نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

قال «الراغب» في «المفردات» : الجزاء في الأصل بمعنى الاستغناء والاكتفاء ، واطلقوا على الثواب والعقاب جزاء لأنّهما يكفيان لإصلاح العمل المرتكب ، وجاء نفس هذا المعنى في مقاييس اللغة أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أنّ الخطاب في الآيتين الاوليين موجّهٌ إلى بني اسرائيل الذين يضرب بهم المثل على مدى الدهور بالتعصّب العرقي والقومي ، فالقرآن ينذرهم بقوله : أنتم الذين تحملون روح التعصب فيما بينكم فسوف تنسون كل شيء في ذلك اليوم العظيم ، كل شيء إلّاأنفسكم.

والحقائق الناصعة التي تحملها هذه الآيات لا تحتاج إلى توضيح ؛ وذلك لأنّها تُثبتُ بوضوح أنّ أهوال يوم القيامة والوقائع الصعبة التي تقع في ذلك اليوم العظيم لا مثيل لها في هذه الدنيا ، ففي هذه الدنيا يوجد الكثير ممن يضحّي للآخرين بنفسه من أجل الروابط العاطفية ، ولكن هذا الأمر لا يَصْدُق في يوم القيامة على أحد.

* * *

٥٣ ـ يوم تبيضُّ وجُوهٌ وتسودُّ وجُوهٌ

هذا التعبير الذي جاء في مورد واحد من القرآن المجيد هو بيانٌ لبعدٍ آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويعكس صورة اخرى عن يوم المحشر ، قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). (آل عمران / ١٠٦)

والوجوه المنيرة هي لأولئك الذين تنعّموا بنور الإيمان فيظهر هذا النور على وجوههم لأنّ يوم «القيامة هو يوم تبرز فيه السرائر» قال تعالى : (وَأَمَا الَّذِين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيَها خَالِدُونَ). (آل عمران / ١٠٧)

أمّا أصحاب القلوب المظلمة الذين خَلَتْ قلوبهم من النور ، والكفار والمجرمون الذين اسودّت قلوبهم فإنّ ظلمات باطنهم تخرج إلى ظاهرهم ، ويُغمرون في عذاب الله ويقال لهم : (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). (آل عمران / ١٠٦)

٨١

وهذا التعبير المذكور أعلاه انعكس بصورة اخرى في آيات القرآن المجيد أيضاً ، ففي احدى الصور قال تعالى : (كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوهُهُم قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظلِماً). (يونس / ٢٧)

وجاء في صورة اخرى قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ). (عبس / ٣٨ ـ ٣٩)

وفي الثالثة : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ). (عبس / ٤٠ ـ ٤١)

متى تَحِلُّ هذه الواقعة؟ ومتى تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ اخرى؟

يرى البعض أنّ هذا سيقع عندما تتفرق الصفوف عن بعضها للورود إلى الجنّة أو الدخول إلى النار ، ويرى البعض الآخر أنّ هذا سيقع عند مشاهدة صحائف الأعمال ، ويرى آخرون إنّه سيقع عند الخروج من القبور أو عند الوقوف إزاء ميزان العدل الإلهي.

ولكن بما أنّ ذلك اليوم هو يوم إبراز وظهور حقائق الأفراد والأعمال فإنّه يبدو أنّ وقوع هذا الأمر يتمّ في أول وهلة عند خروج الناس من القبور ويستمر فيما بعد.

من هم أصحاب الوجوه البيض ومن هم أصحاب الوجوه السود؟

للمفسرين في الجواب على ذلك احتمالات عديدة ، وأحياناً حصروا ذلك في أشخاص محدودين ، ولكن الظاهر أنّ جميع المؤمنين أصحاب العمل الصالح يكونون في صف أصحاب الوجوه المبيضة وجميع أهل الكفر والمجرمين في صف أصحاب الوجوه المسودّة.

وأخيراً أراد بعض المفسرين أن يحمل هذين التعبيرين على مفهومهما المجازي فقالوا البياض هو لبيان السرور والفرح والسواد لبيان الغم والهم (١).

ولكن لا يوجد هناك ضرورة لارتكاب مثل هذه المخالفة للظاهر ، بل يجب حمل الآية على المعنى الحقيقي لها ، فعندما يقول القرآن :

(يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ). (حديد / ١٢)

فما الذي يثير العجب من أن تكون هناك وجوه بيض منيرة ووجوه سود مظلمة؟

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٤ ، ص ٢٥.

٨٢

وما أعظم خوف ذلك اليوم حقّاً! عندما يظهر ما في قلب الإنسان وروحه على وجهه ، إنّه يوم الخزي العظيم لسود القلوب ويوم الكرامة الكبرى لبيض القلوب ، ولهذا السبب يكون المؤمنون في ذلك اليوم موضع احترام وتكريم في المحشر ويكون الكافرون مورد لعنٍ وطرد!

