مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

والثّاني ، باطلا.

والتّحقيق يقتضي أن يقال : إنّ مفاد كلّ واحد من قوله عليه‌السلام : «لا يدرك كلّه» وقوله عليه‌السلام : «لا يترك كلّه» هو سلب العموم ونفي الشّمول ، لا عموم السّلب وشمول النّفي ، فالمراد من الحديث أنّ ما لا يدرك كلّه ، بل يدرك بعضه ، لا يجوز أن يترك بأسره وكلّه ، بل لا بدّ أن يؤتى ببعضه المقدور الميسور ، فيترك خصوص بعضه الآخر المتعذّر أو المعسور ؛ ولعمري أنّ هذا هو المعنى المستفاد من الحديث عرفا ، فيكون دليلا واضحا على مورد البحث في المقام.

ولقد أجاد المحقّق العراقي قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «فإنّ الظّاهر منها [الرّواية] هو كون النّفي فيها متوجّها إلى العموم المستفاد منه سلب العموم ، لا عموم السّلب ...» (١).

فتحصّل : أنّ الحديث على ما قرّرناه ، يدلّ على أنّه إذا تعذّر الإتيان ببعض أجزاء المأمور به ، وجب الإتيان بالمقدار الميسور من أجزاءه ، فلا يسقط التّكليف رأسا بمجرّد تعذّر الإتيان ببعض أجزاء الواجب ، بل يبقى ويتعلّق بغير المتعذّر منها ، ولا فرق فيما قلنا : بين أن تكون جملة : «لا يدرك كلّه» ناهية وجملة إنشائيّة ، وبين أن تكون نافية وجملة خبريّة ، لكن اريد به الإنشاء والطّلب.

ثمّ إنّه استشكل المحقّق الخراساني قدس‌سره على الاستدلال بهذه الرّواية بأنّ ظهور النّهي في جملة : «لا يترك كلّه» في التّحريم ، يعارضه إطلاق الموصول في جملة : «ما لا يدرك كلّه» الشّامل للمستحبّات ـ أيضا ـ وحيث لا مرجّح في البين لا يدلّ

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٢ ، ص ٤٥٧.

١٠١

الحديث إلّا على رجحان الإتيان بالمقدار الميسور. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ النّهي أو النّفي يكون في طول الموصول وتابعا له ، فإن اريد من الموصول أمر واجب ، كان اللّازم أن لا يترك كلّه ويؤتى بما هو المقدور الميسور منه ، وإن اريد به أمر مستحبّ ، كان الرّاجح المستحبّ أن لا يترك كلّه ويؤتى بما هو المقدور الميسور منه ، فلا معارضة بين الصّدر والذّيل أصلا.

وبالجملة : إنّ قوله عليه‌السلام : «لا يترك» متفرّع على قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك» وتابع له ، فمعناه : أنّ الّذي لا يدرك كلّه لو كان واجبا يجب أن لا يترك كلّه ، بل لا بدّ أن يؤتى ببقيّته ، ولو كان مستحبّا يستحبّ أن لا يترك كلّه ويؤتى ببقيّته على نحو الرّجحان ، فلا مجال على هذا المعنى لتوهّم المعارضة.

وثانيا : أنّ مفهوم الأمر والنّهي ـ على ما قرّر في محلّه ـ ليس إلّا البعث والزّجر ، وأمّا الوجوب أو الاستحباب وكذا الحرمة أو الكراهة ، فخارجان عن مدلولهما مستفادان من الخارج ، فلا تدلّ جملة : «لا يترك كلّه» على حرمة التّرك ووجوب الإتيان بالبقيّة حتّى تعارض ما في جملة : «ما لا يدرك كلّه» من الموصول الظّاهر في العموم الشّامل للمستحبّات ، أيضا.

الرّواية الثّالثة : ما روى ابن أبي جمهور ـ أيضا ـ وقال : «روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه عليه‌السلام قال : لا يترك الميسور بالمعسور» (٢).

هذه الرّواية ـ أيضا ـ ضعيفة من جهة السّند ، لأجل إرسالها ، على ما عرفت

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٣.

(٢) عوالي اللّئالي : ج ٤ ، ص ٥٨.

١٠٢

في الرّواية المتقدّمة.

