مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

وإن شئت ، فقل : خرج عن العموم فرد منه في قطعة من الزّمان بدليل التّخصيص ، ولا دليل على عوده إليه ودخوله تحته ثانيا ، فلا مجال للتّمسّك بعموم العامّ ولو فرض عدم صحّة استصحاب حكم المخصّص.

أو فقل : التّخصيص هنا ، كالتّخصيص الأفراديّ ، فكما لا يصحّ التّمسّك بالعموم الأفراديّ لإدخال فرد تحت العامّ بعد إخراجه ، إلّا إذا كان هناك دليل على الإدخال ، كذلك لا يصحّ التّمسّك بالعموم الزّمانيّ الاستمراريّ ، لإدخال فرد تحته بعد إخراجه عنه في قطعة من الزّمان ، إلّا إذا دلّ الدّليل على الإدخال.

الصّورة الثّانية : ما يؤخذ الزّمان فيها قيدا مكثّرا للإفراد في كلا الجانبين ، فللعامّ عمومان : أفراديّ وأزمانيّ ، ولكلّ فرد في كلّ يوم ـ مثلا ـ حكم مستقلّ ، والحكم في هذه الصّورة ليس إلّا الرّجوع إلى عموم العامّ ، لا استصحاب حكم المخصّص ؛ إذ كما أنّ خروج فرد عن العموم الأفراديّ ، لا يوجب انثلامه ، فيرجع إلى العموم عند الشّكّ في خروج فرد آخر عنه ، كذلك خروج فرد عن العموم الأزمانيّ في قطعة من الزّمان ، لا يوجب انثلامه ، فيرجع إليه عند الشّكّ في خروج ذلك الفرد عنه في قطعة اخرى ، ولا مجال في الفرض باستصحاب حكم المخصّص ؛ إذ مع فرض قيديّة الزّمان في المخصّص ، لا اتّحاد للقضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) فانسحاب حكم الخاصّ إلى غير مورد دلالته ، يكون من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، لا استصحاب حكم المخصّص.

الصّورة الثّالثة : ما يؤخذ الزّمان فيها ظرفا في جانب العامّ وقيدا في جانب الخاصّ ، والحكم في هذه الصّورة عدم الرّجوع إلى العامّ لانقطاع حكمه الواحد

٢٨١

المستمرّ ، وكذا عدم الرّجوع إلى استصحاب حكم المخصّص لعدم اتّحاد القضيّتين ، فلا بدّ إذا من الرّجوع إلى اصول اخرى.

الصّورة الرّابعة : ما يؤخذ الزّمان فيها قيدا في جانب العامّ وظرفا في جانب الخاصّ ، والحكم فيها هو الرّجوع إلى عموم العامّ ، لا إلى استصحاب حكم المخصّص ؛ بداهة ، أنّه من الاصول الّتي لا يرجع إليه مع وجود العموم الّذي هو من الأدلّة الاجتهاديّة. (١)

هذا ، ولكن أورد بعض المعاصرين على مقالة المحقّق الخراساني قدس‌سره بوجهين :

الأوّل : أنّه لا يصحّ التّفكيك بين العامّ والخاصّ بجعل الزّمان في أحدهما قيدا وفي الآخر ظرفا ؛ لأنّ المفروض أنّ الخاصّ بعض أفراد العامّ وداخل فيه ثمّ خرج ، فإن لم يكن قيدا ودخيلا في المصلحة أو المفسدة ، ففي كليهما ، وإن كان قيدا ودخيلا فيها ، ففي كليهما ـ أيضا ـ وحينئذ تصير الصّور المتصوّرة في المسألة اثنتين لا أربعة.

الثّاني : أنّه لا مانع من استصحاب حكم الخاصّ حتّى في الصّورة الرّابعة ؛ لأنّ الزّمان فيها وإن كان قيدا ، لكنّه ليس قيدا للموضوع حتّى يتبدّل الموضوع بمضيّه ، بل هو قيد للحكم في أمثال المقام غالبا ، فلا إشكال في أنّ يوم الجمعة في مثال «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» لا يكون قيدا ، لا لزيد الّذي يكون موضوعا لوجوب الإكرام ، ولا للإكرام الّذي يكون متعلّقا للوجوب ، بل إنّه قيد لنفس الوجوب وحينئذ يكون الموضوع السّابق باق على حاله ويستصحب حكمه. (٢)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٤١ و ٣٤٢.

(٢) أنوار الاصول : ج ٣ ، ص ٤٥٩ و ٤٦٠.

