مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

المسألة التّاسعة :

التّعادل والتّرجيح

* عنوان المسألة

* موارد التّعارض

* التّعارض البدئيّ غير المستقرّ

* التّعارض المستقرّ غير البدئيّ

٣٠١
٣٠٢

(المسألة التّاسعة : التّعادل والتّرجيح)

قبل الورود في البحث عن هذه المسألة ينبغي تقديم امور :

الأوّل : أنّ مورد البحث في المسألة هو تعارض الخبرين وإن كان العنوان يعمّ غيره.

الثّاني : أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاصوليّة وليست من المسائل الفقهيّة ولا من المبادي ، أمّا وجه الأهميّة ، فلجريانها في كثير من أبواب الفقه ، وأمّا وجه عدم كونها من المسائل الفقهيّة ، فلرجوع البحث عنها إلى البحث عن عوارض موضوع الاصول ، فإنّ موضوعها إن كان ذوات الأدلّة الأربعة من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل ، فالتّعادل ـ بمعنى : تساوي الدّليلين ـ والتّرجيح إنّما هما وصفان عارضان لها ، فالبحث عنهما بحث عن عوارض الأدلّة.

وإن كان هو الأدلّة بما هي أدلّة وحجج ، فالبحث عنهما كان بعد الفراغ عن حجّيّة الأدلّة المتعارضة ، وإلّا لم يصل الدّور إلى التّعارض ؛ إذ ما لا يكون حجّة في نفسه لا يصلح للمعارضة مع غيره.

وإن كان مطلق الحجّة في حوزة الاجتهاد والفقاهة ، فالبحث عنهما كان بحثا عن عوارض الحجّة وأنّ الحجّتين إذا تعارضتا كيف يصنع بهما؟

(عنوان المسألة)

الثّالث : أنّ المسألة قد يعبّر عنها بعنوان «التّعادل والتّرجيح» بصيغة

٣٠٣

المفرد في كلتا الكلمتين ، ولعلّه لأجل أنّ التّعادل ممّا لا تعدّد ولا تنوّع فيه ، بل ليس له إلّا قسم واحد ، وأمّا التّرجيح فيراد منه جنس التّرجيح ؛ وقد يعبّر عنها بعنوان «التّعادل والتّراجيح» بصيغة الجمع في كلمة : «التّرجيح» ولعلّه باعتبار أنّ التّرجيح له أقسام متعدّدة ، بعضها يتأتّى من ناحية السّند ، وبعضها من ناحية الدّلالة ، وبعضها من ناحية المرجّحات الأخر الخارجيّة. وكيف كان ، والأمر سهل.

(تعريف التّعارض والتّزاحم)

الأمر الرّابع : أنّه لا بأس بالإشارة هنا إلى تعريف كلّ واحد من عنواني «التّعارض والتّزاحم» كي يتّضح الفرق بينهما ، فنقول : أمّا التّعارض ، فقد عرّفه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بقوله : «وهو لغة من العرض ، بمعنى : الإظهار ، وغلب في الاصطلاح : على تنافي الدّليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ؛ ولذا ذكروا : أنّ التّعارض تنافي مدلولي الدّليلين على وجه التّناقض أو التّضاد». (١)

ولا يخفى : أنّ مراده قدس‌سره هو أنّ التّعارض تنافي الدّليلين وتمانعهما بما هما دليلان ، بمعنى : حسب الدّلالة ومقام الإثبات ، فيدلّ أحدهما على شيء ، والآخر على نقيضه أو ضدّه ، غاية الأمر ، التّنافي الدّلالي ، والتّمانع الإثباتيّ إنّما يجيء من ناحية التّنافي المدلولي ، والتّمانع الثّبوتيّ ، بحيث لو لا ذلك ، لم يكن الأمر في افق الدّلالة كذلك ؛ ومن هنا قال قدس‌سره : «ولذا ذكروا : أنّ التّعارض تنافي مدلولي الدّليلين» ومعنى ذلك ، أنّهم ذكروا هذا التّعريف تسامحا وملاحظة لمقام الثّبوت ، وإلّا كان التّعارض

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ١١.

٣٠٤

الاصطلاحيّ هو تنافي نفس الدّليلين.

هذا ، ولكن عدل المحقّق الخراساني قدس‌سره عن هذا التّعريف إلى تعريف آخر ، حيث قال : «التّعارض هو تنافي الدّليلين أو الأدلّة بحسب الدّلالة ومقام الإثبات على وجه التّناقض أو التّضاد حقيقتا أو عرضا ، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا». (١)

والوجه في عدوله قدس‌سره هو إخراج موارد الجمع العرفيّ من الحكومة والتّخصيص ، والورود والتّخصّص ونحوهما عن باب التّعارض ؛ إذ تعريف الشّيخ الأنصاري قدس‌سره يشمل تلك الموارد نظرا إلى أنّ التّنافي بين مدلولي الدّليلين في تلك الموارد ـ أيضا ـ ثابت ؛ ولذا أورد قدس‌سره على تعريف الشّيخ قدس‌سره بعد التّعريف المذكور ، بقوله : «فلا تعارض بينهما بمجرّد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتّعارض والخصومة».

