مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

وهو النّفسيّ ، قد تعلّق بالأقلّ قطعا ، وأمّا الزّائد عليه فتعلّقه مشكوك فيه وهو مجرى البراءة ، فإذا يقال في الأجزاء التّحليليّة : إنّ تعلّق الوجوب بالصّلاة على الميّت أو الرّقبة أو الحيوان ـ مثلا ـ قطعيّ وقد تمّ البيان وقامت الحجّة في حقّه ، وأمّا اشتراط الطّهارة والإيمان والنّاطقيّة ، فيشكّ في تعلّق الوجوب به ، فلا بيان ولا حجّة عليه ، فتجري فيه البراءة لقاعدة القبح بلا بيان.

وثانيا : لو سلّم اتّصاف الأجزاء الخارجيّة بالوجوب الغيريّ ، فلا مانع من الالتزام به في الأجزاء التّحليليّة ـ أيضا ـ فلا معنى للتّفكيك بينهما ؛ وذلك ، لأنّ الوحدة بين المطلق والمشروط والعامّ والخاصّ ، إنّما هي في الخارج وهو ممّا لا يتعلّق به الأمر والنّهي ، بمناط أنّ الخارج ظرف لسقوط التّكليف ، لا ظرف لثبوته ، والّذي تعلّق به الأمر والنّهي إنّما هو الطّبائع والعناوين ، فيدور الأمر بين الأقلّ (الصّلاة على الميّت ، الرّقبة ، الحيوان) وبين الأكثر (الطّهارة ، الإيمان ، النّاطقيّة) فإذا لا مانع من اتّصاف الأجزاء التّحليليّة بالوجوب الغيريّ من باب المقدّمة.

وأمّا البراءة النّقليّة ، فالدّليل عليها هو عدم المنع من شمول عموم حديث الرّفع للزّائد على مقدار الأقلّ ، فيرفع بالحديث ، اشتراط الطّهارة أو الإيمان أو النّاطقيّة ، لأجل أنّ كلّ واحد منها يشكّ في تعلّق الوجوب به.

هذا ، ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره هنا إلى التّفصيل بين ما إذا كانت الأجزاء التّحليليّة من قبيل شرط المأمور به ، فقال : بجريان البراءة النّقليّة فيها ، وبين ما إذا كانت من قبيل خصوصيّته ، مقوّمة كانت ، أو غير مقوّمة ، فقال : بعدم جريانها فيها ، معلّلا بأنّ الخصوصيّة منتزعة عن نفس الخاصّ ، فيكون الدّوران بين الخاصّ و

٨١

غيره ، من قبيل الدّوران بين المتباينين ، حيث لا وجود للجنس بما هو جنس ، فيجب فيه الاحتياط ، وهذا بخلاف الشّرط ، فيكون الدّوران بين المشروط وغيره ، من قبيل الدّوران بين الأقلّ والأكثر ، فتجري البراءة في الزّائد على مقدار الأقلّ. (١)

وفيه : ما مرّ من أنّه ليس في البين علم إجماليّ أصلا حتى يقال : بالانحلال في بعض تلك الأنواع الثّلاثة ، كما أنّه ليس بعض تلك الأنواع من قبيل المتباينين حتّى يقال : بالاحتياط فيه ، بل يكون الأقلّ في الجميع متعلّقا للعلم التّفصيليّ ، والأكثر متعلّقا للشّكّ البدويّ الّذي يجري فيه البراءة النّقليّة ؛ وقد مرّ ـ أيضا ـ أنّ مبنى الوجوب الغيريّ باطل حتّى في الأجزاء الخارجيّة ، فضلا عن الأجزاء التّحليليّة ، وأنّ الوجوب في كلّ منهما يكون واجبا نفسيّا ضمنيّا ، إلّا أنّ الوجوب يتعلّق في الأجزاء بنفسها ، بخلاف الشّرائط ، فإنّ الوجوب يتعلّق بالاشتراط والتّقييد لا بنفسها.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد فصّل بين الأنواع الثّلاثة المتقدّمة بجريان البراءة في النّوعين الأوّلين (شرط المأمور به وخصوصيّة الموضوع غير المقوّمة) وجريان الاحتياط في النّوع الثّالث (خصوصيّة الموضوع المقوّمة).

بتقريب : أنّ النّوعين الأوّلين مندرجان في باب الأقلّ والأكثر ، فتجري فيهما البراءة بالنّسبة إلى الأكثر ، بخلاف النّوع الثّالث ، فإنّه مندرج في باب الدّوران بين التّعيين والتّخيير ، فيجب الاحتياط فيه ؛ وذلك ، لأنّ الجنس لا تحصّل له إلّا في ضمن الفصل ، فلا يعقل تعلّق التّكليف به ، إلّا إذا اخذ متميّزا بفصل ، فيدور أمر الجنس بين تميّزه بفصل معيّن ، أو بفصل ما من فصوله ، فيكون المقام من دوران الأمر بين التّعيين و

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٨.

٨٢

التّخيير ، لا الأقلّ والأكثر ، فلا يقال : تعلّق التّكليف بالجنس متيقّن والشّكّ في تقيّده بفصل حتّى يصير من باب الأقلّ والأكثر ، بل يقال : تقيّد الجنس بالفصل متيقّن ، والشّكّ في تقييده بفصل معيّن ، أو فصل ما من الفصول ، فيصير من باب التّعيين والتّخيير.

