مفتاح الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-10-7
الصفحات: ٣٩٩

العلم علم وانكشاف ، لا تفصيل فيه ولا إجمال ، إنّما الفرق بينهما من ناحية المعلوم ، فالحكم المعلوم بالإجمال ، قد يكون فعليّا من جميع الجهات ، وقد لا يكون كذلك ، فعلى الفعليّة يمتنع جعل الحكم الظّاهريّ على خلافه ولو في بعض الأطراف ، لاستحالة التّرخيص في المعصية ومخالفة التّكليف الفعليّ المنجّز ، ترخيصا قطعيّا أو ترخيصا احتماليّا ؛ وأمّا على عدم الفعليّة ، فيمكن جعل الحكم الظّاهريّ على خلافه ولو في جميع الأطراف ، فمع إمكان الجعل في بعض الأطراف لعدم فعليّة الحكم من جميع الجهات ، يمكن الجعل في تمام الأطراف ، ومع امتناعه في جميع الأطراف لمكان الفعليّة يمتنع في بعضها ـ أيضا ـ إذ احتمال ثبوت المتضادين ، كالقطع بثبوتهما ، محال. (١)

وفيه : أنّه قدس‌سره لو أراد من فرض عدم فعليّة الحكم المعلوم بالإجمال ، أنّ العلم التّفصيليّ مأخوذ في موضوع الحكم ، بحيث لو لم يعلم المكلّف الحكم تفصيلا لم يكن التّكليف في حقّه فعليّا ، فالالتزام به مشكل ، لا للزوم الدّور ، بل للزوم اختصاص الأحكام بالعالمين بها ، مع أنّ الضّرورة والإجماع قائمان على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين ؛ وأمّا عدم لزوم الدّور ، فلأجل أنّ فعليّة الحكم وإن كان متوقّفا على العلم به ، ولكنّ العلم به لا يكون متوقّفا على فعليّة الحكم ؛ إذ العلم بالحكم الإنشائيّ يوجب فعليّة الحكم الإنشائيّ ، وتفصيل ذلك موكول إلى محلّه.

ولو أراد قدس‌سره منه عدم كون العلم التّفصيليّ مأخوذا في الموضوع ، لكن مع ذلك لا يكون الحكم فعليّا قبل العلم ، فهذا خلف غير معقول ، كما لا يخفى.

الوجه الثّاني : ما أفاده بعض تلامذة المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ المفروض

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠٨ و ٢١٤ و ٢١٥.

٢١

وصول الحكم الواقعيّ إلى المكلّف بالعلم الإجماليّ وتنجّزه عليه ؛ ضرورة ، أنّ التّردّد والإجمال إنّما هو في متعلّق التّكليف ، لا في نفسه ، فالتّرخيص القطعيّ والاحتماليّ على خلافه بجعل الحكم الظّاهريّ ممتنع. (١)

وفيه : أنّ العلم الإجماليّ ليس أحسن حالا من العلم التّفصيليّ ، فإذا كان اكتفاء الشّارع بالامتثال الاحتماليّ مع العلم التّفصيليّ بالتّكليف جائزا ـ نظير موارد قاعدتي الفراغ والتّجاوز ونحوهما ـ لكان اكتفاءه به مع العلم الإجماليّ بالتّكليف جائزا ، أيضا. هذا كلّه في المقام الثّالث.

المقام الرّابع : (شمول دليل الحكم الظّاهريّ ، وكذا الاصول إثباتا لجميع الأطراف وعدم شموله) فقد عرفت سابقا حال الأمارات وتعارضها وتساقطها لما فيها من المداليل الالتزاميّة وحجّيّة لوازمها ومثبتاتها.

وأمّا الاصول ، فقد ذهب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره إلى عدم الشّمول ، بدعوى لزوم التّناقض بين الصّدر والذّيل في أدلّتها ؛ إذ مقتضى صدر مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» جريان الاصول في أطراف العلم الإجماليّ ، لكون كلّ واحد منها مشكوكا بشكّ تفصيليّ ، ولكن مقتضى ذيله وهو جعل العلم والمعرفة غاية للحلّيّة الظّاهريّة عدم جريان الاصول وعدم الحكم بالحلّيّة بعد حصول العلم والمعرفة ولو إجمالا ، فلازم ذلك هو المناقضة بين الصّدر والذّيل ؛ وكذا يلزم التّناقض بين الصّدر والذّيل في دليل الاستصحاب وهو قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» فإنّ كلمة : «الشّكّ» في صدر هذا الدّليل يعمّ الشّكّ البدويّ والمقرون بالعلم

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣٤٨.

٢٢

الإجماليّ وكلمة : «اليقين» في ذيله وهو قوله عليه‌السلام : «ولكن انقضه بيقين آخر» يعمّ العلم التّفصيليّ والعلم الإجماليّ ، وعليه ، فمقتضى الصّدر هو الحكم بحرمة النّقض في جميع اطراف العلم الإجماليّ وهذا يناقض لما هو مقتضى الذّليل من الحكم بالنّقض في بعض الأطراف ؛ ضرورة تحقّق المناقضة بين السّلب الكليّ والإيجاب الجزئيّ ، فالرّوايات مجملة لأجل المناقضة ، ونتيجة ذلك عدم جريان الاصول في الأطراف.

