مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

هذا ، ولكن دفع الشّيخ الأنصاري قدس‌سره هذا الإشكال من جهتين : (١)

الجهة الاولى ، ما حاصله : أنّا نفرض الشّخص الواحد مدركا للشّريعتين أو الزّمانين (زمان الحضور وزمان الغيبة) فإذا حرم أو وجب في حقّه شيء سابقا وشكّ في بقاء الحرمة أو الوجوب في الشّريعة اللّاحقة أو في الزّمان اللّاحق ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ، فيجري في حقّه استصحاب عدم النّسخ وأصالة عدمه ؛ والتّسرية من الموجودين إلى المعدومين إنّما تتحقّق بالتّمسّك فيها بالاستصحاب بالتّقريب المتقدّم ، أو بإجرائه في من بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ويتمّ الحكم في حقّ المعدومين بقيام الضّرورة على اشتراك أهل الزّمان الواحد في الشّريعة الواحدة.

وبعبارة اخرى : أنّ الحكم يثبت في حقّ المدرك للشّريعتين أو الزّمانين بالاستصحاب وأصالة عدم النّسخ ، وفي حقّ غيره بقاعدة الاشتراك في التّكليف.

وفيه : أنّ قاعدة الاشتراك إنّما يتمسّك بها مع وجود الوحدة الصّنفيّة ، بمعنى : لم يكن في البين اختلاف في الصّفة ، فلا يجوز التّمسّك بها لإثبات ما للمسافر ـ مثلا ـ من التّكليف ، للحاضر وبالعكس ، والحكم في المقام حيث يكون ظاهريّا مستفادا من الاستصحاب الملحوظ فيه اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق ، فقاعدة الاشتراك هنا تقتضي ثبوت الحكم لكلّ من كان متيقّنا به وشاكّا في بقاءه ، كالمدركين للشّريعتين أو الزّمانين ، ولا تقتضي ثبوته لكلّ مكلّف ولو لم يكن كذلك ، كالمعدوم في الشّريعة السّابقة ، أو في زمان الحضور ، والموجود في الشّريعة اللّاحقة أو في زمان الغيبة.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٤١

وبالجملة : قاعدة الاشتراك إنّما تجري مع انحفاظ الموضوع ، المعبّر عنه بالوحدة الصّنفيّة ، فإذا رفع حكم عن أحد عند الشّكّ فيه لأجل البراءة ، رفع عن غيره ـ أيضا ـ لأجلها بقاعدة الاشتراك ، لكن بشرط أن يشكّ هو ـ أيضا ـ فيه ، ولا مجال لرفعه عن غير الشّاكّ تمسّكا بقاعدة الاشتراك ، والأمر في الاستصحاب كذلك ، بحيث تقتضي قاعدة الاشتراك ثبوت التّكليف بالاستصحاب لكلّ من كان متيقّنا بحدوثه وشاكّا في بقاءه لا مطلقا ، وليس الحكم في المقام من الأحكام الواقعيّة المستفادة من الطّرق والأمارات المعتبرة بلا لحاظ اليقين والشّكّ ، حتّى تقتضي قاعدة الاشتراك ثبوته لكلّ مكلّف ولو لم يكن متيقّنا بالحدوث وشاكّا في البقاء.

الجهة الثّانية ، ما حاصله : أنّ الأحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، بحيث تكون ثابتة للعناوين الكلّيّة ، كالمستطيع ، والمسافر ، والحاضر ـ مثلا ـ وليست مجعولة على نهج القضايا الخارجيّة ، فإذا ثبت حكم ، كوجوب الحجّ لعنوان كالمستطيع ، فلا مانع من استصحابه عند الشّكّ في نسخه ؛ إذ موضوع القضيّتين ليس إلّا هذا العنوان الكلّيّ المتّحد ، بلا دخل لخصوصيّة الأشخاص أصلا ، وحينئذ لا قصور في المقتضي ولا إشكال فيه ، بل الإشكال إنّما هو من ناحية احتمال الرّافع وهو النّسخ ، والأصل عدمه.

وفيه : أنّ النّسخ ليس رفعا للحكم وإزالة له بعد الفراغ عن وجود الاستعداد والقابليّة للبقاء كي يكون الشّكّ فيه شكّا في الرّافع للحكم والمزيل له ؛ وذلك ، لأنّ النّسخ بمعنى : الرّفع للحكم الثّابت القابل للبقاء ، مستلزم للبداء المستحيل في حقّه تعالى ، فالنّسخ إنّما هو بمعنى : انتهاء أمد الحكم ونفاد مقتضيه واستعداده للبقاء ،

٢٤٢

فالشّكّ فيه شكّ في المقتضي ، والمفروض أنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره لا يقول بحجّيّة الاستصحاب في فرض الشّكّ في المقتضي ، خلافا لما اخترناه سابقا ، من أنّ الاستصحاب حجّة مطلقا ولو كان الشّكّ في البقاء من ناحية الشّكّ في الاستعداد والاقتضاء ، فالشّكّ في مقدار الاستعداد والاقتضاء للبقاء ـ أيضا ـ شكّ في البقاء ، فيجري الاستصحاب بلا خفاء.