٢٨٢

ولا يخفى : أنّ في هذين الوجهين نظرا :

أمّا الوجه الأوّل ، فلأنّ الخاصّ وإن كان فردا من العامّ بحيث خرج منه حكما لا موضوعا ، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يوجب اتّحاد الحكم بينهما حسب أخذ الزّمان فيهما ، بل يعقل حسب مقام الثّبوت أن يؤخذ الزّمان في ناحية العامّ ظرفا ، وفي ناحية الخاصّ قيدا ، كما يعقل عكس ذلك ـ أيضا ـ مثلا إذا أمر المولى بإكرام العلماء في كلّ يوم ونهى عن إكرام زيد يوم الجمعة ، فلا مانع من حمل الزّمان في ناحية الأمر المتعلّق بالعامّ على الظّرفيّة ، بمعنى : عدم دخله في مصلحة إكرام العلماء ، ومن حمله في ناحية النّهي المتعلّق بالخاصّ على القيديّة ، بمعنى : أنّ يوم الجمعة ـ بما لها فضيلة وشرافة بالنّسبة إلى سائر الأيّام بحيث تعدّ حسب الرّوايات سيّد الأيّام ـ دخيلة في ترتّب المفسدة على إكرام زيد وأنّ المولى لا يرضى بإكرام مثل زيد الفاسق في مثل يوم الجمعة.

وأمّا الوجه الثّاني ، فلأنّ جعل الزّمان قيدا للحكم وإن كان موجبا لعدم تغيّر الموضوع أو المتعلّق في القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) إلّا أنّ هذا المقدار لا يكفي في جريان الاستصحاب ؛ وذلك ، لأنّ معنى قيديّة الزّمان للحكم هو قيديّته للمحمول ، فكما أنّه يشترط في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّتين في الموضوع أو المتعلّق ، كذلك يشترط في جريانه اتّحادهما في المحمول ـ أيضا ـ والمفروض أنّ المحمول المتيقّن في المثال المتقدّم هو حرمة الإكرام في يوم الجمعة ، والمحمول المشكوك هو حرمته في سائر الأيّام وهما متغايران مختلفان ، وفي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب.

وكيف ما كان ، مقتضى التّحقيق في المسألة هو أنّ المرجع عموم العامّ

٢٨٣

لا استصحاب حكم المخصّص حتّى في الصّورة الثّالثة وهي ما إذا كان الزّمان ظرفا للعامّ.

والوجه فيه : هو أنّ العامّ في مثل قولنا : أكرم العلماء دائما ، كما يتصوّر له أفراد عرضيّة ، نظير زيد العالم ، عمرو العالم و ... كذلك يتصوّر له أفراد طوليّة ، كإكرام زيد حسب السّاعات والأيّام وهكذا إكرام عمرو و .. ..

ولا ريب : أنّ العامّ كما إذا خصّص بفرد ، كزيد وشكّ في تخصيص فرد آخر عرضيّ منه ، كعمرو ، يرجع إليه ويحكم بعدم تخصيص زائد ، كذلك إذا خصّص بفرد في زمان خاصّ ، كإكرام زيد يوم الجمعة وشكّ في تخصيص فرد آخر طوليّ منه ، كإكرام زيد في سائر الأيّام ، فإنّه يرجع إليه ويحكم بعدم تخصيص زائد.

وإن شئت ، فقل : كما أنّ خروج فرد من الأفراد العرضيّة عن العامّ وتخصيص العامّ به لا يوجب خروج فرد آخر منها عنه ، كذلك خروج فرد من الأفراد الطّوليّة عن العامّ وتخصيصه به لا يوجب خروج فرد آخر منها عنه ، ففي كلا الفرضين يكون العامّ هو المرجع عند الشّكّ في الخروج ويحكم بعدم تخصيص زائد.

(معنى اليقين والشّكّ في الاستصحاب)

التّنبيه الخامس العشر : لا بأس بالتّعرض لمعنى اليقين والشّكّ المأخوذين في دليل الاستصحاب ، كقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ».

فنقول : إنّ لكلّ واحد منهما معنيين : أحدهما : ما هو المصطلح عند المنطقيين والفلاسفة والمتكلّمين ، وهو أنّ اليقين ما يقابل الظّنّ والشّكّ والوهم ؛ وأنّ الشّكّ

٢٨٤

ما يقابل اليقين والظّنّ والوهم.

ثانيهما : ما هو المصطلح عند اللّغويين والعرف ، وهو أنّ اليقين ما يكون حجّة ، فيعمّ اليقين التّعبّدي الشّامل للظّنّ المعتبر ؛ وأنّ الشّكّ خلاف اليقين ، بمعنى : ما لا يكون حجّة ، فيعمّ الظّنّ غير المعتبر وكذا الوهم ، والمقصود من اليقين والشّكّ في أدلّة الاستصحاب هو هذا المعنى الثّاني ، كيف ، وأنّه لو قصد معنى الأوّل منهما لصار معنى الرّواية عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ وجواز نقضه بغيره حتّى لو كان ظنّا غير معتبر ، وهذا ، كما ترى ، ممّا لا يمكن الالتزام به ، ولا يلتزم به أحد ، فإرادة المعنى اللّغويّ من الشّكّ ممّا لا مناص منه بلا احتياج إلى إقامة الدّليل عليه ، مع أنّه يمكن إقامة الدّليل عليه وهي الموارد الّتي وردت في جملة من الأخبار :

منها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدّمة : «لا» في جواب قول السّائل : «فإنّ حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به» فإنّ السّائل سأل أنّه لو حرّك إلى جنب نائم شيء ولم يعلم به ، فهل يوجب ذلك حصول النّوم الّذي يكون ناقضا للوضوء ، أم لا؟ فقال عليه‌السلام : «لا» بل يحتاج إلى اليقين بحصوله ، فمعنى هذا الجواب هو أنّه لا يعتنى بالشّكّ الشّامل للظّنّ ـ أيضا ـ بداهة ، أنّ تلك الحركة يوجب الظّنّ بحصول النّوم حسب العادة ، وعدم الاعتناء به كاشف عن اندراج الظّنّ في الشّكّ.

