نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

الإيمان بالآخرة (محكمة العدل الإلهي في الدار الآخرة) ، تارةً يبعث على الصحوة والانتباه والتقوى وتهذيب النفس والخوف من ارتكاب الذنوب أو ممارسة الظلم والاستبداد ، وتارةً يكون عدم الإيمان بها سبباً في ابتعاد الإنسان عن الحقائق ، وسبباً في استكباره على الحق وانغماسِهِ في بحر المفاسد والذنوب.

وبهذا يتضح بكل جلاء تأثير الإيمان الراسخ بالمعاد على تربية البشر من وجهة نظر القرآن المجيد.

* * *

توضيحات

١ ـ الآثار الإيجابية العميقة للإيمان بالقيامة

إنّ «المراقبة والمحاسبة» هما عاملان مهمّان في التربية. ومن أحد معاني المراقبة هو أن يعلم الإنسان بأنّ هناك من يراقبه وهو يخضع لرقابته في جميع الأحوال ، بل يعلم بأنّ جميع أسراره الخفية أيضاً تخضع لرقابته.

فالالتفات إلى هذا الحقيقة يجعل الإنسان في حالة انذار دائم ، كما أنّ الالتفات إلى «المحاسبة» وإلى أنّ جميع أعماله الصغير منها والكبير والحسن منها والسيء ، سوف يخضع للحساب وسوف تجازى الأعمال بعدالة على قدرها ، ممّا يؤدّي إلى أن لا يرى الإنسان نفسه مطلق العنان في إنجاز أعماله وإلى أن لا يهملها ويعدّها صغيرة ، وكلّما كانت قوّة الرقابة والحساب دقيقة كلّما دقق الإنسان أكثر في إنجاز أعماله.

ففي زماننا الحاضر تخضع بعض الطرق الخارجية في بعض البلدان للمراقبة بواسطة الكاميرات الخفية ، ويراقب شرطة المرور تلك الطرق وهم جالسون في مراكز المراقبة بكلّ دقّة ، وتتمُّ ملاحقة سائقي السيارات المخالفين لقوانين المرور بواسطة اعلام مراكز المراقبة (بواسطة المرسلات اللاسلكية) النقاط المستقرّة في بوابات تلك الطرق أو الدوريات المتجوّلة لايقاف تلك السيارات وتغريم سائقيها.

٣٢١

فهذه المراقبة وتلك الغرامات تؤدّي إلى استقرار نظام المرور حتّى في الطرق الخارجية.

فإذا كانت المراقبة والمحاسبة من قبل الإنسان غير المعصوم من الوقوع في الخطأ لها هذا الأثر ، فإنّ أثر الإيمانِ بمراقبة الله الدائمة ، الذي يعلم أسرار ما يكن الإنسان وما يعلن ، والإيمان بمحكمة العدل التي تحاسب على ما مقداره «مثقال ذرّة» والتي لا تنفع معها الشفاعة ، فإنّ عمق تأثير هذا الإيمان واضح من دون الحاجة إلى البرهان.

ومن الواضح أَنّ هذا الأمر يتبدّل من صورة أفعال متفرّقة إلى عادة دائمة ومن عادة إلى ملكة ، وتتحوّل الحقيقة التي يطلق عليها اسم «الوجدان الاخلاقي» و «التقوى الإلهيّة» في قلب الإنسان إلى إيمانٍ راسخ.

إنّ الغاية الاساسية من وجود المحاكم والعقوبات المطبقة وكذلك المكافآت والمدح السائد هي إيجاد الاستقرار وهيمنة القانون وتربية الإنسان ، والفرق بين المحاكم الموجودة في هذه الدنيا وبين المحكمة الإلهيّة هو أنّ هذه المحاكم يمكن استئناف الأحكام الصادرة عنها ، وغالباً ما تخضع أحكامها لتأثير الوساطة والرشوة ، بالإضافة إلى نقص القوانين المتّبعة فيها والاستثناءات والأحكام الفرعية ، وإمكان الإتيان بأدلّة كاذبة تؤدّي في أكثر الموارد إلى خلاص المجرمين من مخالب العدالة ، أو أحياناً إلى تأخير صدور الحكم إلى سنين عديدة بسبب الاستفادة من الروتين ، لكنّ محكمة القيامة لا تحتوي على أيّ شيء من هذه النواقص ، بل كما سنشير لاحقاً فإنّ المكافآت والعقوبات هناك تشبه إلى حدٍّ كبير الآثار والخواص الطبيعية للأشياء ، فهل يمكن تبديل آثار الدواء النافع إلى آثار سمٍ قاتل عن طريق الإتيان بأدلّة كاذبة واستخدام الوساطة والرشوة؟!

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بمثل هذه المحكمة له أثر في تربية وتطهير الإنسان يفوق كثيراً آثار المحاكم الدنيوية.

ومن ناحية اخرى فإنّ الإيمان بهذه المحكمة يؤجج روح الايثار والتضحية في قلب الإنسان ، وذلك لقاعدة : (مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ). (النحل / ٩٦)

فهذه الدنيا ممرٌّ ودنيا فانية ، بينما سوف يبقى ما ذُخِر لذلك العالم مستقراً وخالداً ، فأيّ

٣٢٢

عاقل يتردد في شراء «المواهب الجمّة» ، بل المواهب التي لا تنضب ب «المتاع القليل»؟ من أجل هذا يمكن للإيمان بالمعاد أن يصبح منبعاً لجميع أنواع الإنفاق والإيثار والتضحية.