ومن هنا ظهر ، أنّه لا مجال لما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من أنّ مورد الشّكّ في النّسخ ليس شكّا في البقاء حتّى يجري الاستصحاب ، بل يكون من موارد الشّكّ في ثبوت التّكليف ، فتجري البراءة (١) ؛ إذ المفروض كون القضايا حقيقيّة عامّة شاملة لا قصور فيها أصلا ، ولا شكّ من هذه النّاحية ، إنّما الشّكّ من ناحية احتمال النّسخ واحتمال عدم استعداد الحكم السّابق للبقاء فيستصحب ، ومجرّد احتمال اختصاص الحكم بحصّة دون حصّة بعد فرض كون الموضوع هو الطّبيعيّ والعنوان الشّامل لجميع الأصناف والأفراد ، لا يوجب إشكالا في الاستصحاب ، بل لا مجال لهذا الاحتمال كما هو واضح. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الإشكال على استصحاب عدم النّسخ.

الوجه الثّاني : ما يكون مختصّا باستصحاب أحكام الشّرائع السّابقة ، محصّله : أنّ الشّريعة اللّاحقة ، إمّا تكون ناسخة لجميع أحكام الشّرائع السّابقة ، سواء كانت مخالفة للأحكام اللّاحقة ، أو موافقة لها ـ كإباحة شرب الماء وحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونحوهما ، بحيث تكونان في هذه الشّريعة ، الحكمين الجديدين

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٤٨.

٢٤٣

المتماثلين لما كان منهما في تلك الشّريعة ـ فلا مجال للاستصحاب على هذا التّقدير ؛ لليقين بالزّوال والارتفاع ، فلا شكّ في البقاء كي يجري فيه الاستصحاب ؛ وإمّا تكون ناسخة لبعضها ، فلا مجال للاستصحاب على هذا التّقدير ـ أيضا ـ ؛ إذ بقاء الحكم السّابق وإن كان محتملا هنا ، إلّا أنّ البقاء حينئذ يحتاج إلى الإمضاء من ناحية الشّريعة اللّاحقة ، وإثبات الإمضاء باستصحاب عدم النّسخ والبقاء ، لا يتأتّى إلّا على القول بالأصل المثبت ، كما لا يخفى.

وفيه : أنّ الالتزام بنسخ الشّريعة اللّاحقة لجميع ما في السّابقة من الأحكام ، لا موجب له ولا إلزام بعد ما سلّم من كون كلّ لا حقة مكمّلة للسّابقة ومتمّمة لها لا ناسخة مبطلة لها بالمرّة.

وأمّا مسألة الإمضاء ، فمتحقّقة بأدلّة الاستصحاب والحكم بالبقاء ، فنفس أدلّة الاستصحاب كافية في مسألة الإمضاء والحكم بالبقاء ؛ وذلك ، لأنّ مقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء كلّ ما شكّ في بقاءه بعد الفراغ عن اليقين بثبوته ، سواء كان ذلك من أحكام الشّريعة السّابقة ، أو من أحكام الشّريعة اللّاحقة ، أو من الموضوعات الخارجيّة ، فالاستصحاب والأصل في الفرض ، كالحديث والنّص ولو دلّ على البقاء في اللّاحقة ، أيضا.

وقد يقال في منع جريان استصحاب البقاء وأصالة عدم النّسخ : بأنّا نعلم إجمالا بنسخ كثير من أحكام الشّريعة السّابقة ، فكلّ حكم نشكّ في نسخه ، يكون من أطراف هذا العلم الإجماليّ ، وقد قرّر في محلّه عدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجماليّ ، لأجل لزوم معارضة أدلّتها صدرا وذيلا ، أو تعارضها لو جرت ، وعليه ،

٢٤٤

فهذا العلم الإجماليّ مانع قطعا عن التّمسّك بالاستصحاب وأصالة عدم النّسخ.

وفيه : أنّ محلّ الكلام هو ما إذا انحلّ ذلك العلم الإجماليّ بالظّفر بموارد النّسخ بالمقدار المعلوم بالإجمال ، كما هو الحال في التّمسّك بالعامّ مع العلم الإجماليّ بالتّخصيص ، والتّمسّك بالعمل بالبراءة النّقليّة والعقليّة مع العلم الإجماليّ بتكاليف كثيرة.

(الأصل المثبت)

التّنبيه الثّامن : اعلم ، أنّه لا تترتّب على المستصحب الآثار العقليّة والعادية ، وكذا الشّرعيّة الّتي تكون من آثارهما ، بل إنّما تترتّب على الحكم المستصحب ، آثاره الشّرعيّة والعقليّة الّتي تكون من قبيل وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق المثوبة عند الموافقة واستحقاق العقوبة عند المخالفة ، كما سيأتي بيانه في التّنبيه التّاسع.

والوجه في ذلك هو أنّ الاستصحاب من الاصول التّنزيليّة والتّعبّديّة ، ولا يتأتّى التّنزيل والتّعبّد إلّا بالنّسبة إلى ما يقبلهما وليس هو إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب ، وهذا بخلاف الأمارات ، فإنّه يترتّب عليها جميع الآثار حتّى العقليّة والعادية ، وكذا الشّرعيّة بواسطة غير شرعيّة.

