأوّل : فوجهه ، أنّه لا شكّ في اعتبار الشّكّ في البقاء عند جريان الاستصحاب ، ولذا قالوا : إنّ الاستصحاب هو إبقاء ما كان ، وهذا المعنى هو المستفاد من أدلّته ، حيث إنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشّكّ» عدم جواز نقض اليقين الفعليّ بالشّكّ كذلك ، وهذا لا يتأتّى إلّا بتعلّق الشّكّ الفعليّ بعين ما تعلّق به اليقين الفعليّ ، وهذا ـ أيضا ـ لا يمكن إلّا بأن يتعلّق الشّكّ ببقاء ما علم وجوده سابقا ؛

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٠٣.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٠٤.

(٣) والتّقطيع في الحركة والزّمان ليس بأمر واقعيّ ، بل أمر وهميّ ، وإلّا فهما أمران بسيطان ليسا بمركّبين من القطعات والأجزاء والسّاعات والدّقائق المنضمّ بعضها إلى بعض.

٢١٤

وذلك لاستحالة تعلّقهما بحدوثه سابقا ، فلا بدّ من تعلّق الشّكّ بالبقاء بعد ما تعلّق اليقين بالحدوث ، والمراد من مثل قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ أبدا» هو هذا المعنى ، كما أنّ التّعليل في قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت ...» له ظهور تامّ في الشّكّ في البقاء ، وعليه ، فلا مجال لما عن المحقّق الحائريّ اليزديّ قدس‌سره من أنّ عنوان «الشّكّ في البقاء» ليس في الأدلّة. (١)

أمّا المقام الثّاني : (مستند الاستصحاب هو كون المتصرّمات ذوات هويات شخصيّة) فوجهه هو أنّ وجود الحركة القطعيّة وبقاءها عقلا ، ممّا قد برهن عليه في محلّه (٢) ، بحيث يكون الالتزام بعدمها إنكارا للضّرورة ، غاية الأمر ، وجود الحركة وجود مستمرّ متدرّج متقضية ، فلها هويّة سيّالة ، وشخصيّة غير قارّة باقية ما دامت لم تنقطع ولم تنته إلى السّكون والوقفة.

وبعبارة اخرى : لكلّ موجود وجود خاصّ ، وهويّة مخصوصة مركّبة من القوّة (الهيولى) والفعل (الصّورة) ، ومن المجرّد والمادّي ، والثّابت والسّيال وغيرها من سائر الأقسام ، ولكلّ موجود ـ أيضا ـ عدم خاصّ وهو عدم وجوده الخاصّ ، والحركة والزّمان لهما وجود خاصّ وهو السّيال المتصرّم المتدرّج ، لا الثّابت القارّ ، وعليه ، فالحركة أمر ممتدّ مستمرّ باق بالبقاء التّجدّديّ ، وبالاستمرار التّغيّريّ ، وبالامتداد التّصرّميّ ، بحيث يكون بقاءها في تجدّدها ، واستمرارها في تغيّرها ، وامتدادها في تصرّمها ، وقرارها في عدم قرارها وسيلانها ، فلا مانع من جريان

__________________

(١) راجع ، درر الفوائد : ص ٥٣٨.

(٢) راجع ، الأسفار الأربعة : ج ٣ ، ص ٢٢.

٢١٥

الاستصحاب فيها والحكم بالبقاء تعبّدا لما فيها من البقاء تكوينا ، كما أنّ فيها ـ أيضا ـ بقاء عرفا ؛ إذ من الواضح جدّا ، أنّ العرف يعتقد ببقاء اليوم ـ مثلا ـ بعد وجوده إلى أن ينتهي إلى اللّيل ، وكذا يعتقد ببقاء اللّيل بعد وجوده إلى أن ينتهي إلى النّهار ، فكلّ منهما عند العرف وجود ممتدّ مستمرّ باق ، قصيرا أو طويلا حسب اختلاف الفصول ، ولعلّ في ارتكاز العرف ما في حوزة العقل من البقاء التّجدّديّ ، والثّبات التّصرّميّ ، والقرار التّغيّريّ.

نعم ، يرد الإشكال على هذا الاستصحاب من ناحيتين :

الاولى : أنّ استصحاب بقاء النّهار أو اللّيل ، لا يثبت اتّصاف الجزء المشكوك بكونه من النّهار أو اللّيل حتّى يصدق على الفعل الواقع فيهما أنّه واقع في اللّيل والنّهار ، إلّا على القول بالأصل المثبت.

وفيه : أنّه لا حاجة إلى إثبات اتّصاف الجزء المشكوك بكونه من النّهار أو اللّيل حتّى يلزم المثبتيّة ، بل إنّما يستصحب نفس النّهار أو اللّيل ، فيترتّب عليهما آثارهما.