وبعبارة اخرى : أنّ الإمام عليه‌السلام لم يستفصل بين الشّكّ والظّنّ ، حيث إنّه عليه‌السلام لم يسأل عن السّائل ، هل كنت شاكا في حصول النّوم بالحركة المذكورة ، أم ظانا؟ وواضح ، أنّ الجواب بلفظ : «لا» مع ترك الاستفصال قرينة واضحة على إرادة الظّنّ من الشّكّ ، أيضا.

٢٨٥

ومنها : قوله عليه‌السلام في تلك الصّحيحة : «حتّى يستيقنه ...» فإنّ الإمام عليه‌السلام جعل اليقين بحصول النّوم غاية لعدم وجوب الوضوء ، ومعنى ذلك ، عدم ترتّب الأثر على غير اليقين من الشّكّ والظّنّ والوهم.

وإن شئت ، فقل : يستكشف من جعل الاستيقان غاية لعدم وجوب الوضوء هو أنّ فرض الشّكّ والظّنّ والوهم داخل في المغيّى ، فيفيد عدم ناقضيّة الوضوء بطروّ النّوم في الفروض الثّلاثة.

ومنها : قوله عليه‌السلام في تلك الصّحيحة ـ أيضا ـ : «ولكن انقضه بيقين آخر» فإنّ جواز نقض اليقين بيقين آخر ، معناه : عدم جواز نقضه بغير اليقين ، سواء كان شكّا أو ظنّا أو وهما.

ومنها : قوله عليه‌السلام في الصّحيحة الثّانية لزرارة المتقدّمة : «فلعلّه شيء اوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ» فإنّ كلمة : «لعلّ» كما يساوق معنى الشّكّ ، كذلك يساوق معنى الظّنّ والوهم ـ أيضا ـ ومقتضى ذلك هو أنّه كما لا ينبغي نقض اليقين بالشّكّ ، كذلك لا ينبغي نقضه بالظّنّ والوهم ، أيضا.

ثمّ إنّه قد يدّعى الإجماع على إرادة معنى اللّغويّ من الشّكّ في الأخبار.

وفيه : أوّلا : أنّ المسألة اصوليّة ولا اعتبار بالإجماع فيها ؛ وثانيا : أنّ الإجماع مدركيّ أو محتمل المدركيّة ؛ إذ مستند المجمعين هو ما قلنا من الموارد المتقدّمة الّتي تستظهر منها إطلاق الشّكّ في الأخبار على معنى الأعمّ.

٢٨٦

(خاتمة الاستصحاب)

ينبغي ذكر امور في خاتمة الاستصحاب :

(اعدة المقتضي والمانع)

الأمر الأوّل : أنّ الرّوايات المتقدّمة الدّالّة على اعتبار الاستصحاب ، هل تشمل موارد قاعدة المقتضي والمانع ، أم لا؟ ثمّ على تقدير عدم الشّمول ، هل يمكن إثبات القاعدة بالأصل أو بغيره ، أم لا؟

أمّا شمول الرّوايات للقاعدة ، فالحقّ منع ذلك ؛ إذ مقتضى الرّوايات عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، والنّقض إنّما يتحقّق في ما إذا اتّحد متعلّق الوصفين (اليقين والشّكّ) بمعنى : أنّ الشّكّ يتعلّق بعين ما يتعلّق به اليقين ، غاية الأمر ، يكون اليقين متعلّقا بحدوثه والشّكّ في بقاءه ، والمفروض أنّ في القاعدة يتعلّق اليقين بوجود المقتضي والشّكّ بوجود المانع ، فالوصفان في القاعدة يتعلّقان بالوجودين والحدوثين ، لا بحدوث شيء وبقاءه.

وهذا نظير ما إذا صبّ الماء على شيء لتحصيل الطّهارة الحدثيّة أو الخبثيّة وشكّ في تحقّق الغسل لاحتمال وجود المانع أو مانعيّة الموجود ، ففي هذا المثال لا يقين بوجود الطّهارة ولا شكّ في بقاءها حتّى يجري الاستصحاب ، بل يقين بوجود المقتضي للطّهارة وشكّ في وجود المانع عن حصولها ، فلو لم يترتّب أثر الطّهارة على صبّ الماء مع الشّكّ في وجود المانع ، لم يصدق نقض اليقين بالشّكّ قطعا.

٢٨٧

وأمّا إثبات القاعدة بالأصل وغيره ، فنقول : إنّه لا مجال لإجراء أصالة عدم المانع في موارد قاعدة المقتضي وترتيب الأثر والمقتضي (بالفتح) على اليقين بالمقتضي (بالكسر) إلّا بناء على الأصل المثبت ؛ وذلك ، لأنّ الأثر الشّرعيّ في مثل المثال المتقدّم وهو الطّهارة ، لا يكون مترتّبا على عدم المانع ، بل مترتّب على الغسل ووصول الماء إلى الشّيء ، وإثبات الغسل والوصول بالأصل المذكور لا يمكن إلّا بمعونة الأصل المثبت ، حيث إنّ الغسل ووصول الماء بعد صبّه ، يكون من لوازم عدم الحاجب عقلا أو عرفا وعادتا.