وقد قسّم قدس‌سره دوران الأمر بين التّعيين والتّخيير إلى ثلاثة أقسام ، واختار قدس‌سره في جميعها التّعيين والاحتياط (١) ، ولا حاجة بنا إلى ذكر كلامه قدس‌سره بعد ما عرفت من وجود المقتضي لجريان البراءة العقليّة والنّقليّة في الأجزاء التّحليليّة بجميع أنواعها ، وعدم وجود المانع عن جريانها فيها.

)تنبيهات(

التّنبيه الأوّل : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في السّبب المحصّل للمأمور به ، فالحكم فيه هو الاحتياط ـ خلافا لما سبق من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في نفس المأمور به ، فقد عرفت : أنّ الحكم فيه هو البراءة العقليّة والنّقليّة ـ وذلك نظير ما إذا علم باشتراط الصّلاة بالطّهارة وعلم بتعلّق الأمر بتحصيلها لها ، فشكّ في أنّها هل تحصل بالغسلتين والمسحتين مطلقا ، أو مع شرط أو كيفيّة خاصّة أو نحوهما؟

ولا ريب : أنّ في مثل هذا يجب الاحتياط بإتيان الأكثر في ناحية السّبب كي يحصل اليقين بالفراغ بعد اشتغال الذّمّة بالمأمور به يقينا ؛ إذ المفروض ، أنّ المأمور به

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ٢٩٧ إلى ٢٩٩.

٨٣

ليس إلّا شيئا واحدا بسيطا بلا شكّ فيه من حيث الأقليّة والأكثريّة ، والشّكّ من هذه الحيثيّة إنّما هو في سببه المحصّل له ، فلا مناص للمكلّف من إتيان العمل على نحو يحصل له اليقين بفراغ ذمّته عن الشّغل اليقينيّ وهو لا يحصل إلّا بمراعاة الاحتياط بإتيان كلّ ما له دخل في السّبب.

وإن شئت ، فقل : إنّ تعلّق الأمر بالواحد البسيط وهو المأمور به متيقّن ، والشّكّ إنّما هو في أنّه هل يحصل بإتيان سببه مع الاقتصار على قدر الأقلّ منه ، أو اللّازم هو إتيان قدر الأكثر منه؟ ـ أيضا ـ فلا ينبغي لأحد أن يرتاب في لزوم إتيان الأكثر تحصيلا لليقين بفراغ الذّمّة ، حيث إنّ الاكتفاء بمقدار الأقلّ لا يوجب اليقين بتحصيل المأمور به ، بل الشّكّ باق على حاله.

ثمّ ، اعلم ، أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون العنوان البسيط (المأمور به) ذا مراتب مختلفة ، فيحصل وجوده تدريجا ، وبين أن يكون فاقدا للمراتب ، فيحصل وجوده دفعا ، وقد خالف في ذلك ، المحقّق العراقي قدس‌سره حيث فرّق بينهما ، فقال : بجريان البراءة في التّدريجيّ ، وجريان الاحتياط في الدّفعيّ (١). وضعفه واضح ، لوحدة مناط الاحتياط ـ حسب ما عرفت آنفا ـ في الموردين.

التّنبيه الثّاني : أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، كما يفرض في الشّبهة الحكميّة ـ على ما عرفت حاله من المباحث الماضية ـ كذلك يفرض في الشّبهة الموضوعيّة ، نظير قولنا : «أكرم كلّ عالم» فإذا علم بوجود عدّة من العلماء في الخارج وشكّ في بعض آخر أنّه عالم ، أم لا؟ يكون الحكم بوجوب الإكرام مردّدا بين الأقلّ و

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٤٠١ و ٤٠٢.

٨٤

الأكثر من جهة الشّكّ في الموضوع ، والمسألة من جهة جريان البراءة والاحتياط ، تارة تلاحظ مع الحكم النّفسيّ من الإيجابيّ أو التّحريميّ ، واخرى تلاحظ مع الحكم الغيريّ.

أمّا الحكم النّفسيّ الإيجابيّ ، فيختلف جريان البراءة والاحتياط فيه باختلاف تعلّق الحكم المردّد بالموضوع ؛ إذ هو على صور ثلاثة :

الاولى : تعلّقه بالطّبيعة على وجه الاستيعاب والاستغراق لجميع الأفراد ، بحيث يكون هنا إطاعات وعصيانات ، مثوبات وعقوبات.

الثّانية : تعلّقه بالطّبيعة على وجه العامّ المجموعيّ ، بحيث يكون هنا إطاعة واحدة ، وعصيان واحد ، مثوبة وعقوبة كذلك.

الثّالثة : تعلّقه بالطّبيعة من حيث هي هي ، أو على وجه صرف الوجود ، لا العموم الاستغراقيّ أو المجموعيّ.

أمّا الصّورة الاولى : فالحقّ فيها هو الحكم بالبراءة بالنّسبة إلى الزّائد المشكوك ، لا الاشتغال ، لما عرفت آنفا ، من أنّ هنا أحكام وموضوعات ، وكذا امتثالات وعصيانات متعدّدة ، ففي المثال المتقدّم يجب إكرام المعلوم علمه ، كما أنّه لا يجب إكرام المعلوم عدم علمه ، وأمّا المشكوك علمه ، فيشكّ في وجوب إكرامه ، وواضح ، أنّ هذا الشّكّ يرجع إلى الشّكّ في التّكليف ، فتجري فيه البراءة.

