نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

جزئية أو كلية ، معنوية أو مادية ، من أعمال الجوارح أو الجوانح ، يشملها الحساب بدون استثناء في ذلك اليوم.

جاء في قوله تعالى على لسان موسى بن عمران عليه‌السلام : (وَقَالَ مُوسَى انِّى عُذتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ). (غافر / ٢٧)

وعبّر عن ذلك تارةً بـ (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). (إبراهيم / ٤١)

ورد في مقاييس اللغة أربعة معان لمادة «حساب» : «العدُّ» و «الاكتفاء» و «الحسبان» بمعنى الوسادة الصغيرة و «احْسَب» أي الذي ابيضّ لون بشرته وسقط شعر رأسه إثرَ المرض.

وذكر عدد من أصحاب اللغة معانيَ أكثر للحساب ، وقد بلغت سبعة معانٍ ، منها الجزاء والعذاب (١).

ولكن الظاهر على ما يفهم إجمالاً من مفردات الراغب إنّ جميع تلك المعاني المذكورة تعود إلى معنىً واحد وهو المحاسبة ، وإن استُعمل بمعنى الاكتفاء فهو يعني أنّ هناك محاسبة وصلت إلى حد الاكتفاء ، وهكذا في الجزاء فإنّه يعني أنّ الجزاء يأتي بعد الحساب ، والمعاني الاخرى أيضاً تعود إلى هذا المعنى بنحوٍ ما (فمثلاً ، السبب في اطلاقه على نوع من الأمراض الجلدية هو تشبيهه بالمجازاة الإلهيّة التي تتم بعد الحساب ، ومن المحتمل أنّ اطلاق حسبان على الوسادة الصغيرة لأنّ المحاسبين عند انجاز عملية الحساب يتَّكئون عليها).

على أيّة حال فإنّ الحساب الإلهي ـ الذي سيأتي توضيح كيفيته بعون الله في أبحاث منازل الآخرة ـ من أبرز الأعمال التي تمارس يوم القيامة ، وفي الواقع أنّ قيام يوم القيامة إنّما هو لأجل الحساب.

* * *

__________________

(١) نهاية ابن الأثير ؛ ولسان العرب.

٤١

٤ ـ يوم الدين

استعمل هذا الاسم أيضاً بشكل واسع في القرآن الكريم ، وقد بلغ عدد الآيات التي ورد فيها التعبير بـ «يوم الدين» ثلاثة عشر آية ، وأكثر ما يَرِدُ على الألسن هو ما جاء في سورة الحمد : (مَالِكِ يَومِ الدِّين).

يعتقد بعض أصحاب اللغة أنّ «دين في الأصل بمعنى الخضوع والطاعة والانقياد ، وإذا اطلقت هذه الكلمة على معنى الجزاء فإنّه إمّا من أجل وجوب قبول الجزاء أو من أجل أنّ الجزاء من مخلفات الطاعة».

وفُسِّر يوم الدين أيضاً بمعنى يوم الحساب في بعض الروايات ، وهو في الواقع من قبيل ذكر العلّة وارادة المعلول ؛ وذلك لأنّ الحساب مقدمة للجزاء.

* * *

٥ ـ يوم الجمع

ورد هذا التعبير مرتين في القرآن المجيد ، منها قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ). (التغابن / ٩)

وأخرى : (لِتُنذِرَ امَّ القُرَى وَمَنْ حَولَهَا وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ). (الشورى / ٧)

وكيف لايكون ذلك اليوم يوم الجمع حيث إنّ جميع الاولين والآخرين وجميع الجن والانس وحتى الملائكة المقربين يجمعون في ذلك اليوم ، ولم يُجْمَعوا لوحدهم فحسب بل يجمعون مع جميع أعمالهم ، فيتأهبون للمثول امام محكمة العدل الإلهي.

وقد ورد هذا الاسم بصورة اخرى : (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ). (هود / ١٠٣)

* * *

٦ ـ يوم الفصل

«يوم الفصل» (يوم الافتراق) هو اسم آخر من اسماء يوم القيامة ، وقد تكرر ذكر هذا

٤٢

الاسم في القرآن المجيد ست مرات (١) ، قال تعالى : (انَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً). (النبأ / ١٧)

إنّ هذا التعبير عميق جدّاً يدلّ على الافتراق في ذلك اليوم العظيم مثل : افتراق الحق عن الباطل وافتراق صفوف المؤمنين والصالحين عن صفوف الكفار والمجرمين وافتراق الأخ عن أخيه والام والأب عن الأبناء وافتراق مصير الصالحين عن مصير (الطالحين) الفاسقين.

ويأتي هذا التعبير تارةً بمعنى يوم القضاء والتحكيم ؛ ذلك لأنّ القاضي يفصل النزاع بحكمه ، لذا أُطلِقَ «الفصل» على الحكم والقضاء لأنّه السبب في نهاية النزاع.

* * *

٧ ـ يوم الخروج

جاء هذا التعبير في آية واحدة من القرآن المجيد في سورة ق الآية ٤٢ وذلك من خلال الإشارة إلى نفخ الصور الثاني ، قال تعالى : (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُروجِ). (ق / ٤٢)

نعم ، إنّه يوم الخروج من الموت إلى الحياة ومن عالم البرزخ إلى عالم الآخرة ومن الباطن إلى الظاهر ومن الخفاء إلى العلن!