وكذا لا مجال ـ أيضا ـ للتّمسّك بالسّيرة وبناء العقلاء لإثبات قاعدة المقتضي والمانع ، بدعوى استقرارها على الحكم بوجود المقتضى (بالفتح) بعد اليقين بوجود المقتضي (بالكسر) مع الشّكّ في وجود المانع ، والوجه في عدم المجال له هو أنّ السّيرة غير محرزة ، بل محرزة العدم ، فهل يحكمون باحتراق المادّة المحترقة بعد العلم بوجود النّار المحرقة مع الشّكّ في وجود الرّطوبة الغالبة فيها؟ وهل يحكمون بتحقّق الغسل وترتّب أثر الطّهارة على الشّيء بعد العلم بصبّ الماء عليه مع الشّكّ في وجود المانع عن الوصول إليه؟

(وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب)

الأمر الثّاني : إنّه لا كلام ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة ، بل هي مقدّمة عليه بلا شبهة ، إنّما الكلام في وجه تقديمها وعدم جريان الاستصحاب ، فهل هو من باب التّخصيص ، أو الورود ، أو الحكومة وجوه بل أقوال :

٢٨٨

القول الأوّل : أنّه كان من باب التّخصيص ، بتقريب : أنّ النّسبة بين الأمارات وبين الاصول العمليّة الّتي منها الاستصحاب وإن كانت عموما من وجه ، إلّا أنّه لا بدّ من تخصيص أدلّة الاصول بأدلّة الأمارات وتقديم الأمارات على الاصول ، وإلّا لم يبق مورد للعمل بالأمارات أصلا ، لأنّه ليس مورد من موارد الأمارات إلّا وأنّه مجرى لأصل من الاصول ، فلو لم يعمل بالأمارات في موارد الاصول ، لزم إلغاء الأمارات بالمرّة ، نعم ، إلغائها بالمرّة إنّما يلزم إذا خصّصت أدلّة الأمارات بالاصول ، دون ما إذا خصّصت بأدلّة الاستصحاب ، كما لا يخفى.

وفيه : أوّلا : أنّ سياق أدلّة الاستصحاب آب عن التّخصيص ، كيف وأنّ قوله عليه‌السلام : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ ...» إنّما هي كبرى ارتكازيّة معناها : أنّه لا يجوز نقض الأمر المبرم بأمر غير مبرم ، ولا ينبغي رفع اليد عنه به ، وهذا ، كما ترى ، آب عن التّخصيص بنقض ذلك الأمر المبرم بغير المبرم في بعض الموارد ؛ وذلك نظير ما عرفت في مبحث الظّنّ من أنّ أدلّة حرمة العمل بالظّنّ ، كقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) آب عن التّخصيص بأنّ الظّنّ يغني عن الحقّ في بعض الموارد.

وثانيا : أنّ التّخصيص ، معناه : رفع الحكم عن بعض أفراد الموضوع العامّ وإخراجه عن دائرة الحكم مع اندراجه في الموضوع ، وأمّا مع خروجه عن نفس الموضوع وعدم صدق الموضوع وجدانا أو تعبّدا ـ كما في الورود والحكومة ـ فلا يصل الدّور إلى التّخصيص ، بل يكون هنا من قبيل التّخصّص ، وسيجيء

__________________

(١) سورة النّجم (٥٣) ، الآية ٢٨.

٢٨٩

ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ موضوع الاستصحاب ينتفي بقيام الأمارات في مورده ، فلا تخصيص بالنّسبة إليه.

القول الثّاني : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره وغيره (١) ، من أنّ وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب يكون من باب الورود ، وقد استدلّ عليه بوجوه غير تامّة :

منها : أنّ المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» ليس هو بما أنّه وصف خاصّ قبال الظّنّ والشّكّ ، بل المراد منه هو الحجّة قبال اللّاحجّة (الشّكّ) ، فلا دخل لخصوصيّة اليقين في حرمة النّقض وعدم جواز رفع اليد عن الحالة السّابقة ، فكأنّه عليه‌السلام قال : لا تنقض الحجّة باللّاحجة ، بل انقضها بحجّة اخرى ، ومن المعلوم ، أنّ الأمارة حجّة معتبرة ، فمع قيامها ينتفي موضوع الاستصحاب وهو اللّاحجة (الشّكّ) وهذا ليس إلّا الورود ، بمعنى : انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتأتّى في صقع التّصور وحسب مقام الثّبوت ، لا في صقع الاستظهار وحسب مقام الإثبات ، حيث إنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب هو دخل خصوص الطّريق اليقينيّ في حرمة النّقض وعدم جواز رفع اليد ، لا مطلق الحجّة ، وعليه ، فلا ينتقض هذا الطّريق الخاصّ ولا ترفع اليد عنه إلّا بطريق يقينيّ آخر ، لا بكلّ ما يكون طريقا وحجّة كالأمارة.

