نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

أدلة إثبات المعاد

تمهيد :

نظراً للأهميّة الفائقة التي أولاها القرآن الكريم للمعاد في بعد المعارف الدينية ومن حيث التأثير التربوي لها في الآخرين معاً ، فإنّه خصص آيات متعددة لبيان أدلة إثبات المعاد.

وهذه الأدلة في الواقع تنقسم إلى قسمين رئيسيين :

القسم الأول : الأدلة التي استدل بها على إثبات وقوع المعاد وإثبات وجود الحياة بعد الموت من طرق متعددة.

القسم الثاني : الأدلة التي تُمثل في الواقع جواباً على الإشكالات التي أوردها المخالفون ، الذين يعتقدون باستحالة الحياة بعد الموت.

وادّعوا من خلال تعبيرات مختلفة «عدم إمكان» وقوعها.

لقد طرح القرآن المجيد في مقابل ذلك مجموعة من الأدلة «العقلية» و «الحسية التجريبية» واثبت لهم «إمكان المعاد الاخروي» ودحض ادّعاءهم.

إنّ الاسلوب الطبيعي للبحث يوجب علينا طبعاً أن نطرح أولاً أدلة «إمكان» المعاد ، فنبتدئ بالإنطلاق من مرحلة «الجحود المطلق» إلى مرحلة «الإمكان المطلق» ، بعد ذلك نطرح «أدلّة حتمية» على المعاد و «أدلة إثبات الوقوع» كي نتعرف من خلال ذلك وبصورة صحيحة ومنطقية على حقيقة المعاد ومراحله جميعها.

والملاحظة المهمّة التي يجب أن نؤكد عليها هنا : إنّ جميع مناظرات القرآن الكريم في مجال إمكان المعاد جاءت لاقناع منكري المعاد الجسماني ، والقرآن الكريم يؤكدّ على

١٠١

مسألة إعادة «الروح» و «الجسم» معاً في الدار الآخرة وأنّه امر ممكن بلا شك وذلك لأننا نشاهد في هذا العالم نماذج مختلفة لمصاديق ذلك.

على أيّة حال فإنّ الطرق التي يسلكها القرآن لإثبات ذلك كثيرة جدّاً ومتنوعة ويمكن تلخيصها في ستِّ طرق :

١ ـ آيات الخلق الأول (خلق العالم والإنسان).

٢ ـ آيات شمول القدرة الإلهيّة.

٣ ـ آيات احياء الأرض.

٤ ـ آيات تطور مراحل الجنين.

٥ ـ آيات عودة الطاقة.

٦ ـ آيات النماذج الحيّة والتأريخية للمعاد في هذه الدنيا.

ومن أجل التعرف على هوّيةِ المخالفين الذين يعنيهم القرآن الكريم وعلى مقصود الآيات في ذلك يجب قبل الدخول في البحث أن نطرح بعض الجوانبِ من منطق المخالفين الذي بينته آيات القرآن الكريم ، ذلك المنطق الذي يطرحه المخالفون في يومنا هذا أحياناً ويؤكّدون عليه.

بعد هذا التوضيح نتوجه للبحث في أدلة (امكان المعاد) ونتحدث أولاً في تحديد منطق المخالفين ووجهة نظرهم فيه :

* * *

١٠٢

إمكان المعاد ومنطق المخالفين :

إشارة :

قلنا بأنّ القرآن المجيد من أجل تهيئة الأرضية الفكرية اللازمة لاستيعاب هذه المسأله يبدأ أولاً بالحديث عن «إمكان المعاد» ، ويثبت ذلك بطرق مختلفة (الطرق الستّ) ، بعد ذلك يبدأ بذكر أدلة «وقوع المعاد».

ويحتمل أن لا تكون هناك ضرورة للتنبيه على أنّ المخالفين للمعاد لا يمتلكون دليلاً معيناً لإثبات مقصدهم فهم عادةً يؤكّدون على مسألة استحالة الحياة بعد الموت بسبب عقليتهم الساذجة ، حتى يعتبرون الاعتقاد بمسألة الحياة بعد الموت من علامات الجنون وكانوا يسخرون ممن يقول بذلك ويتهمونه بالافتراء على الله.

بعد ذكر هذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَقَالُواءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاًءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً). (الاسراء / ٤٩ ـ ٩٨)

٢ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ). (سبأ / ٧ ـ ٨)

٣ ـ (وَقَالُواءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْارْضِءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ). (السجدة / ١٠)

٤ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواءَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَاءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (النمل / ٦٧ ـ ٦٨)

٥ ـ (فَقَالَ الْكَافِرونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ*ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بعَيِدٌ). (ق / ٢ ـ ٣)

٦ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّم وَكُنتُم تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ

١٠٣

لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنيَا نَمُوتُ ونَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (المؤمنون / ٣٥ ـ ٣٧)

٧ ـ (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا مَوتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنشَرِينَ) (١). (الدخان / ٣٤ ـ ٣٥)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

هل يستحيل التراب إلى إنسان مرّة اخرى؟!

هذه الآيات وإن كانت ذات مضامين مشتركة إلّاأنّ هناك تفاوتاً في تعبيراتها ومحتوياتها وتحتاج إلى الدقّة وإلامعان.

ففي الآية الاولى إشارة إلى مقولة مشركي العرب ، قال تعالى : (وَقَالُواءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاًءَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً).