وجاء هذا المعنى بصورة اخرى قال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٢). (المعارج / ٤٣)

ويدلُّ هذا التعبير على أنّ أحداث يوم القيامة في أوّل الأمر تمرُّ بسرعة هائلة ، وفي نفس الوقت استُعمل هذا التعبير للطعن والاستهزاء بعبدة الأوثان الذين يعتبرون الأوثان من أهم الامور في حياتهم ، وقد استقطبت الأوثان أكثر أصحاب العقول الناقصة ، فقد وصلوا إلى حدٍ من الجهل جعلهم يعتبرون الهرولة نحو الأصنام من اوضح مصاديق «الاسراع» في العبادة ،

__________________

(١) الصافات ، ٢١ ؛ الدخان ، ٤٠ ؛ المرسلات ، ١٣ و ١٤ ، ٣٨ ؛ النبأ ، ١٧.

(٢) «سراع» جمع «سريع» (على وزن ظِراف وظريف) بمعنى الشخص أو الشي الذي يسير بسرعة. و «نُصُب» جمع «نصيب» و «نُصب» «نَصْب» على وزن (كَسْب) في الأصل بمعنى الشي الذي ينصب في مكانٍ ما ، لذا لم يطلق إلّاعلى المحل الذي يُنْصب فيه. قالوا إن الفرق بين النصب والصنم هو أنّ الصنم له شكل معيّن لكن النصب حجر خالٍ من أي صورة ، وكانوا يعظمونه ويذبحون له القرابين.

٤٣

إذ كانوا يعدون بسرعة نحو الأوثان في أيّام الفرح أو أيّام العزاء أو عند العودة من السفر ومن هنا يظهر السّر المكنون في هذه الآية.

* * *

٨ ـ اليوم الموعود

ورد هذا التعبير مرّة واحدة في آية واحدة من القرآن أيضاً بصورة قَسَم عظيم حيث قال تعالى : (وَالْيَومِ الْمُوعُودِ) ، (أى اليوم الذي هو موعد الجميع وقد وعد جميع الأنبياء بذلك). (البروج / ٢)

وفسَّر بعض المفسرين اليوم الموعود على انَّه إشارة ليوم الخروج من القبور أو اليوم الذي يشفع فيه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المعنى الأول يشمل جميع هذه المعاني (١).

وورود هذا القَسَم في القرآن المجيد بعد القسم : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) ، هو إشارة إلى عظمة ذلك اليوم وأنّ عظمته كعظمة السماء ، أو إشارة إلى أن خلق هذه السماء العظيمة وذلك النظام الدقيق المهيمن عليها لا يتمّ إلّامن أجل ذلك اليوم الموعود ؛ ذلك لأنّ هذه الدنيا الفانية لوحدها لا تستحق مثل هذا النظام العظيم المترامي الأطراف.

ومهما يكن من أمر فقد ورد تعبير آخر يشابه هذا التعبير ، قال تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ) (٢). (الزخرف / ٨٣)

* * *

٩ ـ يوم الخلود

لم يرد هذا التعبير في آيات القرآن إلّامرّة واحدة في قوله تعالى : (أُدخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ). (ق / ٣٤)

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٨٦.

(٢) ورد ما يشابه هذا التعبير في الآية ٤٣ من سورة المعارج ؛ والآية ٦٠ من سورة الذاريات أيضاً.

٤٤

ورد هذا التعبير بعد وصف «الجنّة» في آيات سورة ق ، وإن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على خلود ودوام تلك النعمة الإلهيّة والمكافأة العظيمة وجميع نعمه تعالى التي وهبها للمحسنين إلى الأبد ، وفي الحقيقة إنَّ يوم الخلود يبدأ من وقت الدخول إلى الجنّة.

وهذا التعبير يؤيد بوضوح ما قلناه مسبقاً وهو أنّ كلَّ واحد من أسماء وصفات القيامة يحمل في طياته إشارة إلى أحد أبعادها ، والكلام هنا عن الدوام الأبدي ، ومن الطبيعي أنّ عذاب جهنم كذلك ولكن لم يعبّر القرآن بـ «يوم الخلود» إلّافي هذا المورد ، أمّا بشأن جهنم فيوجد تعبير مشابه آخر وهو «دار الخلد» قال تعالى : (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ). (فصلت / ٢٨)

* * *

١٠ ـ يومٌ عظيم

ورد اطلاق وصف اليوم العظيم في آيات متعددة من القرآن المجيد ، منها : قوله تعالى : (فوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَروُا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١). (مريم / ٣٧)

ومن الجدير بالذكر أنّ التعبير ب «عذاب يوم عظيم» جاء أيضاً في آيات القرآن في موارد العذاب الدنيوي المهيب ، وبمجرد البحث في الآيات السابقة واللاحقة يمكن تمييزه عن عذاب يوم القيامة بسهولة.

على أيّة حال فإنّ نعت ذلك اليوم بالعظمة انّما جاء لأمورٍ مهمة كثيرة تحصل في ذلك اليوم العظيم مثل : المكافأة والمجازاة العظيمة ، والقضاء والحساب العظيم ، والحضور العظيم للمخلوقات في ذلك اليوم ، وعظمة امتداد ذلك اليوم ، وعظمة الخوف والرهبة والفزع ، وهيبة المحشر والحساب ، وفي عبارة مختصرة هي العظمة في جميع جوانبها.