ومنها : أنّ مقتضى كبريات الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين إذا كان مستندا إلى الشّكّ ، وواضح ، أنّه لو قامت الأمارة في مورد الاستصحاب ، كان النّقض

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥٠ و ٣٥١ ؛ ومصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

٢٩٠

مستندا إليها لا إلى الشّكّ.

وبعبارة اخرى : مفاد دليل الاستصحاب حرمة نقض اليقين إذا كان النّقض مستندا إلى الشّكّ ، ولا نقض مستندا إلى الشّكّ مع قيام الأمارة حتّى يكون حراما ممنوعا ، فلا موضوع حينئذ ولا حكم ، وهذا هو معنى الورود.

وفيه : أنّ معنى مثل قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ هو حرمة نقض اليقين عند طريان الشّكّ بأيّ داع كان ولو لم يكن شكّا ، لا أنّ معناه : حرمة نقضه مستندا إلى الشّكّ وبداعيه حتّى يقال : إنّ النّقض عند قيام الأمارة مستند إليها وبداعيها ، لا إلى الشّكّ وبداعيه ؛ على أنّ المراد من الشّكّ ليس المعنى المصطلح منه ، بل المراد منه خلاف اليقين ، فيكون معنى حرمة نقض اليقين بالشّكّ هو نقضه بغير اليقين ، والأمارة غير اليقين ، فلا ينقض بها.

ومنها : أنّ الأمارات وإن كانت ظنونا ، لكن حجّيّتها أمر يقينيّ ، فهي حجج قطعا ، ولا ريب : أنّ نقض اليقين بالأمارة يكون من قبيل نقض اليقين باليقين ، فلا يبقى حينئذ مع قيام الأمارة موضوع للاستصحاب ، وهذا هو معنى الورود.

وفيه : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» كون اليقين متعلّقا بارتفاع ما هو تيقّن بحدوثه ، واليقين الثّاني في الأمارات تعلّق بحجّيّتها ، لا بارتفاع ما تعلّق بحدوثه اليقين ، فلا نقض لليقين باليقين في مورد الأمارات ، بل نقض له بغير اليقين.

القول الثّالث : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ تقديم الأمارات إنّما هو من باب الحكومة (١) ولا حاجة إلى تعرض كلامه قدس‌سره والنّقد عليه.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٣.

٢٩١

هذه هي الأقوال الثّلاثة في المسألة والحقّ هو القول الثّاني من أنّ تقديم الأمارات إنّما هو من باب الورود ، لكن لا بما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره وغيره من الوجوه المتقدّمة ، بل بوجه وتقريب آخر ، فنقول :

قبل الورود في ذكر الوجه ، ينبغي تقديم مقدّمة وهي أنّ العناوين المتداولة في الاصول ، كالتّخصّص (أو التّقيّد) والحكومة ، وكالتّخصيص (أو التّقييد) والورود وغيرها من المجمل والمبين ممّا لم يرد في كتاب أو سنّة أو معقد إجماع حتّى يبحث عنها وعن حدودها وشئونها ، بل هي امور مستحدثة ، مصطلحة عند أرباب علم الاصول ، وقد حرّرها وبيّن حدودها وشروطها الشّيخ الأنصاري قدس‌سره وتعرّض لها في غير مورد من مباحث الاصول سيّما في ابتداء مبحث التّعادل والتّرجيح.

وممّا ينبغي أن يعلم هو أنّه ليس مورد تلك العنوانين ما إذا وقع التّنافي بين الدّليلين ، على وجه لا يزول ولا يرتفع أصلا ، فلا مناص حينئذ إلّا من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، بل موردها ما إذا وقع التّنافي بينهما بحسب الظّهور والدّلالة بالنّظر البدويّ الأوّليّ ، على وجه يزول ويرتفع بالنّظر الدّقيّ الثّانوي وهو بأحد العناوين المذكورة ، فلنا أن نذكر ما ورد في تعريف كلّ واحد من تلك العناوين كي يتّضح الحال.

أمّا عنوان التّخصّص ، فهي عبارة عن خروج شيء من دليل وخطاب موضوعا ، خروجا تكوينيّا وجدانيّا بلا عناية من العقلاء ، كالمستثنى المنقطع في قولنا : «جاءني القوم إلّا الحمار» و «أكرم العلماء إلّا الجهّال» ونحوهما ، ولا ريب ، أنّه لا يعقل إذا وقوع التّنافي في مورده ؛ ولذا ليس تسمية التّخصّص بالجمع العرفيّ إلّا بنحو

٢٩٢

التّسامح ؛ إذ لا تنافي في مورده كي يصل الدّور إلى الجمع.