وفيه : أوّلا : أنّ أدلّة الاصول لا تنحصر في الرّوايات المشتملة على الذّيل ، كالرّوايتين المتقدّمتين ، بل وردت فيها روايات ـ أيضا ـ غير مشتملة على هذا الذّيل ، فلا بأس إذا بالتّمسّك بها ؛ إذ إجمال تلك الأدلّة لا يسري إلى هذه الأدلّة غير المذيّلة.

وثانيا : أنّ المقصود من الغاية وهو العلم والمعرفة في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال ...» ، ما يتعلّق بعين ما تعلّق به الشّكّ ، كما أنّ المقصود من اليقين في قوله : «لا تنقض اليقين ...» هو عين ما تعلّق به الشّكّ واليقين الأوّل ، والمفروض ، أنّ العلم الإجماليّ لم يتعلّق بما تعلّق به الشّكّ ، بل تعلّق بعنوان جامع وهو عنوان «أحدهما» أو «أحدها» فلا مانع حينئذ من شمول أدلّة الاصول لجميع الأطراف ، ولا مناقضة في البين ، فتجري فيه لو لا المانع الثّبوتيّ ، كلزوم التّرخيص في المعصية والمخالفة العمليّة ، كما مرّ بيانه آنفا.

المقام الخامس : (شمول دليل الحكم الظّاهريّ ، وكذا الاصول إثباتا لبعض الأطراف وعدم شموله) فالإنصاف ، أنّ دليل الحكم الظّاهريّ وكذا الاصول لا يشمل لبعض الأطراف ؛ إذ البعض إمّا يكون معيّنا ، فشمولها له مستلزما لترجيح بلا مرجّح ، وإمّا لا يكون معيّنا ، فشمولها له حينئذ غير معقول ؛ وذلك ، لأنّ عنوان «أحدهما» أو

٢٣

«أحدها» غير مشكوك فيه حتّى يجري فيه الاصول ، حيث إنّ الغالب هو القطع بإباحته ، ولا فرق في ذلك بين البراءة العقليّة والشّرعيّة ، فكلّ واحد من أطراف العلم يكون ممّا لا بيان عليه ، كما أنّ كلّ واحد من أطرافه يكون ممّا لا يعلمون وغيره.

وإن شئت ، فقل : إنّه لا مجال لجعل الحكم الظّاهريّ في بعض الأطراف معيّنا ؛ للزوم التّرجيح بلا مرجّح وكذا في بعضها لا على التّعيين ، لعدم معقوليّة ذلك ، على ما عرفت وجهه آنفا ، كما انّه لا مجال لجريان الاصول ـ أيضا ـ في بعضها معيّنا كان أو غير معيّن للمحذور المتقدّم. بلا فرق بين البراءة العقليّة وبين البراءة الشّرعيّة.

وعليه : فلا مجال لما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من جعل دليل عدم جريان البراءة العقليّة هو تماميّة البيان ووصول التّكليف إلى المكلّف بالعلم الإجماليّ (١) ؛ إذ المفروض عدم وصول البيان وعدم تماميّته بالنّسبة إلى كلّ واحد من أطراف العلم الإجماليّ ، مع أنّه لو تمّ هذا ، للزم أن يكون التّكليف من قبيل ما يعلمون بالعلم بالإجماليّ ـ أيضا ـ فلا تجري البراءة الشّرعيّة من هذه الجهة ، لا من جهة المحذور المتقدّم ، كما في كلام هذا القائل ، وبعبارة اخرى : كما أن ما تقدّم من المحذور يكون دليلا لعدم جريان البراءة الشّرعيّة ، كذلك يكون دليلا لعدم جريان البراءة العقليّة ، والفرق غير وجيه.

هذا ولكن الّذي ينبغي أن يقال في المقام هو : أنّ العلم الإجماليّ ـ كما أشرنا سابقا ـ كالتّفصيليّ يكون علّة تامّة للتّنجيز ووجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ؛ والدّليل على ذلك وجود المقتضي وعدم المانع ، كما تمسّك به الشّيخ

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥١ و ٣٥٢.

٢٤

الأنصاري قدس‌سره في الحكم بحرمة المخالفة القطعيّة ، ولقد أجاد فيما أفاده في بيان ذلك ، حيث جعل قدس‌سره المقتضي عموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، كقول الشّارع ـ مثلا ـ «اجتنب عن الخمر» فإنّه يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين اثنين أو أزيد ، ولا وجه لتخصيصه بالمعلوم تفصيلا ؛ وجعل قدس‌سره عدم المانع حكم العقل بعدم المنع عن التّكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه ، والعقاب على مخالفة هذا التّكليف ؛ وكذا حكم الشّرع ؛ إذ لم يرد فيه ما يصلح للمنع عدى ما ورد من قولهم : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» ونحوه ، وهذا كما ترى لا يصلح للمنع ؛ بداهة ، أنّه كما يدلّ على حلّيّة كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك يدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنّه ـ أيضا ـ شيء علم حرمته. (١)

ولا يخفى : أنّ هذا الدّليل (وجود المقتضي وعدم المانع) بعينه جار في الحكم بوجوب الموافقة القطعيّة ، فالمقتضي موجود هنا ، كما مرّ ، والمانع مفقود ، إذ لا تعمّ الأطراف أدلّة البراءة العقليّة ، لكون العلم الإجماليّ بيانا ، كالتّفصيليّ ؛ ولا أدلّة البراءة الشّرعيّة ، إذ موضوعها هو الشّكّ ، والعلم الإجماليّ رافع للشّكّ.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه وردت روايات عديدة دالّة على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجماليّ.