وبالجملة : يفارق باب الاصول عن باب الأمارات ، بأنّ مثبتات الاصول وهي اللّوازم والملزومات والملازمات العقليّة والعادية إذا انتهت إلى الآثار الشّرعيّة ، ليست بحجّة دون مثبتات الأمارات فإنّها تكون حجّة. هذا كلّه ممّا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في بيان الفارق بين البابين ، فنقول :

٢٤٥

قبل الورود في بيانه لا بدّ من التّنبيه على محلّ البحث ومحطّه ، وهو ما إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولوازمها العقليّة أو العادية في خصوص البقاء ، لا أعمّ منه ومن الحدوث ؛ بداهة ، أنّه لو كانت الملازمة بينهما في مقام الحدوث ـ أيضا ـ كانت اللّوازم ـ كالملزومات المستصحبة ـ مستصحبة ؛ لكونها متعلّقة لليقين والشّكّ ، بلا حاجة فيها إلى الالتزام بالأصل المثبت ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الملازمة في خصوص البقاء ؛ إذ اللّوازم حينئذ لا تكون متعلّقة لليقين سابقا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ذاتا ونفسا ؛ وذلك ، نظير ما إذا شكّ في وجود الحاجب وعدمه في الوضوء أو الغسل ، فلو قيل : بحجّيّة الأصل المثبت ، جرت أصالة عدم وجود الحاجب ، ومقتضاه ، ترتّب لازمه من وصول الماء إلى البشرة ، فيترتّب على هذا اللّازم أثره الشّرعيّ وهو صحّة الوضوء أو الغسل مع أنّ وصول الماء إلى البشرة لم يكن متيقّنا ـ كعدم الحاجب ـ سابقا.

وأمّا لو قيل : بعدم حجّيّة الأصل المثبت ، لا يترتّب على استصحاب عدم وجود الحاجب ، وصول الماء إلى البشرة ، فلا يحكم بصحّة الوضوء أو الغسل البتّة ، إلّا إذا احرز وصول الماء إلى البشرة من ناحية اخرى غير الاستصحاب ، فيحكم حينئذ بالصّحّة.

إذا عرفت ما نبّهناك عليه من تحرير محلّ الكلام ، فنقول : إنّ المشهور بين الفحول من أساطين علم الاصول ، هو حجّيّة مثبتات الأمارات دون الاصول ، ولكنّ الأقوال في وجه الفرق بينهما مختلفة.

٢٤٦

القول الأوّل : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) محصّله : أنّ دليل الاستصحاب الدّال على وجوب ترتيب الآثار ، ليس المراد منه إلّا الآثار القابلة للجعل الشّرعيّ التّعبّدي ، ومن المعلوم ، أنّ اللّوازم العقليّة أو العادية لا يتطرّق إليها الجعل الشّرعيّ التّعبّدي ، فاستصحاب حياة زيد ـ مثلا ـ يترتّب عليه حرمة تزويج زوجته والتّصرّف في ماله ، لا الحكم بنموّ جسمه أو نبات لحيته ؛ إذ هو غير قابل للجعل الشّرعيّ ، كما هو واضح.

القول الثّاني : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره : من أنّ الوجه هو إطلاق أدلّة الأمارات الشّامل للّوازم والملزومات والملازمات العقليّة أو العادية إذا انتهت إلى الآثار الشّرعيّة ، وهذا بخلاف أدلّة الاصول ، فلا إطلاق لها ، بل المتيقّن منها في مقام التّخاطب ، ترتّب آثار نفس المستصحب بلا واسطة عقليّة أو عادية. (٢)

القول الثّالث : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره : من أنّ الوجه هو اختلاف المجعول في بابي الأمارات والاصول ، فإنّ المجعول في الأمارات هو الطّريقيّة والكاشفيّة ، ولازم ذلك حجيّة المثبتات ، بخلاف المجعول في الاصول فإنّه ليس إلّا مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل ، وهذا لا يقتضي حجّيّة المثبتات. (٣)

القول الرّابع : ما عن المحقّق الحائريّ اليزديّ قدس‌سره : من أنّ الوجه هو انصراف أدلّة الاصول إلى الآثار بلا واسطة. (٤)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٣٣.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٢٧ إلى ٣٢٩.

(٣) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٨٤ إلى ٤٨٧.

(٤) راجع ، درر الفوائد : ص ٥٥٤.

٢٤٧

هذه هي الأقوال في المسألة ، ولكن التّحقيق يقتضي اختيار وجه آخر لحجّيّة مثبتات الأمارات وعدم حجّيّة مثبتات الاصول ، فنقول : أمّا وجه حجّيّة مثبتات الأمارات فهو ما عرفت في مبحث حجّيّة الظّواهر وخبر الواحد ، من أنّ الأمارات والطّرق الشّرعيّة الّتي اعتبرها الشّارع ، كانت علوما عادية وأمارات عقلائيّة ، أمضاها الشّريعة وأيّدها بلا تأسيس وجعل للحجيّة لها بلا شبهة ، فمثل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ...) الظّاهر في الرّدع عن العمل بقول الفاسق ، ليس بصدد جعل الحجّيّة لقول الثّقة وخبره مطلقا ، أو لخبر غير الفاسق فقط ، بل يكون بصدد بيان أنّ «الوليد» فاسق غير ثقة ، وأنّه ليس بناءكم إلّا على العمل بخبر الثّقة ، فكأنّ الآية تخبر بفسق «الوليد» ووجوب التّبيّن في خبره وعدم حجّيّته ، وإذا تكون ناظرة إلى الصّغرى المندرجة تحت الكبرى (وجوب التّبيّن في خبر كلّ فاسق وغير ثقة) وكذا ناظرة إلى كبرى عدم وجوب التّبيّن في خبر العدل والثّقة وحجّيّة قوله عند العقلاء ؛ وكذلك حال الأخبار والرّوايات المستفيضة ، بل المتواترة الدّالّة على حجّيّة خبر الواحد ، فهي كلّها أدلّة وردت لإمضاء بناء العقلاء.