وأمّا عنوان الورود ، فهي عبارة عن رفع أحد الدّليلين موضوع الدّليل الآخر حقيقتا وواقعا ، لكن بعناية من التّعبّد ، بحيث لو لا تلك العناية لم يكن هنا رفع وارتفاع رأسا وبالمرّة ، فالورود تصرّف من ناحية الدّليل الوارد ، في عقد الوضع من دليل المورود بالذّات والأصالة ، وفي عقد الحمل بالتّبع والعرض ؛ ولذا يقال : الورود عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، نظير التّخصّص ، غاية الأمر ، الورود يحتاج إلى العناية ، والتّخصّص لا يحتاج إليها ، مثال ذلك ، ورود الأمارات المعتبرة على البراءة العقليّة ، حيث إنّ موضوعها هو اللّابيان (قبح العقاب بلا بيان) والأمارة المعتبرة تكون بيانا.

وأمّا عنوان التّخصيص ، فهي عبارة عن إخراج فرد أو أفراد ، أو إخراج عنوان عن حكم العامّ ، فهو تصرّف في عقد الحمل وحكم العامّ وتضييق لدائرته مع انحفاظ الموضوع بلا تصرّف في عقد الوضع ومن دون تضييق في دائرته ، فمعنى التّخصيص هو إخراج فقط ، لا إدراج وتصرّف وتضييق ، ويكون في صقع الحكم وعقد الحمل ، لا في صقع الموضوع وعقد الوضع.

وأمّا عنوان الحكومة ، فهي عبارة عن تعرّض أحد الدّليلين بمدلوله اللّفظيّ لحال الدّليل الآخر شرحا وتفسيرا ، توسعة وتضييقا ، أو إخراجا وإدراجا ، لا بالنّسبة إلى خصوص عقد الوضع ، بل بالنّسبة إلى عقد الحمل ـ أيضا ـ وعليه ، فالحكومة على أقسام أربعة :

أحدها : التّصرّف في عقد الوضع بالتّوسعة والإدراج ، نظير «الطّواف بالبيت

٢٩٣

صلاة» (١) بالنّسبة إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٢).

ثانيها : التّصرّف في عقد الوضع بالتّضييق والإخراج ، نظير : «لا شكّ لكثير الشّكّ» (٣) ونحوه ، بالنّسبة إلى قوله عليه‌السلام : «من شكّ بين الثّلاث والأربع فليبن على الأربع» (٤).

ثالثها : التّصرّف في عقد الحمل أو متعلّقه (بالفتح) أو متعلّقه (بالكسر) بالتّوسعة ؛ أمّا في عقد الحمل ، فهو نظير قوله عليه‌السلام : «التّيمّم أحد الطّهورين» (٥) بالنّسبة إلى قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٦) ، وأمّا في المتعلّق (بالفتح) فهو نظير «الضّيافة إكرام» بالنّسبة إلى «أكرم العالم» ، وأمّا في المتعلّق (بالكسر) نظير «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» بالنّسبة إلى قولنا : «الصّلاة واجبة في بدن وثوب طاهرين» حيث إنّ الطّهارة ظاهرة في الواقعيّة المحرزة بالعلم أو العلميّ ، فتوسّع بمثل ما ذكر بالأعمّ منها ومن الظّاهريّة.

رابعها : التّصرّف في عقد الحمل أو متعلّقه (بالفتح) أو متعلّقه (بالكسر)

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٩ ، ص ٤١٠.

(٢) سورة المائدة (٥) ، الآية ٦.

(٣) مستمسك العروة الوثقى : ج ٧ ، ص ٦٦٢.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، ص ٣٢٠.

(٥) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٣ من أبواب التّيمّم ، الحديث ٥ ، ص ٩٩٥.

(٦) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١ ، ص ٢٢٢.

٢٩٤

بالتّضييق ، كحكومة أدلّة الضّرر أو الحرج أو العسر من أدلّة أحكام العناوين الثّانويّة على أدلّة أحكام العناوين الأوّليّة ، فمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (١) يكون حاكما على قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) فيرفع الوجوب عن الوضوء الضّرريّ وكذا الحرج والعسر ، وهذا القسم إنّما هو من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، كما أنّ القسم الثّالث إثبات للحكم بلسان إثبات الموضوع.

إذا عرفت تلك المقدّمة ، فنقول : إنّه لا مجال لحكومة الأمارات على الاصول كلّها الّتي منها الاستصحاب ؛ وذلك ، لأنّ الحكومة ، على ما عرفت آنفا ، إنّما تأتّي إذا كان دليل الحاكم بمدلوله اللّفظيّ ناظرا ومتعرّضا لحال دليل المحكوم شارحا مفسّرا له ، توسعة وإدراجا أو تضييقا وإخراجا ، سواء في عقد وضعه أو في عقد حمله ، وواضح ، أنّه لا نظر ولا تعرّض لأدلّة حجّيّة الأمارات اللّفظيّة من الآية والرّواية إلى أدلّة الاصول إلّا بتكلّف وتمحّل ، بل لا دليل لحجّيّتها إلّا السّيرة وبناء العقلاء ، والآيات والرّوايات إرشادات إليها ، ولا ريب ، أنّ بناء العقلاء دليل لبّيّ لا لسان له حتّى يكون ناظرا إلى أدلّة الاصول وشارحا مفسّرا لها ، كما لا يخفى ، فإذا لا بدّ من الالتزام بورود الأمارات على الاصول كلّها ، عقلية كانت أو شرعيّة.