منها : ما وردت في أبواب النّجاسات ، كرواية زرارة ، قال : «قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني ... فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠٠ إلى ٢٠٤.

٢٥

يقين من طهارتك» (١).

وكرواية محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن المذي يصيب الثّوب ، فقال : ينضحه بالماء إن شاء ، وقال : في المني يصيب الثّوب ، قال : إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسله كلّه» (٢).

ورواية عنبسة بن مصعب ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المني ، يصيب الثّوب فلا يدري أين مكانه ، قال : يغسله كلّه» (٣).

تقريب دلالة هذه الرّوايات على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجماليّ واضح.

إن قلت : إنّ هذه الرّوايات تدلّ على غسل الثّوب لأجل الصّلاة ، ومن المعلوم ، أنّ تمام الثّوب موضوع واحد بالنّسبة إلى الصّلاة وله حالة سابقة متيقّنة وهي النّجاسة ، فتستصحب ، ومعها لا تجوز الصّلاة فيه إلّا مع العلم بطهارته.

قلت : مع فرض وجود العلم الإجماليّ في الرّوايات ، لا يصل الدّور إلى الاستصحاب ، فإذا تكون الرّوايات ناظرة إلى وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٧ من أبواب النّجاسات ، الحديث ٢ ، ص ١٠٠٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٦ من أبواب النّجاسات ، الحديث ١ ، ص ١٠٢١ و ١٠٢٢.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٦ من أبواب النّجاسات ، الحديث ٣ ، ص ١٠٢٢.

٢٦

ومنها : ما ورد في أبواب الماء المطلق ، كرواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل معه إناءان ، وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما ، قال : يهريقهما ويتيمّم» (١).

نعم ، وردت في قبال تلك الرّوايات ، روايات اخرى ، يتراءى منها التّرخيص في أطراف العلم الإجماليّ وهي ـ أيضا ـ متعدّدة.

منها : رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك ، مثل الثّوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» (٢).

ومنها : رواية عبد الله بن سنان ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، فتدعه» (٣).

ومنها : رواية معاوية بن عمار ، عن رجل من أصحابنا ، قال : «كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لطعام يعجبني ، وساخبرك

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٢ من أبواب الماء المطلق ، ، الحديث ١ ، ص ١٢٤.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، ص ٦٠.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ص ٥٩.

٢٧

عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام ، فتدعه بعينه» (١).

هذه الرّوايات كما ترى تدلّ على التّرخيص في أطراف الشّبهة بلا فرق بين مورد العلم الإجماليّ وغيره.

ولكنّ الإنصاف ، أنّ تلك الرّوايات منصرفة إلى موارد الشّبهات البدويّة ، فلا تعمّ موارد العلم الإجماليّ ، ويشهد على ذلك ما في ذيل رواية مسعدة بن صدقة من الأمثلة المختصّة بالشّبهة البدئيّة.

على أنّ الحلّيّة في الأمثلة لا تكون لأجل أصالة الحلّ ، بل إنّما تكون لأجل أمارة اليد ، كما في مورد الثّوب والمملوك ، أو لأجل أصالة عدم الرّضاع أو الاختيّة ـ ولو بنحو استصحاب العدم الأزليّ ـ كما في مورد المرأة.

وكيف كان ، هذه الرّوايات أجنبيّة عن موارد العلم الإجماليّ ، لكونها ناظرة إلى موارد الشّكّ في الحرمة والحلّيّة ، بخلاف موارد العلم الإجماليّ ، فإنّها ناظرة إلى موارد العلم بالحرمة وإحرازها ، غاية الأمر ، اشتبه الحرام بالحلال.

وبعبارة اخرى : إنّ في موارد العلم الإجماليّ شيئين : أحدهما : حلال ؛ والآخر : حرام ، فاشتبها واختلطا ، كالخمر والخل ، وأمّا الرّوايات المذكورة فموردها شيء واحد ، لكن ذو أفراد ، بعضها حرام ، وبعضها حلال ، كالثّوب والجبن ونحوهما ، فمعنى كلّ شيء فيه حلال وحرام ، هو كلّ شيء واحد ذي أفراد ومصاديق محرّمة و

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٧ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٧ ، ص ٩٢.

٢٨

محلّلة ، يحتمل أن يكون هذا الشّيء الواحد من الأفراد المحرّمة ، ويحتمل أن يكون من الأفراد المحلّلة ، فافهم واغتنم.