٥٤ ـ ويخافون يوماً كان شرُّهُ مسطيراً

هذا التعبير جاء في موردٍ واحد من القرآن الكريم عند وصف الأبرار والمحسنين ، قال تعالى : (وَيَخَافُونَ يَوْماً كَان شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). (الإنسان / ٧)

«مستطير» : من مادة «طيران» وهي هنا بمعنى واسع ومذبذب ، لذا فسّرها البعض بمعنى الشي الذي اتّسع بشكل خارق للعادة ، واطلق هذا التعبير على الفجر عندما ينبسط في الافق فقالوا : «فجرٌ مستطيرٌ».

و «الشر» : جاء هنا بمعنى عذاب يوم القيامة ، أو الخوف والرعب من ذلك اليوم الذي ينتشرُ حتى يغطي جميع الأرض والسماء ممّا يجعل الملائكة أيضاً يتملَّكهُمُ الخوف ، هناك يَتَمَلَّكُ الخوفُ الجميعَ لا المجرمين والمسيئين فحسب ، بل حتى المؤمنين والمحسنين يتملّكهم الخوفُ وذلك لأنّهم لا يعلمون ما ينتهي إليه مصيرهم أو مآلهم.

والجدير بالذكر أنّه يُعتبرُ في الآية المذكورة الخوفُ من مثل هذا اليوم من الصفات الممدوحة والامور الايجابية في أخلاق الأبرار الطاهرين ؛ وذلك لأنّ خوفاً كهذا يكون نابعاً من التقوى والتوجُّهِ إلى الطاعة المطلقة للخالق جلّ شأنهُ.

* * *

٥٥ ـ يوم يفرٌّ المرءُ من أخيه

التعبير أعلاه والذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد هو تجسيم آخر بَيِّنٌ لمشهدِ يومِ القيامة ، قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرٌّ الْمَرْءُ مِن أَخِيْهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ* لِكُلِ

٨٣

إِمْرءٍ مِّنْهُمْ يَؤَمِئذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ). (عبس / ٣٤ ـ ٣٧)

من الطبيعي أن يكون أقرب وأحبّ الأفراد للإنسان هم الأخوة والأم والأب والزوجة والأولاد ، ومن العجيب أنّ القرآن لم يقُلْ إِنَّ الإنسان في غفلة عن هؤلاء في ذلك اليوم بل قال : إنّه يفرُّ من الأُمِّ التي كان يحبها كثيراً أو الأب الذي يكُنٌّ له التقديرَ والاحترام ومن الزوجة التي كان يعشقها ، والأولاد الذين كانوا ثمرة قلبه ونور عينيه! بلى إنّه يفرّ منهم جميعاً!

إنّ هؤلاء كانوا ملجأً له من مشاكل الدنيا ، وسكناً له في المصائب الشدائد ولكن ما الذي يحدثُ هناك بحيث يفرّ منهم؟!

إن صيحة يوم البعث والذي عبر عنها القرآن الكريم بـ «الصاخة» والتي وردت في الآية التي سبقت الآيات المذكورة في موضوع بحثنا ، حيث وصفت هذه الصيحة بالعظمة بحيث تمزق عُرى كافة الأواصر ، وهذا الصوت من الرهبة بحيث يدخل الرعب والرهبة على القلوب ويصم الآذان.

فلماذا يفرّ المرءُ؟

هل يفرّ خوفاً من الفضيحة أمام أقرب الخلق إليه؟

أو خوفاً من تبعات الذنوب التي ارتكبها؟

أو يفرّ من حقوق الناس التي تثقل عاتقه؟ فمن المحتمل أن يطالبه هؤلاء بحقوقهم في ذلك اليوم الذي تكون فيه يد الإنسان خالية من كلّ شيء!

أو لا هذا ولا ذاك بل إنّه يهرب من شدّة الخوف والرعب في المحشر حيث إنّ هذا الموقف يُرغمُ كلَّ إنسانٍ على الهرب أحبّته والاهتمام بنفسه ولا غير ، كي يجد لها مخلصاً ممّا هي فيه.

إنّ كل واحد من هذه الامور الأربعة يكفي لوحده أن يكون مدعاة للهرب والخلاص فكيف الحال إذا اجتمعت معاً؟

جاء في الحديث الشريف إنّ أحد أقرباء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله سأله عن : ثلاثة مواقف يوم القيامة لا يفكر أحد إلّابنفسه : ١ ـ الميزان ٢ ـ الصراط ٣ ـ تطاير الكتب (١).

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٢٩ ، ح ١.

٨٤

٥٦ ـ يوماً يجعلُ الولدان شيباً

هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة تصوير أو تجسيد آخر للوقائع المروّعة لذلك اليوم العظيم ، فقد خاطب الكفار والمشركين فقال تعالى : (فَكَيَفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفْرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) (١) ـ (٢). (المزّمل / ١٧)

إنّ هذا التعبير من أبلغ التعابير التي تميط اللثام عن الوقائع المرعبة لذلك اليوم كما تؤثِّر تلك الوقائع على عالم الطبيعة وعلى الجبال والصحراء وتجعلها هباء وتؤثر كذلك في هذا الإنسان الترابي بحيث الاضطراب والخوف والانقباض إلى درجة تشيبُ الولدانُ من هولها.