توضيحه : أنّ النّهار ـ مثلا ـ له هويّة متجدّدة طالعة غاربة مستمرّة باقية إلى أمد ومدّة معيّنة ، لا يقدح في بقاءها سيلانها وتصرّمها ، وعليه ، فإذا شكّ في بقاءها يجري الاستصحاب ، فيحرز زمان الفعل بالاستصحاب ، فيجب حينئذ على المكلّف ، العلم بوظائفه المقرّرة في تلك الأوعية والظّروف المحرزة تعبّدا بمعونة الأصل ، فلا أثر هنا من الأصل المثبت ؛ إذ لا حاجة إلى إثبات أنّ الجزء المشكوك ، من النّهار حتّى يقال : إنّ هذا من اللّوازم العقليّة.

الثّانية : أنّه يعتبر في الأعمال الموقّتة ، كالصّيام في شهر رمضان ، والصّلوات

٢١٦

اليوميّة ، إحراز وقوعها في زمانها ، ومن المعلوم ، أنّ استصحاب بقاء النّهار واللّيل ، أو استصحاب شهر رمضان ، لا يثبت وقوع الفعل في زمانه ، إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ إذ وقوع الفعل في زمانه أو في شهر رمضان إنّما يكون من لوازم كون الزّمان المشكوك فيه ، من النّهار أو اللّيل.

وفيه ما لا يخفى من الضّعف ؛ إذ من الواضح أنّه إذا استصحب واحرز أنّ هذا الزّمان نهار أو شهر رمضان ـ مثلا ـ فلا يترتّب عليه سوى إتيان الصّلاة أو الصّيام ، فيقع العمل في زمانه ـ بدليله الاجتهاديّ ـ وجدانا وقهرا ، فلا أثر من الأصل المثبت.

وإن شئت ، فقل : إنّ بالاستصحاب يحرز ظرف العمل وزمانه تعبّدا ، وبالدّليل الاجتهاديّ يؤتى بالعمل في ظرفه وزمانه ، وهذا نظير ما إذا احرزت عدالة زيد ـ مثلا ـ بالاستصحاب ، فيجوز الاقتداء به ، أو ينفذ شهادته قهرا بأدلّة اجتهاديّة دالّة على جواز الاقتداء بالعادل أو قبول شهادته ، ونظير ما إذا احرزت كريّة ماء بالاستصحاب ، حيث تترتّب الطّهارة على غسل ثوب نجس فيه ، قهرا ، فأمثال هذه الموارد ليس من موارد الاصول المثبتة. هذا كلّه في استصحاب الزّمان والحركة.

وأمّا استصحاب الزّمانيّ فالكلام فيه يقع تارة في الزّمانيّ المتصرّم المتدرّج ، كالامور التّدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا ، نظير التّكلّم ، والكتابة ، وجريان الماء ، وسيلان دم الحيض ، واخرى في الزّمانيّ المستقرّ الثّابت ، كالصّيام في قوله تعالى : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ). (١)

أمّا الزّمانيّ المتدرّج ، فمحصّل الكلام فيه ، هو أنّ الشّكّ في بقاء الأمر

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٨٧.

٢١٧

التّدريجيّ على أقسام :

منها : أن يكون منشؤه هو الشّكّ في المقتضي ، كما إذا شكّ في جريان الماء ، أو في سيلان دم الحيض ، للشّكّ في كميّة المبدا ومقدار استعداد العروق المائيّة المودعة في بطن الأرض لجريان الماء ، أو مقدار استعداد عروق الدّم الكامنة في باطن الرّحم.

ومنها : ما يكون منشؤه هو الشّكّ في الرّافع ، كما إذا شكّ في جريان الماء الجاري ، أو سيلان دم الحيض ؛ لاحتمال حدوث مانع منه وطروّ رافع له ، وكما إذا شكّ في بقاء التّكلّم ، لاحتمال طروّ صارف عن الدّاعي الّذي دعاه إلى التّكلّم.

ومنها : ما يكون منشؤه هو احتمال حدوث داع آخر ، أو مبدإ آخر ، أو مادّة اخرى بعد الفراغ عن العلم بارتفاع الأوّل ، كما إذا شكّ في بقاء التّكلّم لاحتمال انقداح داع آخر له بعد العلم بارتفاع الدّاعي الأوّل ، وكما إذا شكّ في بقاء السّفر ، لاحتمال عروض داع آخر بعد العلم بزوال الدّاعي الأوّل الّذي دعاه إلى مسافة معيّنة.

والحقّ جريان الاستصحاب في جميع تلك الأقسام ، أمّا القسم الأوّل فلإطلاق أدلّة الاستصحاب وشمولها لها ـ أيضا ـ على ما تقدّم في موقف البحث عن الأدلّة وهي الرّوايات ؛ وأمّا القسم الثّاني والثّالث ، فلعدم الإشكال فيهما.

هذا ، ولكن ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره إلى عدم جريان الاستصحاب في الامور التّدريجيّة ، مدّعيا بأنّه راجع إلى الوجه الثّاني من القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّيّ.