وأمّا الدّلالة ، فقد اورد عليها بوجوه :

منها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ هذه الرّواية ، نظير الرّواية المتقدّمة ، تعمّ المندوبات ـ أيضا ـ ومع هذا العموم لا ظهور لجملة : «لا يترك» أو «لا يسقط» في حرمة التّرك أو السّقوط ووجوب الإتيان بالباقي الميسور ، بل تدلّ على مطلق مرجوحيّة التّرك ، ومطلق محبوبيّة الفعل ، فلا تكون الرّواية دليلا على المطلوب وهو وجوب الإتيان بالباقي عند تعذّر الإتيان بالجميع. (١)

وفيه : أنّ تلك الجملة حكم مترتّب على الميسور تابع له ، فإن كان العمل واجبا ، كان عدم سقوط الميسور منه على وجه اللّزوم ؛ وإن كان مستحبّا ، كان عدم سقوطه على وجه المحبوبيّة والرّجحان.

وإن شئت ، فقل : إنّ عنوان الميسور يكون من العناوين المشيرة إلى الأعمال المأمور بها ، واجبة كانت ، أو مندوبة ، فعدم سقوط كلّ من الواجب والمندوب يكون بحسبه ، ومن هنا عدل المحقّق الخراساني قدس‌سره عن الإشكال ، وقال : «إلّا أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم ، وجوبا كان ، أو ندبا ، بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ، حيث إنّ الظّاهر من مثله هو ذلك ، كما أنّ الظّاهر من مثل «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما له من تكليف أو وضع ، لا أنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقاءه على عهدة المكلّف كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه ، أو لا يكون له دلالة على وجوب

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٢.

١٠٣

الميسور في الواجبات على آخر». (١)

ومنها : ما عنه قدس‌سره ـ أيضا ـ من أنّ الرّواية لا ظهور لها في عدم سقوط الميسور من الأجزاء ؛ وذلك ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من الأفراد. (٢)

وفيه : أوّلا : أنّ عنوان الميسور يعمّ «الكلّ» (ذات الأجزاء) و «الكلّي» (ذات الأفراد) فالميسور من أجزاء «الكلّ» الواجب أو المندوب ، لا يسقط بالمعسور المتعذّر من أجزاءه ، وكذا الميسور من أفراد الكلّي لا يسقط بالمعسور المتعذّر من أفراده.

وثانيا : أنّ الأجزاء امور منضمّة متّصلة ، فيكون توهّم سقوط التّكليف في الكلّ والمركّب الواحد ذي الأجزاء بتعذّر بعض منها ، أظهر وأقوى من توهّم سقوطه في «الكلّي» و «الطّبيعي» ذي الأفراد المتباينة المنفصلة بتعذّر بعض من تلك الأفراد.

وبعبارة اخرى : الميسور عنوان مشير إلى ما تيسّر من «كلّ» أو «كلّي» واجب أو مندوب ، فله مصاديق مختلفة ، ويكون عدم السّقوط في كلّ مورد بحسبه ، فما تيسّر من الكلّ الواجب ذي الأجزاء ، لا يسقط لزوما ، وما تيسّر منه المستحبّ لا يسقط ندبا ، وكذا الحال في «الكلّي» ذي الأفراد ، وقد اشير إلى أنّ احتمال سقوط الجلّ بتعذّر الكلّ أقوى وأظهر من احتمال سقوط بعض الأفراد لتعذّر البعض الآخر ، فهو أولى بأن يكون حديث الميسور ناظرا إليه وإلى دفع ذلك الاحتمال.

ومنها : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من أنّ السّقوط فرع الثّبوت ، فتختصّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٢ و ٢٥٣.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٢.

١٠٤

الرّواية بما إذا تعذّر بعض أفراد الطّبيعة لا بعض أجزاء الكلّ ، كما هو مورد الكلام في المقام ، بدعوى : أنّ غير المتعذّر من أفراد الطّبيعة كان وجوبه ثابتا قبل طروّ التّعذّر ، فيصدق أنّه لا يسقط بتعذّر غيره ، بخلاف غير المتعذّر من أجزاء الكلّ والمركّب ، فإنّه كان واجبا بوجوب ضمنيّ ، قد سقط بتعذّر الواجب الاستقلاليّ وهو المركّب. (١)

وفيه : أنّ «المركّب» و «الكلّ» ليس إلّا الأجزاء بالأسر ، فوجوب الأجزاء ليس وجوبا آخر ، وفي ضمن وجوب الكلّ ، بل تجب الأجزاء بنفس وجوب الكلّ ، والمفروض سقوط الوجوب بالنّسبة إلى الكلّ لأجل التّعذّر ، فيبقى بالنّسبة إلى الباقي بمقتضى الحديث.