وحمل بعض المفسرين هذا التعبير على معناه الحقيقي أي أنّ آثار المشيب تظهر على الأطفال حقيقة وإن كانت الفاصلة الزمنية بين الطفولة والمشيب كبيرة ، وجاءوا لإثبات ذلك بأدلة أيضاً ، فإننا في هذه الدنيا نشاهد أفراداً يبيضُّ شعر رؤوسهم خلال عدّة أيّام أو حتى لعدّة ساعات من شدّة المصاب الذي يحلّ بهم ، فإن كان بوسع أحداث هذه الدنيا أن تؤثر مثل هذا التأثير على الإنسان فإنّ وقائع المحشر التي هي أشدّ وأصعب كثيراً ستؤثر مثل هذا التأثير لا محالة.

ولكنَّ جمعاً من المفسرين حملوه على المعنى المجازي لأنّ مثل هذه الكناية من الامور الشائعة على ألسنة العرب وغيرهم ، فإنّهم من أجل بيان عظمة احدى الشدائد يقولون : «شيبني هذا الأمر»!

وكلا التفسيرين وجيه بالنسبة لهذه الآية ، أمّا ما قيل بأنّ مشيب الأطفال يحصل من طول ذلك اليوم فهذا بعيد ، لأنّ هذه الآية مثل كثير من الآيات الاخرى المختصة بالقيامة ناظرة إلى الوقائع المروعة لذلك اليوم ، والآيات السابقة لهذه الآية والتي تتحدث عن دَكِّ الجبال تصلح دليلاً مؤيداً لهذا القول.

__________________

(١) يرى جمع من المفسرين أنّ «يوماً» الذي جاء في الآية المذكورة أعلاه هو ظرف ل «يتّقون» ، ولكن احُتمِل بأنّه «مفعول به» ليّتقون ، ففي هذه الصورة قدّروا كلمة عذاب في الآية فتصبح الآية على هذا بهذه الصورة : فكيف تتقون إن كفرتم (عذاب) يوم يجعل الولدان شيباً.

(٢) «شيب» على وزن (فِعْل) جمع «أشْيَب» بمعنى الشيخ المُسِن ، ومادة شَيب على وزن (فَعْل) بمعنى تغيّر لون الشعر من الاسود إلى الابيض.

٨٥

٥٧ ـ هذا يومُ لا ينطقون

ورد ذكر هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في سورة المرسلات ، قال تعالى : (هذَا يَوْمُ لَايَنْطِقُونَ). (المرسلات / ٣٥)

هل يكون الفزع والخوف العظيم الحاصل في القيامة السبب في توقف ألسنتهم عن النطق كما هو الحال في الدنيا عندما تصيب الإنسان داهية تجعله لايستطيع الكلام؟!

أم لأنّهم لا يمتلكون خطاباً ولا عذراً وحجة؟! أم تتوقف الألسن عن التكلم بأمر الله وتشهد الجوارح على أعمالهم؟ كما جاء في الآية الكريمة : (الْيَومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (يس / ٦٥)

من الممكن أن تجتمع هذه التفاسير الثلاثة معاً في الآية ، وإن كان التفسير الثالث أكثر مناسبة ، على أيّة حال فإنّ هذا لايمنع من أن يتكلّم الإنسان في بعض مواقف القيامة بأمر الله ، لأنّ القيامة لها مواقف مختلفة ، وقد اتضح من خلال الآيات القرآنية أنّ المجرمين في بعض هذه المواقف يكونون صُمّاً بُكْماً لاينطقون وأنّهم في مواقف اخرى يتكلمون بأمر الله.

* * *

٥٨ ـ يوَم يُكشَفُ عن ساقٍ ويُدْعَونَ إلى السٌّجودِ فلا يستطيعون

ونواجه هنا أيضاً من خلال هذا التعبير الدقيق والفريد من نوعه وجهاً عبوساً آخر لذلك اليوم العظيم ، قال تعالى ، : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السٌّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ). (القلم / ٤٢)

يرى الكثيرُ أو جمعٌ من المفسرين بأنّ التعبير : «يُكْشَفُ عَن سَاقٍ» هو كناية عن هولِ المطلعِ وشدّة الخوف والفزع ، وذلك لأنّ الناس قديماً كانوا يرفعون الأكمام عن أذرعهم ويرفعون أذيال ثيابهم إلى المحزم تأهباً عند مواجهة الشدائد والحوادث وفي هذه الحالة تكون السيقان مكشوفة طبعاً.

ويرى بعضٌ من المفسرين أنّ هناك احتمالاً آخر في تفسير هذه الآية وهو إن «ساق»

٨٦

بمعنى الأصل والأساس لكل شيء (مثل ساق الشجرة) ، وبناءً على هذا تكون جملة «يُكشَفُ عن ساقٍ» دليل على ظهور وبروز حقائق الأشياء في ذلك اليوم (١).