وعليه : فالأمارات ـ عندنا ـ ليست من الظّنون حتّى يقال : إنّها خرجت من أصالة حرمة العمل بالظّنّ ، وعن الأدلّة النّاهية عن العمل به تخصيصا ، بل هي علوم عادية عند العقلاء ، خارجة عنها تخصّصا ، والشّارع أمضاها ، وأمر بالعمل بها ، فكما أنّ القطع الوجدانيّ الحاكي للواقع يكون حاكيا للوازمه وملزوماته وملازماته ويكون حجّة عليه وعليها ، كذلك الأمارات العقلائيّة والعلوم العادية ، فهي ـ أيضا ـ حاكية له ولها وحجّة عليه وعليها ، فحالها حال المرآة الّتي ترى الشّيء بجميع

٢٤٨

لوازمه وملزوماته وملازماته ، وهذا ـ أيضا ـ يجري في باب الاحتجاجات ، فكما يحتجّ العقلاء بالأمارات على نفس الشّيء الّذي قامت عليه ، كذلك يحتجّون بها على لوازمه وملزوماته وملازماته. هذا وجه حجّيّة مثبتات الأمارات.

وأمّا وجه عدم حجّيّة مثبتات الاصول ، فهو ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره محصّله (١) : أنّ هنا نكتة لا بدّ من التّنبيه عليه وهو أنّ العلم واليقين ، سواء كان حقيقيّا أو عاديا عرفيّا ، إذا تعلّق بشيء له لازم وملزوم وملازم مع فرض أنّ لكلّ واحد من هذه الثّلاثة أثرا شرعيّا ، كان اليقين به يقينا بكلّ واحد منها ، بمعنى : أن يتعلّق بكلّ واحد من تلك الثّلاثة ـ كنفس ذلك الشّيء ـ يقين على حدة ، فيفرض هنا يقينات ثلاثة تكون في طول اليقين بذلك الشّيء ، فيترتّب حينئذ أثر كلّ واحد منها بلا لزوم محذور الإثبات ؛ وذلك ، نظير ما إذا تيقّنت بطلوع الفجر وعلمت منه خروج اللّيل ودخول يوم رمضان وكان لكلّ واحد من طلوع الفجر وخروج اللّيل ودخول يوم رمضان ، أثر على حدة ، لا يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ موضوع إلّا لأجل تعلّق العلم به ، لا لأجل تعلّقه بغيره من لازمه أو ملزومه أو ملازمه.

وكذا إذا تيقّنت بحياة زيد وحصل منه يقين بنبات لحيته ويقين آخر ببياضها وكان لكلّ منهما أثر شرعيّ على حدة ، يجب ترتيب الأثر على كلّ موضوع ؛ للعلم به ، بحيث يكون العلم بكلّ موضوع ، مستقلّ لوجوب ترتيب أثره وإن كان بعض العلوم معلولا لبعض آخر ، فيترتّب أثر حياته للعلم بها ونبات لحيته للعلم به ، لا للعلم بحياته ، كما يترتّب أثر بياضها للعلم به ، لا بنبات اللّحية أو الحياة.

__________________

(١) راجع ، الاستصحاب : ص ١٥٦ و ١٥٧.

٢٤٩

إذا عرفت هذا التّنبيه ، فاعلم ، أنّ المحتمل في كبرى «لا ينقض اليقين بالشّكّ» اثنان : أحدهما : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ومن تأخّر عنه من إقامة المشكوك مقام المتيقّن وترتيب آثار المتيقّن على المشكوك ، فعلى هذا يصير معنى الكبرى المذكورة هكذا : اعمل على طبق اليقين ، ولا تعتن بمشكوكيّة الشّيء بقاء بعد ما كان متيقّنا حدوثا ؛ ثانيهما : إبقاء اليقين والأمر ببقائه تعبّدا وأنّ نفس اليقين بما هو أمر مبرم لا ينبغي أن ينقض بأمر غير مبرم ، فعلى هذا يصير معنى الكبرى المذكورة هكذا : اعمل على طبق اليقين ، ولا تعتن بالشّكّ في البقاء بعد الفراغ عن اليقين بالحدوث.

وعليه : فالاستصحاب ناظر إلى مشكوكيّة البقاء أو إلى الشّكّ في البقاء في ما إذا كان الشّيء متيقّن الحدوث ، أو إذا كان هناك يقين بالحدوث ، فيترتّب حينئذ آثار المتيقّن أو اليقين ، والمفروض أنّ اللّوازم العادية أو العقليّة أو الملزومات أو الملازمات لم تكن نفسها متيقّنة حدوثا ، فضلا عن آثارها الشّرعيّة المترتّبة عليها ، فلا تعمّها أدلّة الاصول ، ولا تكون مشمولة للتّنزيل والتّعبّد.

وإن شئت ، فقل : إنّه ليس مفاد الاستصحاب إلّا ترتيب آثار ما كان متيقّنا حدوثا ، أو آثار اليقين بالحدوث ، ولا متيقّن أو يقين بالنّسبة إلى اللّوازم والملزومات والملازمات حتّى تترتّب عليها آثارها الشّرعيّة ، فهذه الامور أنفسها فضلا عن آثارها ، خارجة عن أدلّة الاصول موضوعا وتخصّصا ، فلا يصل الدّور إلى القول بانصراف أدلّة الاصول عن الآثار غير الشّرعيّة أو القول بعدم الإطلاق لها أو أنّ هذه الامور لا تنالها يد الشّرع.