ومن ناحية ثالثة فإنّ هذا الإيمان يعطي الإنسان روح الشجاعة والشهامة والصبر والاستقامة ، فمن يخاف الموت يقول : (إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا). (الانعام / ٢١)

أمّا من لا يخاف من الموت يعتقد بأنّ (الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوانُ). (العنكبوت / ٦٤) وكيف يبخل في بذل روحه وماله ، أو أن يخاف كثرة صفوف الاعداء مَنْ يعتقد بأنّ الشهادة في سبيل الله هي بوّابة للدخول في رحمة الحق تعالى ، والوصول إلى مقام القرب منه وَنيْل هبات الجنّة التي لا يسعها الوصف؟!

وما شاهدناه في حروب صدر الإسلام والحرب المفروضة الأخيرة من صمود المقاتلين الشجعان الذي لم يسبق له مثيل ، ومن شجاعة خارقة وانتصارهم على الأعداء بالرغم من كثرة عددهم وعدّتهم فإنّ السرّ في ذلك يكمن في أنّ الإيمان بالمعاد هو الّذي صنع منهم اناساً آخرين ... اناساً لا يخافون الموت أبداً ، ويعتبرون الشهادة في سبيل الله مِن أرقى المفاخر.

وقصارى القول : إنّنا كلّما أمعنّا النظر أكثر في هذه الرابطة (علاقة الإيمان بالمعاد بتربية الإنسان) ، فإننا سوف نكتشف أهميّتها بصورة أوضح ، وكما كررنا القول كثيراً فإنّ تأكيد القرآن على هذه المسألة في آيات عديدة لا تحصى هو في الأساس من أجل هذا الأمر.

ومن المحتمل أن يقال : إِنّ ما قلتموه هو بيان للعلاقة الموجودة بين «العمل» و «الإيمان» لا العلاقة الموجودة بين «الأخلاق» والإيمان.

لكننا قد أشرنا آنفاً أيضاً إلى أنّ «العمل» إثْرَ التكرار يتحوّل بالتدريج إلى «حالة» ثم تتحوّل الحالة إلى «عادة» وأخيراً تتحوّل العادة إلى «ملكة اخلاقية»!.

* * *

٢ ـ الآثار التربوية للمعاد من وجهة نظر الروايات

إنّ هذا الموضوع لم يذكر في آيات القرآن فحسب ، بل له صدىً واسعٌ في الروايات

٣٢٣

أيضاً ، وقد وضَّحت الروايات العلاقة الوثيقة والجذرية والدائمة الموجودة بين هذين الموضوعين ، ونذكر فيما يلي نموذجاً من هذه الروايات :

١ ـ قال على عليه‌السلام في نهج البلاغة : «واللهِ لأَنْ أَبيتَ على حَسَكِ السَّعْدان مُسَهَّداً ، أو اجَرُّ في الأَغلالِ مُصفداً ، أَحَبُّ الىَّ من أَنْ القى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام» (١).

وذكر عليه‌السلام بعد هذه الجُمَل قصة أخيه «عقيل» المعروفة ، إذْ لجأ إليه أخوه من شدّة ما أصابه من الفقر والفاقة فطلب منه أن يعطيه أكثر ممّا يستحقّه من بيت المال خلافاً لما تقتضيه العدالة الإسلامية.

لكنّ الإمام عليه‌السلام وضع قطعة من الحديد في النار وبعد أن احمرّ لونها قرّبها من يد أخيه فضجّ أخوه بالعويل ، فقال له الإمام عليه‌السلام : «كيف تصرخ من ألم هذه النار التي هي العوبة يُلهى بها؟ وتجرّني إلى نارٍ أججها الجبار لغضبه وانتقامه» (٢)!

يلاحظ من خلال هذه الكلمات قوّة الإيمان بالمعاد وتأثيرها في الحثّ على إقامة العدالة والوقوف أمام جميع الانحرافات ، وهي نموذج حيّ عن تجلّي الإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي في أعمال الإنسان.

٢ ـ وَرُوِي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «من أَيقنَ بالخلف جاد بالعطية» (٣).

وهذه الرواية تدل بوضوح على أنّ الإيمان بالمعاد يجعل الإنسان متصفاً بالجود والسخاء.

٣ ـ وجاء في غرر الحكم نقلاً عن الإمام علي عليه‌السلام في عبارة صريحة أنّه قال : «اجعل هَمّك لمعادك تصلُح» (٤).

٤ ـ وجاء في ملحمة كربلاء وعاشوراء أنّ الحسين عليه‌السلام جمع أصحابه يوم عاشوراء وقام

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤. (باختصار).

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٣٨٥ ؛ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٣٨.

(٤) غرر الحكم ؛ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٣٧ ، ح ١٣٣.