وعليه : فما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ الاحتمالات في الرّوايات ثلاث : الأوّل : اختصاصها بالشّبهة البدئيّة ؛ الثّاني : اختصاصها بالعلم الإجماليّ ؛ الثّالث : كونها أعم من العلم الإجماليّ والشّبهة البدئيّة ، والأقرب هو الاحتمال الثّاني (١) ، لا مجال له.

وبالجملة : فلا تعرّض في الرّوايات لدائرة العلم الإجماليّ والشّبهات المقرونة به حتّى غير المحصورة ، فضلا عن المحصورة. فتأمّل جيّدا.

(تنبيهات)

الأوّل : إذا طرأ الاضطرار على واحد من أطراف العلم الإجماليّ ، فهل يوجب سقوط تنجيزه مطلقا حتّى بالنّسبة إلى الطّرف غير المضطرّ إليه ، أو لا يوجب كذلك ، أو يفصّل بين طرفي المضطرّ إليه وبين غيره؟

قبل الورود في تحقيق المقام ، لا بدّ من تحرير مصبّ الكلام في هذا التّنبيه ، فنقول : إنّ الاضطرار الرّافع لآثار الحكم المعلوم بالإجمال ، تارة : يرفع جميع آثاره ، كما إذا علم بنجاسة أحد الخلّين أو الحليبين ـ مثلا ـ مع الاضطرار إلى شرب أحدهما ، حيث إن الأثر المترتّب على النّجاسة المعلومة بالإجمال في المثالين ليس إلّا حكما واحدا تكليفيّا وهو حرمة الشّرب المرتفعة بالاضطرار ؛ واخرى : يرفع بعض آثاره ، كما إذا علم بنجاسة أحد الماءين أو الماء والخلّ أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣١٣.

٢٩

أحدهما ، حيث إنّ الأثر المترتّب على النّجاسة المعلومة بالإجمال في المثالين أمران : أحدهما : حكم تكليفيّ وهو حرمة شربهما ؛ وثانيهما : حكم وضعيّ وهو عدم صحّة الوضوء بالماء ، والاضطرار لا يرفع إلّا الحرمة ، وأمّا عدم الصّحّة فباق بحاله.

ولا يخفى : أنّ محلّ الكلام في المقام هو الاضطرار الرّافع لجميع آثاره ، وكذا الرّافع لخصوص الحكم التّكليفيّ.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في الاضطرار إلى أحد طرفي العلم الإجماليّ بعينه.

الثّاني : في الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه.

أمّا المقام الأوّل : فالاضطرار فيه على صور خمس :

أحدهما : أن يحدث الاضطرار بعد العلم الإجماليّ بالتّكليف.

ثانيها : أن يحدث قبل العلم به.

ثالثها : أن يحدث مقارنا للعلم به.

رابعها : أن يحدث قبل أصل التّكليف.

خامسها : أن يحدث مقارنا لأصل التّكليف.

أمّا الصّورة الاولى ، ففيها قولان : قول بتنجيز العلم الإجماليّ وهو ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره مستدلّا بأنّ التّكليف بالنّسبة إلى الطّرف الآخر الّذي لم يضطرّ إليه ، قد تنجّز بالعلم الإجماليّ السّابق على الاضطرار ولم يحدث ما يوجب سقوط تنجيزه فيه ، فيجب الاجتناب عن الطّرف الآخر خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه قبل عروض الاضطرار. (١)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٤٥.

٣٠

وقول بانحلال العلم الإجماليّ وعدم تنجيزه مطلقا حتّى بالنّسبة إلى غير المضطرّ إليه ، وهو ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره مستدلّا بأنّ تنجيز التّكليف بالعلم الإجماليّ يدور مدار العلم المنجّز له حدوثا وبقاء ، ومع الاضطرار إلى أحد الطّرفين لا يبقى علم بالتّكليف في الطّرف الآخر ، بل يصير ذلك الطّرف مشكوكا بشكّ بدويّ ، فلا يبقى تنجيز للتّكليف. (١)

هذا ، ولكنّه قدس‌سره عدل عن ذلك ـ في حاشية الكفاية ـ وقال : بعدم الانحلال وبقاء التّنجيز في غير المضطرّ إليه ، وأفاده قدس‌سره في وجه ذلك ، ما محصّله : أنّ العلم الإجماليّ قد تعلّق من البدو بالتّكليف المردّد ، بين المحدود بعروض الاضطرار ـ إن كان العلم الإجماليّ في الطّرف المضطرّ إليه ـ وبين المطلق غير المحدود بعروضه ـ إن كان في الطّرف الآخر غير المضطرّ إليه ـ فيكون من قبيل تعلّق العلم الإجماليّ بالتّكليف المردّد بين القصير والطّويل ، كالعلم إجمالا بوجوب دعاء قصير ، أو دعاء طويل ، أو العلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعة الّتي يكون وقتها محدودا ـ كساعة بعد الزّوال ـ أو وجوب صلاة الظّهر الّتي يكون وقتها مطلقا من ناحية الأداء والقضاء ، فكما أنّ هذا العلم الإجماليّ يوجب التّنجيز بحيث لا يسقط التّكليف بالطّويل إذا سقط التّكليف بالقصير عند انتهاء أمده ، ففي المثال لا مجال للبراءة عن وجوب صلاة الظّهر بعد انتهاء أمد صلاة الجمعة وهو المحقّق بمضيّ ساعة من زوال الشّمس ، فكذلك المقام ؛ إذ التّكليف في الطّرف المضطرّ إليه قصير محدود بالاضطرار ، وفي الطّرف الآخر طويل غير محدود ، فلا يوجب سقوط التّكليف في ذلك الطّرف ، سقوطه في هذا الطّرف. (٢)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢١٦ إلى ٢١٨.