* * *

__________________

(١) جاء أيضاً ما يشابه هذا التعبير في الآية ١٥ ، يونس ؛ ١٥ ، الانعام ؛ ٥٩ ، الاعراف ؛ ١٣٥ ، الشعراء ؛ ٢١ ، الاحقاف ؛ ١٣ ؛ الزمر ؛ ٥ ، المطففين.

٤٥

١١ ـ يوم الحسرة

ورد هذا التعبير في آية واحدة من القرآن وهو من التعبيرات التي تهز المشاعر عن يوم القيامة ، فهو يوم الحسرة والأسف والندامة ، قال تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذ قُضِىَ الْأَمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ). (مريم / ٣٩)

«الحسرة» : من مادة «حَسْر» ، قال صاحب (المفردات) وصاحب (مقاييس اللغة) وعدد آخر من اللغويين : إنّها بمعنى الكشف ، فمعنى حسرتُ عن الذراع كشفتُ عنها ورفعتُ عنها الكُم ، ثم اطلقت كلمة حسرة على الغم والهم الحاصل من ضياع الفرص أو بعض الامور ، فكأن حجاب الجهل يُرفع عن الإنسان فيكتشف اضرار الأعمال التي كان يمارسها وتظهر له الحقيقة على ما هي.

لكن البعض الآخر يعتبر الأصل في الحسر هو «الانسحاب» ، ولكن الحقيقة أنّ الانسحاب من لوازم المعنى الأول ، فعندما ينسحب ماء البحر إلى الخلف مثلاً فإنّ من الطبيعي أن تظهر السواحل التي كان يغطيها الماء ، أو عندما يسحب الإنسان كُمَّه إلى الخلف فإنّ ذراعه سوف تنكشف (١).

على أيّة حال فإنّ الحزن والأسف والندامة من لوازم مفهومه ، وأنّ يوم القيامة هو يوم الهم والندامة والحسرة حقاً ، لا للمذنبين فحسب بل للمحسنين أيضاً ؛ ذلك لأنّهم عندما يشاهدون المكافآت الإلهيّة العظيمة فإنّهم يتأسفون على أنّهم لماذا لم يحسنوا أكثر ممّا احسنوا!؟

وقد صرّح بهذا عدد من المفسرين (٢) ، إلّاأنّ الفخر الرازي يقول : إنّ الحسرة لا تشمل أصحاب الجنّة بل تكون من نصيب المُسيئين فقط وذلك لعدم إمكان وجود أي غم أو هم في الجنّة (٣).

ولكن يجب الاعتراف بأنّ غماً كهذا هو نوع من الكمال وليس منبعاً للعذاب الروحي ،

__________________

(١) التحقيق ، ج ٢.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٥١٥ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ٣٣٥ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١٦ ، ص ٨٥.

(٣) تفسير الكبير ، ج ٢١ ، ص ٢٢١.

٤٦

وبناءً على هذا فإنّ وجوده في الجنّة لامانع منه (فتأمل).

فإن كان التأسف والحسرة ممّا ينجبر في هذه الدنيا فإنّه لا مجال لذلك هناك ، ولذا يجب أن يسمى ذلك اليوم بيوم الحسرة الحقيقية والحسرة الكبرى ، وقد جاء نفس هذا المعنى ولكن بصورة اخرى : (انْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنبِ اللهِ) (١). (الزمر / ٥٦)

* * *

١٢ ـ يوم التغابن

ورد هذا التعبير في القرآن مرّة واحدة وذلك في قوله تعالي : (يَومَ يَجْمَعُكُمْ لِيَومِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ الْتَّغَابُنِ). (التغابن / ٩)

«التغابن» : من مادة «غَبْن» وهنا جاءت بمعنى انكشاف الغبن ، أي يظهر في ذلك اليوم من هو المغبون (٢).

قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : «وهو تفاعل من الغبن وهو أخذ شر وترك خير أو العكس ، فالمؤمن ترك حظه من الدنيا واخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شرّ له وأخذ ما هو خير له فكان غابناً ، والكافر ترك حظه من الآخرة وأخذ حظه من الدنيا فترك الخير وأخذ الشر فكان مغبوناً ، فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون».

وفي صحاح اللغة «الغبن» بمعنى الخدعة والمكر ، والمغبون من وقع ضحية الخداع والمكر ، وعندما تستخدم في موارد التفكّر والتعقّل فإنها تعني الضعف وعدم الاقتدار ، لذا «غبين» جاءت بمعنى ضعيف الفكر.

على أيّة حال ففي يوم القيامة يكشف عن الحُجب وتظهر نتائج الأعمال والاعتقادات والنيّات ، ويرى الإنسان نفسه بين كميّة عظيمة من نتائج وآثار أعماله ، وهناك يُخبَر

__________________

(١) ورد أيضاً ما يشابه هذا المعنى في سورة الانعام الآية ٣١.

(٢) مفردات الراغب.

٤٧

المسيئون عن خسارتهم وفشلهم وعن خداع ومكر الشيطان وعن ضياع رأس مالٍ عظيم وعن فقدانهم للسعادة الخالدة والوقوع في مخاطب العذاب الإلهي ، وهذا هو الغبن الحقيقي.

* * *

١٣ ـ يوم التناد

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد عندما كان مؤمن آل فرعون يحذّر الفراعنة من العذاب الإلهي الذي يحلُّ بهم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَيَاقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ). (غافر / ٣٢)

«التناد» : جاء في الأصل من «التنادي» حذفت ياؤه واضيفت الكسرة في آخره للدلالة على حذف الياء ، وهو من مادة «نداء».

ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ «يوم التناد» من أسماء القيامة (١) ، وجاء كل منهم بدليل لاثبات مدّعاه.

قال بعضهم : إنّ الدليل عليه هو أنّ أصحاب النار ينادون أصحاب الجنّة كما في الآية الكريمة : (وَنَادى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَليْنَا مِنْ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فيجيبهم أهل الجنّة : (قَالُوا انَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). (الاعراف / ٥٠)

نُقل هذا المعنى في كتاب «معاني الأخبار» خلال حديث روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام.

وقال آخرون : إنّ العلّة في هذه التسمية هي أنّ الناس في يوم الحشر ينادي بعضهم بعضاً يطلبون العون.

أو أنّ الملائكة تنادي الناس للحساب وينادي الناس الملائكة لطلب العون! أو لأنّ المؤمن عندما يرى صحيفة أعماله ينادي من شدة الفرح : (هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَه). (الحاقة / ١٩)

وينادي الكافر عندما يُعطى كتابه بيده من شدّة الفزع : (يَالَيْتَنِى لَمْ اوْتَ كِتَابِيَه). (الحاقة / ٢٥)

__________________

(١) ادّعى الفخر الرازي في تفسيره (الكبير ج ٢٧ ، ص ٦١) الإجماع واتفاق المفسرين على هذا القول.

٤٨

وهنالك وجوه اخرى ذكرت لهذه التسمية ، ففي بعض التفاسير عدّوها ثمانية وجوه ، ولكن بعضَ تلك الوجوه ضعيفة ، ومن الممكن أنّ جميع هذه المعاني قد جُمعت في مفهوم الآية وذلك لعدم المنافاة.

* * *

١٤ ـ يوم التلاقِ

ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن المجيد في قوله تعالي : (يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ). (المؤمن / ١٥)

المراد من لقاء الروح بقرينة الآيات الاخرى هو الوحي والكتب السماوية ، كما جاء في خطابه تعالى للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في قرآن الكريم : (وَكَذلِكَ أَوْحَينَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا). (الشورى / ٥٢)

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن المجيد روحٌ نُفختْ في المجتمع الإنساني من قبل الله عزوجل!

قال الراغب في المفردات : سُمي القرآن روحاً لأنّه هو السبب في إيجاد الحياة المعنوية. والهدف من لقاء هذه الروح هو الانذار من هول يوم التلاقي العظيم.

إنّ كل أنواع اللقاءات التي جُمعت في مفهوم الآية تحصل في ذلك اليوم ، وإن أشار المفسرون إلى بعض زوايا تلك اللقاءات.

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بربهم : (يَا ايُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ). (الانشقاق / ٦)

وهو اليوم الذي يلتقي فيه الإنسان بملائكة الحساب والثواب والعقاب : (وَتَتَلقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ). (الأنبياء / ١٠٣)

وهو اليوم الذي يلتقي فيه الإنسان بحساب الأعمال والأقوال : (إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ). (الحاقة / ٢٠)

٤٩

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون.

يوم تلاقي دعاة الحق ودعاة الباطل بأعوانهم.

يوم تلاقي الظالم والمظلوم.

يوم تلاقي أهل الجنّة وأهل النار!

نعم ، إنّ الهدف الرئيس من بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير وانذار العباد من ذلك اليوم ، يوم التلاقي العظيم وما أعجبه من مفهوم واسع ورهيب.

* * *

١٥ ـ يومٌ ثقيل

وهذا الاسم أيضاً من الأسماء التي وردت مرّة واحدة في قوله تعالي : (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوماً ثَقِيلاً). (الإنسان / ٢٧)

إنّ نعت ذلك اليوم بالثقيل هو وصف واسع وعميق المعنى : ثقيل من حيث المحاسبة وثقيل من حيث المجازات وثقيل من حيث الفضائح وثقيل من حيث شدائد الحشر وثقل المسؤوليات وثقيل من حيث الذنوب التي تثقلُ كاهل المجرمين! وعبّر ب «يذرون وراءهم» مع أنّ القاعدة تقتضي أن يقال «أمامهم» وذلك من أجل الإشعار بأنّ المجرمين نسوا ذلك اليوم إلى حدٍ كأنّه تركوه وراءهم.

* * *

١٦ ـ يومُ الآزفة

إنّ كل اسم من أسماء يوم القيامة يحمل في طياته خطاباً متميزاً ، ومنها اسم «يوم الآزفة» الذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد (التعبير بـ «الازفة» ورد مرتين ، ولكن «يوم الازفة» مرّة واحدة) قال تعالى : (وَأَنْذِرهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ). (المؤمن / ١٨)

٥٠

«الآزفة» : من مادة «ازَف» على وزن «صَدَف» ، قال في مقاييس اللغة والمفردات ومصباح اللغة وكتب اخرى ، ازَف بمعنى اقترب ، ولكن البعض الآخر قال إنّها بمعنى الاقتراب المشوب بضيق الوقت.

هذه التسمية تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ موعد وقوع القيامة اقرب ممّا يتصوره الناس ، كي لا يقول الغافلون لدينا متّسع من الوقت وأنّ يوم القيامة موعد مؤجل! فإنّه يوم قريب تصل القلوب فيه إلى الحناجر من شدّة الخوف وتبلغ الروح الحلقوم ، إنّ الهمّ المشوب بالخوف في ذلك اليوم يخنق الناس.