٣٢٤

خطيباً فيهم فقال : «صبراً بني الكرام فما الموت إلّاقنطرةٌ تعبُرُ بكُمْ عن البؤس والضَّراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيَّكُم يكرهُ أن ينتقل مِنْ سجنٍ إلى قصرٍ»؟

والّذي دعا الإمام لإلقاء خطابه هذا هو أنّه كان كلّما اشتدّ حصار الأعداء عليه وعلى أصحابه وكلّما حَمِيَ الوطيس كان وجهه أكثر اشراقاً ونفسهُ أكثر اطمئناناً ، هنا قال أصحابه لبعضهم الآخر : «انظروا إليه إنّه لا يبالي بالموت»!

فسمع الإمام هذا منهم فالقى عليهم الخطاب المذكور ، ثم أضاف إليه قوله : روى أبي عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ الدُّنيا سجنُ المؤمن وجنّةُ الكافر ، والموت جسرُ هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذِبتُ ولا كُذِّبت» (١).

فالسّر في ملحمة عاشوراء وشجاعة الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، التي لم يكن لها مثيل والتي سُجِّلت في التاريخ بأحرفٍ من ذهب لامعه ، يجب أن نبحث عنه في هذا الميدان أيْ الإيمان الراسخ لهؤلاء بالمعاد والحياة الآخرة الخالدة.

٥ ـ إنّ تأثير الإيمان بالمعاد في إصلاح الأعمال بلغ من الوضوح حداً جعل أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام يتعجّب ممن يؤمن بالآخرة ولا يسعى في إصلاح أعماله ، قال عليه‌السلام : «عجبتُ لِمَنْ يَعلمُ أنّ للأعمال جزاءً كيف لا يُحسنُ عَملَهُ» (٢).

٦ ـ ونختتم كلامنا هذا بحديثٍ عميق المغزى عن مؤسس الإسلام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن علامات أهل اليقين قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن علائمه أنّه : أيقن بأنّ الجنّة حقٌ فاشتاق إليها ، وأيقن بأنّ النار حقٌ فظَهَر سعيهُ للنجاة منها ، وأيقن بأنّ الحسابَ حقٌ فحاسَبَ نفسهُ» (٣).

إنّ الروايات المَرويّة في هذا المجال كثيرة جدّاً وما ذكرناه هنا ما هو إلّاقليل منها ، وتتفق جميعها على أنّ الإيمان بالدار الآخرة له أثر عميق في تربية الإنسان.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤٤ ، ص ٢٩٧ (باب فضل الشهداء معه وعلّة عدم مبالاتهم بالقتل) ، ونقل المرحوم الصدوق هذا الحديث في كتاب «معاني الإخبار» عن علي بن الحسين عليه‌السلام في باب «معنى الموت» ص ٢٨٨.

(٢) غرر الحكم ، ج ٢ ، ص ٤٩٥.

(٣) تحف العقول ، ص ٢٣.

٣٢٥

٣ ـ الإيمان بالمعاد وعلاقته باطمئنان النفس

إنّ الاعتقاد بالحياة بعد الموت يؤثّر في تهذيب النفس وإخلاص القلوب وسموّ الأخلاق وطهارة الأعمال وله أثر كبير في إصلاح حال الإنسان في هذه الدنيا أيضاً.

كلنا يعلم أنّ القلق هو خطر يهدد حياة الإنسان ، فيُحوِّل حلاوة العيش إلى مرارة لا تطاق ، ويصاب الإنسان بالانهيار العصبي جراء القلق الذي يسيطر عليه.

القلق الناشيء من ماضي الإنسان واضاعة الفرص والآلام التي حلّت في ساحته ، والقلق بشأن المستقبل ونهاية الحياة وفقدان الأصدقاء والأقارب والاولاد والمال والثروات والقوى الجسميّة والروحيّة ... والقلق الناشيء من الأحداث التي لم تكن بالحسبان والتي تعصف بالإنسان فتحطّم استقراره.

لذا قال العلماء أصحاب الخبرة : إنّ البشر في زماننا الحاضر وَبالرغم مِن تطوّر الطّب والجراحة وفي نفس الوقت الذي قُضيَ فيه على الكثير من الأمراض ، حتّى أنّ قسماً منها قد تلاشت واجتثت من جذورها ، إلّاأنّ الإنسان مازال يعاني من الأمراض النفسية أكثر ممّا كان عليه في السابق ، لذا فإننا نرى أنّ الاحصاءات تدل على أنّ هذه الأمراض في تزايد مستمر يوماً بعد يوم.

حتّى قال أحد أساتذة علم الاجتماع في جامعة پرينستون الاستاذ «دونالد لايت» : «يعيش في أميركا لوحدها حالياً ما يقارب خمسة وعشرين مليون فرداً! أقْدَمُوا على الانتحار خلال حياتهم مرّة واحدة على الأقل ، ولم يكن لجميع المساعي التي بذلت في هذا المجال من قبل لجان مكافحة الانتحار أثر يعتد به ، وهؤلاء يقدمون على هذه الأعمال بسبب اليأس وشعورهم بتفاهة الحياة ، وبسبب الوحدة وعدم ثقتهم بالدنيا والاضطراب والتشويش الناشيء من تدهور المجتمع ، وهذا الأمر لا يمكن معالجته بالسبل المذكورة أعلاه»(١).

بالرغم من أنّ عصرنا الحاضر في أحد أبعاده هو عصر راحة الإنسان فقد انخفض مقدار

__________________

(١) غربت غرب ، ص ١٨ (باختصار).