(٢) راجع ، حقائق الاصول : ج ٢ ، ص ٢٩٨ و ٢٩٩.

٣١

فمجموع الأقوال في الصّورة الاولى ثلاثة :

أحدها : ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من القول بتنجيز العلم الإجماليّ ، مطلقا.

ثانيها : ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره في متن الكفاية من القول بعدم تنجيزه مطلقا.

ثالثها : ما اختاره قدس‌سره في حاشية الكفاية من القول بعدم تنجيزه في الطّرف المضطرّ إليه وتنجيزه في غيره.

والصّواب هو القول الثّالث ، فيبقى تنجيز التّكليف في الطّرف الآخر غير المضطرّ إليه وينحلّ بالنّسبة إلى الطّرف المضطرّ إليه ؛ وذلك ، لما قرّر في غير موضع ، من أنّ تنجيز العلم الإجماليّ للتّكليف المعلوم إجمالا منوط بعدم جريان الاصول في أطرافه ، أو بتعارضها وتساقطها لو جرت ، وفي المقام لمّا كان العلم الإجماليّ بثبوت التّكليف ـ إمّا في الطّرف المضطرّ إليه إلى حدوث الاضطرار ، أو في الطّرف الآخر غير المضطرّ إليه في جميع الأزمان ـ موجودا ، وقع التّعارض بين الأصل الجاري في ذلك الطّرف بالنّسبة إلى حدوث الاضطرار ، وبين الأصل الجاري في هذا الطّرف بالنّسبة إلى جميع الأزمان ، فيتساقطان ، وقضيّة ذلك بقاء التّنجيز.

غاية الأمر : لا يمكن الموافقة القطعيّة لأجل الاضطرار ، بل يكتفى بالموافقة الاحتماليّة ، حيث إنّ الضّرورة تتقدّر بقدرها ، لا بأزيد منها.

وبالجملة : سقوط التّكليف في الطّرف المضطرّ إليه بانتهاء أمده ، لا يوجب سقوطه في الطّرف الآخر بجريان الأصل فيه.

٣٢

وما قال قدس‌سره في متن الكفاية من دوران التّنجيز مدار العلم الإجماليّ حدوثا وبقاء ، ولا علم إجمالا بقاء بعد حدوث الاضطرار فلا تنجيز كذلك ، فهو وإن كان صحيحا حسب الكبرى ؛ إذ التّنجيز معلول للعلم الإجماليّ فيدور مداره وجودا وعدما ، إلّا أنّه ممنوع حسب الصّغرى ، بمعنى : أنّ حدوث الاضطرار لا يوجب انحلال العلم وعدم بقاءه ، بل العلم باق بحاله حتّى حال الاضطرار ـ أيضا ـ إنّما الزّائل المرتفع بسبب الاضطرار هو المعلوم بالإجمال لو كان في الطّرف المضطرّ إليه ، وهذا هو الحال في صور اخرى ، كفقد بعض الأطراف أو الإتيان به أو خروجه عن محلّ الابتلاء.

نعم ، يزول نفس العلم حتّى التّفصيليّ بطروّ الشّكّ السّاري ، نظير ما إذا علم طرف الصّبح بنجاسة أحد الماءين إجمالا ، ثمّ شكّ طرف العصر في نجاسة أحدهما في طرف الصّبح واحتمل طهارة كليهما فيه ، ونظير ما إذا علم طرف الصّبح بنجاسة ماء معيّن تفصيلا ، ثمّ شكّ طرف العصر في نجاسته في ذلك الزّمان واحتمل طهارته فيه ، ففي مثل المثالين يوجب الشّكّ السّاري زوال نفس العلم.

ومن هذا البيان ظهر ، أنّ الفرق بين الاضطرار إلى أحد الأطراف ، فيكون من حدود التّكليف ، وبين فقده فلا يكون كذلك ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره في متن الكفاية ، فلا وجه له ، لدوران فعليّة التّكليف مدار فعليّة موضوعه بجميع خصوصيّاته وقيوده ، فلا فرق في انتفاء التّكليف بانتفاء موضوعه ، بين انتفاء ذات الموضوع ، كما في مورد فقدان بعض الأطراف أو خروجه عن محلّ الابتلاء ، وبين انتفاء قيد الموضوع ؛ إذ المقيّد ينتفي بانتفاء قيده وهو عدم الاضطرار ، كما في محلّ الكلام.