أو فقل : إنّ الاستصحاب في الموضوعات يتكفّل إثبات صغرى لكبرى

٢٥٠

شرعيّة ، فإذا جرى الاستصحاب في عدالة زيد ـ مثلا ـ واحرز أنّه عادل تعبّدا ، تصير صغرى لكبرى «تجوز وتقبل شهادة العادل» كما أنّه إذا شهد حينئذ عند الحاكم برؤية الهلال وضمّ إليه شاهد آخر ، تصير صغرى لكبرى «إذا شهد عدلان برؤية الهلال لدى الحاكم يحكم بأنّ الغد عيد» وإذا ثبتت عيديّة الغد تصير صغرى لكبرى «تجب أو تستحبّ صلاة العيد» فالآثار الشّرعيّة المترتّبة على روية الهلال المحرزة بشهادة العدلين ، تترتّب بأسرها حتّى ما كانت مترتّبة بوسائط شرعيّة ، وأمّا الآثار العقليّة والعادية ، فلا كبرى شرعيّة بالنّسبة إليها.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرناه ، من أنّ الأمارات المعتبرة علوم عادية عقلائيّة ، ـ كالعلوم واليقينيّات المنطقيّة والعقليّة ـ الّتي أمضاها الشّرع وأنّها ليست بعلوم تعبّديّة ولذا تكون مثبتاتها كمثبتات العلوم حجّة ، ضعف ما في كلام المحقّق النّائيني قدس‌سره ومبناه في الأمارة ، من أنّ المجعول في باب الأمارات هي الطّريقيّة واعتبارها علما تعبّديّا ، فكما يقتضي العلم الوجدانيّ بالشّيء ترتّب آثاره وآثار لوازمه ، فكذلك العلم التّعبّديّ الجعليّ ، بخلاف الاستصحاب ؛ إذ ليس المجعول فيه إلّا الجري العمليّ على طبق اليقين السّابق ، وحيث إنّ اللّازم لم يكن متيقّنا فلا وجه للتّعبّد به ، فالفرق بين الأمارة والأصل إنّما هو من ناحية المجعول. (١)

وجه ظهور الضّعف : على ما أشرناه ، هو أنّ الأمارات علوم عقلائيّة عاديه لا تعبّديّة جعليّة ، بل يمكن أن يدّعى أنّ العلوم ـ غالبا ـ من هذا القبيل ؛ إذ اليقين والعلم العقليّ المنطقيّ نادر جدّا في الامور الشّرعيّة أو العرفيّة ، وهذا بخلاف

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٨٤ إلى ٤٩١.

٢٥١

الاستصحاب ، حيث إنّه ليس علما أصلا ، لا عقليا ولا عقلائيّا ، فلا يكون الشّكّ في البقاء طريقا وأمارة وعلما تعبّدا ، فضلا عن أن يكون علما عاديا عقلائيّا ؛ ولذا تقدّم الأمارات على الاصول حتّى الاستصحاب.

ومن هذا البيان ـ أيضا ـ يظهر ضعف ما التزمه بعض الأعاظم قدس‌سره في مواضع من كلامه :

أحدها : الالتزام بأنّ المجعول في باب الاستصحاب ـ أيضا ـ هو الطّريقيّة واعتبار غير العالم عالما بالتّعبّد ، وأنّ الاستصحاب ـ أيضا ـ من الأمارات وهذا لا ينافي تقديم الأمارات عليه ؛ إذ كونه منها لا يقتضي أن يكون في عرضها ، كيف وأنّ الأمارات بعضها مقدّم على بعض ، فالبيّنة مقدّمة على اليد ، وحكم الحاكم مقدّم على البيّنة ، والإقرار مقدّم على حكم الحاكم.

ثانيها : الالتزام بأنّ العلم التّعبّديّ تابع لدليل التّعبّد وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه.

ثالثها : الالتزام بأنّ دلالة أدلّة حجّيّة الخبر على حجّيّته حتّى بالنّسبة إلى اللّازم ، غير مسلّم ؛ إذ الأدلّة تدلّ على حجّيّة الخبر ، والخبر إنّما هو من العناوين القصديّة ، فلا يكون الإخبار عن شيء إخبارا عن لازمه ، إلّا إذا كان اللّازم لازما بالمعنى الأخصّ وهو الّذي لا ينفكّ عن تصوّر الملزوم ، أو كان لازما بالمعنى الأعمّ مع كون المخبر ملتفتا إلى الملازمة ؛ وذلك ، نظير ما إذا أخبر أحد عن ملاقاة يد زيد للماء القليل ـ مثلا ـ مع فرض كونه كافرا في الواقع والمخبر عن الملاقاة منكر لكفره ، فهو مخبر عن الملزوم وهو الملاقاة ولا يكون مخبرا عن اللّازم وهو نجاسة الماء.

٢٥٢

رابعها : الالتزام بالفرق في الأمارات بين الإخبار فتكون مثبتاته حجّة ، وبين غيره فلا تكون حجّة. (١)

وجه ظهور ضعف الجميع واضح ، مضافا إلى أن المثال الّذي ذكره قدس‌سره في الموضع الثالث من كلامه ، لا يخلو من المناقشة ؛ إذ ليس ذلك المثال من باب إنكار الملازمة ، بل من باب إنكار الملزوم ؛ لأنّ الملازمة ـ حسب اعتقاد المخبر ـ إنّما تكون بين ملاقاة يد زيد كافر ، وبين نجاسة الماء ، والمفروض أنّ المخبر منكر لكفر زيد ، فيكون منكرا للملزوم لا الملازمة ؛ ومضافا إلى أن ما التزمه قدس‌سره في الموضع الرّابع من كلامه ، ينافي ما تقدّم منه قدس‌سره في الموضع الثّالث ، حيث إنّ مقتضى ما ذكره قدس‌سره هناك من أنّ الإخبار عن الشّيء لا يكون إخبارا عن لازمه ، هو عدم حجيّة مثبتات الأمارات الّتي تكون من قبيل الإخبار ، ومقتضى ما ذكره قدس‌سره هنا هو حجيّة مثبتات الأمارات الّتي تكون من قبيل الإخبار.