وتوهّم أنّ وظيفة المولى ليست إلّا بيان الكبرى (أكرم كلّ عالم) ، والمفروض أنّه قد بيّنها ، فعلى المكلّف ، الاحتياط والخروج عن عهدة تلك الكبرى المعلومة بإكرام من كان مشكوك العلم ـ أيضا ـ مندفع ، بأنّ هذا وإن كان صحيحا لا كلام

٨٥

فيه ، إلّا أنّ قاعدة العقوبة على ترك التّكليف لا تجري بلا تماميّة الحجّة ، والمفروض ، أنّ الحجّة وإن قامت هنا على الكبرى ، لكنّ الصّغرى لم تقم حجّة عليها ، فلا تصحّ العقوبة على ترك التّكليف في موردها.

ولا يقاس المقام بموارد العلم الاجماليّ الّذي يجب الاحتياط فيه ؛ وذلك ، لأنّ الصّغرى في موارد العلم الاجماليّ معلومة إلّا أنّها مردّدة بين أمرين أو امور ؛ ولذا يجب الاحتياط فيه ، وهذا بخلاف المقام حيث إنّ الصّغرى غير معلوم هنا رأسا لا تفصيلا ولا إجمالا ، فلا مجال حينئذ للاحتياط ، وإن شئت فقل : إنّ الشّكّ في مورد العلم الاجماليّ راجع إلى الشّكّ في سقوط التّكليف ، فيجب الاحتياط ، وأمّا المقام فالشّكّ فيه راجع إلى الشّكّ في ثبوت التّكليف ، فلا يجب الاحتياط ، فتأمّل جيّدا.

أمّا الصّورة الثّانية : فالحقّ فيها ـ أيضا ـ هو جريان البراءة في الأكثر ؛ بداهة ، أنّ في مثل قولنا : «أكرم مجموع العلماء» إذا شكّ في علم زيد ـ مثلا ـ يرجع هذا الشّكّ إلى الشّكّ بين الأقلّ وهو أكرم مجموع العلماء ، سوى زيد ، وبين الأكثر وهو المجموع مع «زيد» ، نظير ما تقدّم في الشّبهة الحكميّة من الشّكّ في جزئيّة السّورة للصّلاة ، ولا ريب ، أنّ في مثل ذلك تجري البراءة.

وما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّه لا محيص في هذه الصّورة عن الاشتغال ، بدعوى : أنّ ترك إكرام من يشكّ كونه عالما ، والاكتفاء على إكرام من علم كونه عالما ، يوجب الشّكّ في تحقّق هذا العنوان الّذي تعلّق به الأمر وقامت عليه الحجّة ، نظير الشّكّ في المحصّل (١) ؛ غير تامّ ، لأنّ عنوان المجموع عنوان انتزاعيّ ، ليس إلّا الآحاد

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤١١.

٨٦

بالأسر ، ولا يكون مثل عنوان «الطّهر» الحاصل من الغسلات والمسحات المحصّلة له ، فتأمّل.

أمّا الصّورة الثّالثة : فالحقّ فيها هو الحكم بالاشتغال والاحتياط ، بعدم الاكتفاء بإكرام من هو عالم محرز علمه بالعلم أو العلميّ ، بل لا بدّ من الامتثال بالنّسبة إلى المشكوك علمه ؛ وذلك ، لاقتضاء الاشتغال اليقينيّ للفراغ اليقينيّ ، وليس الأمر هنا دائرا بين الأقلّ والأكثر حتّى يكتفى بالأقلّ وتجري البراءة في الأكثر ، كما كان الأمر كذلك في الصّورتين المتقدّمتين (العام الاستغراقيّ والمجموعيّ). هذا تمام الكلام في الحكم النّفسيّ الإيجابي.

وأمّا الحكم النّفسيّ التّحريميّ ، فالصّور الثّلاثة المتقدّمة تجري هنا ـ أيضا ـ والحكم في الجميع هي البراءة.

بتقريب : أنّ في الصّورة الاولى وهو تعلّق الحكم بالعموم الاستغراقيّ ، كقولنا : «لا تكرم فاسقا» إذا شكّ في فسق شخص ، يرجع الشّكّ إلى الشّكّ في التّكليف التّحريميّ بالنّسبة إلى المشكوك فسقه ، فتجري البراءة فيه عن العقوبة والحرمة.

وفي الصّورة الثّانية وهو تعلّق الحكم بالعامّ المجموعيّ ، كقولنا : «لا تكرم مجموع الفسّاق» إذا شكّ في فسق شخص ، يرجع الشّكّ إلى الشّكّ في تحقّق المنهيّ عنه المبغوض (إكرام المجموع) بإكرام مشكوك فسقه ، فتجري فيه البراءة ، أيضا.

وفي الصّورة الثّالثة وهو تعلّق الحكم بالطّبيعة بما هي ، أو على وجه صرف الوجود ، كقولنا : «لا تكرم الفاسق» إذا شكّ في فسق شخص ، يرجع الشّكّ حينئذ ـ أيضا ـ إلى الشّكّ في تحقّق ما هو المبغوض بإكرام المشكوك فسقه ، فيحكم فيه

٨٧

بالبراءة ، لكون حرمة إكرامه وعقوبته بلا حجّة ودليل ، هذا بالنّسبة إلى الحكم النّفسيّ.

وأمّا الحكم الغيريّ ، فالكلام فيه يقع في موردين :

أحدهما : في الجزء والشّرط.

ثانيهما : في المانع والقاطع.