فتحصّل : أنّه لا قصور في دلالة الرّوايتين الأخيرتين على وجوب الإتيان بالباقي إذا تعذّر الإتيان بالكلّ ، نعم ، لا بدّ وأن يصدق على الباقي عنوان الميسور عرفا ، وإلّا فلو تعذّر معظم الأجزاء من الكلّ ولم يبق إلّا قليل ، يسير منها بحيث لا يصدق على هذا أنّه ميسور ذاك ، لم تجر قاعدة الميسور أصلا ، ومن هنا لم يتمسّك الإمام الصّادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الأعلى مولى آل سام (٢) ، الدّالّة على كفاية المسح على المرارة عن المسح على البشرة ، بقاعدة الميسور ، بل تمسّك بآية «نفي الحرج» وليس وجه ذلك إلّا عدم صدق ميسور المسح على البشرة ، على المسح على المرارة.

ولقد أجاد المحقّق العراقي قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «وكيف كان ،

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٤ و ٤٨٥.

(٢) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، ص ٣٢٧.

١٠٥

فلا شبهة في أنّه يعتبر في هذه القاعدة أن يكون الميسور من الأجزاء المقدورة ممّا يعدّ كونه عرفا من سنخ المأمور به وبعضه وميسوره ؛ لأنّ ذلك هو الظّاهر المنساق من هذه الأخبار ، فلا إطلاق لها يشمل ما يعدّ بسبب قلّة الأجزاء المقدورة مبائنا مع الكلّ والمركّب». (١)

فالتّحقيق هو عدم تماميّة قاعدة الميسور ، نعم ، لا بدّ من الإتيان بغير المتعذّر من الأجزاء في بعض الموارد ، لا لقاعدة الميسور ، بل لأجل أدلّة مختصّة بتلك الموارد ، كالصّلاة الّتي لا تسقط ، ولا تترك بحال ، للإجماع والرّوايات الواردة في بابها.

التّنبيه الخامس : إذا علم إجمالا باعتبار أمر في المأمور به ، ولكنّه مردّد بين كونه جزءا ، أو شرطا له كي يجب فعله ، وبين كونه مانعا أو قاطعا عنه كي يجب تركه ، فهل الحكم هنا هو التّخيير أو الاحتياط بتكرار العمل ، أو لا هذا مطلقا ، ولا ذاك مطلقا ، بل لا بدّ من التّفصيل؟ وجوه :

والحقّ هو الوجه الأخير (التّفصيل) ، فإذا فرض وحدة الواقعة بلا تعدّد فيها أصلا ، يكون الحكم فيه هو التّخيير لا محالة ، نظير ما إذا ضاق وقت الصّلاة بحيث لا يتمكّن المكلّف إلّا من الإتيان بواحدة ، ودار الأمر بين الإتيان بها عاريا أو في ثوب متنجّس بنجاسة ؛ وذلك ، لأجل ما في هذا الفرض من تعذّر الاحتياط والموافقة القطعيّة ، وعدم جواز التّرك رأسا والمخالفة القطعيّة ، بل لا بدّ من الموافقة الاحتماليّة الّتي لا تحصل إلّا بالتّخيير.

وأمّا إذا فرض تعدّد الواقعة ، فهو على قسمين :

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٢ ، ص ٤٥٨.

١٠٦

الأوّل : أن يفرض ذلك مع عدم وجود أفراد طوليّة أو عرضيّة للواجب ، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الموافقة القطعيّة والاحتياط ، والحكم هنا هو التّخيير الابتدائيّ ، لا الاستمراريّ ، نظير ما إذا دار الأمر بين شرطيّة شيء للصّوم ، وبين مانعيّته عنه ، ومعنى كون التّخيير ابتدائيّا هو اختيار فعل ذلك المشكوك في جميع أيّام الصّوم ، أو اختيار تركه كذلك ، بخلاف التّخيير الاستمراريّ ، فإنّ معناه : هو الإتيان به في صوم يوم وتركه في صوم يوم آخر ، وهذا غير جائز ؛ إذ هو موجب للمخالفة القطعيّة التّدريجيّة الّتي مضى البحث عنها في مسألة دوران الأمر بين المحذورين ، فقد عرفت هناك : قبح هذه المخالفة عقلا ، كقبح المخالفة القطعيّة الدّفعيّة.