أمّا العقليّة ـ كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتّخيير العقليّين ـ فلأنّ الموضوع فيها إمّا يكون عدم البيان ـ كما في البراءة ـ أو احتمال العقاب ـ كما في الاحتياط ـ أو عدم المرجّح لأحد طرفي التّخيير ـ كما في التّخيير ـ وكلّ ذلك يرتفع

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ ، ص ٣٦٤.

٢٩٥

بالأمارة القائمة بعد كونها علما عاديا وحجّة معتبرة عند العقلاء.

وأمّا الشّرعيّة ـ كالاستصحاب ـ فلأنّ الموضوع فيها عدم العلم بالواقع والجهل به ، والأمارة علم بالواقع عرفا ، وإن شئت ، فقل : كما أنّ الحكم في أصالتي الطّهارة والحلّيّة مغيّا بعدم العلم بالحرمة والنّجاسة ، والأمارة القائمة على الحرمة والنّجاسة علم بهما ، فلا مجال معها لأصالتي الطّهارة والحلّيّة ، كذلك حال الاستصحاب حيث إنّ حجّيّته وحرمة نقض اليقين (الحجّة) بالشّكّ (اللّاحجّة) تكون مشروطة بعدم قيام حجّة اخرى على خلافه ، بل على وفاقه ـ أيضا ـ ومعلوم أنّ الأمارة القائمة على خلافه حجّة اخرى ، فلا مجال معها للاستصحاب.

وبالجملة : ليس المراد من الشّكّ واليقين في الاستصحاب هو المصطلح عليه في المنطق والفلسفة ، بل المراد هو العرفيّ العقلائيّ ، أو الحجّة أو اللّاحجّة بالغاء الخصوصيّة ، فتأمّل.

ثمّ إنّه ينقدح ممّا ذكرناه في وجه تقديم الأمارات على الاصول الّتي منها الاستصحاب ، أنّ دليل الاستصحاب يكون واردا على أدلّة الاصول الأخر ، عقليّة كانت ، أو نقليّة.

أمّا العقليّة ، فلأنّ موضوعها ـ على ما تقدّم آنفا ـ عدم البيان في البراءة ، واحتمال العقوبة في الاحتياط والاشتغال ، وعدم المرجّح لأحد الطّرفين في التّخيير ، والاستصحاب لكونه حجّة ، يصير بيانا ـ حيث إنّ المراد من البيان هو مطلق البيان في قبال اللّابيان الّذي يراد منه مطلق عدم البيان ـ ومؤمّنا من العقوبة ، ومرجّحا لأحد الطّرفين البتّة.

٢٩٦

وأمّا النّقليّة ، فلأنّ موضوعها ـ على ما تقدّم آنفا ـ عدم العلم بالواقع ، والمراد من عدم العلم ليس إلّا عدم الحجّة مطلقا (العقليّة والشّرعيّة) ، والاستصحاب يكون حجّة بلا شبهة ، فيصير واردا على الاصول النّقليّة.

(تعارض الاستصحابين)

الأمر الثّالث : قد عرفت في بعض المباحث المتقدّمة أنّ الدّليلين المتنافيين ، إمّا يتنافيان في مرحلة الجعل وموقف التّقنين والإنشاء بحيث يحصل بينهما التّكاذب ، فيكذّب كلّ واحد منهما الآخر ، نظير ما إذا دلّ أحدهما على وجوب القصر ، والآخر على الإتمام مع العلم بأنّه لا يجب أزيد من صلاة واحدة لدلوك الشّمس ؛ وإمّا يتنافيان في مرحلة الامتثال وموقف الإطاعة ، كما في مثل إنقاذ الغريقين في بعض الفروض ، ولا يخفى ، أنّ التّنافي في مرحلة الجعل يبحث عنه في باب التّعادل والتّرجيح ويعامل معه معاملة التّعارض ؛ وأمّا التّنافي في مرحلة الامتثال ، فيبحث عنه في باب التّرتّب من مبحث الأمر ، أو في باب اجتماع الأمر والنّهي من مبحث النّواهي ويعامل معه معاملة التّزاحم.

إذا علمت هذا ، فنقول : إنّ البحث عن الاستصحابين المتنافيين هنا يكون راجعا إلى المتنافيين بحسب مقام الجعل لا الامتثال ، بيان ذلك ، إنّ هنا صورا ثلاثا :

الاولى : أن يكون الشّكّ في أحد الاستصحابين مسبّبا عن الشّكّ في الآخر ، فيكون الشّكان حينئذ طوليّين ، والسّببيّة إمّا تكون عقليّة تكوينيّة ، كما في الشّكّ في وجود المعلول للشّكّ في الوجود العلّة ، أو عاديه عرفيّة ، كما في الشّكّ في نبات لحية

٢٩٧

زيد للشّكّ في حياته ، أو جعليّة شرعيّة ، كما في الشّكّ في طهارة شيء نجس غسل بماء مشكوك الطّهارة والنّجاسة وكان طاهرا يقينا ؛ بلا فرق بين أن تكون بلا واسطة ، نظير ما ذكر من مثال الماء المشكوك طهارته ، أو تكون مع الواسطة ، نظير ما إذا شكّ في وجوب العدّة والتّربّص ثلاثة قروء للشّكّ في صحّة الطّلاق ، لأجل الشّكّ في عدالة الشّاهدين.