أمّا المورد الأوّل : فالصّور الثّلاثة المتقدّمة وإن تجري هنا حسب مقام الثّبوت ـ أيضا ـ إلّا أنّها لا تجري حسب مقام الإثبات سوى الصّورة الثّالثة ؛ إذ لا يتعلّق الحكم الغيريّ إلّا بطبيعة الجزء والشّرط على وجه صرف الوجود ، فلا مناص إذا من الاشتغال والاحتياط ، فإذا شكّ في أنّ السّورة الكذائيّة هل هي من القرآن أم لا؟ يجب الاحتياط بعدم الاكتفاء بقراءة السّورة المشكوكة ، بل لا بدّ من قراءة سورة معلومة كونها من القرآن.

أمّا المورد الثّاني : (المانع والقاطع) ففي موارد الشّبهة المصداقيّة ، ـ كما هو مفروض الكلام ـ تجري البراءة ، فتأمّل جيّدا ، والفرق بين المانع ـ نظير وبر ما لا يؤكل لحمه ونحوه من أجزائه ـ وبين القاطع ـ كالضّحك والبكاء ـ ممّا لا يخفى.

التّنبيه الثّالث : أنّ جزئيّة شيء أو شرطيّته للمأمور به ، وكذا مانعيّته أو قاطعيّته له ، هل هي ثابتة له مطلقا حتّى حال النّسيان كي يصير العمل بفقدان الجزء أو الشّرط ، وكذا بوجدان المانع أو القاطع باطلا حاله ، أم يختصّ ثبوتها له بحال الذّكر كي يصير عمل النّاسي بترك الجزء أو الشّرط ، وكذا بفعل المانع أو القاطع صحيحا؟ وجهان.

٨٨

قبل الورود في تحقيق المرام ينبغي الإشارة إلى البحث عن إمكان تكليف النّاسي بغير ما نسيه من الأجزاء والشّرائط وعدم إمكانه ، فنقول :

ذهب جماعة إلى عدم الإمكان وقالوا : باستحالة تكليف النّاسي ، فلو دلّ دليل على صحّة عمله الفاقد للجزء والشّرط أو المشتمل على المانع والقاطع ، كان ذلك من باب وفاء ما اتي به بملاك ما امر به ، لا من باب مطابقة المأتي به للمأمور به ؛ واستدلّوا على ذلك بأنّ النّاسي لو التفت إلى نسيانه بالخطاب خرج عن نسيانه وصار ذاكرا ، فلا يصير الحكم والتّكليف المختصّ به فعليّا في حقّه ، ولو لم يلتفت فلا ينبعث بالخطاب والبعث ، فيصير البعث لغوا.

وذهب جماعة اخرى منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى الإمكان ؛ وذلك لوجهين : أحدهما : أن يكلّف النّاسي ويخاطب لا بعنوان «النّاسي» حتّى يلزم الانقلاب أو اللّغويّة ، بل بعنوان آخر ملازم له واقعا مع عدم التفاته إلى الملازمة.

وفيه : أنّ هذا أشبه بالوهم والخيال ومحض فرض لا واقع له ، مع أنّ النّسيان حسب اختلاف الأشخاص والأزمان ممّا ليس له ميزان حتّى يفرض عنوان ملازم له في جميع الأزمان.

ثانيهما : أن يوجّه الخطاب على وجه يعمّ الذّاكر والنّاسي ـ بأن يجعل عنوان العامّ الّذي يشملهما كعنوان المكلّف ـ بما عدا المنسي من الأجزاء والشّرائط ، ثمّ يكلّف خصوص الذّاكر بالمنسي منهما ، فتختصّ إذا جزئيّتها أو شرطيّتها بحال الذّكر. (١)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٤٠.

٨٩

وفيه : أوّلا : أنّ هذا وإن كان تامّا حسب مقام الثّبوت ، إلّا أنّه يحتاج إلى الدّليل حسب مقام الإثبات ، والمفروض ، أنّ الدّليل ثبت في بعض الموارد ، كالصّلاة ، حيث إنّ مقتضى حديث «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمسة ...» هو أنّ الأمر بالأركان فيها يعمّ الذّاكر والنّاسي كليهما ، دون بقيّة الأجزاء والشّرائط ، فإنّها مختصّة بحال الذّكر فقط.

وثانيا : أنّه لا حاجة الى تعدّد الخطاب أصلا ، كما يتّضح لك وجهه في بيان ما هو المختار في المسألة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ هو أنّ النّاسى لا خطاب له وحده ، ولا تتوقّف صحّة عمله على أن يخصّص بالخطاب حتّى يصل الدّور إلى البحث عن إمكانه وعدم إمكانه ، بل النّاسي للجزء ـ مثلا ـ كالذّاكر له ، وكذا العاجز عنه ، كالقادر ، والجاهل به ، كالعالم ونحوهم ، كلّهم يقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون و ... بدعوة أمر واحد متعلّق بطبيعيّ الصّلاة الشّامل لصلاة الغريق والمريض ، فلا اختلاف بين المكلّفين من هذه النّاحية ، بل الاختلاف في مصاديق المأمور به.

وإن شئت ، فقل : إنّ الأمر كالمأمور به ، وهما كالآمر واحد والتّعدّد والاختلاف إنّما هو في المأمورين ، وهذا يوجب التّعدّد والاختلاف في مصداق المأمور به.