الثّاني : أن يفرض ذلك مع وجود أفراد طوليّة للواجب ، بحيث يتمكّن المكلّف من الاحتياط بالإتيان بفردين منه وتحصيل الموافقة القطعيّة ، كالصّلاة في سعة الوقت فيما إذا دار الأمر بين الإتيان بها عاريا ، وبينه لابسا لثوب نجس ، فالحكم فيه هو الاحتياط ، بإتيان الواجب مرّة مع ذلك الشّيء ، واخرى بدونه ؛ وذلك ، لأنّ المأمور به الواجب في المثال هو طبيعيّ الصّلاة الّذي له أفراد طوليّة ، فالموافقة القطعيّة بتكرار العمل ، كالمخالفة القطعيّة بتركه رأسا ممكنة ، وإذا يكون العلم الإجماليّ منجّزا للتّكليف لا محالة ، ومقتضاه وجوب الاحتياط بلا شبهة.

وإن شئت ، فقل : إنّا نعلم إجمالا في المقام باعتبار شيء في المأمور به الواجب في الجملة ، لكن لا نعلم أنّ المعتبر هل هو وجود ذلك الشّيء كي يصير الواجب ب «شرط شيء» ، أو عدمه كي يصير الواجب ب «شرط لا» ، فلا محيص إذا من الاحتياط وإعمال قاعدة الاشتغال اليقينيّ الّذي يستدعي الفراغ اليقينيّ.

١٠٧

ولا يخفى عليك : أنّ المقام يفارق عن مورد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلا كلام ، حيث لا يكون هناك علم إجماليّ إلّا بوجه صوريّ ، بل الموجود هناك ليس إلّا احتمال اعتبار شيء في المأمور به ، وهذا هو الشّكّ البدويّ المحض فيكون مجرى للبراءة ، لا الاحتياط وقاعدة اشتغال الذّمّة ، وهذا بخلاف المقام ، كما عرفت.

والقول بالبراءة في المقام ، بتقريب : أنّ العلم الإجماليّ باعتبار شيء في المأمور به ـ إمّا بوجوده شطرا أو شرطا ، أو بعدمه مانعا أو قاطعا ـ لا أثر له ، لعدم التّمكن حينئذ من المخالفة العمليّة ، حيث يدور الأمر بين الفعل والتّرك ، فلم يبق في البين إلّا الشّكّ ومجرّد الاحتمال في الاعتبار ، وهذا هو مجرى للبراءة الّتي تقتضي التّخيير ؛ ممنوع بما مرّ من أنّ المأمور به الواجب في الفرض هو طبيعيّ الصّلاة الّذي له أفراد طوليّة ، وحيث إنّ الموافقة القطعيّة بتكرار العمل ، كالمخالفة القطعيّة بتركه رأسا ممكنة ، فلا مانع من تنجّز العلم الإجماليّ المستدعي لوجوب الاحتياط.

نعم ، لا يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة في الفرد الخارجيّ والمصداق العينيّ من الصّلاة المفروض وجوده وتحقّقه ، لاستحالة ارتفاع النّقيضين ، لكن هذا لا ينافي تنجيز ما أشرنا إليه من العلم الإجماليّ بعد تمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة بالنّسبة إلى ما هو الواجب وهو طبيعيّ الصّلاة المأمور به ؛ إذ المعيار للتّمكّن من المخالفة وعدمه إنّما هو الواجب المأمور به الّذي يكون متعلّق الأمر ومصبّ ثبوته ، لا الفرد المفروض تحقّقه في الخارج.

وقد انقدح ممّا ذكرناه ، أنّ قياس المقام ـ الّذي يكون العلم بالاعتبار مفروغا عنه والشّكّ إنّما هو في المعتبر ، وأنّه هل هو وجود الشّيء أو عدمه ـ بالشّكّ بين

١٠٨

الأقلّ والأكثر ـ الّذي يكون الشّكّ فيه في أصل الاعتبار ـ كما عن ظاهر كلام الشّيخ الأنصاري قدس‌سره قياس مع الفارق ، والعجب منه قدس‌سره التزم بوجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين القصر وإتمام الصّلاة مع أنّ هذا المورد من صغريات مسألة المبحوث عنها في المقام ، لدوران أمر الرّكعتين الأخيرتين من الرّباعيّة ، بين الجزئيّة والوجوب ، وبين المانعيّة والحرمة. (١)

(خاتمة في شرائط جريان الاحتياط)

لا شكّ ولا كلام في عدم اشتراط شيء في حسن الاحتياط على تقدير صدق عنوانه ، وهو ما إذا لم يؤدّ إلى اختلال النّظام ولم يخالف من ناحية اخرى.