والإنصاف ، أنّه لا وجه لهذا العدول ؛ إذ بعد ما أوضحنا كلام الشّيخ قدس‌سره يتّضح لك : أنّ مقصوده قدس‌سره من التّعريف بتنافي الدّليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما هو غير التّعريف بتنافي المدلولين ، بل مقصوده قدس‌سره ـ أيضا ـ هو ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره والاختلاف إنّما هو في كيفيّة التّعبير ، فلا فرق بين التّعريفين عند أرباب الدّقة والمعرفة.

ثمّ إنّه لا يخفى : أنّ التّنافي على وجه التّضاد وإن كان مغايرا للتّنافي على وجه التّناقض ظاهرا ، لكنّه يرجع إليه بأدنى تأمّل ، فدليل وجوب شيء بالمطابقة دليل على

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٧٦.

٣٠٥

عدم حرمته بالالتزام ، وكذا دليل حرمته بالمطابقة دليل على عدم وجوبه بالالتزام ، فيجتمع فيه الوجوب واللّاوجوب والحرمة واللّاحرمة ، وهذا هو التّناقض.

وكيف كان ، التّنافي بين الدّليلين ، إمّا يكون بالذّات والأصالة ، كما في التّنافي على وجه التّضاد أو التّناقض ؛ وإمّا يكون بالعرض والتّبع ، كما في التّنافي بين دليلي القصر والإتمام ، ودليلي وجوب صلاة الظّهر والجمعة ونحوهما من الأدلّة الّتي نعلم إجمالا بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما ـ لو خلّيا ونفسهما ـ فلا منافاة بين وجوب صلاة الظّهر والجمعة ، إلّا أنّ العلم الإجماليّ بعدم الوجوب في ظهر الجمعة إلّا لصلاة واحدة صار موجبا لتنافي الدّليلين ، وكذا الأمر في القصر والإتمام. هذا في تعريف التّعارض.

وأمّا التّزاحم ، فهو على قسمين : الأوّل : ما يقع في الأحكام وهو المقصود من البحث هنا ، فيقال في تعريفه : إنّه لا تنافي بين الحكمين عند التّزاحم في افق الجعل ، ولا بين الدّليلين في افق الدّلالة ، لا بالذّات ولا بالعرض ولا كلّا ـ كما في المتباينين ـ ولا في الجملة ، كما في العامّ والخاصّ من وجه ، بل التّنافي إنّما يكون في موقف الإطاعة والامتثال ؛ وذلك ، لأجل عجز العبد وعدم قدرته على الجمع بين التّكليفين عند الإتيان ، بحيث لو قدر على الجمع لم يكن هناك تزاحم أصلا ، ومن هنا يختلف التّزاحم بين المكلّفين ، ففي مورد يصدق التّزاحم بالنّسبة إلى مكلّف لعجزه ، وفي مورد آخر لا يصدق بالنّسبة إلى مكلّف آخر لقدرته ، فلا يترك أحد الدّليلين في باب التّزاحم ، بل يبقى بحاله ولا يعمل به لعدم القدرة عليه ، بمعنى : وجود المانع لا عدم المقتضي ، بخلاف باب التّعارض ، فيترك أحد الدّليلين بالمرّة ورأسا ، فالفرق بينهما جوهري ، لا جامع

٣٠٦

بينهما ولا مجال لتأسيس الأصل في ظرف الشّكّ أصلا.

ولا يخفى : أنّه لا يتفاوت في هذا القسم من التّزاحم بين مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات فيها أو في متعلّقاتها ، وبين مسلك الأشاعرة النّافين للملاكات والمنكرين لها بالمرّة.

القسم الثّاني : ما يقع في الملاكات من المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلّقات أو في نفس الأحكام ، نظير ما إذا كان في فعل مصلحة ملزمة مقتضية لإيجابه ، أو مفسدة ملزمة مقتضية لتحريمه ، أو مصلحة اخرى مقتضية لإباحته ، حيث إنّ الإباحة قد تكون من ناحية اللّااقتضائيّة مطلقا ، بمعنى : أنّها تنشأ من عدم المصلحة والمفسدة ، لا الملزمة ولا غير الملزمة ، وقد تكون من ناحية الاقتضاء ، بمعنى : أنّها تنشأ من مصلحة مقتضية للتّرخيص والإباحة ، كما في قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة» (١) فمثل هذا ، ترخيص في التّرك وإباحة بالمعنى الأعمّ لأجل مراعاة مصلحة التّسهيل والإرفاق.