وعلى أي حال فإنّ الجميع يُدعون في ذلك اليوم المرعب للسجود أمام عظمة خالق الكون فيسجد المؤمنون ، ومن المحتمل أن تكون هذه السجدة من بواعث اطمئنان القلب والروح ، أما من تلوث قلبه بالكفر والذنوب فلا يستطيع السجود.

جاء في الحديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام في قوله : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السُّجُودِ) قال : (حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجداً وتدمج اصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود» (٢).

وقال البعض إنّ المراد من (يَوْمَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ) هو ظهور النور الإلهي.

* * *

٥٩ ـ يومَ لا ينفعُ الظالمين معذرتهم

هذا التعبير أيضاً يوضّح واقعة اخرى مؤلمة من وقائع ذلك اليوم ، قال تعالى : (يَوْمَ لَايَنْفَعُ الظَّالِميِنَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). (غافر / ٥٢)

من المتعارف في هذه الدنيا اللجوء إلى الاعتذار وطلب المغفرة من أهل النجاة من مخالب العقوبات ، لكنّ طبيعة يوم القيامة تكون على نحوٍ لا مجال فيه لعذر الظالمين ، لأنّ ذلك اليوم وُضِع أساساً لجني الأعمال لا لترميم الماضي الذي يعتبر نوعاًمن العمل.

في بعض الآيات السابقة اتضح لنا عدم الاذن لهم بالاعتذار في ذلك اليوم ، وفي البعض الآخر من الآيات اتضح أنّهم وإن اعتذروا بألسنتهم إلّاأنّ ذلك الاعتذار أيضاً لا ينفعهم ، فبناءً على هذا لا يبقى أمامهم إلّاطريق الاستسلام للغضب الإلهي وبئس المصير.

ويخاطب القرآن الكريم جميع الناس في هذا التعبير بأن يسارعوا لطلب العفو من الله

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٣٥ ؛ تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٢٨.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٨٧

لمحو آثار الذنوب فإنّ محوها غير ممكن إلّافي هذه الدنيا ، ومحو آثار الظلم عن طريق أداء حق المظلومين ، فيجب الاستفادة من هذه الفرصة وإلّا فإنّ في ذلك الموقف العظيم والمحكمة الكبرى لا ينفع الندم ولا الاعتذار ولا البكاء والعويل.

* * *

٦٠ ـ يومَ يعضُّ الظالمُ على يديه

هذا التعبير من التعبيرات الرهيبة أيضاً ، وقد ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ثم أعقبه تعالى (يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذ فُلَاناً خَلِيلاً). (الفرقان / ٢٧ ـ ٢٨)

يعضُّ الإنسان أحياناً على أصابعه عند الندم للتأسُّفِ الشديد من الأعمال الماضية ، ويعضُّ أحياناً على ظاهر كفّه أيضاً ، وعندما يكون الندم والتحسّر شديداً جدّاً فإنّه يعضٌّ على كلتا يديه بالتناوب ، وهذا أروعُ تعبير لبيان شدّة الندامة والأسف.

بلى إنّ الظالمين يعضّون على أيديهم في ذلك اليوم العظيم بصورة مستمرّة ، لأننا نعلم بأنّ أحد أسماء ذلك اليوم هو : (يَوْمُ الْحَسْرَة). (مريم / ٣٩)

ولكن ما الفائدة من ذلك؟ هل أنّ إدماءَ الأيدي بالأسنان والذي هو نوع من الانتقام من النفس يصلح لحلّ المشكلة ، أو لجلب الاطمئنان؟ أم يزيدُ من ألم الظالمين ويجعل فضيحتهم اشنع؟!

جاء في تفسير «الميزان» إن «الظالم» في هذه الآية يشمل جميع الظالمين ، كما أنّ «الرسول» أيضاً يشمل جميع الرُّسُل ، (أي اللام فيهما للاستغراق) وإن كان الخطاب في هذه الآية موجهاً إلى ظالمي هذه الامة والمراد من الرسول هو رسول الله محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية يطول تفصيلها ، ولكننا نعتقد بأنّ أسباب النزول لا تحدد مفهوم الآيات (١).

__________________

(١) للاطلاع أكثر راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٢٨ من سورة الفرقان.

٨٨

٦١ ـ يومَ يُعرَضُ الَّذِينَ كفروا على النّار

٦٢ ـ يوم تقلّبُ وجوهُهُم في النار

يلاحظ هنا أيضاً تعبيران متشابهان ومتقاربان لوصف مشهد ذلك اليوم العظيم : ففي التعبير الأول والذي ورد ذكره مرّتين قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ). (الاحقاف / ٢٠ ـ ٣٤)

ففي الآية الاولى بعد ذكر هذا المقطع قال تعالى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).