٣٣

فتحصّل : أنّه لو قيل بالتّحديد وتقييد التّكليف بالاضطرار ، لم يكن بينه وبين فقد الموضوع بفقد بعض أطراف العلم الإجماليّ فرق ، بل تقييد الحكم ببقاء الموضوع وعدم فقده أولى من تقييده بالاضطرار.

هذا ، مضافا إلى أنّ الاضطرار ليس من حدود التّكليف وقيوده ، بتقريب : أنّ الاضطرار العقليّ وهو العجز لا شأن له إلّا التّعذير ، فلا يحدّد التّكليف بناء على ما حرّرنا في غير موضع بما لا مزيد عليه ، من أنّ التّكاليف تكون فعليّة بالنّسبة إلى جميع المكلّفين حتّى المضطرّين والعاجزين.

غاية الأمر : أنّ العجز والاضطرار عذر للمكلّف وقصور فيه مع كون التّكليف تامّا لا قصور فيه أصلا ، فإذا لا يرفع بالاضطرار التّكليف في المقام ، بل هو باق بحاله ، كما أنّ الحقّ هو أنّه لا شأن للاضطرار العرفيّ ـ وهو المراد من حديث الرّفع ـ إلّا التّعذير ـ أيضا ـ كالعقليّ ، فلا مجال لما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ الاضطرار العرفيّ الّذي إليه مآل حديث الرّفع يكون حدود التّكليف الشّرعيّ. (١)

وكذلك ظهر ، أنّ ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من منافاة الاضطرار الموجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا ، للعلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا ، ممّا لا وجه له ؛ بداهة ، أنّه لا اتّحاد بين متعلّق الاضطرار ، وبين متعلّق التّكليف ، فمتعلّق التّكليف كالحرمة ـ مثلا ـ هو شرب الخمر ، ومتعلّق الاضطرار ليس هو شرب الخمر ، إذ المفروض أنّه يضطرّ إلى شربها بالخصوص بل متعلّقه هو أحد الإنائين ، إمّا تخييرا أو تعيينا ، كما هو محلّ الكلام فعلا.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣٥.

٣٤

نعم ، قد يتّفق انطباق المضطرّ إليه على الحرام الواقعيّ ، وهذا ليس لأجل الاضطرار ، بل يكون مستندا إلى جهل المكلّف بالواقعة ، وعليه ، فالمضطرّ إلى أحد الإنائين مرخّص في ارتكاب أحدهما أو في تركه لارتفاع الاضطرار بهذا المقدار ، ومكلّف بالاجتناب عن الآخر أو بالإتيان به ، فلا منافاة ولا مزاحمة بين الدّليلين مطلقا.

هذا تمام الكلام في الصّورة الاولى.

أمّا الصّورة الثّانية : (حدوث الاضطرار إلى أحد الأطراف المعيّن بعد التّكليف وقبل العلم به) فحكمها عدم بقاء التّنجيز بعد عروض الاضطرار ، بعكس الصّورة الاولى ، حيث إنّ التّنجيز فيها باق بعد عروضه.

توضيح ذلك : أنّه بناء على مسلك تحديد التّكليف وتقييد فعليّته بالاضطرار ـ كما عليه عدّة من الأساطين منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ لا يكون العلم الإجماليّ متعلّقا حينئذ بحكم فعليّ على كلّ تقدير فلا يكون منجّزا ؛ إذ على تقدير كون الطّرف المضطرّ إليه هو الحرام الواقعيّ ، فهو حلال قطعا بعنوانه الثّانوي (الاضطرار) ، فلا يجب الاجتناب عن الطّرف الآخر الّذي يكون حلالا واقعيّا حسب الفرض ؛ وعلى تقدير كون المضطرّ إليه هو الحلال الواقعيّ وجب الاجتناب عن الطّرف الآخر الّذي يكون حراما واقعيا حسب الفرض ، فإذا كان الحال هكذا ، لم يكن في البين علم بتكليف فعليّ على جميع التّقادير ، وواضح ، أنّه يعتبر في منجّزيّة العلم الإجماليّ تعلّقه بحكم فعليّ على كلّ تقدير.

وبعبارة اخرى : أنّ العلم الإجماليّ هنا ، تعلّق بحكم مردّد بين الفعليّ والإنشائيّ ، فلا يكون منجّزا.

٣٥

وأمّا بناء على مسلك الإمام الرّاحل قدس‌سره من عدم التّحديد والتّقييد وبقاء التّكليف على ما هو عليه من الفعليّة حال الاضطرار ، إلّا أنّ المكلّف يكون معذورا في تركه ، فالعلم الإجماليّ ـ أيضا ـ لا يكون منجّزا وإن كان متعلّقا بالتّكليف الفعليّ ؛ وذلك لأنّ متعلّق العلم وإن كان حكما فعليّا ، إلّا أنّ مجرّد كونه فعليّا لا يثمر ، بل لا بدّ أن يتعلّق بحكم فعليّ صالح للاحتجاج مطلقا عند العقلاء ، والمفروض أنّ هذا القيد مفقود في المقام ، حيث إنّه لم يتعلّق بما هو صالح له مطلقا بحيث لو ارتفع الإجمال لتنجّز التّكليف ، بل هو صالح للاحتجاج على وجه وغير صالح له على وجه آخر ، ومرجعه إلى عدم العلم بالصّالح مطلقا ، ومعه لا يوجب تنجيزا أصلا. (١)

وبما ذكرناه في هذه الصّورة الثّانية ، انقدح حكم الصّور الاخرى ، فلا نطيل الكلام فيها.