نعم يجب التأهب في كل لحظة لمثل هذا اليوم.

وقد أشار القرآن الكريم وبتعبير آخر إلى نفس هذا المعنى في الآية الاولى من سورة الأنبياء : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعِرضُونَ) ، وهو إشارة إلى أنّ حساب يوم القيامة قريب جدّاً.

ولابدّ من الالتفات إلى أنّ جملة (اقترب) فيها تأكيد للمعنى أكثر من (قرب) وهو إشارة إلى أنّ يوم الحساب قريب جدّاً.

فالقرآن الكريم ـ لقرب القيامة وحتمية وقوعها ـ أخبر عنها بصيغة الماضي في كثير من تعبيراته ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقرّاً وَمُقَاماً). (الفرقان / ٦٥ ـ ٦٦)

* * *

وغيرها من الآيات الشريفة.

١٧ ـ يومٌ عسير

ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد في الآية الاولى : (فَذَلِكَ يَؤْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ). (المدثر / ٩)

وفي الآية الثانية : (وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً). (الفرقان / ٢٦)

وورد هذا التعبير مرّة واحدة بلفظ «عَسِر» (على وزن خَشِن) قال تعالى : (يَقُولُ

٥١

الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (١). (القمر / ٨)

من البديهي أن يكون ذلك اليوم منهِكاً ومؤلماً ومحزناً للكافرين ، بنحوٍ ينهار فيه القوي منهم ويصبح عاجزاً ذليلاً منهك القوى.

يقول الفخر الرازي في تفسيره : «عسرُ ذلك اليوم على الكافرين لأنّهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوَدّ وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الاشهاد» (٢).

وهذه إحدى مراحل صعوبات المحشر ، والمراحل الاخرى أصعب واكبر بلاءً من تلك المرحلة عندما يساقون إلى جهنم ثم يرون أنواع العذاب ويقعون في نار الغضب الإلهي ، فذلك اليوم ليس بيسيرٍ حتى على المؤمنين ، إنّ حساب جميع الأعمال حتى إذا كان بمثقال ذرّة والعبور من تلك المسالك الصعبة أمرٌ عسيرٌ جدّاً.

* * *

١٨ ـ يوم اليم

ورد هذا التعبير مرتين أيضاً في القرآن المجيد (وإن وردت كلمة «أليم» مجردةً عشرات المرات في وصف عذاب القيامة في سور مختلفة من القرآن الكريم).

إحداها في سورة هود نقلاً عن لسان النبي نوح عليه‌السلام عندما كان يخاطب قومه ، قال تعالى : (إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ). (هود / ٢٦)

والاخرى في سورة الزخرف عن لسان الوحي الإلهي : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). (الزخرف / ٦٥)

إنّ وصف ذلك اليوم بالأليم ليس من حيث العذاب المؤلِم فحسب ، بل علاوة على هذا فإنّ ذلك اليوم هو مصدر الألم والعذاب من عدّة وجوه ، من حيث الفضيحة ومن حيث

__________________

(١) «عسير» و «عَسِر» كلاهما صفة مشبّهة.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٣٠ ، ص ١٩٧.

٥٢

الندامة والحسرة القاتلة ، ومن حيث أنواع الآلام الروحية الاخرى ، فمثلاً الإنسان الذي يرى الآخرين قد دخلوا الجنّة بواسطته في حين يجد نفسه من أهل النار ، وأليم لعدم إمكان العودة ثانيةً وأليم لدوام العذاب في ذلك اليوم.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ إحدى الآيتين السابقتين تحدثت عن المشركين والاخرى تحدثت عن الظالمين ، ونحن نعلم بأنّ الشرك نوع من الظلم ، وأنّ الظلم والاضطهاد أيضاً هو من دوافع الشرك على نوعيه الجليّ والخفيّ.

* * *

١٩ ـ يومُ الوعيد

وردت هذه التسمية مرّة واحدة في القرآن المجيد بأجمعه حيث قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ). (ق / ٢٠)

ولا يخفى أنّ كلمة «وعيد» تكرر ذكرها في القرآن كثيراً ، ولكن التعبير بـ «يومُ الوعيد» لم يرد إلّافي مورد واحد.

كلمة «وعيد» اشتُقّت من مادة «وعد» ، قال الراغب في المفردات : «وعد» تستعمل في موارد الخير والشر معاً ، ولكن«وعيد» لا تستعمل إلّافي موارد الشر ، ولذا فسّرَها «ابن منظور» في لسان العرب بالتهديد ، وكلمة «ايعاد» جاءت بهذا المعنى أيضاً.

على أيّة حال فإنّ هذا التعبير إشارة عميقة إلى جميع أنواع عقوبات يوم القيامة ، فهو إشارة إلى عقوبات المحشر وإلى محكمة العدل الإلهيّة وإلى عقوبات النار وجميع العقوبات الماديّة والمعنوية مثل الخزي أمام الناس والبعد عن فيض وقرب الرّب.

وللمفسرين أقوال في مسألة نفخ الصور التي وردت في هذه الآية ، فهل هو نفخة الموت وانتهاء الحياة الدنيا ، أم هي نفخة عودة الحياة وبداية الآخرة؟ ولكن جاء في الآية التالية لهذه الآية : (وَجَاءَت كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ). (ق / ٢١)

وهذا دليل على أنّ المراد منها هو النفخ الثاني وهذا اليوم (يوم الوعيد) هو نفس ذلك اليوم أيضاً (١).