٣٢٦

ساعات العمل عمّا كان عليه سابقاً ، وازيحت الاعباء التي كانت تثقل كاهل الإنسان وأُلقي ثقلها على كاهل عجلات المصانع العظيمة ، وفي المنازل أيضاً تحملت الآلات الكهربائية أعباء القيام بالأعمال الصعبة فأصبحت المنازل أكثر تطوراً وعدّة ، والوسائط النقلية أكثر فائدة ، فالسفر الذي كان في الماضي يعتبر قطعة من الجحيم أصبح اليوم من أسباب الرّاحة واللهو ، وأخيراً أدْخَلَت وسائل اللهو الحديثة والجيّدة على حياته لوناً جديداً.

فعلى غرار هذا التطوّر فإنّه يُتوقّع أن يعيش الإنسان في عصرنا الحاضر وهو يتمتع بهدوءٍ تام ، وصحّة تامة من الناحية البدنية والروحية معاً ، لكننا نرى بوضوح أَنّ الاضطراب والقلق ينتابانه أكثر ممّا كان عليه سابقاً.

والأسباب الرئيسية في هذا الأمر هي الشعور بتفاهة الحياة وعدم كونها هادفة ، والشعور بعدم وجود ملجأ عند حلول المعضلات المدمّرة ورسم صورة مرعبة للموت والتشاؤم القاتل ، والخوف من المستقبل المجهول للعالم وللحياة الشخصية ، وممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بالآخرة ، والحياة الخالدة فيها التي تكتنفها العدالة والطمأنينة بإمكانه أن يُنهي كل هذا القلق.

قال البروفسور المعروف «يونغ» : إنّ ثلثي المرضى الذين قدموا اليّ من جميع انحاء العالم للعلاج هم أفراد مثقفون وموفقون في حياتهم لكنّهم يعانون من مرضٍ خطير وهو الشعور بتفاهة الحياة ، والسبب في ذلك هو أنّ إنسان القرن العشرين بسبب التقدّم التقني وقصور الرؤية والتعصّب ، فقد الدين فعاد يبحث عن هويته ومالم يعثر على دين فإنّه سوف لن يهدأ ، «وذلك لأنّ فقدان الدين يؤدّي إلى تفاهة الحياة وفقدانها لمفهومها» (١)!

وهنا نلجأ إلى القرآن ونطلب منه العون : ففي سورة يونس نلاحظ إشارة لطيفة في هذا المجال في قوله تعالى : (الَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ ...* لَهُمُ البُشرَى فِى الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفى الاخِرَةِ). (يونس / ٦٢ ـ ٦٤)

أجل إنّ هؤلاء تعلّقت قلوبهم بالله والتحقوا بركب الأولياء في هذا الوجود ، واعتبروا

__________________

(١) معاد از نظر روح وجسم ، ج ١ ، ص ٤٤.

٣٢٧

الدنيا قنطرة للوصول إلى حياة الآخرة الخالدة ، لذا فهم لا يشعرون بالوحدة ولا بتفاهة الحياة.

وإلى هنا ننهي الحديث عن الآثار المختلفة الماديّه والمعنوية للإيمان بالقيامة ، على حياة الأفراد والمجتمعات بالرغم من وجود بحوث كثيرة لم نَتَحَدَّثْ عنها هنا.

* * *

٣٢٨

المدخل إلى عالم البقاء

١ ـ الموت

٢ ـ البرزخ

٣٢٩
٣٣٠

١ ـ الموت

تمهيد :

بالرغم من أنّ اسم الموت مرعب جدّاً ومهيب في نظر الكثيرين ، إلّاأنّه لا يتّصف بذلك في نظرية المعرفة الإسلامية ، وذلك لأنّ الموت جسر عبور نحو العالم الآخر ، بل ويعدّ الموت في الحقيقة ولادة جديدة.

ويحتمل أن يكون بكاء المولودِ الشديد عند الولادة وذلك لأنّه يحتمل الفناء ، بالرغم من كونه قد خرج إلى عالمٍ أوسع بكثير من بطن الام.

وفي نفس الوقت لا يكون العبور من هذه البوّابة محبوباً لدى الجميع ، بل لا يستحسنه إلّا الذين يصطحبون الزاد والعدّة الكافية لهذا السفر الصعب ، لذا فليس من العجيب أن يسيطر الخوف والهلع من الموت على قلوب المسيئين والمجرمين ـ حتّى لو كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت ـ.

فهذه النظرة للموت تمنح الإنسان القدرة على الجهاد والإيثار والتضحية ، ولا يصبح ذليلاً وحقيراً بسبب الخوف من الموت من جهة ، ومن جهة اخرى يكون تحذيراً للبشر من الابتلاء بارتكاب الذنوب ، ومن العوامل المؤثّرة في تربيتهم.