وفي الآية الثانية قال تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

لقد ورد التأكيد في الآية الاولى لبيان أنّ السبب يقع على الجانب العملي ، أي تلك اللّذات اللامشروعة والاستفادة المحرمة من الهبات الإلهيّة ، وفي الآية الثانية جاء التأكيد على الجانب الاعتقادي الذي يكون سبباً في هلاك أهل النار.

ومن الملفت للنظر : إنّ بعض الآيات القرآنية تَذْكرُ بأنّ يوم القيامة يؤتى بالنار صوب المجرمين (وَجِئَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ). (الفجر / ٢٣)

ولكن في هذه الآية التي هي محلّ بحثنا ذُكِرَ بأنّ الكفار هم الذين يساقون تجاهَ النار ، وكأنّما هنالك قوّة جذب بينهما ، فتارة يؤتى بجهنم صوبهم وأخرى يؤتى بهم إلى النار! ليتجرّعوا العذاب.

وفي التعبير الثاني يُشار إلى نوع آخر من أنواع العذاب المؤلم ليوم القيامة ويسمى ذلك اليوم باسم ذلك العذاب ، قال تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرّسولَا). (الاحزاب / ٦٦)

وللمفسرين اقوال عدّة في المراد من تقلّب الوجوه في ذلك اليوم ، فتارةً قيل إنّ المراد من التقلّب هو تغيّر لون الوجوه ، فتكون مصفرّة وذابلة وأُخرى تصير محمرّة كالنار وثالثة تسودُّ وتصبح كقطع الليل.

٨٩

وقال البعض منهم إنّ المراد من التقلّب هو تقليب الوجوه كما تقلب الأشياء على النّار للطهي من طرفٍ إلى آخر ، فهكذا يُفعلُ بوجوه المجرمين أيضاً في ذلك اليوم العظيم.

وقيل إنّ المراد إلقاؤهم على وجوههم في النار ، والحكمة من ذكر الوجوه هنا هو إنّ الوجوه أشرف أعضاء بدن الإنسان وأجلّها لديه.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو الجمع بين التفاسير الثلاثة في هذه الآية وإن كان التفسير الأول والثاني أقرب للصحة فعلى أيّة حال فإنّ الآية تُنبئُ عن الفاجعة الكبرى والعذاب العظيم الذي يواجهه المجرمون والكافرون والمعاندون يوم القيامة.

والخطاب الذي تحمله هذه الآية هو دعوة الناس إلى الاجتهاد في طاعة الله ورسوله في الدنيا قبل حسرة ذلك اليوم العظيم وقولهم ياليتني ... والتي لا تعود عليهم بأيّة فائدة حينئذٍ؟ لماذا يرجّحون اليوم طاعة العباد الذين يتخلّقون بأخلاق الشيطان وطواغيت العصر على طاعة الله؟ الأمر الذي يكون السبب الرئيسي في ندمهم يوم القيامة.

* * *

٦٣ ـ يومَ يُدَعُّونَ إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعّا

هذا التعبير أيضاً له شبه كبير بالتعبيرات السابقة ، قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَّارِ جَهَنَّمَ دَعّاً). (الطور / ١٣)

ثم يقال لهم : (هَذِهِ النَّارُ الَّتى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحرٌ هَذَا أَمَ أَنْتُمْ لَاتُبْصِرُونَ). (الطور / ١٤ ـ ١٥)

«يُدَعُّون» : من مادة «دَعّ» كما قال الراغب في المفردات بمعنى «الطرد الشديد» ، فهذا التعبير يدلّ على أنَّ نَفْسَ الأَخْذِ إلى جهنم أيضاً يكون مقروناً بالشدّة والفزع والخوف والاضطراب الشديد في يوم القيامة العظيم ، إن تصوّر هذا التعبير يكفي لأنّ يرتعد الإنسان ويفكر في عاقبة أمره ، ويوضح للإنسان عِظَمَ المصير الذي سوف يلاقيه.

وما أكثر التباين بين أصحاب جهنم وأصحاب الجنّة ، حتى في كيفية انتقالهم إلى مقرّهم

٩٠

النهائي! فقد جاء في القرآن الكريم عن كيفية انتقال أهل الجنّة إليها : (سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (النحل / ٣٢)

وجاء في موضع آخر بأنّ الملائكة تقول لهم : (سَلَامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُم فَنِعْمَ عُقبى الدَّارِ). (الرعد / ٢٤)

* * *

٦٤ ـ يومَ نَبْطِشُ البَطْشةَ الكبرى

٦٥ ـ يومٌ لا مَرَدَّ لهُ من الله

التعبير الأول تعبيرٌ مروّع عن ذلك اليوم العظيم ، وذلك لأنّ الله عزوجل بعظمته وقدرته الخالدة يهدد الكافرين والمجرمين بأشدّ اسلوب فيقول : (يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). (الدخان / ١٦)

فكلما أمعَنَ الإنسان النظر في مفردات هذه الآية؟ كالتعبير ب «البطش» الذي يعني الأخذ بالقوة والمصحوب بالهجوم ، والتعبير ب «الكبرى» الذي هو دليل على قوة البطش أو عظمته ، والتعبير بـ «إنا منتقمون» الذي هو جملة اسمية وبنفس الوقت مؤكّد بـ «إنّ» فسوف يرتعد له بدنه ، لأنّ الله الرحيم الغفور والله القادر القاهر يهدد بمثل هذا التهديد.