__________________

(١) رَجَّحَ هذا المعنى كثير من المفسرين مثل أبو الفتوح الرازي والعلّامة الطباطبائي والفخر الرازي والآلوسي في روح المعاني والمراغي في تفسيره عند تعليقه على تلك الآية.

٥٣

٢٠ ـ اليوم الحق

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد ، وقد عُبّر به عن يوم القيامة ، قال تعالى : (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ). (النبأ / ٣٩)

نعم إنّها حقيقة لا تنكر ، وحقيقةٌ تعطي مفهوماً لفلسفة خلق كل ما في الدنيا ، ولولا ذلك اليوم لما بقي هدف ومفهوم لخلق هذا العالم.

إنّ الدنيا في الواقع ليست أكثر من سراب ، وهي «مجاز» وليست «حقيقة» ، بل هي فناءٌ لابقاء ، وموتٌ لا حياة ، نعم إنّ حقيقة المفهوم الرئيسي للحياة يتجلى في يوم القيامة (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوانُ). (العنكبوت / ٦٤)

وأشار بعض المفسرين في تفسيرهم لحقانية ذلك اليوم إلى ثلاثة امور :

١ ـ ذلك اليوم هو الحق وغيره باطل ، وذلك لأنّ باطل أيّام الدنيا أكثر من حقها.

٢ ـ الحق بمعنى الوجود الثابت ولذا اطلقوا كلمة الحق على الله تعالى لأنّهم قالوا باستحالة تصور الفناء له ، ويوم القيامة كذلك أيضاً ، وعلى هذا فإنّ القيامة حق.

٣ ـ إنّ ذلك اليوم يستحق اطلاق كلمة اليوم (بمعنى النهار) عليه وذلك لأنّ في ذلك اليوم المنير يُكشف عن الأسرار الخفية بينما تكون أحوال الخلق مجهولة ومكتومة في الدنيا (كما هو الحال في الليل) (١).

* * *

٢١ ـ يومٌ مشهود

ورد هذا الوصف مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد وذكر ذلك اليوم بعد ذكر عذاب الآخرة ، قال تعالى : (وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ). (هود / ١٠٣)

ولا يكون ذلك اليوم مشهوداً من قبل الأولين والآخرين فحسب ، بل سوف تشاهد في ذلك اليوم الأعمال والحساب ومحكمة العدل الإلهي ومكافآت وعقوبات الأعمال أيضاً.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٢٥.

٥٤

وعن المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تدل على أنّ الإنسان لايحضر لوحده ويشاهد ذلك اليوم بل إنّ الجن والملائكة أيضاً سوف يحضرون ويشهدون ذلك اليوم فإنّه يوم الجمع الشامل (١).

وقال القرطبي أيضاً إنّ سكان السموات يحضرون ويشهدون ذلك اليوم أيضاً.

ومن البديهي أنّ جميع الأيّام يمكن مشاهدتها ، ولكن انتخاب هذا الوصف ليوم القيامة يقع تارةً من حيث الدلالة على حتمية وقوعه ، واخرى للدلالة على أهميّة تلك الأحداث التي تقع في ذلك اليوم والحضور الشامل لسائر الخلق فيه.

* * *

٢٢ ـ يومٌ معلوم

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن الكريم في جواب استفسار الكفّار عن الحياة ما بعد الموت ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْاوّلِينَ وَالْآخِرِينْ* لَمجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ). (الواقعة / ٤٩ ـ ٥٠)

إنّ العلم بذلك اليوم يمكن أن يكون له مفهومان :

١ ـ «العلم التفصيلي» أي العلم بذلك اليوم وتاريخ وقوعه الدقيق ، ونحن نعلم بأنّ هذا العلم يختصُ بالله تعالى ، ولا أحد يعلم بذلك حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، لكنّه ثابت ومقطوع به ومعلوم من جميع الجهات في علم الله عزوجل.

٢ ـ «العلم الإجمالي» أي العلم بأنّنا سوف نواجه جميعاً مثل هذا اليوم ، فبما أنّ علمنا نابع من أعماق فطرتنا ـ كما سيأتي في الأبحاث اللاحقة إن شاءالله ـ ومع وجود الدلائل المتعددة عن طريق العقل التي يمكن أن يحصل عليها العالم والعامي بالإجمال ، وباضافة علم جميع الرسل والأنبياء ، يكون ذلك اليوم يوماً معلوماً وحتمياً وضرورياً وإن لم يعلم أحد تاريخه بالدقة.

وأكثر المفسرين رجحوا المعنى الأول ، لكن الأكثرية أخذوا بالمعنى الثاني واستدلوا

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٧ ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٩١ ورجّح «المراغي» هذا القول في تفسيره أيضاً.

٥٥

على شمولية هذا العلم بكلمة «قُل» وذلك لأنّ مفهومها يتضمن تبليغ هذا الأمر للجميع(١). لكن يمكن الجمع بين التفسيرين في مفهوم الآية أيضاً.

إنّ الخطاب الذي يوجهه الينا تعبير (يوم معلوم) هو أن نكون صادقين في تعاملنا مع هذا اليوم وأن نتأهب للقائه ، وأن نعلم علم اليقين بأنّ القيامة على أيّة حال واقعة بجميع آثارها ونتائجها ، وهذا العلم واليقين له أثر كبير في التربية.