ولا يخفى : أنّ ما ذكرناه في الاضطرار إلى المعيّن من الطّرفين أو الأطراف من الأقسام والأحكام في جميع الصّور ، يجري في مثل فقد بعض الأطراف ، أو خروجه عن محلّ الابتلاء ، أو الإكراه ، فانتبه ، هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثّاني : (الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه) ففيه قولان : قول بتنجيز العلم الإجماليّ ووجوب الاجتناب عن الطّرف الآخر غير المضطرّ إليه ، سواء طرأ الاضطرار قبل العلم بالتّكليف أو بعده أو معه ، وهو ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره. (٢)

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣١ و ٣٣٢.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٤٥.

٣٦

وقول بانحلال العلم وعدم تنجيزه وهو ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره ، والدّليل عليه هو ما اشير إليه في المقام الأوّل : من أنّ التّرخيص ـ لأجل الاضطرار ـ في بعض أطراف العلم بلا تعيين ، لا يجامع العلم بالتّكليف الفعليّ من الحرمة أو الوجوب ، بل يزول حينئذ العلم به ، فيزول التّنجيز الّذي يدور مداره وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، وعليه ، فتصير الشّبهة في غير ما يختاره للاضطرار بدويّة تجري فيه البراءة. (١)

وبعبارة اخرى : لا علم حينئذ بثبوت التّكليف وباشتغال الذّمة حتّى يقتضي البراءة وفراغ الذّمة يقينا ، فلا يكون في البين شكّ في سقوط الذّمة وفراغها حتّى يجري الاشتغال ، بل يكون الشّكّ عندئذ شكّا في ثبوت التّكليف وأصل اشتغال الذّمة فتجري البراءة في مثل ذلك.

هذا ، ولكن الصّحيح ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره فقال في وجهه ما حاصله : إنّ الاضطرار في الفرض لم يتعلّق بخصوص الحرام حتّى يرفع حرمته ، بل تعلّق بالجامع بينه وبين الحلال ، فما هو متعلّق الاضطرار لا يكون متعلّق الحرمة ، وما هو متعلّق الحرمة ليس متعلّق الاضطرار ، فلا مصادفة بين عنوان العلم الإجماليّ والاضطرار ، ولا منافاة ولا مزاحمة بينهما ، وحينئذ لا وجه لرفع التّكليف المعلوم بالإجمال المنجّز بالعلم الإجماليّ بمجرّد الاضطرار إلى الجامع ، بل المقام نظير ما لو اضطرّ إلى شرب أحد الماءين مع العلم التّفصيليّ بحرمة أحدهما المعيّن ، فهل يمكن أن يقال : بارتفاع حرمة شرب ذلك المعيّن للاضطرار إلى شرب أحدهما غير المعيّن.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢١٦.

٣٧

وإن شئت ، فقل : إنّ العلم الإجماليّ تعلّق بتكليف لو تعلّق به العلم التّفصيليّ لنجّزه ؛ وذلك ، لعدم تعلّق الاضطرار بما تعلّق به التّكليف ، نعم ، لا تجب الموافقة القطعيّة لعدم إمكانها ، ولكن تحرم المخالفة القطعيّة لإمكانها.

فتحصّل : أنّ الاضطرار لا يوجب انحلال العلم الإجماليّ وارتفاع تنجيزه ، لعدم اتّحاد متعلّق التّكليف والاضطرار ، فلا مجال للتّرخيص في جميع الأطراف فعلا أو تركا ، لاستلزامه الإذن في المخالفة القطعيّة وارتكاب المعصية بلا شبهة.

نعم ، لا يمكن الموافقة القطعيّة والاحتياط التّام الكامل ؛ بداهة ، أنّ ارتفاع الاضطرار يتوقّف على ارتكاب بعض الأطراف أو تركه ، فلا محيص من التّرخيص بمقدار ارتفاعه.

ونتيجة ذلك : أنّ ما اختاره المكلّف إن كان منطبقا على الحلال الواقعيّ ، فالحرمة الواقعيّة في الطّرف الآخر باقية بحالها ، وإن كان منطبقا على الحرام الواقعيّ ، فالحرمة الواقعيّة لا ترتفع لعدم الاضطرار إلى الحرام ، إلّا أنّ الجهل بالحرام الواقعيّ مستلزم للتّرخيص الظّاهريّ في ارتكابه ، وهذا يوجب ارتفاع العقاب فقط ، دون ارتفاع الحرمة الواقعيّة.