ولكن قد يورد على أصل الاحتياط من جهات :

الاولى : أنّ الإطاعة لا تتحقّق إلّا بانبعاث العبد من ناحية بعث المولى وإتيانه للعمل بدعوة الأمر ، وحيث إنّه لا بعث ولا دعوة للأمر الاحتماليّ ، فلا يعقل تحقّق الطّاعة بالاحتياط الّذي ليس في مورده إلّا احتمال الأمر والبعث ، كما هو واضح.

وفيه : أنّ صدق عنوان الإطاعة لا يتوقّف على وجود الأمر والبعث جزما ، بل يكفي فيه مجرّد إتيان العمل بقصد التّقرّب إلى المولى ، أو لأجل المحبوبيّة عنده ، كيف وأنّ العبادة إنّما تصحّ بمجرّد تحقّقها على نحو المذكور ولو لم يصدق عليها عنوان الإطاعة ، بل الانبعاث بمجرّد احتمال الأمر ، أولى بعنوان العبوديّة والإطاعة من الانبعاث بالأمر المعلوم ، بلا كلام وشبهة.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٦ و ٤٨٧.

١٠٩

الثّانية : أنّ الاحتياط قد ينجرّ إلى تكرار العبادة والامتثال الإجماليّ ، وأنت ترى ، أنّ التّكرار مع فرض التّمكن من الامتثال التّفصيليّ بتحصيل العلم التّفصيليّ لعب بأمر المولى ، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، فلا يعقل إذا تحقّق الطّاعة بالاحتياط.

والجواب عنه ، ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ التّكرار ليس فيه لعب بأمر المولى ، بل ربما يكون بداع عقلائيّ ؛ مع أنّه لو لم يكن بهذا الدّاعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر المولى بلا داع له سواه ، لما كان منافيا لقصد الامتثال وإن كان لاغيا في كيفيّة امتثاله ، بل يحسن الاحتياط ـ أيضا ـ فيما قامت الحجّة على البراءة عن التّكليف لئلّا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة. (١)

الثّالثة : أنّ الاحتياط ينافي قصد الوجه والجزم في النّيّة ؛ بداهة ، أنّه لا يحصل إلّا بالعلم التّفصيليّ.

والجواب عنه ، أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه والجزم في النّيّة عقلا ولا شرعا ؛ إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به ، فلو أتى المكلّف ، المأمور به بجميع أجزاءه وشرائطه مع قصد التّقرّب والإخلاص ، سقط الأمر وحصل الامتثال ولو لم يقصد الوجه ولم يأت به مع الجزم في النّيّة ؛ وذلك ، لعدم تعلّق الأمر بمثل قصد الوجه ، وهذا واضح.

نعم ، قام الإجماع على اعتبار قصد الوجه في العبادة ، وهذا كما ترى.

هذا تمام الكلام في أصالة الاحتياط (الاشتغال).

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٥.

١١٠

المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة

مباحث الشّكّ

المقام الرّابع : الاستصحاب

* تعريف الاستصحاب

* الاستصحاب من المسائل الاصوليّة

* حجّيّة الاستصحاب

* أخبار الاستصحاب

* الشّكّ في المقتضي والرّافع

* الشّكّ في وجود الرّافع

* الشّكّ في الحكم التّكليفيّ والوضعيّ

* تنبيهات الاستصحاب

* خاتمة الاستصحاب

* تعارض الاستصحابين

١١١
١١٢

(المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة)

(مباحث الشّكّ)

(المقام الرّابع : الاستصحاب)

اعلم أنّ مبحث الاستصحاب يتمّ في ضمن امور :

(تعريف الاستصحاب)

الأوّل : تعريف الاستصحاب ، فنقول : قد اختلفت كلمات الأعلام في تعريف الاستصحاب ، فعن الشّيخ البهائي قدس‌سره هو إثبات الحكم في الزّمان الثّاني تعويلا على ثبوته في الزّمان الأوّل. (١)

وعن المحقّق القميّ قدس‌سره هو كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السّابق ، مشكوك البقاء في الآن اللّاحق. (٢)

وعن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره هو «إبقاء ما كان» وادّعى أنّ هذا التّعريف ، أسدّ التّعاريف وأخصرها. (٣)

__________________

(١) راجع ، زبدة الاصول : ص ١٠٦.

(٢) راجع ، قوانين الاصول : ج ٢ ، ص ٥٣.

(٣) فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٩.