وبالجملة : ليس النّسيان رافعا لفعليّة التّكليف ، بل هو عذر كسائر الأعذار الّتي لا يتنجّز التّكليف معها ، فهو رافع للعقوبة والمؤاخذة فقط ، لا للفعليّة ، كما هو كذلك في بقيّة الأعذار ، والتّفصيل موكول إلى محالّه المقرّرة ، فتأمّل جيّدا.

٩٠

التّنبيه الرّابع : إذا تعذّر على المكلّف الإتيان ببعض الأجزاء المأمور به ، كقراءة فاتحة الكتاب في الصّلاة ـ مثلا ـ أو تعذّر عليه الإتيان ببعض شرائطه ، كالطّهور فيها ـ مثلا ـ فهل مقتضى القاعدة حينئذ هو سقوط الأمر وانتفاء التّكليف رأسا وبالمرّة ، فلا يجب الباقى ، أو ثبوت الأمر وبقاء التّكليف متعلّقا بالباقي ، فيجب ويستقرّ على الذّمة؟ وجهان.

والتّحقيق في المقام يستدعي التّكلم من جهتين :

الاولى : من جهة التّمسّك ، إمّا بإطلاق دليل المأمور به الواجب ، أو إطلاق دليل الجزء أو الشّرط المتعذّر لو كان هناك إطلاق ، أو الرّجوع إلى الأصل من الاشتغال ، أو البراءة لو لم يكن هناك إطلاق.

الثّانية : من جهة وجوب المقدار الميسور وهو باقي الأجزاء.

أمّا الجهة الاولى : فالكلام فيها قد تقدّم في التّنبيه الثّالث المتكفّل للبحث عن نسيان الجزء أو الشّرط ، فراجع.

أمّا الجهة الثّانية : فالبحث عنها يقع في موردين :

الأوّل : وجوب المقدار الميسور لأجل الاستصحاب.

الثّاني : وجوبه لأجل الرّوايات ، وهذا البحث هو راجع إلى البحث عن تماميّة قاعدة الميسور وعدمها.

أمّا المورد الأوّل ، فتقريبه بوجوه : منها : أنّه يستصحب أصل وجوب الباقي الجامع بين الضّمنيّ والاستقلاليّ وهو الوجوب المتعلّق بما عدا ما تعذّر ، حيث إنّه كان واجبا قبل التّعذّر في ضمن وجوب الكلّ والمركّب ، فوجوبه الضّمنيّ كان ثابتا قبل

٩١

حدوث التّعذّر بالنّسبة إلى بعض الأجزاء ، فإذا ارتفع هذا الوجوب الضّمنيّ بالتّعذّر يشكّ في ارتفاع أصل الوجوب حتّى الاستقلاليّ ، فيستصحب ويحكم ببقائه ، وقضيّة هذا الاستصحاب وجوب المقدار الميسور من المأمور به الواجب ولزوم الإتيان به.

وفيه : أنّ هذا الاستصحاب إنّما يكون من القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي ؛ إذ الفرد المقطوع من الوجوب وهو الضّمنيّ الّذي كان قبل التّعذّر قد ارتفع بعد التّعذّر قطعا ، فلا شكّ في ارتفاعه حتّى يستصحب ، وأمّا الفرد الآخر من كلّي الوجوب وهو الاستقلاليّ ، فمشكوك حدوثه ، لا أنّه مقطوع الحدوث ومشكوك البقاء حتّى يستصحب ، وبالجملة ، لا مجال لاستصحاب الوجوب الجامع بين الضّمنيّ المقطوع ارتفاعه ، وبين الاستقلاليّ المشكوك حدوثه.

ومنها : أنّه يستصحب نفس الوجوب الاستقلاليّ الّذي كان ثابتا قطعا قبل تعذّر بعض أجزائه ، ولكن شكّ في ارتفاعه بعد التّعذّر ، فيستصحب ويحكم ببقائه ، وقضيّة ذلك هو بقاء الوجوب الاستقلاليّ بنحو مفاد «كان التّامّة» أو «هل البسيطة».

وفيه : أوّلا : أنّ استصحاب نفس الوجوب الّذي كان ثابتا قبل التّعذّر قطعا وكان متعلّقا بالكلّ والمركّب التّامّ ، لا يثبت وجوب الباقي الميسور من ذلك المركّب والكلّ ، إلّا على القول بالأصل المثبت. وبعبارة اخرى ، إنّ استصحاب كلّي الوجوب الّذي كان مقطوعا بفرد منه ـ وهو وجوب الكلّ قبل التّعذّر الّذي ارتفع قطعا ـ لإثبات فرد آخر منه ـ وهو وجوب الباقي الميسور بعد حدوث التّعذّر ـ يكون أصلا مثبتا.

وثانيا : أنّه لا تحقّق للوجوب وأمثاله من الأحكام بما هو هو حتّى يستصحب

٩٢

بنحو ما ذكر من مفاد «كان التّامّة» أو «هل البسيطة» بل لا بدّ من تعلّقه بموضوع ، لأنّها ليست من قبيل الجواهر والذّوات ، بل تكون من قبيل العوارض والصّفات.

وعليه : فما كان ثابتا من الوجوب قبل التّعذّر قطعا ، كان موضوعه ومتعلّقه هو المركّب التّامّ والكلّ (المركّب من المتعذّر وغيره) وهو قد ارتفع قطعا بارتفاع موضوعه ، وما هو مشكوك من الوجوب بعد التّعذّر فهو وجوب آخر ، يكون موضوعه ومتعلّقه هو الباقي من الكلّ والمقدار الميسور من ذلك المركّب التّامّ ، فلا مجال هنا للاستصحاب أصلا ، لا لاستصحاب ذلك الوجوب المتيقّن ؛ لأنّه مقطوع الارتفاع ، ولا لاستصحاب هذا الوجوب الآخر ، لأنّه مشكوك الحدوث ، ولا لاستصحاب الكلّي الجامع بينهما ، لأنّه كان من باب القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي.