إنّ القرآن المجيد أكّد على هذه المسألة كثيراً وشرح هذا الحديث المهم الذي يبتلى به جميع البشر من دون استثناء من خلال تعابير مختلفة وقال كُلّ ما يمكن أن يقال حوله.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن في الآيات الواردةِ في هذا المجال خاشعين. (يجب الالتفات إلى أنّ كل آية من هذه الآيات تسلّط الأضواء على أحد أبعاد هذا الموضوع) :

٣٣١

١ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُوْرَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ). (آل عمران / ١٨٥)

٢ ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وُيُرسِلُ الْاخْرى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً). (الزمر / ٤٢)

٣ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). (السجدة / ١١)

٤ ـ (الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَاكُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (النحل / ٢٨)

٥ ـ (الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (النحل / ٣٢)

٦ ـ (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْليَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ* وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَالِمينَ). (الجمعة / ٦ ـ ٧)

٧ ـ (تَبَارَكَ الَّذى بيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ* الَّذِى خلَقَ المَوْتَ والحَيَاتَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ). (المُلك / ١ ـ ٢)

٨ ـ (وَجَاءَتْ سَكَرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). (ق / ١٩)

٩ ـ (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ* وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إلَى رَبِّكَ يَومَئذٍ الْمَسَاقُ). (القيامة / ٢٦ ـ ٣٠)

١٠ ـ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا). (المؤمنون / ٩٩ ـ ١٠٠)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

١ ـ الموت قانون شمولي

تحدثت الآية الاولى عن شمولية قانون الموت ، الذي هو نهاية جميع البشر وجميع

٣٣٢

الموجودات الحيّة ، بل هو أمرٌ حتّى بالنسبة للموجودات غير الحيّة ، قال تعالى : (كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوتِ).

وقد ورد هذا التعبير في ثلاث آيات في القرآن المجيد (١) ، والسبب في تكرار هذا الأمر هو التأكيد على حتمية الموت ، هذا بالإضافة إلى تحذير جميع البشر كي لا يغفلوا عن حتميّة هذه العاقبة.

ولمّا كان الموت هو نافذة نحو عالم البقاء ، فقد اضاف تعالى على الفور : (وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ اجُوْرَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) ، وذلك للدلالة على أنّ الدنيا دار عملٍ ولا حساب ولا جزاء وإنّ الآخرة دار حساب وجزاء ولا عمل.

وعلى الرغم من وجود إثابة محدودة في عالم الدنيا وعالم البرزخ ، لكنْ من البديهي هو أنّ لا يتمّ الحصول على الأجر والثواب الكامل إلّافي الدار الآخرة.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو أنّ التعبير المذكور أعلاه يدلّ على أنّ المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو أعماله الصالحة فقط ، لأنّ المال والجاه والمنصب والأولاد والعشيرة لا تعالج حتّى معضله واحدة من معضلات الإنسان ، وهذا التعبير يشبه ما جاء في سورة الشعراء : (يَومَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ). (الشعراء / ٨٩)

لكنّ التفسير الأوّل أقرب للصحة ، وقد انتخبه الكثير من المفسرين.

إنّ الإنسان يمكنه أساساً أن يشك في كل شيء ، إلّاأنّه لايمكنه أن يشك في تحقق الموت ، إنّ جميع أهل السماء والأرض سوف يموتون وسوف يبتلع الموت جميع الموجودات الحيّة ، فالجميع من دون أيّ استثناء لهم اجلٌ ونهاية معينة لا تتأخّر عن موعدها لحظة واحدة ، أمّا بالنسبة لدعاء الناس لبعضهم أو لحكّامهم بالخلود فما هو إلّا مجاملة خالية من أيّ محتوى ، فأيّ خلودٍ هذا؟ وأَيُّ بقاء؟ إنّ الأنبياء جميعاً مرّوا بهذه المرحلة ، والجميع من دون استثناء عبروا هذا الممر.

ويستفاد من هذه الآية بالإضافة إلى ذلك ، أولاً : أنّ روح الإنسان لا تموت بموته ، وذلك

__________________

(١) آل عمران ، ١٨٥ ؛ الأنبياء ، ٣٥ ؛ العنكبوت ، ٥٧.

٣٣٣

لأنّ الآية تقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائَقَةُ المَوتِ) ، ومعنى الذوق هو أنّ الروح باقية فتدرك الموت وتتذوّقه ، ويستفاد منها ثانياً : أنّ الروح هي غير الجسد ، وذلك لأنّها تبقى بعد موت الجسد.

جاء في إحدى الروايات لمّا نزلت الآية الشريفة (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (الرحمن / ٢٦) قالت الملائكة : «مات أهلُ الأرض» وعندما نزلت الآية الشريفة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائَقَةُ المَوتِ) قالت الملائكة : «متنا نحن أيضاً» (١).

بالرغم من أنّ كلمة «النفس» اطلقت أحياناً على الله كما جاء في حديث عيسى عليه‌السلام عندما كان بين يدي الله حيث قال : (وَلَاأعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ). (المائدة / ١١٦)

لكنّ التعبير بـ «كل نفس» في الآية المذكورة يراد منه المخلوقات لا الخالق.

* * *

٢ ـ حقيقة الموت

يعتبر كثير من الناس الموت فناءً وعدماً ونهاية كلّ شيء ، لذا فهم يخافون الموت ويهابونه بشدّة ، بينما يفسّر القرآن المجيد حقيقة الموت بـ «التوفّي» (أي قبض واستلام روح الإنسان من قِبَلِ الخالق) أو بتعبير آخر هو انتقال من عالم حقيرٍ إلى عالم كبير وَسامٍ) ، قال تعالى في الآية الثانية : (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِهَا) (٢).