فتحصّل : أنّ الطّرق والأمارات كلّها حاكيات عن الواقع وعلوم عرفيّة عقلائيّة ، فيرى بها وجه الشّيء ووجه لوازمه وملزوماته وملازماته ، كاليقين العقليّ والعلم المنطقيّ الفلسفيّ بلا دخل لقصد المتكلّم المخبر ، في هذا الأمر ، وكالمرآة العينيّة الخارجيّة ، حيث إنّه لا شأن لها إلّا الحكاية والإراءة ؛ وأمّا الاصول فليس لها حكاية حتّى الاستصحاب ، بل الموضوع فيها هو الشّكّ والحيرة ؛ ولذا تقدّم الأمارات على جميعها بلا شبهة ، لكونها علوما مزيلة للشّكوك.

وما على الألسنة من أنّ الاستصحاب من الاصول المحرزة ، لا أساس له ؛ إذ

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٢ إلى ١٥٥.

٢٥٣

لا إحراز له ، مع أنّه لو كان محرزا لعدّ من الأمارات لا الاصول ؛ وكذا لا أساس لما في الألسنة ـ أيضا ـ من كون الاستصحاب عرش الاصول وفرش الأمارات ؛ إذ لا دوران بين الاصول حتّى يكون بعضها عرشا وبعضها فرشا ، حيث إنّ لكلّ منها مصبّا معيّنا ، كما هو واضح.

وقد ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره موارد بنى على أنّ التّمسّك بالأصل فيها لا يكون من باب الأصل المثبت :

أحدها : استصحاب الفرد لترتيب أحكام كلّيّة عليه ، بتوضيح : أنّ الكلّيّ عين الفرد وليس من لوازمه العقليّة حتّى يكون الأصل الجاري فيه لترتيب آثار كلّيّة عليه ، من الاصول المثبتة ، فلا إشكال في استصحاب خمريّة مائع خارجيّ شكّ في صيرورته خلّا وترتيب الحرمة والنّجاسة ـ اللّتين تكونان من أحكام طبيعيّ الخمر وكلّيّه ـ عليه ؛ وذلك ، لما أشرنا من اتّحاد الكلّيّ والفرد وجودا وعينيّتهما خارجا.

ثانيها : استصحاب منشأ الانتزاع لترتيب الأمر الانتزاعيّ عليه ، بتوضيح : أنّ الأمر الانتزاعيّ حيث إنّه ما لا يحاذيه شيء في الخارج وليس فيه إلّا منشأ الانتزاع ، فأثره أثر لمنشا انتزاعه ، فليس الأصل الجاري فيه من الاصول المثبتة ، وهذا بخلاف الأعراض الّتي يحاذيها شيء في الخارج المعبّر عنها «بالمحمول بالضّميمة» فلا يجري استصحاب وجود جسم لترتيب آثار البياض عليه ـ لو فرض لزوم البياض له بقاء فقط لا حدوثا ـ أيضا ، إلّا على القول بالأصل المثبت.

ثالثها : استصحاب الجزء أو الشّرط لترتيب الجزئيّة أو الشّرطيّة ، بتوضيح : أنّهما مجعولتان بالتّبع ، ولا فرق في صحّة ترتّب الأثر على المستصحب بين أن يكون

٢٥٤

ذلك الأثر مجعولا بالاستقلال أو بالتّبع ، فلا مانع من جريان استصحاب الشّرط أو الجزء أو المانع لترتيب الشّرطيّة أو الجزئيّة أو المانعيّة بلا لزوم المثبتيّة. (١)

ولكن أورد بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) على تلك الموارد الثّلاثة بما لا يخلو بعضه عن ضعف :

أمّا المورد الأوّل ، فحاصل إيراده قدس‌سره عليه ، هو أنّ جريان الاستصحاب في الفرد وإن كان ممّا لا اشكال فيه ، كيف ، ولو منع منه لانسدّ باب الاستصحاب ، إلّا أنّ جريانه في الفرد ليس لأجل اتّحاده مع الكلّيّ في الخارج ، بل لأجل كون الأثر أثرا لنفس الفرد لا للكلّيّ ؛ إذ الأحكام إنّما هي للأفراد وإن كانت مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، لأنّ الكلّيّ بما هو هو لا حكم له ولا أثر عليه ، وإنّما يؤخذ في موضوع ليشار به إلى أفراده ، كما أنّ الخصوصيّات الفرديّة ـ أيضا ـ لا دخل لها في ثبوت الحكم.