هذا ، ولكن التزم المحقّق النّائيني قدس‌سره في المقام بارتفاع الحرمة واقعا على تقدير مصادفة ما يختاره لرفع الاضطرار مع الحرام الواقعيّ ؛ بتقريب : أنّ المكلّف إذا اختار الحرام الواقعيّ اتّفاقا ، يصير ذلك الحرام مصداقا للمضطرّ إليه قهرا بعد ما كان المضطرّ إليه هو عنوان الجامع وأحد الإنائين ـ مثلا ـ ، وعليه ، فترفع الحرمة الواقعيّة لأجل الاضطرار واقعا. (١)

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٠٦ و ١٠٧.

٣٨

ومن العجب أنّه قدس‌سره ذهب ـ مع ذلك الالتزام ـ إلى عدم جريان البراءة في الطّرف الآخر الباقي ، بدعوى : أنّ الحرمة إنّما ترتفع بعد اختياره للحرام ، رفعا للاضطرار ، وأمّا قبل ذلك فالحرمة المعلومة إجمالا كانت فعليّة منجّزة ، فالمقام يكون نظير الاضطرار إلى واحد معيّن من الأطراف بعد العلم الإجماليّ بالتّكليف وبعد سقوط الاصول في أطرافه للمعارضة ، فكما يقتصر في رفع التّكليف على خصوص مورد تحقّق الرّافع له وهو أحد الطّرفين في الاضطرار إلى المعيّن ويكون الحكم باقيا على تنجّزه في الطّرف الآخر ، كذا الأمر في المقام ، فيقتصر في رفع التّكليف فيه على خصوص ما يختاره المكلّف من أحد الطّرفين ويبقى الحكم على تنجّزه في الطّرف الآخر الّذي لم يختره.

وأنت تعلم ، أنّ التزامه قدس‌سره بسقوط التّكليف وارتفاع الحرمة عن الحرام الواقعيّ باختيار المكلّف للمضطرّ إليه ، لا يجتمع مع ذهابه إلى تنجّز التّكليف في الطّرف الآخر وعدم جريان البراءة فيه ، بل لا مناص من الالتزام ، إمّا بعدم ارتفاع الحرمة واقعا وعدم سقوط التّكليف وهو المختار ، وإمّا بعدم تنجّزها وسقوطه بالمرّة حتّى في الطّرف الآخر وهو مختار المحقّق الخراساني قدس‌سره.

وقد اجيب عنه بأنّ الحرمة الواقعيّة تدور مدار ملاكها وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، بلا تأثير لإرادة المكلّف واختياره فيها وضعا ورفعا ، فلا ترتفع حرمته بإرادته واختياره له جهلا لرفع اضطراره ، ودعوى : أنّ الحرام الواقعيّ بعد اختياره في الفرض اتّفاقا ، يكون مصداقا للمضطرّ إليه ، كما ترى ، ضرورة عدم انقلاب الاضطرار إلى أحد الإنائين لا بعينه إلى الاضطرار إلى المعين لأجل إرادة المكلّف واختياره.

٣٩

على أنّه كيف يعقل الحكم بحرمة الحرام الواقعيّ إلى زمن اختيار المكلّف وإرادته له ثمّ الحكم بارتفاع حرمته بإرادته واختياره ، وأنت تعلم ، أنّ جعل الحرمة لشيء إنّما يكون لأجل صرف الاختيار والإرادة عن الحرام في الكتاب والسّنّة ، فارتفاعها بالاختيار والإرادة يؤول إلى اللّغويّة بالضّرورة.

وفيه : أنّ مقصود المحقّق النّائيني قدس‌سره هو أنّ ما اختاره المكلّف لرفع اضطراره على تقدير كونه حراما واقعيّا ، يصير مصداقا للمضطرّ إليه قهرا ، فترفع حرمته بحديث الرّفع ، وأنت ترى ، أنّ هذا أجنبيّ عمّا ذكره المجيب.

ثمّ إنّ الكلام في غير الاضطرار من الأعذار الأخر ، كالإكراه ونحوه هو الكلام في الاضطرار ، فيجري فيها ما ذكرناه فيه. هذا تمام الكلام في التّنبيه الأوّل.

التّنبيه الثّاني : اعلم أنّ الكلام في هذا التّنبيه يقع في أمرين ، قد أشار إليهما المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، الأوّل : أنّه لا بدّ في فعليّة التّكليف من اعتبار كون المكلّف به موردا للإبتلاء ، بحيث لو خرج عن مورد الابتلاء لكان مانعا عن فعليّته ، والوجه فيه ـ على ما أفاده قدس‌سره ـ هو أنّه لو لم يعتبر الابتلاء بجميع الإطراف الإجماليّ في تأثيره ومنجّزيّته للتّكليف المعلوم بالإجمال ـ مع فرض كون النّهي لإيجاد الدّاعي إلى التّرك ـ لكان التّرك حاصلا قهرا ، فيصير النّهي لغوا منافيا للحكمة ، بل طلبا لأمر حاصل أو طلبا لترك أمر متروك قهرا وبلا طلب ، وأنت تعلم ، أنّ إعدام المعدوم وترك ما هو متروك محال كإيجاد الموجود وطلب ما هو حاصل.

وإن شئت ، فقل : العلم الإجماليّ إنّما يؤثّر وينجّز إذا تعلّق بتكليف فعليّ ، ومع

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢١٨ و ٢٢٣.

٤٠