ثم من أجل أن يذكر نموذجاً للموت في هذه الدنيا أضاف تعالى : (وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فى مَنَامِهَا) ، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوتَ) أي التي لن تصحو من نومها بعد ذلك أبداً (وُيُرسِلُ الاخْرَى) أي التي يجب أن تستمرّ في حياتها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).

إنّ هدف القرآن هو بيان هذه الحقيقة وهي : كما أنّ روحَ الإنسان لا تفنى في عالم النوم ، بل يضعف ارتباطها بالبدن بصورة مؤقتة ، ومن أجل هذا يمكنها التجوّل في عوالم مختلفة ، فإنّها لا تفنى أيضاً بالموت ، بل تتحرر وتتجوّل في عوالم كبيرة اخرى.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٩ ، ص ١٢٥.

(٢) الضمير في «موتها» وإن كان يعود للانفس في الظاهر لكنّه في الواقع يدلّ على موت الابدان ، وذلك لأنّ البدن هو الذي يموت لا الروح ، وكذلك الحال في ضمير «منامها».

٣٣٤

و «يتوفّى» : من مادة «وفى» وهي في الأصل بمعنى الكمال ، لذا اطلقوا على الدّرهم الكامل «درهماً وافياً» (أي الكامل من حيث الوزن ومقدار الفضة) على هذا يكون التوفّي بمعنى القبض التام ، وبما أنّ القابض هو الله فإنّ هذه الجملة تدل على أنّ الإنسان سوف يضع قدمه في عالم أعلى وأرقى.

إنّ هذه النظرة إلى الموت تغيِّرُ كثيراً من المعادلات والمفاهيم ، ومن أجل هذا عرّفوه ببوّابة العبور إلى عالم البقاء.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ الآية المذكورة تحذِّر الناس لأنّها تعتبُر «النوم» مساوياً «للموت» وكأنّها تقول : كيف تغفلون عن الموت وهو يأتيكم في كل يومٍ وليلة وأنتم تلمسونه بأيديكم؟! إنّكم في حالة النوم تنفصلون عن هذا العالم وتفارقون حياتكم ومنصبكم ووجودكم بصورة مؤقتة ، فالموت أيضاً هو عبارة عن نوم خالد كما أنّ النوم هو عبارة عن موت مؤقت ، ومن المحتمل أن تكون الجملة الاخيرة في هذه الآية : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ) ناظرة إلى جميع هذه الحيثيات.

* * *

٣ ـ ملائكة الموت

بالرغم من أنّ الآية السابقة أسندت قبض الأرواح إلى الله ، لكنّه يستفاد من آيات اخرى من القرآن إسناد هذا العمل إلى الملائكة ، ففي الآية الثالثة من آيات البحث وُجِّه الخطاب إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وامِر بأن يجيب على إنكار المشركين للمعاد بقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).

ومن الجدير بالذّكر هو أنّ الآية هنا تحدّثت عن ملك الموت ، الملك الذي اوكِلت إليه هذه المهمّة ، بينما لاحظنا في الآية السابقة إسناد القبض إلى الله ، وفي الآية اسند القبض إلى مجموعة من الملائكة : (الَّذِيَنَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ). (الزمر / ٤٢)

كما أسند القبض إلى الرّسُل : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا). (الانعام / ٦١)

٣٣٥

إنّنا إذا ما تمعّنا بشيٍ من الدقّة في الآيات المذكورة لا تّضح لنا عدم وجود أيّ تضاد في هذه المسألة ، وذلك لأنّ المتوفّي الرئيسي هو الله تعالى ، ثمَّ تناط مهمّة قبض الأرواح بـ «ملك الموت الكبير» (عزرائيل عليه‌السلام) الذي اوكلت إليه هذه المهمّة وهو بدوره ينجز هذا العمل أيضاً بواسطة «مجموعة من الملائكة» والرُسل الذين هم نفس أولئك الملائكة.

إنّ الأحداث المهمّة في هذا العالم تنجز أساساً بواسطة الملائكة الَّذين لا هدف لهم إلّا الطاعة لله والعمل بأوامره ، والموت الذّي هو أحد هذه الأحداث المهمّة في هذا العالم لايستثنى من هذا القانون.

وجملة : (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) تدلّ على أنّ الموت مقدّمة العودة نحو الحق في مرحلة السير الصعودي ، كما أنّ الولادة هي نافذة نحو عالم الفناء والسير النزولي لروح الإنسان ، والتعبير ب «ثمّ» من المحتمل أن يكون إشارة لوجود البرزخ.

* * *

٤ و ٥ ـ حال المؤمنين والظالمين عند سكرات الموت

إنّ حال المؤمنين والمحسنين لا يشبه حال الظالمين والمذنبين عند حلول الموت في ساحتهم ، أو بتعبير آخر إنّ نتائج أعمالهم وعقائدهم تظهر بالتدريج في تلك اللحظة ، و «الآية الرابعة والخامسة» لهما دلالة عميقة على هذه الحقيقة.

قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) ، وتدلّ هذه الكلمات على أنّهم لم يخضعوا بالكامل ، فهم لا يعلمون بأنّ هذا الانكار لا معنى له أمام الله الّذي يعلم الغيب وأمام الشهود من الملائكة ، لذا أضاف تعالى في ذيل الآية : (بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثمّ وجّه الأمر إليهم فقال : (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا).