وفيه : أنّ مصبّ الأحكام وموضوعها ليس إلّا الكلّيّ والطّبيعيّ ، لكن لا بما هو هو ؛ إذ هو حينئذ ليس إلّا هو ، بل باعتبار الوجود مع أيّ فرد وأيّة خصوصيّة ، بمعنى : أنّه لا دخل لخصوصيّة خاصّة من الخصوصيّات الفرديّة في وجود الكلّيّ ، فالحكم والأثر ليس للفرد بما هو فرد ، وإلّا لزم اختصاصه بذلك الفرد فقط وعدم ترتّبه على فرد آخر ، فحكم الحرمة والنّجاسة إنّما يكون لطبيعيّ الخمر باعتبار الوجود لا لخصوص هذا الخمر أو ذاك أو ذلك ، كما أنّ الأحكام الإيجابيّة أو التّحريميّة

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٢٩ و ٣٣٠.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٧٠ و ١٧١.

٢٥٥

إنّما تتعلّق بالطّبائع بلحاظ وجودها ، لا بما هي هي ولا بالأفراد.

وأمّا المورد الثّاني والثّالث ، فقد أفاد قدس‌سره فيهما ما لا يخلو عن وجوده ، ولا حاجة إلى ذكره خوفا عن الإطالة ، فراجع.

(ترتّب بعض الآثار العقليّة والعادية على الاستصحاب)

التّنبيه التّاسع : اعلم ، أنّ عدم ترتّب الأثر العقليّ أو العادي ، وكذا الشّرعيّ المترتّب عليهما ، إنّما هو بالنّسبة إلى الحكم المستصحب الّذي يكون بوجوده الواقعيّ التّكوينيّ موضوعا للأثر ، كحياة زيد ـ مثلا ـ فإنّه إذا استصحب لا يترتّب عليه مثل نبات اللّحية أو نموّ القامة أو الكون في الحيّز ، فإنّ هذه الامور آثار غير شرعيّة تترتّب على المستصحب (حياة زيد) واقعا وتكوينا ، لا تعبّدا ـ أيضا ـ فلا يثبت باستصحاب حياة زيد ، شيء من تلك الآثار ، إلّا على القول بالأصل المثبت.

وأمّا بالنّسبة إلى الحكم المستصحب الّذي لا يكون موضوعا للأثر ، بوجوده الواقعيّ فقط ، بل الأعمّ منه ومن وجوده الظّاهريّ ، فإنّه لا مانع من ترتّب لوازمه العقليّة والعادية والشّرعيّة ـ الّتي تكون من آثارهما ـ عليه بالاستصحاب ؛ إذ المفروض تحقّق موضوع تلك الآثار ظاهرا بالاستصحاب ، نظير الوجوب الشّرعيّ حيث إنّه إذا استصحب يترتّب عليه جميع الآثار حتّى العقليّة ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة ، واستحقاق المثوبة عند الإطاعة واستحقاق العقوبة عند المعصية ، فإنّ هذه الامور آثار غير شرعيّة تترتّب على الوجوب الشّرعيّ بوجوده الأعمّ من

٢٥٦

الواقعيّ أو الظّاهريّ ، بمعنى : أنّ موضوع هذه الآثار العقليّة إنّما هو حكم الله وهو وجود الوجوب مطلقا ، سواء كان ثابتا باستصحاب نفسه أو موضوعه ، أو كان ثابتا بخطابات اخرى ، وعليه ، فيثبت باستصحاب الوجوب جميع تلك الآثار بلا لزوم المثبتيّة.

(اعتبار موضوعيّة المستصحب للأثر بقاء ، لا حدوثا)

التّنبيه العاشر : قد يتوهّم أنّ المستفاد من قولهم : «إنّ المستصحب إمّا حكم شرعيّ ، وإمّا ذو حكم شرعيّ» هو اعتبار أن يكون كذلك حدوثا وبقاء ، بحيث إنّه لو كان كذلك في مرحلة البقاء فقط دون الحدوث ، لم يجر الاستصحاب.

ولكنّه مندفع بما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره : من أنّ أدلّة الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشّكّ ، إنّما تكون ناظرة إلى البقاء لا الحدوث ، فمع ترتّب الأثر على البقاء يجري الاستصحاب وإن لم يكن للحدوث أثر ، بمعنى : أنّه لو لم يكن المستصحب في زمان حدوثه حكما ولا ذا حكم وكان في زمان استصحابه كذلك ، يصحّ استصحابه ، نظير ما إذا علم بموت الوالد وشكّ في حياة ولد ، فإنّه لا مانع من استصحاب حياته ـ وإن لم يكن لها أثر حال حياة الوالد وهو حال الحدوث ـ لترتّب الأثر عليها بقاء وهو انتقال أموال الوالد إليه حينئذ بالإرث. (١)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٢.

٢٥٧

(أصالة تأخّر الحادث)

التّنبيه الحادي عشر : لا إشكال في جريان الاستصحاب عند الشّكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع ، وكذا عند الشّكّ في ارتفاعه بعد العلم بتحقّقه ، فيحكم ببقائه إلى زمان العلم بارتفاعه ، إنّما الإشكال في جريانه عند الشّكّ في تقدّم حكم أو موضوع وتأخّره بعد العلم بتحقّقه وحدوثه في زمان ، وكذا عند الشّكّ في ارتفاع حكم أو موضوع وتأخّره بعد العلم بأصل الارتفاع ، فإنّ هنا صور مختلفة توجب الاختلاف في حكم الأصل الجاري فيها ، فنقول :

إنّ التّقدّم والتّأخّر على قسمين :

أحدهما : أن يلاحظ كلّ واحد من التّقدّم والتّأخّر بالنّسبة إلى أجزاء الزّمان ، وأنّ موضوع كذا أو حكم كذا ، هل حدث في زمان كذا ، أو في زمان كذا ، وإن شئت ، فعبّر عن هذا القسم ، بأنّ الحادث الواحد يلاحظ تقدّمه وتأخّره بالنّسبة إلى أجزاء الزّمان.