١١٣

وعن المحقّق الخراساني قدس‌سره هو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقاءه». (١)

وعن المحقّق النّائيني قدس‌سره هو عدم انتقاض اليقين السّابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العمليّ بالشّكّ في بقاء متعلّق اليقين. (٢)

وعن المحقّق العراقي قدس‌سره هو الحكم ببقاء ما كان من حيث إنّه كان. (٣)

والحقّ أن يقال : إنّ تعريف الاستصحاب يختلف باختلاف المباني في حجّيّته ، فعلى القول بكونه من الأمارات الظنّيّة المفيدة للظّن النّوعيّ أو الشّخصيّ ، فالصّحيح أن يقال في تعريفه : إنّه عبارة عن كون حكم أو موضوع ذي حكم متيقّن الحدوث في الآن السّابق ، مشكوك البقاء في الآن اللّاحق ؛ إذ التّيقّن في الآن السّابق أمارة على البقاء مفيدة للظّن به نوعا وشخصا.

وعليه : يعدّ الاستصحاب من الأمارات فتكون مثبتاته حجّة ، كمثبتات الأمارات ، كما أنّه على هذا التّعريف يصير الاستصحاب ـ مع كونه ظنّا شخصيّا ـ حجّة كحجّيّة الظّنّ في تشخيص القبلة وإحرازها ، وكالظّن بالرّكعات في الصّلوات الرّباعيّة.

وأمّا على القول بكون الاستصحاب من الاصول العمليّة ، فالصّحيح أن يقال في تعريفه : إنّه عبارة عن حكم الشّارع ببقاء اليقين المتعلّق بالحكم أو الموضوع ذي الحكم عند الشّكّ في البقاء من حيث الجري العمليّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٧٣.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣٠٧.

(٣) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ٢.

١١٤

وبالجملة : بناء على القول بكون الاستصحاب من الأمارات ، لا يصحّ تعريفه بالحكم بالبقاء ؛ ضرورة ، أنّ الأمارة ليست من مقولة الحكم ، بل تكون ممّا ينكشف به الحكم ، بخلاف القول بكونه من الاصول العمليّة ، كما هو واضح.

ومن هنا ظهر ، أنّ ما تقدّم عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره والمحقّق الخراساني قدس‌سره من تعريف الاستصحاب غير سديد ؛ إذ ليس في روايات الاستصحاب الّتي عمدتها صحاح زرارة الثّلاثة ، عين ولا أثر لهذا التّعريف ، بل المستفاد منها هو حرمة نقض اليقين بالشّكّ من حيث العمل ، والحكم ببقاء اليقين من هذا الحيث في ظرف الشّكّ.

(الاستصحاب من المسائل الاصوليّة)

الأمر الثّاني : هل البحث عن الاستصحاب اصوليّ أو فقهيّ.

تنقيح ذلك يقتضي أن يقال : إنّه لا شكّ في أنّ الغرض من تدوين الاصول هو تحرير أحد أمرين نافعين للفقيه المتصدّي للوصول إلى الأحكام الكلّيّة الإلهيّة :

أحدهما : ما يصلح أن يقع وسطا لإثباتها بحيث تكون نسبته إلى الأحكام الكلّيّة نسبة الكبرى إلى النّتيجة ، أو نسبة ما به يستنبط ، إلى المستنبط ، لا نسبة الكلّي إلى الأفراد والطّبيعيّ إلى المصاديق.

ثانيهما : ما ينتهي إليه الفقيه من الوظائف العمليّة المقرّرة من العقليّ أو النّقليّ عند عدم انكشاف الواقع لديه بعلم أو علميّ ، وعند عدم وجود وسط لإثبات الأحكام الكليّة.

وعليه : فكلّ مسألة دخيلة في أحد ذينك الغرضين ، تكون من المسائل

١١٥

الاصوليّة ، وحيث إنّ الاستصحاب دخيل فيهما ، فتصير من مسائل علم الاصول لا محالة.

ولقد أجاد المحقّق العراقي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ مسائله حيث يرجع إلى صنفين ، صنف منها لوحظ فيه الحكاية والكشف عن الواقع ولو ناقصا وكان من شأنه الوقوع في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة والوظائف النّفس الأمريّة ، كالأمارات ، وصنف آخر منها لم يلاحظ فيه هذه الجهة بل كان ممّا ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل في ظرف الجهل بالواقع واستتاره ، كالقواعد العمليّة ، شرعيّة أو عقليّة ، وكان لكلّ من الصّنفين دخل في الغرض الّذي لأجله دوّن هذا العلم ، كان الاستصحاب لا محالة على جميع المسالك معدودا من مسائل علم الاصول ، بل من أهمّ مباحثه». (١)