ومنها : أنّه يستصحب الوجوب الاستقلاليّ الثّابت للمركّب التّامّ قبل التّعذّر بنحو مفاد «كان النّاقصة» ويثبت لنفس موضوعه ومتعلّقه فيما إذا لم يكن الجزء المتعذّر من الأركان ومقوّمات الكلّ ؛ وذلك ، لانحفاظ وحدة الموضوع والمتعلّق حينئذ قطعا ، بلا انثلام اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) في الفرض ، فيقال : إنّ الصّلاة الفاقدة لهذا الجزء ـ مثلا ـ متّحدة مع الواجدة له عرفا ، فيستصحب وجوبها قبل التّعذّر ، فيحكم ببقائه بعد التّعذّر ـ أيضا ـ فالشّكّ في الفرض ليس في الحدوث ، بل يكون في البقاء ، كما لا يخفى.

والفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين السّابقين ، هو أنّ هذا الوجه إنّما يبتني على أن لا يكون الجزء المتعذّر من مقوّمات الكلّ وأركانه ، بخلاف الوجهين السّابقين.

٩٣

وقد اشكل على هذا الوجه بانسداد باب تمييز المقوّم عن غيره في المركّبات الشّرعيّة ـ كالصّلاة والحجّ ـ علينا ، فلا طريق لنا إلى إحراز أنّ الجزء الفلاني ، أو الشّرط الكذائي لا يكون من المقوّمات ، فتتّحد القضيّتان (المتيقّنة والمشكوكة) أو يكون منها ، فلا تتّحدان.

وفيه : أنّ مثل هذا الباب لا يكون منسدّا ؛ وذلك ، إمّا لإحراز الرّكنيّة والمقوميّة وعدمها من طريق الشّريعة ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» وقوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمس ...» وإمّا لإحرازها وعدمها من طريقة العرف فيما إذا لم تحرز تلك من ناحية الشّرع ؛ إذ الظّاهر ـ على هذا التّقدير ـ إيكال تمييز هذا الأمر إليهم ، فقد يرى العرف الجزء المتعذّر ، غير مقوّم ويرى نسبته إلى البقيّة ، كنسبة العشر إلى العشرة ، فيجري الاستصحاب حينئذ لانحفاظ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وربّما يراه مقوّما ويرى نسبته إلى البقيّة كنسبة النّصف أو الثّلث إلى العشرة ، فلا يجري الاستصحاب لانثلام تلك الوحدة المشار إليها.

وبالجملة : لا أساس لإشكال انسداد باب تمييز المقوّمات عن غيرها حتّى يقال : بانسداد باب إجراء الاستصحاب بالوجه المتقدّم.

ولا يخفى عليك : أنّ استصحاب وجوب المقدار الباقي من المركّب أو المشروط في فرض تعذّر بعض الأجزاء أو الشّرائط ، إنّما يتأتّى لو كان حدوث التّعذّر في أثناء الوقت ، وبعد صيرورة الوجوب متيقّنا به في زمان ، وأمّا إذا كان حدوث التّعذر قبل دخول الوقت أو مقارنا لأوّل الوقت ، فلا مجال لإجراء الاستصحاب ؛ بداهة ، لا وجوب متيقّنا به حتّى يحكم ببقائه بالاستصحاب ، بل تجري البراءة حينئذ

٩٤

عن وجوب المقدار الميسور من المركّب التّامّ والكلّ ؛ إذ على هذا التّقدير لا شكّ في بقاء التّكليف كي يستصحب بل الشّكّ في أصل التّكليف ، وهذا هو مجرى البراءة.

وقد خالف في ذلك ، المحقّق النّائيني قدس‌سره فقال : بجريان الاستصحاب في فرض التّعذّر ولو كان حدوثه مقارنا لأوّل الوقت ، بدعوى عدم توقّف جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة على فعليّة الموضوع خارجا ، ألا ترى ، أنّ الفقيه يتمسّك في الحكم بحرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدّم وقبل الاغتسال باستصحاب تلك الحرمة ، وكذا يتمسّك في الحكم بنجاسة الماء المتمّم كرّا بماء طاهر ، باستصحاب تلك النّجاسة السّابقة المتيقّنة قبل ذلك التّتميم ، مع أنّ الموضوع وهو الحائض ـ في المثال الأوّل ـ والماء القليل المتنجّس ـ في المثال الثّاني ـ غير متحقّق في زمان الحكم بالحرمة والنّجاسة لأجل الاستصحاب ، ولا فعليّة له في ذلك الوقت. (١)

وفيه : أنّ عدم توقّف استصحاب الحكم الكلّي على عدم فعليّة الموضوع خارجا ممّا لا كلام فيه ، إلّا أنّه يتوقّف ـ قطعا ـ على أن يفرض تحقّق الموضوع ، فرضا مطابقا للواقع ، ففي المثال الأوّل يفرض الفقيه ، امرأة حائضا متيقّنا حرمة وطئها وشكّ في ارتفاع هذه الحرمة بانقطاع الدّم ، فيتمسّك بالاستصحاب ويحكم بحرمة وطئها على وجه القضيّة الحقيقيّة ؛ وفي المثال الثّاني يفرض ، ماء قليلا متنجّسا متيقّنا ، ولكن شكّ في زوال نجاسته بالتّتميم كرّا ، فيتمسّك بالاستصحاب ويحكم بنجاسة هذا الماء. وهو أمر ممكن معقول تشمله أدلّة الاستصحاب.