وعلى أيّ تقدير ، هذا القسم من التّزاحم أجنبيّ عن حوزة فعل العبد ، بل أمره بيد الرّب وهو الّذي يلاحظ الملاكات ويقف بها ويعلمها كما هي بعلمه النّافذ المحيط ، فيجعل في الفرض ، الحكم على وفق ما هو الأقوى من الملاكات ، وإلّا فيحكم بالتّخيير ولا شأن للعبد هنا إلّا الامتثال والإطاعة.

ولا يخفى : أنّه يتفاوت في هذا القسم بين مذهب العدليّة والأشاعرة ؛ ضرورة ، أنّه مبتن على خصوص مذهب العدليّة القائلين بالملاكات الكامنة في المتعلّقات وهو

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣ من أبواب السّواك ، الحديث ٤ ، ص ٣٥٤.

٣٠٧

المشهور ، أو في نفس الأحكام الإلهيّة ، كما عليه شرذمة قليلة من العدليّة.

والّذي يسهّل الخطب ، هو أنّ البحث عن التّزاحم ـ لخلوّه عن الثّمرة في حوزة العبوديّة ـ غير مرتبط بالمقام.

فتحصّل : أنّ باب التّعارض يفارق عن باب التّزاحم ، بأنّه ليس في التّزاحم أىّ تناف بين المتزاحمين ـ من الحكمين أو الدّليلين ـ لا بحسب الجعل ولا بحسب الدّلالة والمدلول ، إلّا أنّ المكلّف لا يقدر على امتثال كليهما ، بل لا بدّ له من اختيار أحدهما تعيينا أو تخييرا ، وهذا يوجب سقوط امتثال الآخر لعدم تمكّنه ، فينتفي بانتفاء موضوعه وهو التّمكن والقدرة ، لا أنّه يوجب شيئا من التّصرّف في الآخر ورفع اليد عنه رأسا وبالمرّة ، بل هو باق بحاله من حيث الدّلالة والمدلول.

وأمّا التّعارض ، ففيه التّنافي على وجه الكلّيّة ، كما في المتباينين ، أو في الجملة ، كما في العامّ والخاصّ من وجه ، حيث يتنافيان في خصوص مادّة الاجتماع دون مادّتي الافتراق ، فلا بدّ من الأخذ بأحد الدّليلين ترجيحا أو تعيينا ، وهذا موجب لترك الآخر ورفع اليد عنه رأسا ؛ فالفرق بين التّعارض والتّزاحم جوهريّ.

ثمّ إنّ هنا قسما آخر من التّزاحم ، قال به المحقّق النّائيني قدس‌سره وقد سمّاه بالتّزاحم من جهة الدّليل الخارجيّ على عدم وجوب الجميع ، فالتّزاحم عنده قدس‌سره كالتّعارض ، تارة يكون بالذّات ، كما في مورد عدم قدرة المكلّف على الجمع بين التّكليفين عند الامتثال على ما عرفت ، واخرى يكون بالعرض ، كما في مورد ورود الدّليل الخارجيّ على عدم وجوب الجميع ، وقد مثّل قدس‌سره لهذا القسم بما إذا كان المكلّف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستّة أشهر ، ثمّ ملك بعيرا آخر ، فمقتضى أدلّة الزّكاة هو وجوب

٣٠٨

خمس شياة عند انقضاء حول الخمس والعشرين ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول السّت والعشرين ، وهذان لا يتزاحمان بنفسهما ، إلّا أنّ الدّليل قام على أنّ المال لا يزكّى في عام واحد مرّتين فيتزاحم الحكمان لأجل هذا الدّليل ، لا من ناحية عدم القدرة ، فلا بدّ من سقوط ستّة أشهر ، إمّا من حول الخمس والعشرين ، وإمّا من حول السّت والعشرين ، وإلّا لزم التّزكية في ظرف ستّة أشهر مرّتين وهي السّتة الوسطى من ثمانية عشر شهرا ، حيث إنّها منتهى نصاب الخمس والعشرين ومبدأ نصاب السّت والعشرين ، وهذا هو التّزاحم المفروض وليس من باب التّعارض لعدم التّنافي من حيث المدلول بين الدّليلين. (١)

وفيه : أنّ المثال ليس من باب التّزاحم ، بل يكون من قبيل التّنافي والتّعارض بالعرض ، كما في مسألة الظّهر والجمعة ، حيث إنّه لا تنافي بين ما يدلّ على وجوب الظّهر وما يدلّ على وجوب الجمعة من ناحية عجز العبد عند الامتثال ، لأنّه قادر على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، بل التّنافي بينهما إنّما هو من ناحية الدّليل الخارجيّ وهو الإجماع والضّرورة القائمان على عدم وجوب أزيد من خمس صلوات في يوم واحد ، وعليه ، فالمثال مندرج في باب التّعارض لا التّزاحم ، بل التّزاحم منحصر في ما إذا كان من ناحية عجز المكلّف وعدم قدرته على الجمع عند الامتثال ، كما عرفت. هذا تمام الكلام في الأمر الرّابع.