قال جمع من المفسرين واحتمل آخرون أنَّ الآية تدلّ على العقاب الشديد الذي أصاب المشركين في غزوة بدر الكبرى ، لكنّ مفردات الآية تتناسب مع عذاب أكبر وأشدّ وأشمل ، وهذا ممّا لا يصدق إلّاعلى عذاب الآخرة ، بالإضافة إلى أنّ الآيات السابقة لها لا تناسب النزول في غزوة بدر الكبرى.

وفي التعبير الثاني أشير إلى بُعد آخر من أبعاد ذلك اليوم ، قال تعالى : (يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ). (الشورى / ٤٧)

فلا يوجد هناك سبيل لجبران الماضي ولا سبيل للعودة إلى هذه الدنيا لتدارك ما فات.

ويرى بعض المفسرين أنّ هذه الجملة تدل على حتمية وقوع ذلك اليوم لأنّه تعالى قال:

٩١

(يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، أي أنّه واقعٌ حتماً ، فعلى هذا المعنى يكون مفهوم الآية قريباً من جملة (لا ريب فيه) التي وردت للتعبير عن يوم القيامة ، لكنّ ذيل الآية : (مَالَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَالَكُمْ مِن نَّكِيرٍ) يناسب التفسير الأول.

وهناك احتمال آخر هو أنّ المراد من الآية أنّ أحداً لايستطيع في ذلك اليوم مَنْعَ وايقاف العذاب الإلهي عنكم ، وهذا المعنى يتناسب مع ذيل الآية.

فعلى أيّة حال فإنّ أيّ تفسيرٍ نرجّحه من بين هذه التفاسير فهو يحمل خطاباً بليغاً وشديداً.

* * *

٦٦ ـ يومَ يَدْعُ الدّاعِ إلى شيٍ نُكُرٍ

هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة هو تعبير غامض ومُقزعٌ ، وينبّه الإنسان إلى امور مهمّة فيما يتعلق بذلك اليوم ، قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىءٍ نُّكُرٍ). (القمر / ٦)

وللمفسّرين احتمالات عدّة في مسألة من هو «الداعي» فهل هو الله؟ أم الملائكة المقربون؟ مثل جبرئيل ، أو اسرافيل الذي يدعو الناس إلى القيامة بواسطة نفخ الصور ، فلو أخذنا بنظر الاعتبار الآية الشريفه : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَستَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ). (الاسراء / ٥٢)

فإنّ المعنى الأول يكون مناسباً ، وإن كانت الآيات اللاحقة أكثر تناسباً مع الملائكة وعمّال الحساب والجزاء.

ما هو المراد من «شيء نُكُر»؟

هل يكمن هذا الشيءُ في أنواع العذاب الرهيب التي لم تخطر على بال أحد من البشر؟ أم هو الحساب الدقيق للأعمال الذي لم يكن يتوقّعة أحد من قبل؟ أم هو مجموع هذين؟ فمهما يكن من شيء فهو أمر رهيب ومُفزع وعسير ومؤلم.

* * *

٩٢

٦٧ ـ يوم يُسحبونَ في النّار على وجوههم

إنّ الانذار الشديد الذي يحتوي عليه هذا التعبير عن القيامة عجيبٌ حقاً ، قال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). (القمر / ٤٨)

نحن نعلم بأنّ الوجه أشرف محل في الإنسان وفي نفس الوقت ألطف جزء من أعضاء البدن ، ونعلم بأنّ كثيراً من الأجزاء المهمّة مثل العين والفم والأنف توجد في الوجه ، ومن جانب آخر نعلم بأنّ نار جهنم أشد من نار الدنيا بكثير فإنّ نار الدنيا في مقابل تلك النار ضئيلة أو محدودة جدّاً.

تصوروا ماذا سيحدث إذا سُحبَ أحدٌ في النار على وجهه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا العمل دليل على شدّة التحقير لهؤلاء المستكبرين عُبّاد الذات ، فعلى هذا يجتمع هناك العذاب الجسمي والعذاب الروحي في آنٍ واحد.

ويوجد هناك احتمالان في معنى «سَقَر» التي هي على وزن (سَفَر) :

الاحتمال الأول : هو أنّها نفس جهنم

الاحتمال الثاني : أنّ المراد منها قسم معّين من جهنم الذي هو مقرّ المتكبرين وذو حرارة عالية واحراقٍ شديد ، والاحتمال الثاني تؤيده رواية الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : «إنّ في جهنم لوادٍ للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى الله شدّة حره وسأله أن يأذن له أن يتنفس فأحرق جهنم» (١).