ودعوى عدم اعتبار فعليّة الموضوع في استصحاب الحكم الكلّي ، فيفرض امرأة

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ٤٤٥ ؛ ومصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٧٤.

٩٥

في أيّام طهرها ويحكم بحرمة وطئها بالاستصحاب وكذا يفرض ماء قليل طاهر ويحكم بنجاسته بالاستصحاب ، ممنوعة ؛ إذ في الفرضين المذكورين لا يقين بحرمة الوطء والنّجاسة في البين كي يحكم ببقائهما لأجل الاستصحاب. اللهم إلّا أن يفرض ـ أيضا ـ اليقين بالحرمة أو النّجاسة والشّكّ في بقائهما ، وهذا كما ترى.

وعليه : ففي المقام إذا فرض تعذّر الإتيان ببعض أجزاء المركّب قبل دخول الوقت أو مقارنا لأوّله ، فلا تيقّن بوجوب الباقي الميسور مطلقا حتّى على سبيل الفرض كي يقال : باستصحابه عند الشّكّ في ارتفاعه ، بل أصل وجوبه وحدوثه يكون مشكوكا ، ومعه لا مجال للاستصحاب ، بل لا بدّ من إجراء البراءة.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل (وجوب المقدار الميسور لأجل الاستصحاب).

وأمّا المورد الثّاني ، (وجوب الباقي الميسور لأجل الرّوايات) فنقول : قد استدلّ بثلاث روايات على وجوب الباقي الميسور ، بمعنى : تماميّة قاعدة الميسور :

الاولى : عن أبى هريرة ، قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أيّها النّاس! إنّ الله عزوجل قد فرض عليكم الحجّ ، فحجّوا ، فقال : رجل أفي كلّ عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قلت : نعم ، لوجب ولما استطعتم ، ثمّ قال : ذرونى ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبياءهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (١). هذا الرّواية قد وردت من طريقة العامّة.

__________________

(١) مسند أحمد : ج ٢ ، ص ٥٠٨.

٩٦

وقد وردت ـ أيضا ـ من طريقتنا عن ابن أبي جمهور الأحسائي ، قال : «وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : في كلّ عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فسكت ، ثمّ قال : لو قلت : نعم ، لوجب ثمّ إذا لا تسعون ولا تطيقون ، ولكن حجّة واحدة».

وكيف كان ، لا يمكن الاعتماد بهذه الرّواية سندا ودلالة.

أمّا السّند ، فلكونها من المراسيل الضّعاف ، والرّاوي لها هو أبو هريرة الّذي يكون متّهما بالتّعمد في الكذب على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والقول بالانجبار بعمل الأصحاب ليس له مجال ما لم يحرز استنادهم إليها في مقام العمل والإفتاء. نعم ، هذه الرّواية تكون موافقة لفتاويهم ـ لو قيل : بتماميّة دلالتها على المدّعى ـ ولكن مجرّد موافقة فتوى الأصحاب لرواية ضعيفة غير مجدية للانجبار ما لم يحرز الاستناد.

أضف إلى ذلك كلّه ، إنّ كتاب «عوالي اللّئالي» ممّا لا ينبغي أن يركن إليه ، وقد قدح على هذا الكتاب صاحب الحدائق قدس‌سره (١) الّذي ليس من دأبه القدح في كتب الأخبار.

أمّا الدّلالة ، فلأنّ المحتملات في الرّواية ثلاثة :

الأوّل : أن تكون كلمة : «من» تبعيضيّة متعلّقة مع مجروره ـ الضّمير الرّاجع إلى كلمة : «شيء» ـ بكلمة : «استطعتم» وتكون كلمة : «ما» موصولة ومفعولا لكلمة : «فأتوا» فالاستدلال بها على هذا تامّ يكون مفاد الرّواية وجوب الإتيان بما هو المقدور الميسور من أجزاء المأمور به وشرائطه.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٧٨.

٩٧

وفيه : أوّلا : أنّ هذا المعنى لا ينطبق على مورد الرّواية وهو الحجّ ، فإنّ من يعلم أنّه لا يقدر على الطّواف أو مثله من مناسك الحجّ ، لا يكون مستطيعا ، ولا يجب عليه الإتيان بالبقيّة إجماعا.

وثانيا : أنّ السّؤال في الرّواية إنّما يكون عن وجوب تكرار الحجّ في كلّ سنة ، ولا يناسبه الجواب بوجوب الإتيان بالمقدار الميسور من أجزاء المركّب الواحد وشرائطه.

الاحتمال الثّاني : أن تكون كلمة : «من» بيانيّة ، وكلمة : «ما» موصولة ، والمعنى على هذا هو وجوب الإتيان بالمقدار الميسور من أفراد الطّبيعة المأمور بها ، لا وجوب الإتيان بالمقدار الميسور من أجزاء تلك الطّبيعة وشرائطها بعد تعذّر الإتيان بأجزائها وشرائطها بأسرها.