الأمر الخامس : قد ذكر لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر موارد :

منها : ما يكون لأحد المتزاحمين بدل دون الآخر ، فيقدّم ما ليس له البدل على

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٠٧.

٣٠٩

ما له البدل بلا فرق بين كون البدل عرضيّا ، نظير خصال الكفّارة في شهر رمضان فإنّه له أبدالا عرضيّة من صيام شهرين وإطعام ستّين مسكينا وعتق رقبة ، فإذا وجب على مكلّف إحدى الكفّارات وكان عليه دين فزاحمه الإطعام ، وجب عليه تقديم الدّين واختيار الصّيام بدل الإطعام ؛ وبين كونه طوليّا ، نظير الواجب الموسّع ، كالصّلاة أوّل الوقت ، فإنّ لها أبدالا طوليّة وهي الصّلاة في ثاني الوقت وثالثه ورابعه و ... فإذا وجب على مكلّف إزالة النّجاسة عن المسجد فزاحمها الصّلاة أوّل الوقت وجب عليه تقديم الإزالة واختيار الصّلاة في وقت آخر.

هذا ولكنّ الحقّ خروج هذين المثالين عن باب التّزاحم ؛ بداهة ، أنّه لا تزاحم في المثال الأوّل ، بين وجوب أداء الدّين وطبيعيّ الكفّارة ، بل التّزاحم بينه وبين فرد منها وهو الإطعام ، فله أن يتركه ويصوم أو يعتق لو أمكن ، وكذا لا تزاحم في المثال الثّاني ، بين وجوب الإزالة وطبيعيّ الصّلاة ، بل التّزاحم بينها وبين فرد خاصّ منها وهو الصّلاة في وقتها الفضيلة ، فله أن يتركه ويأتي بفرد آخر منها ، فتأمّل.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ في المثالين يقع التّنافي بين الواجبين في مقام الامتثال ولو بالنّسبة إلى فرد من خصال الكفّارة أو بالنّسبة إلى وقت الفضيلة.

نعم ، لو تعيّن الإطعام بتعذّر عدليه الآخرين ، زاحم أداء الدّين ، فيدخل المثال حينئذ في باب التّزاحم إلّا أنّه خارج عن الفرض لكون الواجبين حينئذ تعيينيين ، وكذا لو ضاق وقت الصّلاة ، زاحم الإزالة فيدخل المثال حينئذ في باب التّزاحم لكنّه ـ أيضا ـ خارج عن الفرض ، لكون الواجبين حينئذ مضيّقين.

ومنها : ما يكون أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر ، فيقدّم الأهمّ بحكم العقل على

٣١٠

غير الأهمّ ، وذلك نظير دوران الأمر بين إنقاذ المولى وبين ما له ، فلا ريب في تقديم إنقاذ المولى عند العقل والعقلاء ، ووجه ذلك واضح.

ومنها : ما يكون أحد المتزاحمين سابقا حسب زمن الامتثال ، فيقدّم ما هو السّابق زمانا على غيره ، وذلك نظير ما إذا وجب على مكلّف صوم يومين بنذر أو غيره ، لكن لا يقدر في وعاء الامتثال إلّا على صيام يوم واحد ، فيقدّم صوم يوم الأوّل ، وكذا نظير ما إذا وجب على مكلّف صلاتان ، لكن لا يقدر على القيام إلّا في ركعة أو ركعتين في إحدى الصّلاتين ، فتقدّم الصّلاة الاولى والرّكعة الاولى ، أو الرّكعتين الاوليين منها ، ووجه ذلك هو أنّ الإتيان بما هو السّابق وصرف القدرة فيه يوجب العجز وسلب القدرة عن اللّاحق ، فيصير التّكليف به منتفيا وساقطا عن الفعليّة بانتفاء القدرة على ما هو المشهور ، أو يصير المكلّف معذورا في ترك الثّاني لأجل العجز وعدم القدرة من دون أن يسقط التّكليف عن الفعليّة ، كما هو المختار ، وهذا بخلاف ما إذا أتى باللّاحق زمانا ، فمن صام يوم الخميس ـ مثلا ـ كان معذورا في ترك صوم يوم الجمعة ، بخلاف من صام يوم الجمعة فلا يكون معذورا في ترك صوم يوم الخميس.

نعم ، لو كان المتأخّر زمانا أهمّ ، يجب عقلا حفظ القدرة لإتيانه ، بترك المهمّ المتقدّم ، إلّا أنّ هذا الفرض خارج عن مورد الكلام.