ومّما تقدّم يظهر أَنّ اعلان التسليم بالنسبة لهؤلاء هنا هو بمعنى اظهار التوحيد والتسليم للحق (كما يرى عدد من المفسرين) ولكن بما أنّ جوّ الدنيا لم يفارقهم بعد ولم يَتعرَّفوا على

٣٣٦

القوانين المهيمنة على مراحل ما بعد الموت فإنّهم ينكرون ما عملوا من سوءٍ ويتوسّلون بالكذب ، لكنّهم سرعان ما يتضح لهم أَنّ الكذب لا ينفع هناك!

وهناك احتمالان في هل أنّ المراد من «جهنم» هنا هو جهنم عالم البرزخ أم جهنم يوم القيامة؟ والذّي يتلاءم مع سكرات الموت هو الدخول في جهنم البرزخ ، لكنّ التعبير بالخلود يصلح لأنّ يكون قرينة على أنّ المراد هو جهنّم القيامة ، إلّاإذا قيل : إِنّ المراد هنا هو دخول أبواب جهنّم في عالم البرزخ لا دخول نفس جهنّم ، والخلود هنا هو صفة للكافرين عند دخولهم البرزخ لا عند دخولهم أبواب البرزخ.

وتعبير : (بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، يحتمل أن يكون صادراً عن ملائكة الموت لتحذير الكافرين فكأنهم يقولون : لا تسعوا عبثاً في الانكار فإنّه غير نافع لأنّ علم الله الواسع سوف يرفع الستار عن أعمالكم.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية تشبه ما جاء في سورة محمد : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ). (محمّد / ٢٧)

بلى سوف تستقبلهم الملائكة بالضرب على وجوههم وأدبارهم ، ومن المحتمل أن يكون إقرارهم بالتوحيد والحقّ هو من أجل مشاهدة هذه المشاهد لا من أجل الإخلاص.

وفي قبال هذا المشهد هناك ملائكة الرّحمة التي تأتي لقبض أرواح المؤمنين ، قال تعالى في الآية الثانية : (الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وفي الواقع لا يمكن أن تكون مكافأة الطهارة والتقوى إلّابمثل هذا وهو أن تستقبلهم ملائكة الله بالسلام والترحاب ، وتدعوهم لدخول الجنّة ... تلك الدعوة التي يغمرها اللطف والمحبّة والاحترام!

وهنا أيضاً قد يراد من الجنّة جنّه البرزخ كما يحتمل أن يكون المراد جنّة القيامة وجنّة البرزخ تعتبر من أبوابها.

على أيّة حال فإنّ هذا من أحد أبعاد الموت الذي هو بالنسبة للصالحين يختلف تماماً عمّا هو عليه بالنسبة للمذنبين.

٣٣٧

٦ ـ علّة الخوف من الموت

إنّ صورة الموت مرعبة لدى الناس عادةً ، والسبب في ذلك يكمن في أمرين ، فهو إمّا أن يكون باعتبار الموت نهاية كلّ شيء أي يساوي معنى الفناء ، وإمّا أن يكون بسبب التلوّث بارتكاب الذنوب وحب الدنيا الشديد ، فلماذا يخاف الموت من يعتبره ولادة جديدة وبداية انتقال إلى عالم اوسع وحياة أرقى ، ومن يحمل في جعبته كميّة هائلة من الأعمال الصالحة إعداداً لسفره والذي ليس للدنيا في قلبه موضعٌ يعتنى به؟ وقد أشار تعالى في الآية السادسة إشارة لطيفة لهذا الأمر ، قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَولِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ثم يضيف (وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ).

وممّا يجدر بالالتفات هنا هو أنّ المخاطب في هذه الآية هم اليهود ، والسببب في ذلك على مايبدو أمران :

الأول : هو أنّ اليهود يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار دائماً ـ حتّى في يومنا هذا ـ ويتصورون أنّهم يمتازون عن الآخرين بصفات خيالية ، فهم يعتبرون أنفسهم أبناء الله المختار تارةً! وأحياناً إنّهم أولياؤه وأحبّاؤه : (وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ اللهِ وَأحِبّاؤُهُ). (المائدة / ١٨)

واخرى ، يقولون : لن تمسنا النار أبداً مهما ارتكبنا من الذنوب إلّاأيّاماً معدودة : (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّاأَيَّاماً مَّعْدُودَةً). (البقرة / ٨٠)

فيجيبهم القرآن : إنْ كنتم صادقين في عقيدتكم هذه فلِمَ تخافون الموت بهذه الشدّة إذن؟ فهل يخاف الخليل من لقاء خليله؟ وهل يكون الانتقال من السجن إلى جنّة عامرة خضراء أمراً مخيفاً؟!

وجاء ما يشبه هذا المعنى في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ)! (البقرة / ٩٤)

والثاني : هو أنّهم كانوا يعبدون الدنيا وتعلّقت قلوبهم بعالمِ المادّة ، هذا بالإضافة إلى

٣٣٨

ارتكابهم الذنوب الكثيرة وتلوث أيديهم بدماء الابرياء ، لذا فهم يخافون الموت بشدّة.