وفيه : أنّ هذا الاحتمال وإن كان جيّدا وجيها ، إلّا أنّه لا ينطبق على المورد ـ أيضا ـ إذ لا يجب الإتيان بالمقدار الميسور من أفراد الحجّ في كلّ عام بلا خلاف بين الفريقين إلّا ممّن لا يعبأ به ، بل هذا الاحتمال خلاف صريح الرّواية لأجل صراحتها في عدم الوجوب في كلّ سنة ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قلت : نعم ، لوجب ولما استطعتم.

الاحتمال الثّالث : أنّ كلمة : «من» إمّا تكون زائدة ، نظير قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(١) وإمّا تكون بمعنى : «باء» للتّعدية ، وتكون كلمة : «ما» مصدريّة زمانيّة ، والمعنى على هذا الاحتمال هو وجوب الإتيان بالمأمور به حين الاستطاعة وزمان القدرة.

ولا يخفى عليك : أنّه مع انتفاء الاحتمالين الأوّلين وعدم إمكان الالتزام بهما ،

__________________

(١) سورة النّور (٢٤) ، الآية ٣٠.

٩٨

يتعيّن هذا الاحتمال الثّالث ، فحينئذ لا طريق للاستدلال بتلك الرّواية على قاعدة الميسور رأسا حتّى بحسب الأفراد.

الرّواية الثّانية : ما روى ابن أبي جمهور وقال : «روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه عليه‌السلام قال : ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١).

هذه الرّواية ضعيفة من جهة السّند لأجل كونها مرسلة مع عدم انجبارها بعمل الأصحاب ، حيث لم يحرز استنادهم إليها ، كيف وأنّه لا أثر منها في جوامعنا الرّوائيّة المعتبرة ، وقد عرفت حال كتاب «عوالي اللّئالي» وأنّه ليس موثوقا به.

وأمّا الدّلالة ، ففيها احتمالات أربعة.

منها : أنّ المراد من كلمة : «كلّ» هو العموم الاستغراقيّ ، بمعنى : عموم السّلب ؛ وهذا الاحتمال واضح البطلان ، إذ لو كان إدراك كلّ فرد ، أو كلّ جزء من أفراد المأمور به ، أو أجزاءه ، ممتنعا ، كان كلّ فرد من أفراده ، أو كلّ جزء من أجزائه متروكا قهرا ، فلا يصحّ أن يتعلّق النّهي بتركه المستلزم لتعلّق الأمر بفعله.

ومنها : أنّ المراد من كلمة : «كلّ» هو العموم المجموعيّ ؛ وهذا الاحتمال ـ أيضا ـ باطل كالأوّل ، لأنّه إذا كان إدراك المجموع بما هو مجموع ممتنعا ، كان ذلك المجموع متروكا قهرا وحينئذ لا يصحّ أن يتعلّق النّهي بترك المجموع المستلزم لأن يتعلّق الأمر بفعله.

ومنها : أنّ المراد من كلمة : «كلّ» في قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه» هو العموم الاستغراقيّ ، وفي قوله عليه‌السلام : «لا يترك كلّه» هو العموم المجموعيّ ، وهذا الاحتمال

__________________

(١) عوالي اللّئالي : ج ٤ ، ص ٥٨.

٩٩

ـ أيضا ـ غير معقول ، إذ مع تعذّر الإتيان بكلّ واحد ، لا يمكن الحكم بوجوب الإتيان بالمجموع.

ومنها : أنّ المراد من كلمة : «كلّ» في قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه» هو العموم المجموعيّ ، وفي قوله عليه‌السلام : «لا يترك كلّه» هو العموم الاستغراقيّ ، على عكس الاحتمال الثّالث ، ومعناه : أنّه إذا تعذّر الإتيان بالمجموع ، فلا يجوز ترك جميع الأفراد أو الأجزاء ، بل يجب الإتيان بغير ما تعذّر من الأفراد أو الأجزاء وهي سائر الأفراد والأجزاء الّتي تكون ميسورة ؛ وهذا الاحتمال ممّا التزم به بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ، ولكنّ الظّاهر أنّه سهو من قلمه قدس‌سره ؛ إذ على ما قرّر في محلّه ، لا يفيد كلمة : «كلّ» في قوله عليه‌السلام : «لا يترك كلّه» إلّا معنى سلب العموم ونفي الشّمول المنحلّ إلى إيجاب جزئيّ وسلب كذلك ، لا عموم السّلب وشمول النّفي المساوق للاستغراق والسّلب الكلّي.

وعليه : لو كان المراد من كلمة : «كلّ» في قوله عليه‌السلام : «لا يترك كلّه» هو العموم الاستغراقيّ مع كون المراد منه في قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه» هو العموم المجموعيّ ، كان معنى الرّواية إذا تعذّر وامتنع الإتيان بالمجموع واستحال إدراكه ، فلا يترك الإتيان بكلّ فرد أو جزء ، بمعنى : أنّه يجب الإتيان بكلّ فرد أو جزء من أفراد المأمور به الكلّي أو من أجزاء المأمور به الكلّ ، وهذا كما ترى غير معقول ، كيف وأنّه لا يمكن اجتماع إمكان الإتيان بكلّ فرد أو جزء على وجه الاستغراق مع امتناع الإتيان بالمجموع.

وبالجملة : قد وقع في كلام بعض الأعاظم قدس‌سره في تقرير هذا الاحتمال ، خلط بين سلب العموم وعموم السّلب ، فعلى ما قرّرناه يكون هذا الاحتمال ـ أيضا ـ كالأوّل

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٠ إلى ٤٨١.

١٠٠