ومنها : ما يكون أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة في لسان الدّليل ـ بمعنى : ما لا يتوقّف وجود الملاك فيه على القدرة الشّرعيّة ، بل له ملاك مطلقا حتّى مع العجز ، لكن لا خطاب به معه ـ والآخر هو المشروط بالقدرة في لسانه ـ بمعنى : ما يتوقّف وجود الملاك فيه بالقدرة الشّرعيّة ، فلا ملاك فيه مع العجز ، كما لا خطاب به

٣١١

معه ـ فيقدّم غير المشروط على المشروط ، وهذا نظير دوران الأمر بين حفظ النّفس المحترمة من الهلاك ، وبين الوضوء ، فالملاك في حفظ النّفس غير متوقّف على القدرة شرعا ، بل فيه الملاك حتّى عند العجز ، إلّا أنّ العاجز معذور عقلا في تركه ، وهذا بخلاف الملاك في الوضوء ، فإنّه ـ كالخطاب فيه ـ مشروط بالقدرة ، وذلك بقرينة المقابلة بين الأمر به والأمر بالتّيمّم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١) فإنّ التّكليف بالتّيمّم مشروط بعدم القدرة على الوضوء وهو المراد من عدم وجدان الماء ، والتّكليف بالوضوء مشروط بالقدرة عليه ووجدان الماء ، بقرينة المقابلة وقاطعيّة التّقسيم للشّركة.

وعليه : فيرجّح ويقدّم حفظ النّفس على الوضوء ، فيصرف الماء لحفظها ، فتنتقل الوظيفة حينئذ من الطّهارة المائيّة إلى الطّهارة التّرابيّة ، ووجه ذلك ، أنّه لو قدّم حفظ النّفس تستوفى مصلحته بامتثال أمره وصرف القدرة فيه ، فلا قدرة على الوضوء ، فلا ملاك فيه ، بخلاف ما لو قدّم الوضوء فإنّه لزم تفويت مصلحة حفظ النّفس لعدم اشتراط وجودها بالقدرة.

الأمر السّادس : قد عرفت في تعريف التّعارض أنّ معناه : تنافي الدّليلين بالذّات أو بالعرض بحسب الدّلالة ومقام الإثبات على وجه التّناقض أو التّضاد ، وعليه ، فمثل موارد التّخصّص والورود والتّخصيص والحكومة خارجة عن باب التّعارض ؛ لعدم التّنافي فيها بين الأدلّة.

__________________

(١) سورة المائدة (٥) ، الآية ٦.

٣١٢

(تعريف التّخصّص)

أمّا التّخصّص ، فوجه خروجه هو أنّه ـ كما عرفت سابقا ـ عبارة عن خروج موضوع أحد الدّليلين عن الآخر وجدانا وحقيقتا بلا عناية من التّعبّد ، كخروج الماء في مثل «الماء حلال» عن موضوع مثل «الخمر حرام» أو كخروجه في مثل «الماء طاهر» عن موضوع مثل «البول نجس» فلا معنى حينئذ لتحقّق التّعارض بين الدّليلين ، بلا فرق بين أن يكون الدّليلان بصورة دليل واحد ، نظير قولنا : «أكرم العلماء إلّا الجهّال» حيث إنّ عقد المستثنى (إلّا الجهّال) معناه : «لا تكرم الجهّال» فيكون دليلا مستقلّا في قبال عقد المستثنى منه (أكرم العلماء) أو بصورة الدّليلين ، نظير قولنا :

«أكرم العلماء ولا تكرم الجهّال».

(تعريف الورود)

وأمّا الورود ، فوجه خروجه هو أنّه ـ أيضا على ما عرفت سابقا ـ عبارة عن خروج موضوع أحد الدّليلين عن الآخر وجدانا وحقيقتا ، إلّا أنّه بعناية من التّعبّد ، نظير ما إذا قام دليل شرعيّ في موارد الاصول العقليّة ، كالبراءة العقليّة والاشتغال والتّخيير العقليّين ، فالدّليل الشّرعيّ وارد على تلك الاصول ، فإنّ موضوع حكم العقل بالاشتغال ، ليس إلّا احتمال الضّرر ، ومع قيام الحجّة الشّرعيّة لا مجال لاحتمال الضّرر والعقوبة ، وموضوع حكم العقل بالتّخيير هو التّحيّر في موقف العمل ، كما في دوران الأمر بين المحذورين ، ومع قيام الحجّة لا يبقى المجال للحيرة ، و

٣١٣

موضوع حكم العقل بالبراءة ، عدم البيان والحجّة ، ومع قيام البيان والحجّة ينتفي ذلك.