والحكم في هذه الصّورة هو تقديم الأصل السّببيّ فيما إذا كانت السّببيّة شرعيّة ، على الأصل المسبّبي بوجه الحكومة ، أو بوجه الورود ، فلا مجال إذا للمعارضة بينهما.

الصّورة الثّانية : أن يكون الشّكّ في كلا الاستصحابين مسبّبا عن أمر ثالث مع استلزام العمل بالاستصحابين للمخالفة القطعيّة العمليّة والتّرخيص في المعصية ، فيكون الشّكان عندئذ عرضيّين ، نظير ما إذا علم بطهارة إناءين ثمّ علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، فلو استصحب طهارة الإناءين وجواز شربهما لزمت منه المخالفة القطعيّة العمليّة ، مضافا إلى المخالفة الالتزاميّة ، كما لا يخفى ، والحكم فيها سقوط الاستصحابين عن الحجّيّة ، إذ إجراءهما معا والعمل بهما ، موجب للمخالفة العمليّة من جانب العبد وللتّرخيص في المعصية من جانب المولى ، وهذا كما ترى ، وإجراء أحدهما المعيّن ، ترجيح بلا مرجّح وهو قبيح ، وأحدهما بنحو التّخيير ، محتاج إلى الدّليل ، والمفروض فقده.

الصّورة الثّالثة : أن يكون الشّكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث مع عدم استلزام العمل بهما للمخالفة العمليّة القطعيّة والتّرخيص في المعصية بخلاف المخالفة الالتزاميّة ، حيث إنّها ثابتة بإجرائهما ؛ للزوم العلم حينئذ بمخالفة أحدهما للواقع ،

٢٩٨

نظير ما إذا علم بنجاسة إناءين ثمّ علم بطهارة أحدهما إجمالا ، فلو استصحب نجاسة الإناءين لزمت منه المخالفة الالتزاميّة دون المخالفة العمليّة والتّرخيص في المعصية ، كما هو واضح ، والحكم فيها عدم جريان كلا الاستصحابين وهو مذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) خلافا للمحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) حيث قال : بجريان الاستصحابين ، لوجود المقتضي إثباتا ، وفقد المانع عقلا.

ولا يخفى : أنّ ما ذهب إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره يرجع إلى المانع الإثباتيّ من جريان الاستصحاب ، بمعنى : قصور المقتضي وعدم قابليّة روايات الاستصحاب للاستدلال بها على جريانه في طرفي العلم الإجماليّ ، بدعوى لزوم المناقضة وحدوث الاجمال ، لو عمّ دليل الاستصحاب لمثل المقام ، بتقريب : أنّ إطلاق كلمة : «الشّكّ» في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» شامل للشّكّ المقرون بالعلم الإجماليّ ـ أيضا ـ ومقتضى ذلك جريان الاستصحاب في طرفيه ، كما أنّ إطلاق كلمة : «يقين» في قوله عليه‌السلام : «ولكن لا تنقضه بيقين آخر» شامل للعلم واليقين الإجماليّ ـ أيضا ـ ومقتضى ذلك عدم جريان الاستصحاب في أحد طرفيه ، وهذان الإطلاقان متناقضان ، إذ مفاد الإطلاق الأوّل إيجاب كلّيّ ، ومفاد الإطلاق الثّاني إيجاب جزئيّ ، ولا قرينة معيّنة لأخذ أحدهما ، فيصير دليل الاستصحاب مجملا ساقطا عن الاعتبار ، غير قابل للاستدلال.

وفيه : أوّلا : أنّ المراد من «اليقين» في الذّيل وهو قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤٠٦ و ٤٠٧.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥٦.

٢٩٩

بيقين آخر» هو خصوص اليقين التّفصيليّ بقرينة ما ورود في الصّدر وهو قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» من اليقين التّفصيليّ ، فالإطلاق ممنوع.

وثانيا : لو سلّم الإطلاق ، لكن هذا الذّيل إنّما يرد في بعض روايات الاستصحاب لا في جميعها ، وعليه ، فإجمال هذا الذّيل لا يمنع عن الاستدلال بما ليس فيه هذا الذّيل.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره ذهب إلى عدم جريان الاستصحابين في المقام تبعا للشّيخ للأنصاري قدس‌سره إلّا أنّ كلامه قدس‌سره في منع ذلك راجع إلى المانع الثّبوتيّ ، بمعنى : أنّه لا يمكن التّعبّد بالاستصحاب في طرفي العلم الإجماليّ مع العلم الوجدانيّ بكون أحدهما خلاف الواقع. (١)

هذا ، ولكن الحقّ هو أنّه لا مانع من جريان الاستصحابين في المقام ، لا إثباتا ولا ثبوتا ؛ إذ المانع إنّما يتصوّر بالنّسبة إلى المخالفة العمليّة القطعيّة ، والمفروض أنّه لا تلزم المخالفة القطعيّة في مثل المقام.

هذا تمام الكلام في الاستصحاب.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٦٩١ إلى ٦٩٤.

٣٠٠