وبالجملة : فرق واضح بين المسائل الاصوليّة والقواعد الفقهيّة ، فإنّ المسائل الاصوليّة كحجّيّة خبر الواحد ، أو الظّهور ، وكعدم جواز نقض اليقين بالشّكّ وحكم الشّرع ببقائه من حيث الجري العمليّ وأمثالها ، كبريات لا تكون بنفسها متعلّقة لعمل المكلّف ، بل يستفاد منها أحكام متعلّقة بعمله ، كالوجوب والحرمة ، ونجاسة الماء المتمّم كرّا بطاهر ونحوها ؛ وهذا بخلاف القواعد الفقهيّة ، فإنّ مفادها نفس الحكم الكلّيّ الفرعيّ الّذي ينطبق على الموارد الكثيرة الجزئيّة انطباق الكلّي على أفراده ، والطّبيعيّ على مصاديقه ، كقاعدة الفراغ والتّجاوز واليد والحلّ والطّهارة ونحوها.

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٤ ، ص ٧.

١١٦

(تذكرة)

ما ذكرناه من اندراج الاستصحاب في المسائل الاصوليّة إنّما هو في الاستصحاب الجاري في الشّبهات الحكميّة ، كاستصحاب حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدّم وقبل الاغتسال ؛ وذلك ، إمّا لأجل ما أشرنا إليه من المعيار للمسألة الاصوليّة ، أو ما أشار إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ المعيار هو اختصاص تطبيقها على مواردها بالمجتهد ، حيث إنّ التّطبيق المذكور يحتاج إلى الفحص عن الأدلّة الّذي ليس في وسع الجهل العاميّ.

نعم ، ما أفاده قدس‌سره من المعيار لا يخلو عن الإشكال ؛ لاندراج كثير من القواعد الفقهيّة تحت تلك الضّابطة ، كقاعدة الطّهارة والحلّ في الشّبهات الحكميّة ، وكقاعدة نفوذ الصّلح والشّرط وعدم نفوذهما باعتبار مخالفتهما للكتاب والسّنّة وعدم مخالفتهما لهما ؛ وذلك ، لاختصاص التّطبيقات في هذه الموارد بالمجتهد الفاحص العارف بالكتاب والسّنّة.

وأمّا الاستصحاب الجاري في الشّبهات الموضوعيّة ، فهو من القواعد الفقهيّة المطبّقة على مواردها ، كتطبيق الكلّيّ على مصاديقه ، نظير قاعدة الفراغ ونحوها ، فيكون حينئذ ممّا ينطبق على الصّغريات ، لا ممّا يستنبط منه الأحكام الكلّيّة ، فيعتبر اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق من كلّ مكلّف في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى تكليف نفسه ، مقلّدا كان أو مجتهدا ، فلو كان المقلّد متيقّنا بالطّهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر ، أو بالطّهارة من الخبث ، فرجع إلى المجتهد ولم يكن له بدّ من الإفتاء بإبقاء الطّهارة من حيث الجري العمليّ وإن كان هو نفسه متيقّنا بكون المقلّد فاقدا للطّهارة ،

١١٧

فوزان الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الجزئيّة ، وزان القواعد الفقهيّة.

فتحصّل : أنّ البحث عن الاستصحاب ، اصوليّ من جهة ، وفقهيّ من جهة اخرى.

الأمر الثّالث : هل الاستصحاب هو من موضوعات علم الاصول ، أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ الاستصحاب هل هو معتبر من ناحية العقل وإفادته للظّنّ ، أو من ناحية الأخبار ، فإذا كان اعتباره من ناحية العقل كان من الأدلّة الأربعة الّتي جعلت عند القدماء موضوع علم الاصول ، كسائر الأدلّة العقليّة الدّالة على الأحكام الشّرعيّة ، وأمّا إذا كان اعتباره من ناحية الأخبار ، كصحاح زرارة وغيرها ، فهو وإن كان حينئذ دليلا على الحكم ، لكنّه ليس من الأدلّة الأربعة (من الكتاب والإجماع والعقل والسّنة) أمّا عدم كونه من الثّلاثة الأول ، فهو واضح ، وأمّا عدم كونه من الرّابعة ، فلأنّ مثل قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشّكّ» ليس هو الاستصحاب ، بل يكون دليلا على اعتباره ، كما أنّ آية النّبإ ـ مثلا ـ ليست نفس خبر الثّقة ، بل تكون دليلا على اعتباره.

وبعبارة اخرى : ليست نفس الآية والرّواية دليلا على الحكم الفرعيّ ، بل هي دليل على الدّليل عليه ، كما هو واضح.