وكذا الحال بالنّسبة إلى الاصول الشّرعيّة كالبراءة النّقليّة وأصالة الحلّيّة والطّهارة ، والاستصحاب ونحوها ، حيث إنّ موضوع البراءة النّقليّة وأصل الحلّ والطّهارة ، عدم العلم بالواقع أو بطريقه ، ومع قيام الأمارة ينتفى ذلك ، إذ الأمارة علم بطريق الواقع ، بل هي علم عادي وحجّة شرعيّة ، مفيدة للاطمينان ، فيرتفع بها موضوع هذه الاصول الشّرعيّة وينقلب عدم العلم بالعلم.

وكذلك حال الاستصحاب ، حيث إنّ المراد من اليقين المأخوذ فيه هو الحجّة ـ على ما عرفت ـ لا اليقين الوجدانيّ الفلسفيّ ، والأمارة حجّة بلا شبهة ، فينتفي موضوعه بقيامها.

(تعريف التّخصيص)

وأمّا التّخصيص ، فوجه خروجه هو أنّ الخاصّ سواء كان متّصلا أم منفصلا بمنزلة القرينة للعامّ فلا يعقل التّعارض بين القرينة وذيها ، توضيح ذلك : أنّ حجيّة كلّ دليل من عامّ أو غيره تتوقّف على ثلاثة إحرازات :

أحدها : إحراز الصّدور ؛ ثانيها : إحراز أنّ ظاهر اللّفظ مراد للمتكلّم لا خلافه ، بمعنى : أنّه استعمل اللّفظ في معناه : لا في خلافه ؛ ثالثها : إحراز كون الإرادة جدّيّة ، بمعنى : أنّ المتكلّم يكون في مقام بيان الحكم الواقعيّ جدّا لا في مقام التّورية أو الامتحان أو التّقيّة.

أمّا إحراز الصّدور والعلم به ، فتتكفّل له مسألة حجيّة الخبر ، وقد مضى

٣١٤

البحث عنها في مبحث حجيّة الظّنّ مستوفى.

وأمّا إحراز إرادة الظّاهر وأنّه مراد للمتكلّم مع عدم قرينة على خلافه ، مقاليّة أو حاليّة ، جليّة أو خفيّة ، فهو أمر واضح عقلائيّ ، ومن هنا لا يقبل منه الاعتذار لو قال : لم ارد ظاهر المقال ، إلّا إذا كانت معه قرينة مؤيّدة للاعتذار.

وأمّا إحراز كون الإرادة جدّيّة ، فهو ـ أيضا ـ أمر عقلائيّ ، فلو تكلّم أحد بكلام له ظهور ثمّ اعتذر وقال : لم ارده جدّا ، بل أردته امتحانا أو تقيّة ، لم يقبل اعتذاره ، إلّا إذا كانت في البين قرينة.

وبعبارة اخرى : أنّ الظّهورات حجج عقلائيّة من ناحيتين : إحداهما : من ناحية الإرادة الاستعماليّة المعبّر عنها بأصالة الحقيقة ؛ ثانيتهما : من ناحية الإرادة الجدّية المعبّر عنها بأصالة الجدّ أو الجهة ، وهذا كلّه ثابت ببناء العقلاء والسّيرة.

ثمّ إنّ من المعلوم ، أنّ هذا البناء إنّما يكون في مقام الشّكّ في مراد المتكلّم وأنّ الظّاهر ، هل هو مراده استعمالا أو جدّا ، أم لا؟ وأمّا مع العلم بعدم إرادة الظّاهر أصلا أو بعدم إرادته جدّا ، فلا بناء من العقلاء على العمل بالظّواهر قطعا ، فظهور العامّ في العموم حجّة من ناحيتين مذكورتين ما لم تكن قرينة في البين ، وإلّا فلا مجال للأخذ بظهوره من تلك النّاحية ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون القرينة متّصلة أو منفصلة.

غاية الأمر : إنّ القرينة المتّصلة مانعة عن انعقاد الظّهور من أوّل الأمر ، بحيث لا ينعقد معها للعامّ ظهور في العموم ، فلا يكون مرادا استعماليّا ، وهذا بخلاف القرينة المنفصلة ، فتكون مانعة عن حجّيّة الظّهور في موردها ، وكاشفة عن عدم كون العموم مرادا جدّيّا ، وكثيرا ما كان شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره يعبّر عن القرينة المتّصلة

٣١٥

ب «هادمة الظّهور» وعن القرينة المنفصلة ب «هادمة الحجّيّة».

وعليه : فالخاصّ المتّصل يمنع عن انعقاد العموم للعامّ بحيث يكون إطلاق المخصّص عليه وإطلاق التّخصيص على عمله ، تسامحا وتجوّزا ، لا حقيقتا وواقعا ؛ إذ لا تعميم عند الاتّصال ولا توسعة حتّى يرد عليه التّخصيص أو التّضييق ، بل يكون من باب «ضيّق فم الرّكيّة» ، وأمّا الخاصّ المنفصل ، فيمنع عن حجّيّة العموم في خصوص مورده ويكون كاشفا عن عدم تعلّق الإرادة الجدّيّة به ؛ وإن شئت ، فعبّر : بعدم تطابق الإرادتين وهما : الجدّيّة والاستعماليّة.