لذا قال تعالى (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ). (البقرة / ٩٦)

وقال أيضاً : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). (البقرة / ٩٥)

وَعلى هذا الأساس فقد بيّن القرآن المجيد علل الخوف من الموت بوضوح كما أنّه هدى إلى طرق الخلاص من هذا الخوف والهلع الّذي يعمُّ الجميع ، ويرى بعض المفسِّرين أَنّ الآية المذكورة أعلاه والتي نزلت في شأن اليهود هي نوع مباهلة والتي هي إحدي طرق مقارعة الكذّابين ، وهي تستخدم في إثبات صدق الدّعوة ، وهي أن يَطلبَ المدّعي من الله أن يُخْزِيَهُ إنْ كان كاذباً (فإذا كانت شروط المباهلة متوفّرة فإنها تكون مؤثّرة).

والدليل على هذا التفسير هو ما جاء في الروايات أنّ الكذابين أي (اليهود) لو كانوا تمنّوا الموت أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لَغصّوا بريقهم وماتوا!

جاء في الحديث الشريف : «والذّي نفسي بيده لا يقولها احَدٌ منكم إلّاغُصَّ بريقه»(١).

* * *

٧ ـ الغاية من الموت والحياة

إنّ حياة الإنسان محدودة على أيّة حال ، والموت يرافق كل حياة ، وأوّل سؤال يُطرح هنا هو : ما هي الغاية من الحياة والموت؟

وقد تحدّث القرآن المجيد في الآية «السابعة» من آيات البحث عن هذا الأمر فقال : (تَبَارَكَ الَّذى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ* الَّذِى خلَقَ المَوْتَ والحَيَاتَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزيزُ الغَفُورُ).

فالقرآن هنا يبيّن أولاً أنّ خلق الموت والحياة هما من دلائل قدرته الواسعة ، ثم يضيف إلى ذلك : إنّ الهدف من هذا الخلق هو امتحان لأحسنِ الأعمال .. امتحان يهدف إلى تربية البشر وهدايتهم إلى منزلة القرب الإلهي.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٨٥ ؛ وتفسير المراغي ، ج ٢٨ ، ص ١٠٠.

٣٣٩

ويستفاد من هذه الآية عدّة امور :

أولاً : إنّ الموت والحياة كلاهما مخلوقان ، فإذا كان الموت بمعنى الفناء والعدم المطلق فإنّ كونه مخلوقاً سوف لا يكون ذا معنىً ، والسبب في ذلك هو أنّ الموت عبارة عن الانتقال من عالم إلى عالم آخر ، لذا فهو أمرٌ وجوديٌ وبالامكان خلقه.

ثانياً : إنّ ذِكْرَ الموت قبل الحياة إمّا أن يكون للدلالة على موت الدنيا وحياة عالم الآخرة ، وإمّا أن يكون للدلالة على المرحلة التي كان فيها الإنسان تراباً ، فتعتبر الحياة بمعنى الخلق من التراب ، وإمّا أن يدلّ على كليهما معاً.

ثالثاً : قد عُرِّفت الدنيا بأنّها ساحة اختبار .. ساحةٌ لانتخاب «أفضل الأفراد من حيث العمل» ، ومن البديهي أنَّ شهادة النجاح في هذا الامتحان تُمنَح في الدار الآخرة.

رابعاً : إنّ المقياس الذي يعيّن قيمة الإنسان لدى الله تعالى هو العمل الصالح ، ومن البديهي أيضاً أنّ الأعمال الصالحة تنبع من العقائد المخلصة والقلب المؤمن والنّية الخالصة ، وذلك لأنّ العمل يكون دائماً انعكاساً لهذه الامور.

ومن المحتمل أن يكون هذا هو دليل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند تفسير جملة «أَحْسَنُ عَمَلاً) في أحد الأحاديث المروية عنه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسيرها :«أتَمُّكُمْ عَقْلاً وَأشَدُّكُمْ للهِ خَوْفاً وَأَحْسَنُكُمْ فيَما أمَرَ اللهُ بِهِ وَنَهى عَنْهُ نَظَراً ، وَإنْ كَانَ أقَلُّكُمْ تَطَوُّعاً» (١).

فمن هنا يتضح أَنّ التفسيرات المختلفة التي فُسِّرت بها «أحْسَنُ عَمَلاً» مثل : تفسيرها بالأعمال الخالصة أو الأكثر عقلاً أو الأكثر زهداً أو الأكثر ذِكراً للموت أو الأكثر تأهّباً لسفر الآخرة ، يتضح أنّها مترابطة مع بعضها البعض ، ولا تعتبر تفسيرات مختلفة ، وذلك لأنّ هذه التفسيرات كالسيقان والأوراق والجذور والجذع والفواكه للشجرة الواحدة.

خامساً : إنّ القيمة الواقعية تختصّ ب «جوهر الأعمال» لا ب «كمِّها وحجمها» ، فرُبَّ عملٍ صغيرٍ ذِي كيفية عالية من جهة الإخلاص والإيمان والمعرفة فاقَ أعمالاً كثيرة ، لذا جاء في احدى الروايات عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير أنّه «أحْسَنُ عَمَلاً» قال : «لَيْس يَعْني أكثَرُ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.

٣٤٠