والّذي يسهّل الخطب ، أنّ موضوع علم الاصول لا ينحصر في الأدلّة الأربعة بما هي الأدلّة ، كما هو مختار المحقّق القمي قدس‌سره ، أو بما هي هي ، كما هو مختار صاحب الفصول قدس‌سره.

١١٨

الأمر الرّابع : بيان الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين والمقتضي والمانع.

فنقول : توضيح الفرق بين الموارد المذكورة يتوقّف على ذكر صور في المقام :

الاولى : أن يكون متعلّق اليقين والشّكّ متعدّدا مع التّباين بينهما ، كاليقين بحياة زيد والشّكّ في اجتهاده ، أو اليقين بعدالة عمرو والشّكّ في فسق بكر ؛ ولا ريب ، أنّ هذه الصّورة خارجة عن مورد البحث والكلام.

الثّانية : أن يكون متعلّقهما متعدّدا مع الارتباط بينهما بأن يكون متعلّق اليقين هو المقتضي (بالكسر) لمتعلّق الشّكّ المقتضى (بالفتح) بحيث يكون متعلّق اليقين جزء العلّة لمتعلّق الشّكّ ، فيتيقّن بالمقتضي (بالكسر) ويشكّ في المقتضى (بالفتح) لأجل احتمال وجود المانع.

هذه الصّورة هي مجرى قاعدة المقتضي (بالكسر) والمانع ، وسيبحث عنها بعد الفراغ عن مسألة الاستصحاب.

الثّالثة : أن يكون متعلّقهما متّحدا ذاتا ومغايرا زمانا مع فرض كون متعلّق اليقين متقدّما ومتعلّق الشّكّ متأخّرا ، بأن يكون الشّيء متيقّنا في زمان سابق ومشكوكا في زمان لا حق وهو الّذي يعبّر عنه بمتيقّن الحدوث ومشكوك البقاء ويسمّى بالشّكّ الطّاري.

هذه الصّورة هي مجرى الاستصحاب لعموم أدلّته لها بلا تفاوت فيها بين فروضها الثّلاثة من تقدّم اليقين بالحدوث على الشّكّ في البقاء زمانا وتأخّره عنه وتقارنهما كذلك.

الرّابعة : هي الصّورة الثّالثة مع فرض كون متعلّق الشّكّ متقدّما على متعلّق

١١٩

اليقين بأن يكون الشّيء مشكوكا في زمان سابق ومتيقّنا في زمان لا حق.

هذه الصّورة هي مجرى الاستصحاب القهقري لا تعمّها أدلّة الاستصحاب لظهور مثل قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» بل صراحته ، في اعتبار تقدّم متعلّق اليقين على متعلّق الشّكّ ، فلا دلالة له على اعتبار عكس ذلك.

وبعبارة اخرى : روايات الاستصحاب ظاهرة في عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، والاستصحاب القهقريّ لا نقض فيه لليقين بالشّكّ ، بل نقض للشّكّ باليقين.

والحريّ أن نذكر مثالا لهذا الاستصحاب كي يتّضح لك الحال ، وهو ما إذا علم بأنّ لفظ : «الصّلاة» و «الصّوم» مثلا ، حقيقة في العبادة المخصوصة في زمن الصّادقين عليهما‌السلام ولسانهما ، فشكّ في أنّه كذلك في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولسانه ، أو كان حقيقة في غير العبادة المخصوصة ؛ غاية الأمر ، نقل إليها في عصرهما ، فبالاستصحاب القهقري وجرّ اليقين اللّاحق إلى الزّمن السّابق ، يحكم بعدم النّقل ، إلّا أنّك عرفت آنفا عدم شمول أدلّة الاستصحاب لذلك ، وعليه ، فإحراز عدم النّقل إنّما يكون لأجل أصل آخر عقلائي وهو أصالة عدم النّقل الّتي يقتضي كون لفظ «الصّلاة» ـ مثلا ـ في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولسانه حقيقة في ما يكون حقيقة فيه في عصر الصّادقين عليهما‌السلام ولسانهما ، فتأمّل.

الخامسة : أن يكون متعلّق اليقين والشّكّ متّحدا ذاتا ومقارنا زمانا ، وهذا لا يعقل إلّا مع اختلاف اليقين والشّكّ زمانا ، وإلّا لزم اجتماع المتضادّين أو المتناقضين.

وعليه : فإن تقدّم زمان الشّكّ على اليقين ، نظير ما إذا شكّ يوم الخميس في عدالة زيد يوم الأربعاء ، وعلم وتيقّن يوم الجمعة بعدالته يوم الأربعاء ، فهذه الصّورة

١٢٠