وكيف كان ، فالخاصّ مطلقا ، متّصلا كان أو منفصلا ، قرينة للعامّ ، وواضح أنّه لا مجال لوقوع التّعارض بين القرينة وذيها ، بل يجمع بينهما عرفا بلا معونة ، فيكون موردهما من موارد الجمع العرفيّ ، لا التّعارض.

نعم ، قد يعدّ العامّ والخاصّ المنفصل ، عند عرف العامّ في المحاورات والمعاملات من قبيل المتعارضين ؛ وذلك لمناقضة الإيجاب الجزئيّ للسّلب الكلّي ، والسّلب الجزئيّ للإيجاب الكلّيّ ، ولعلّه لذلك كان القدماء من المفسّرين يعدّون الخاصّ القرآني ناسخا لعامّه ، لا مخصّصا له.

ويستشهد على ذلك بمكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميريّ إلى صاحب الزّمان «أرواحنا فداه» : «أدام الله عزّك ، يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التّشهد الأوّل إلى الرّكعة الثّالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر ، فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التّكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد ؛ الجواب : إنّ فيه حديثين ، أمّا أحدهما : فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى ، فعليه التّكبير ، وأمّا

٣١٦

الآخر : فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانية ، فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التّشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التّسليم كان صوابا». (١) بتقريب ، أنّه عليه‌السلام حكم بالتّخيير مع أنّ النّسبة بين الحديثين عموم وخصوص مطلق ، حيث إنّ الحديث الأوّل عامّ يشمل جميع الموارد والحالات ، بخلاف الثّاني فإنّه خاصّ يشمل خصوص موردي القيام بعد رفع الرّأس من السّجدة الثّانية في الرّكعة الاولى والقيام بعد التّشهد الأوّل في الرّكعة الثّانية.

وهذا بخلاف عرف المقنّنين والمشرّعين الّذين عادتهم على بيان الأحكام والقوانين ، فلا يرى بين العامّ والخاصّ عندهم أيّ تعارض أصلا ، ففي التّقنين العادي تأتي المخصّصات أو المقيّدات بعد العمومات أو الإطلاقات بزمان قصير أو طويل لجهات ومصالح ، عمدتها عدم الوقوف والإحاطة بجميع الجوانب وأبعاد المسألة.

وكذلك في التّقنين الإلهي والتّشريع السّماوي ، فإنّ المشيّة الإلهيّة قد يتعلّق ببيان الأحكام تدريجا ، لا دفعة واحدة ، ولذا ترد المخصّصات والمقيّدات منفصلة بزمان قصير أو طويل ، فيقدّم الخاصّ أو المقيّد على العامّ أو المطلق في مقام التّقنين بلا شبهة.

وما عن القدماء من المفسّرين من الحمل على النّسخ ، فهو ناش من الغفلة عن تلك النّكتة.

وأمّا المكاتبة ، فموردها هي التّكبيرات المندوبة الّتي يجوز الفعل والتّرك فيها ،

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١٣ من أبواب السّجود ، الحديث ٨ ، ص ٩٦٧.

٣١٧

ولذا أمر عليه‌السلام بالتّخيير بين الإتيان وعدمه ، فهذا تخيير في المسألة الفقهيّة ، لا في المسألة الاصوليّة وعند تعارض الأدلّة ، وسيأتي توضيح ذلك في الآتي عند البحث عن روايات التّخيير الّتي منها هذه المكاتبة. «إن شاء الله الرّحمن». هذا كلّه في التّخصيص.

(تعريف الحكومة)

وأمّا الحكومة ، فوجه خروجه ما ذكره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) في ضابط الحكومة من أن يكون أحد الدّليلين بمدلوله اللّفظيّ متعرّضا لحال الدّليل الآخر وشارحا له من حيث السّعة والضّيق ـ كما فصّلناه سابقا ـ فإنّ مقتضى ذلك أنّه لا مجال لدعوى حكومة الأمارات على الاصول ؛ إذ لا نظر لدليل الأمارة إلى دليل الاصول ولا يكون شارحا له ـ بناء على كونه لفظيّا كالآيات والرّوايات الخاصّة ـ بل لا لسان لدليل الأمارة ـ بناء على كونه لبيّا كبناء العقلاء والسّيرة ، على ما هو الحقّ ـ وكذلك لا نظر لنفس الأمارة إلى الاصول.