* * *

٢٣ ـ يوماً عبوساً قمطريراً

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد في نقل خطاب «الأبرار» (٢) عند قولهم : (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). (الانسان / ١٠)

كلمة «عبوس» هي من صفات الإنسان وهذا ممّا لا يحتاج إلى تفسير ، وتطلق هذه العبارة على الإنسان الذي تقطّب وجهه وكان حاله على غير مايرام ، ووصف ذلك اليوم ب «عبوس» كناية حيّة عن وضع ذلك اليوم الرهيب المرعب ، أي أنّ وقائع ذلك اليوم بلغت من الصعوبة والإيلام حدّاً كبيراً لا يكون الإنسان لوحده عبوساً في ذلك اليوم ، بل كأن اليوم بنفسه عبوسٌ مقطّبٌ بشدّة!

و «القمطرير» : عند كثير من المفسرين بمعنى «الصعب الشديد» أو الإنسان العبوس السّيئ الخلق ، وبناءً على هذا يكون مفهومه قريباً من مفهوم العبوس ، ثم إنّ هذه الكلمة مشتقة من مادة «قطر» على وزن «قفل» والميم زائدة فيها ، وقيل إنّها مشتقه من مادة «قمطر» (عى وزن خنجر).

على أيّة حال فإنّ التعبير المذكور يشير إلى أن أحداث ذلك اليوم تبلغ من الصعوبة والشدّة والألم درجة يجعل آثارها تظهر من بواطن الناس على وجوههم ، ويسيطر الخوف

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٧٢.

(٢) والمعلوم أنّ هذه السورة نزلت في بيان شأن الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين (سلام الله عليهم أجمعين) الذين هم في الركب الأول من «الأبرار والصالحين».

٥٦

والاضطراب على تمام وجودهم ، وذلك لأنّ أحداً لا يعلم إلى أين ينتهي مصيره ، والجميع ينتظرون الحساب وينتظرون لطف الله.

قال بعض المفسرين في شدّة هذا اليوم : سبحان الله ما أشدَّ اسم هذا اليوم وهو من اسمه أشد.

* * *

٢٤ ـ يوم البعث

ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد وذلك في آية واحدة وهي : (وَقَالَ الَّذيِنَ اتُوا الْعِلمَ وَالإِيمانِ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللهِ إِلَى يَومِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ). (الروم / ٥٦)

من الواضح أنّ التعبير عن احياء الموتى ب «البعث» (والأفعال المشتقة منه) في آيات القرآن المجيد كثير جدّاً واستعمل استعمالاً واسع النطاق كما أشرنا إليه سابقاً ، وكل تلك التعبيرات تبيّن هذه الحقيقة وهي أنّ ذلك اليوم يوم حياة الجميع بعد موتهم ، وبما أنّنا أشرنا إليه بما فيه الكفاية في هذا الصدد فلا نرى ثَمّة حاجة إلى توضيح أكثر.

* * *

إلى هنا ينتهي القسم الأول : ومن خلال الأسماء والاوصاف والتعبيرات المختلفة التي وردت في هذا القسم تتجلى لنا بوضوح هذه الحقيقة وهي أنّ القرآن جاء لينبّه الناس من غفلتهم ، ومن أجل تربيتهم وتعليمهم وهدايتهم إلى التكامل والسمو ، وكذلك من أجل عرض وتوضيح الصور المختلفة للمعاد ، فقد انتخب للمعاد أسماءً متنوعة يشير كل واحد منها إلى بُعدٍ من أبعاد ووقائع ذلك اليوم وأحداثه العظيمة المزلزلة التي لا نظير لها ، فكل واحد من هذه الأسماء ، أو بتعبير آخر كل واحد من أوصاف ذلك اليوم يحمل في طياته خطاباً متميزاً لجميع البشر وعلى مرّ القرون والعصور.

خطابٌ إذا ما اعتُبِرَ به فإنّه سيكون عاملاً مؤثراً في الردع عن الانحرافات والسيئات

٥٧

والخطايا والجرائم والمنكرات والمظالم.

إنّه خطاب يكشف البحث فيه بوضوح عن أبعاد فصاحة وبلاغة القرآن في الميادين المخلتفة وخصوصاً في المواضيع التربوية ، وهو أفضل هادٍ لسالكي طريق الحق وللباحثين عن طريق القرب الإلهي (فتأمل).

* * *

القسم الثاني :

والآن نبحث في قسم آخر من أسماء القيامة والتي لا تصف القيامة في كلمة واحدة بل من خلال جملة كاملة.

* * *

٢٥ ـ يومَ نطوي السماء كطيِّ السِّجلِّ للكُتُب

بعض هذه التعبيرات تتحدّث عن الوقائع التي تحدث في العالم عند ظهور مقدمات القيامة ، والبعض الآخر يتعلق بأحوال البشر في ذلك اليوم ، ويخبر قسم آخر عن انتهاء كل شي.