توضيح كلامه قدس‌سره : إنّ وحدة الامور التّدريجيّة وتعدّدها ، إنّما هو بوحدة الدّاعي وتعدّده ، فمع تعدّد الدّاعي تتعدّد الامور التّدريجيّة وتنثلم وحدتها ، ألا ترى ،

٢١٨

أنّ من تكلّم نصف ساعة ـ مثلا ـ بداع ، ثمّ تكلّم بلا فصل نصف ساعة اخرى بداع آخر ، كانت التّكلّم الحادث بهذا الدّاعي غير التّكلّم الحادث بذاك الدّاعي ، فإذا يشكّ في حدوث فرد آخر من الكلام مقارن لارتفاع الأوّل عند احتمال قيام داع آخر في النّفس بعد القطع بارتفاع ما كان منقدحا في النّفس ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وكذا الحال في الماء والدّم ونحو ذلك من الامور التّدريجيّة ، فتأمّل. (١)

وفيه : أنّ معيار الوحدة في الزّمانيّات المتصرّمة ، هو الاستمرار والاتّصال وإن تحقّقت بدواع متعدّدة ، أو بداع في قطعة ، وداع آخر في قطعة اخرى.

وبعبارة اخرى : أنّ الزّمانيّات ما لم تنقطع ولم يتخلّل العدم والسّكون ، لها هويّة واحدة وشخصيّة فاردة وإن حدثت بداع وبقيت واستمرّت بداع آخر ، كما أنّه إذا تخلّل العدم وانثلم الاتّصال ، تصير متعدّدة وإن كان الدّاعي واحدا ؛ ولذا لو سجد المصلّي بداعي الامتثال وبقي في سجدة الصّلاة ـ بعد إتمام ذكرها ـ لحظة بداع آخر غير الامتثال ، كالاستراحة ، لا يحكم ببطلان الصّلاة حينئذ لأجل زيادة السّجدة وتعدّدها بتعدّد الدّاعي.

وأمّا توهّم أنّ استصحاب الأمر المتصرّم في هذا القسم ، محكوم بأصالة عدم حدوث داع الّتي يترتّب عليها عدم تحقّق الأمر المتصرّم ؛ وذلك ، لكون الشّكّ في بقاءه مسبّبا عن الشّكّ في حدوث داع آخر والأصل عدمه ، فمندفع : بأنّ أصل عدم حدوث داع آخر لا أثر له شرعا ، وترتّب عدم تحقّق الأمر المتصرّم عليه ، عقليّ ، كما لا يخفى ، فلا سببيّة ولا مسبّبيّة شرعيّة هنا ، وحينئذ إجراء الأصل المذكور لترتّب

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٤١.

٢١٩

ارتفاع الأمر المتصرّم عليه ، إنّما يكون إجراء للأصل المثبت بلا شبهة ، فلا مجال للحكومة.

ثمّ إنّه لا يخفى : أنّ التّكلّم مع كونه من الامور المتصرّمة غير القارّة ، يفارق الحركة ويمتاز عنها ؛ إذ ليس له هويّة واحدة حقيقة ، وشخصيّة فاردة واقعا ، حيث يتخلّل في أثناءه السّكوت قهرا ولو بقدر التّنفّس ، لكن لمّا كانت له وحدة اعتباريّة عرفيّة ، بحيث تعدّ عند العرف عدّة من الجملات المتّصلة المتسلسلة المتعاقبة ، موجودا واحدا ، جرى فيه ـ أيضا ـ الاستصحاب ، لانحفاظ اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) بالوحدة الاعتباريّة ، ألا ترى ، أنّ الصّلاة مع كونها مركّبة من امور مختلفة ، كمقولة الكيف والوضع ، واحدة بوحدة اعتباريّة ، وعليه ، فالتّكلّم يجري فيه الاستصحاب بلا فرق بين أقسام الشّكّ المتقدّمة. هذا كلّه في الزّمانيّ المتدرج.

وأمّا الزّمانيّ المستقرّ المقيّد بالزّمان ، فالشّكّ فيه تارة يكون من ناحية الشّبهة الموضوعيّة ، واخرى من ناحية الشّبهة الحكميّة.

أمّا الشّبهة الموضوعيّة ، فيجري فيها الاستصحاب ، بلا خلاف وشبهة ، سواء كان الفعل المقيّد بالزّمان مقيّدا بعدمه ، أم بوجوده ، فإذا فرض أنّ الصّيام والإمساك مقيّد بعدم مجيء المغرب ، أو جواز الأكل والشّرب مقيّد بعدم طلوع الفجر ، يستصحب العدمان (عدم المغرب ، وعدم طلوع الفجر) فيترتّب وجوب الإمساك وجواز الأكل والشّرب ؛ وإذا فرض أنّ المستفاد من لسان الدّليل هو كون الفعل مقيّدا بوجود النّهار ، أو بوجود اللّيل ، يستصحب نفس الزّمان من النّهار أو اللّيل على ما تقدّم.

٢٢٠