(موارد التّعارض)

إذا عرفت ما قدّمناه من الامور السّتة ، فلنشرع البحث عن مسألة التّعادل والتّرجيح ونقول : إنّ التّعارض إذا كان بدئيّا غير مستقرّ ، كان موردا للجمع العرفيّ الدّلالي ، بمعنى : أنّ الخبرين أو الدّليلين قد يكونان متعارضين بدءا ، لكنّهما متوافقان لا تعارض بينهما بعد أدنى تأمّل ، بل ولا بحسب النّظر السّاذج العرفيّ الغافل عن

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٣.

٣١٨

البحوث الفنيّة والحوزويّة ؛ وأمّا إذا كان التّعارض مستقرّا غير بدئيّ ، كان الخبران أو الدّليلان حينئذ متعارضين جدّا ، فالكلام يقع في مقامين : الأوّل في التّعارض البدئيّ غير المستقرّ ؛ الثّاني : في التّعارض المستقرّ غير البدئيّ.

(التّعارض البدئيّ غير المستقرّ)

أمّا المقام الأوّل فالكلام فيه يقع في موقفين :

أحدهما : في ما إذا كان التّعارض بين الدّليلين.

ثانيهما : في ما إذا كان التّعارض بين اكثر منهما.

أمّا الموقف الأوّل ، فيبحث فيه عن جهات :

الجهة الاولى : قد ادّعى ابن أبي جمهور الأحسائي : إنّ العمل بالدّليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله ، واستدلّ عليه بالإجماع. (١)

وفيه : أنّ مراده قدس‌سره إن كان هو الجمع والتّوفيق العرفيّ بين الدّليلين عند تعارضهما ، كما هو الظّاهر بقرينة دعوى الإجماع والاتّفاق ، فهو ، وإلّا فتلك الضّابطة بهذه السّعة (مهما أمكن) لا دليل عليها البتّة.

وقد استدلّ الشّهيد الثّاني قدس‌سره على تلك الضّابطة ، بأنّ الأصل في الدّليلين هو الإعمال ، فيجب الجمع بينهما حتّى الإمكان ، بتقريب ، أنّه لو لا الجمع مهما أمكن ، للزم إمّا طرحهما معا ، أو طرح أحدهما ، وكلاهما باطل ؛ إذ الأوّل خلاف الأصل ؛ والثّاني خلاف العقل ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح. (٢)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٩ نقلا من عوالي اللّئالي : ج ٤ ، ص ١٣٦.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٤ ، ص ٢٠ نقلا من الشّهيد الثّاني قدس‌سره في تمهيد القواعد : ص ٢٨٣.

٣١٩

وفيه : أوّلا : أنّه لو اريد من الإمكان هو الإمكان العرفيّ ، فليس ذلك إلّا هو الجمع العرفيّ الّذي لا كلام فيه ، ولو اريد منه هو الإمكان العقليّ ، فبطلان اللّازم (طرحهما معا أو طرح أحدهما) ممنوع جدّا ؛ إذ الدّليلان بعد عدم إمكان الجمع العرفيّ يصيران متعارضين ، والأصل فيهما هو التّساقط بحكم العقل ، أو التّرجيح والتّخيير بحكم الشّرع (بمقتضى أخبار العلاج).

وثانيا : أنّه لو صحّت الضّابطة المذكورة بسعتها الشّاملة لإمكان العقليّ ، فلم يصل الدّور إلى الأخبار العلاجيّة ، لإمكان الجمع العقليّ بين الدّليلين المتعارضين في جميع الموارد حتّى فيما إذا فرض أنّهما متعارضان أشدّ المعارضة ، ألا ترى ، أنّه يمكن الجمع عقلا بحمل قوله عليه‌السلام : «ثمن العذرة سحت» على عذرة الإنسان أو على العذرة النّجسة ، أو على بيع العذرة بلا حاجة ، وحمل قوله عليه‌السلام : «لا بأس ببيع العذرة» على عذرة غير الإنسان أو على العذرة غير النّجسة ، أو على بيع العذرة مع الحاجة ، وغير ذلك من وجوه اخرى.

وعليه : فالأصل هو الجمع العرفيّ الدّلالي إلّا في موارد التّعارض والاختلاف المستقرّ غير البدئيّ ، فإنّه لا بدّ من التّساقط فيه بحكم العقل ، ومن التّرجيح ، أو التّخيير بحكم النّص كما سيأتي.

فتحصّل : أنّ ما ادّعاه ابن أبي جمهور الأحسائي من الضّابطة مورده هو الجمع العرفيّ ، نظير موردي العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد بحيث لا يرى العرف التّعارض في أمثال ذلك ، وأمّا في الخبرين المتعارضين أو المختلفين عرفا ، فالمرجع هو الأخبار العلاجيّة الدّالّة على التّخيير أو التّرجيح بالمزايا والامور المرجّحة ، كيف وأنّه لو قيل :

٣٢٠