* * *

٦٨ ـ يوم نقول لجهنم هل امتلأتِ

هذا التعبير الذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد يعتبر من جملة صفات يوم القيامة ومن التعبيرات التي تبعثُ على الرهبةِ والهلع أيضاً ، ويشير إلى حجم النار الكبير وكثرة أصحاب جهنم ، هذا المشهد يبعث الرعب والخوف في قلب كل إنسان لئلا يكون أحد

__________________

(١) تفسير الصافي ، ج ٥ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥ في تعليقه على الآية.

٩٣

هؤلاء ، قال تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ). (ق / ٣٠)

ويوجد في تفسير هذه الآية رأيان : الأول هو أنّ الاستفهام هنا «استفهام إنكاري» ، أي أنّ جهنم في الجواب عن هذا السؤال هل امتلأت؟ تقول بتعجب هل هناك زيادة على هذا؟ للدلالة على أنّه لم يبق فيها مكان فارغ.

والاحتمال الثاني أنّ الاستفهام «استفهام تقريبي» ، أي هل هناك أفراد آخرون يردون جهنم؟ على هذا المعنى تكون النار دائماً في حالة البحث عن الظالمين المجرمين ، ويشبه حالها حال الإنسان الشره الذي يطلب دائماً طعاماً كثيراً ولا يشبع من ذلك أبداً ، ولا عجب أن لا تشبع النار من المذنبين الظالمين ولا تشبع الجنّة من الصالحين.

إلّا أنَّ بعض المفسرين أوردوا على هذا التفسير إشكالاً بأنّه لا يتناسب مع هذه الآية : (لَأَمْلَئَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اجْمَعِينَ). (السجدة / ١٣)

وعلى هذا الأساس فلابدّ من الرجوع إلى التفسير الأول (١) ، ولكن يمكن الجواب على هذا الإشكال بأنّ الامتلاء له درجات ، كما لو مُلىء صحن من الطعام وأعطي لشخص فيطلبُ أن يُزادَ له فيه.

وفي مسألة كيفية الاستفسار من جهنم وجوابها قال البعض : إنّه سؤال من خزنة وحفظة جهنم وجوابهم ، وقال البعض إنّ هذا الاستفسار والجواب هو بلسان الحال وقيل أيضاً إنّه يفهم من مجموع آيات القرآن وبعض الأخبار بأنّ جهنم موجود حىّ قادرة على النطق ونباءً على هذا فإنّه من الممكن تفسير الآية بنفس المعنى الظاهري لها (٢).

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية توحي بكثرة أصحاب النار وجدّية التهديد الإلهي لهم ، وتنذر الجميع أن لا يكونوا من هذه الزمرة فيها فهذه التحذيراتُ من الممكن أن توقظ الإنسان وتجعله يراجع نفسه ويتوقف عن الاستمرار في ارتكاب الذنوب والخطايا.

* * *

__________________

(١) هذا الإشكال في تفسير الكبير ، ج ٢٨ ، ص ١٧٤ ؛ وتفسير روح المعاني ج ٢٦ ، ص ١٧ ؛ وتفسير الميزان ، ج ١٨ ص ٣٨٤ نقلاً عن بعض المفسّرين.

(٢) ذكر في تفسير روح البيان ج ٩ ، ص ١٢٧ ، شواهد من الآيات والروايات لإثبات هذا المعنى.

٩٤

٦٩ ـ يومَ يقولُ المنافقون والمنافقات ...

هذا التعبير عن يوم القيامة ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد في قال تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) ، (أي ألقوا علينا نظرة حتى نستلهم من نوركم ، أو أمهلونا حتى نستفيد من نوركم). (الحديد / ١٣)

هذا والحال أنّ المؤمنين والمؤمنات يمرّون على الصراط بسرعة خاطفة وأشعة أنوارهم تسطع أمامهم وعن أيمانهم : (يَوْمَ تَرَى المُؤمِنيِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ...). (الحديد / ١٢)

اما المنافقون فإنهم ينظرون إلى المؤمنين بحسرة ولهفة يطلبون حزمة أو قبضة من نور المؤمنين ولكنهم يجابون حينها (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالَتمِسُوا نُوراً). (الحديد / ١٣)

إنّ القيامة وساحة المحشر ليستا محلاً لكسب النور ، بل محل ذلك هو الدنيا فارجعوا إليها إن استطعتم واطلبوا النور والضياء لأنفسكم من مصباح الهداية المنير والعمل الصالح ، فما أسوا حال المنافقين أصحاب القلوب الغلف والأفكارِ المظلمة! وما أجمل نورَ الإيمان والعملِ الصالح وما اعظمَ فحوى هذا الخطاب الذي تحمله لنا الآية الكريمة في بيانها لحال الفريقين معاً!