التعبير أعلاه هو من ضمن التعبيرات التي تتعلق بـ «مقدمات القيامة» بعد الإشارة إلى عدد من مكافآت المحسنين وعقوبات المسيئين ، قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ). (الانبياء / ١٠٤)

«السجل» : من مادة (سَجْل) على وزن (سَطْل) بمعنى الدلو الكبير المملوء بالماء ، وقيل إنّه بمعنى «الجمع والادِّخار لأجْل الاراقة والنثر» ، من أجل هذا اطلقوا كلمة «سَجْل» على الدلو الكبير ، واطلقوا كلمة «سِجِلّ» (بكسر السين والجيم وتشديد اللام) على الصحائف التي تكتب عليها المطالب وتطوى أحياناً كما كانت تطوى «الوثائق» في السابق ، ويستعمل طي السجل في هذا المورد.

٥٨

ويعتقد البعض أنّ السِجلّ بمعنى الملفّات التي تكتب وتحفظ فيها الدعاوى وامور اخرى مشابهة ، لذا جاء التسجيل بمعنى التقرير والإثبات (١).

على أيّة حال فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ السماء كلها تطوى عندما يفنى العالم وتبدأ القيامة ، فتصير بصورة قطعة واحدة كما كانت عليه في البداية ، وهذا ممّا صرح به العلم الحديث ، وهو أنّ العالم في البداية كان على شكل حزمة واحدة ثم دار حول نفسه بسرعة تحت تأثير علل خفية وتناثرت اجزاءه تحت تأثير القوة الطاردة عن المركز وهو الآن في حال الاتساع والانبساط ثم يعود ثانيةً وبسرعة إلى الانقباض والاتجاه نحو المركز ، ثم أخيراً تعود الأجزاء إلى بعضها وتشكّل حزمة واحدة ، وهذه هي نهاية نظام هذا الكون.

ثم تبدأ حركة جديدة وتظهر سموات وأرض جديدة لعالم اخر ، وعلى هذا المعنى فلا حاجة إلى تفسير الآية بالمعنى الكنائي ، ولو أنّ كثيراً من المفسرين مالوا إليه ، وربّما كان ذلك بسبب عدم وجود هذا التفسير في ذلك الزمان.

لكن انطواء السموات في أيّة صورةٍ كان ، لا يعني فناءها المطلق وانعدام العالم المادي ؛ وذلك لأنّ القرآن أشار في آياتٍ متعددة وبصراحة إلى أنّ الناس يخرجون من القبور وتعود الحياة إلى رفاتهم وتبقى الذرات الحاصلة من تفسخ أبدانهم وتجمع وتبدأ حياةً جديدة.

* * *

٢٦ ـ يوم تبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسموات

من خلال ما قيل في البحث السابق بشأن القيامة يتضح معنى هذا التعبير القرآني أيضاً ، هذا التعبير الذي ورد مرّة واحدة لا غير في القرآن المجيد ، يدل على الانتقام الإلهي من الظالمين والمجرمين ، قال تعالى : (يَوَم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّموَاتُ). (ابراهيم / ٤٨)

في أول الأمر يُبَعثَر كل شيء ، ثم يضع باني عالم الوجود تصميماً جديداً ، ويُبدعُ ارضاً

__________________

(١) القاموس ؛ والمفردات ؛ والتحقيق وكتب اخرى.

٥٩

وسماءً جديدة تكونان أرقى وأعلا مرتبةً من سابقتيهما حتى تليق بطبيعة يوم القيامة.

وللمفسرين نقاش حول المُبدَّل ، هل هو ظاهر الأرض وصفتها أم هو ذاتها؟ فقال بعضهم : إن جميع الاجبال والغابات وغيرهاتُبدّل وتصبح الأرض مستوية بيضاء اللون كالفضة ، وكأنما لم يُرقْ على تلك الأرض دم ولم يرتكب عليها ذنب قط ، وتبدل السموات بذلك النحو أيضاً.

وقال البعض الآخر : إن هذه الأرض وهذه السماء تفنيان بالمرّة ويحلّ محلهما أرضٌ وسماءٌ جديدتان ، لكن هذا الاحتمال ـ كما أشرنا سابقاً ـ لايتلائم مع الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدث عن قبور الناس وعن تراب ابدانهم التي تبقى كما كانت عليه ، فإن قيل إن تبديل الأرض هذا يتم بعد انتهاء الحياة البشرية ، قلنا إنّ هذا الكلام ينافي ذيل الآية ، لأنّ ظاهرها يدل على ظهور وبروز الخلق بعد تبديل الأرض. حيث قال الله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). (إبراهيم / ٤٨)

* * *

٢٧ ـ يوم تمورُ السماءُ مَوراً

ورد هذا التعبير مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم ، وقد جاء بعد بيان وقوع العذاب الإلهي حيث لا مانع ولا دافع لوقوعه ، قال تعالى : (إِنَّ عَذَابَ رَبِّك لَوَاقِعٌ* مَّالَهُ مِن دَافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً). (الطور / ٧ ـ ١٠)

«المور» : على وزن «موج» وله معانٍ مختلفة ـ على حد قول أصحاب اللغة ـ : حيث جاء بمعنى الحركة الدائرية وبمعنى الموج وبمعنى الحركة السريعة وبمعنى الذهاب والاياب وبمعنى الغبار الذي يذهب به الريح في كل جانب (١) ، وأكثر المعاني مناسبةً هنا هو الحركة السريعة.

فمن الممكن أن تكون هذه الحركة بياناً لتلك الحركة السريعة نحو مركز الكون التي

__________________

(١) لسان العرب ؛ ومفردات الراغب ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٦٣ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١٨٩.

٦٠