ثانيهما : أن يلاحظ كلّ واحد منهما بالنّسبة إلى حادث آخر ، كملاحظة الطّهارة مع الحدث أو العدالة مع الفسق ، وإن شئت ، فعبّر عن هذا القسم ، بأنّ الحادثين يلاحظ تقدّم كلّ منهما وتأخّره بالنّسبة إلى الآخر.

أمّا القسم الأوّل ، فيجري فيه استصحاب عدم تحقّق ذلك المشكوك من موضوع أو حكم إلى زمان العلم بتحقّقه ، فتترتّب عليه آثار عدمه لو كانت له ، نظير ما إذا علمنا ـ مثلا ـ بعدالة زيد يوم الخميس وشككنا في أنّ حدوثها كان يوم الأربعاء

٢٥٨

حتّى يصحّ الطّلاق الواقع عنده في ذلك اليوم ، أو كان في هذا اليوم الخميس حتّى يبطل الطّلاق المتقدّم ، فيجري حينئذ استصحاب عدم تحقّق العدالة إلى يوم الخميس ، فيترتّب عليه أثره إن كان لهذا العدم أثر.

نعم ، لا مجال لإثبات تأخّر وجود العدالة عن يوم الأربعاء ـ لو كان لعنوان التّأخّر أثر ـ إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ إذ التّأخّر عن يوم الأربعاء لازم عقليّ لعدم الحدوث فيه ، أو لازم عقليّ لعدم الحدوث إلى يوم الخميس ؛ وكذا لا مجال لإثبات حدوث العدالة في يوم الخميس لكونه ـ أيضا ـ لازما عقليّا ، لعدم العدالة إلى يوم الخميس.

وبعبارة اخرى : إثبات حدوث العدالة يوم الخميس باستصحاب عدم حدوثها يوم الأربعاء من أوضح مصاديق الأصل المثبت ؛ وذلك ، لأنّ الحدوث ليس مركّبا من جزءين وهما الوجود يوم الخميس ، وعدم الوجود يوم الأربعاء حتّى يقال : أحد جزئيه وهو الوجود يوم الخميس محرز بالوجدان ، والجزء الآخر وهو عدم الوجود يوم الأربعاء محرز بالأصل وهو استصحاب عدم الوجود يوم الأربعاء ، فتترتّب عليه آثاره ، بل الحدوث أمر بسيط ووجود خاصّ وهو أوّل الوجود لا استمراره أو وجود مسبوق بالعدم لا بالوجود ، وعليه ، فإثباته بالاستصحاب في المثال المتقدّم ، لا يمكن إلّا على القول بالأصل المثبت.

هذا حال الاستصحاب عند الشّكّ في التّقدّم والتّأخّر بعد العلم بالتّحقّق.

وأمّا حال الاستصحاب عند الشّكّ في تقدّم ارتفاع موضوع أو حكم وتأخّره بالنّسبة إلى أجزاء الزّمان بعد العلم بأصل الارتفاع ، فهو كحاله عند الشّكّ المتقدّم ،

٢٥٩

فتجري أصالة عدم الارتفاع إلى زمان العلم به إن كان له أثر ، ولا مجال لإثبات تأخّر الارتفاع أو حدوثه في زمان لا حق إلّا على القول بالأصل المثبت.

أمّا القسم الثّاني (لحاظ التّقدّم والتّأخّر بالنّسبة إلى حادث آخر) ، فله صور متعدّدة ، قبل الورود في ذكرها ينبغي تقديم مقدّمة وهي إنّ موضوع الحكم وما يترتّب عليه الأثر لا يخلو عن إحدى الحالتين : أحدهما : أن يكون بسيطا ؛ ثانيهما : أن يكون مركّبا ، أمّا إذا كان بسيطا ـ كالحدوث أو التّأخّر المذكور في المثال الّذي تقدّم ذكره في القسم الأوّل ـ فقد عرفت عدم إثباته بالاستصحاب إلّا على القول بالأصل المثبت ، ومن هنا ذكرنا ، إنّ استصحاب عدم عدالة زيد إلى يوم الخميس لا يثبت تأخّر حدوثها عن يوم الأربعاء أو حدوثها في يوم الخميس.

وأمّا إذا مركّبا من جزءين ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه إذا كان أحد جزئيه محرزا بالوجدان ، والآخر بالاستصحاب ، وذلك نظير موضوع الإرث من الوالد ، حيث إنّه مركّب من موت الوالد وحياة الولد في ذلك الحين ، فلو شكّ في حياة الولد حين موت الوالد ، يجري استصحاب حياته فتحرز به ، والمفروض إحراز موت الوالد بالوجدان ، فيترتّب عليه أثر الإرث ؛ ونظير موضوع جواز التّقليد ، حيث إنّه مركّب من العلم والعدالة ، فإذا صار زيد العادل عالما فقيها ، ثمّ شكّ في بقاء عدالته وارتفاعها ، يجري استصحاب عدالته السّابقة المتيقّنة ، فتحرز به ، والمفروض أنّ علمه محرز بالوجدان ، فيترتّب عليه أثر جواز التّقليد.

هذا حال الاستصحاب في موضوع الحكم ، وكذلك حاله في متعلّق الحكم ، فإذا كان مركّبا ، يجوز استصحاب أحد جزئيه المشكوك مع إحراز الجزء الآخر

٢٦٠