* * *

٧٠ ـ يومٌ لا ريب فيهِ

التعبير السبعون وهو الأخير في وصف يوم القيامة هو التعبير المذكور أعلاه الذي ورد ذكره مرّتين في سورة آل عمران ، قال تعالى : (رَبّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لَّارَيْبَ فِيهِ). (آل عمران / ٩)

وورد هذا التعبير في نفس هذه السورة أيضاً ، قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ). (آل عمران / ٢٥)

وبما أننا تحدثنا في بحث «حتمية يوم القيامة في نظر القرآن الكريم» ـ بالقدر الكافي ـ

٩٥

في موارد هذه الآيات (في هذا الجزء من الكتاب ، فلانرى ضرورة لتكرار ذلك ، لكننا نشير إلى مسألة واحدة فقط وهي أنّ حتمية وقوع ذلك اليوم وتحقق الوعود الإلهيّة فيه ليست من المسلمات والبديهيات في القرآن الكريم فحسب ، بل هي كذلك عند جميع المؤمنين الراسخين في إيمانهم ، فإنّهم يعترفون ويجمعون على أنَّ المقولاتِ السابقة ليوم القيامة تخبرُ عن وقائعِ ذلك اليوم العصيب ، بينما يخبرُ هذا التعبير عن حتمية وقوعه بلا شكّ ، وفي الواقع فهذا التعبير تأكيد لجميع تلك التعبيرات ولهذا انتخبنا هذا الوصف ليكون آخر حلقة تُذكر من سلسلة التعبيرات الواردة في يوم القيامة.

وهذه المسألة من المسائل الجديرة بالذكر لأنَّ المؤمنين عندما يتحدثون عن ذلك اليوم العظيم فإنّهم يأتون بالدليل عليه ودليلهم ماجاء في ذيل الآية الاولى : (إِنَّ اللهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ، وهذا دليلٌ على حتمية وقوع ذلك اليوم وعدم إمكان الشك فيه.

* * *

ثمرة البحث :

من خلال هذا البحث الواسع حول «أسماء القيامة في القرآن» اتضح لنا بأنّ «ليوم القيامة» في القرآن المجيد على الأقل «سبعون اسماً» ، وبديهيِّ إن ما نريده من الاسم هنا ليس هو الاسم العلم بل جميع التعبيرات التي وردت في مورد اسم القيامة في القرآن الكريم التي ابتدأت بكلمة «يوم» (اسم توصيفي).

لكنّنا قسّمنا هذه الأسماء إلى مجموعتين إحداهما الأسماء التي احتوت على كلمة واحدة فقط للتعبير عن ذلك اليوم العظيم ، مثل «يوم البعث ويوم القيامة ويوم الدين ويوم الحساب» البالغة أربعة وعشرين اسماً ، والاخرى الأسماء التي وصفت يوم القيامة من خلال جملة واحدة (وهي بقية التعبيرات).

وهذه الأسماء والصفات السبعون غنية جدّاً بالمواضيع فهي تنظر إلى يوم القيامة من نوافذ وزوايا مختلفة ، وقد كشفت عن جميع الوقائع التي تقع في ذلك اليوم العظيم من بدايته

٩٦

التي هي إحياء الموتى حتى نهايته عندما يُساقُ أصحاب الجنّة إلى الجنّة وأصحاب النار إلى النار.

إنّ هذه الأسماء السبعين ترسم لنا لوحة عجيبة ورهيبة وواضحة وناطقة عن ذلك اليوم العظيم ، وتتحدث عن كل ما يمكن أن يقال عنه ، وتخبُر عن عاقبة جميع البشر في مواقف المحشر جميعاً.

إنّه ليس من المعقول أن يتأمل الإنسان في هذه الاسماء وينظر إليها نظرة موضوعية فلاتؤثر فيه الأثر التربوي العميق ، فالهدف منها في الواقع هو ايقاظ الإنسان من خلال هذه التعبيرات التي صوّر كل واحد منها زاوية معينة من المعاد ، فإنّها تدعوه إلى الخروج من الضلال إلى الهدى ومن الرجس إلى الطهارة ، ومن حبّ الدنيا إلى الزهد فيها ، ومن الفسق إلى التقوى ومن الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد.

إنّ هذا القرآن كتاب هدايةٍ حقّاً ، وما أعجب سبله التربوية العالية.

ضَعُوا هذه الأسماء إلى جنب بعضها مرّة اخرى ومرّوا بها على نوافذ قلوبكم ، وتأملوا في كل موردٍ وردت فيه ، وماهي العواقب التي يصوّرها للإنسان؟ ثم استفيدوا منها في تربية أنفسكم.

اللهم أعطنا إدراكاً وبصيرة نرى ذلك اليوم العظيم من جميع زواياه التي بينتها لنا في القرآن الكريم.

ونصغي لنداء هذه الآيات.

ونحفظ فحوى هذه الأسماء.

ووفِّقنا للتأهب لذلك اليوم العظيم آمين يا ربّ العالمين.

* * *

٩٧
٩٨

الأدلة على المعاد

٩٩
١٠٠