كيف يمكن للإنسان بعد أن يتفسخ لحمه ويصبح تراباً ثم تندرس عظامه وتصبح رميماً ورفاتاً أن تجمع ثانياً ثم تلبس ثوب الحياة من جديد فأين العظام الرميمة والمتلاشية من الإنسان الحيّ المتحرك القوي؟!

«رُفات» : من مادة «رَفْت» (على وزن فَعْل) بمعنى حطام ، وعدّ البعض «الالتواء» من معانيه أيضاً ، وقال البعض إنّ «الرفات» بمعنى الذرات العتيقة المتفسخة وهي الحالة التي تحصل للعظام بعد أن تمضي عليها سنون متمادية وهذه التفسيرات جميعها كثيرة الشبه ببعضها (٢).

وما فسّره البعض ـ نقلاً عن روح المعاني ـ بأنّه بمعنى التراب أو الغبار أو ما اصبح دقيقاً إِثْرَ الدّقِّ الكثير فهو في الواقع بيان لبعض مصاديقه.

__________________

(١) يوجد في هذا المجال آيات متعددة اخرى متقاربة الافق مع هذه الآيات المذكورة مثلاً ما جاء في سورة الواقعة الآية ٤٧ و ٤٨ ؛ وفي سورة الصافات الآية ٥٣ ؛ وسورة يس الآية ٧٨ و...

(٢) مفردات الراغب ومقاييس اللغة والتحقيق وتفسير روح المعاني.

١٠٤

الإنسان العاقل لا يتحدث بمثل هذا!

والآية الثانية تصور الأسلوب الخشن ، المعاندَ والأكثر غروراً للمشركين في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً) (لانّه يدعّي أنّ هذا الخبر من الله) (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (فكلامه كلام المجانين) (والعياذُ بالله).

هكذا كان يتصور هؤلاء بأنّ أخبار النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المعاد الجسماني ناتج عن أحد أمرين فكانوا يقولون : إمّا أن يكون هذا الرجُل عاقلاً وفطناً لكنّه من أجل الطموحات الشخصيّة نَسَبَ هذه الامور إلى الله كذباً كي يجمع الناس حوله ، وإمّا أن لا يكون لديه غرض شخصي ولكنّه (والعياذ بالله) اصيب بالجنون! وإلّا فإنّ العاقل لا يمكن أن يقول بأنّ العظام البالية والتراب المنثور الذي ركبت ذرّاته أمواج الرياح وذهبت في كل صوب أن تجتمع يوماً وتحيى من جديد!

إنّ هؤلاء الحمقى المغرورين الذين لم يذكروا النبي إلّابعنوان «رجُل» وبصيغة نكرة قد نسوا نشأتهم الاولى بالمرّة وخيّمتْ على بصائرهم حُجب الجهل فمنعتهم من مشاهدة مصاديق المعاد في حياتهم اليومية ، وسوف نتطرق للبحث في هذا المجال بإذن الله بعد ذكر هذه الآيات.

و «مُزِّقْتُم» : من مادة «تمزيق» بمعنى الشّق والتقطيع ، وجاءتَ هنا للدلالة على تحلل الإنسان وتناثرِ عناصره واختلاطها بالتراب والماء والهواء.

وفي الآية الثالثة نجد تعبيراً جديداً في هذا المجال ، قال تعالى : (وَقَالُواءإِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ).

التعبير بالضلال في الأرض يكون تارةً للدلالة على تحول أعضاء جسم الإنسان إلى تراب بحيث تكون كالارض ، وتارةً اخرى للدلالة على تشتتها في مناطق متوارية من العالم على نحوٍ لا يمكن تمييزها أبداً.

بهذا الأسلوب كانوا يريدون أن يثبتوا بأنّ عودةً كهذه أَمرٌ محال جدّاً! بينما قد تحقق

١٠٥

نفس هذا الأمر في بداية خلق الإنسان ، فإنّ العناصر المنبثقةَ في عالم الطبيعة اجتمعت بقدرة الله ووجد منها الإنسان (والوقوع أفضل دليل على الإمكان).

* * *

إنّها أساطير فحسب :

ورد ذكر هذا الإدّعاء في الآية الرابعة مع بعض الإضافات الاخرى ، قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤنَاءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَآبَاؤنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١).

يفهم من هذا التعبير أنّ مسألة المعاد وبالتحديد المعاد الجسماني لم تكن من مختصات القرآن والشريعة الإسلامية فحسب ، بل ممّا أخبر عنه الأنبياء المتقدمون أيضاً ، ولكن للأسباب التي سوف نذكرها لاحقاً ـ إن شاء الله ـ لم يخضع متكبِّرو الامم للحق أبداً ، وكانوا يعتبرونه أمراً خرافياً واسطورياً بعيداً عن العقل والمنطق ، فالآية الشريفة ذكرت أنّ هؤلاء تمسّكوا بأمرين لانكار المعاد :

الأول : أنّ عودة الحياة للتراب تبدو أمراً مستبعداً.

والثاني : بما أنّ جميع الأنبياء السابقين وعدوا الامم السالفة ولم يتحقق وعدهم أبداً ، فهذا دليلٌ على أنّ هذا الأمر اسطورة وخرافة لا غير ، (وكأنّهم يتوقعون بأنّ القيامة يجب أن تتحقق على الفور وإلّا فهي كذب وافتراء).

* * *

__________________

(١) «اساطير» جمع «اسطورة» ويرى بعض اللغويين أنّها جمع «أسطار» وهي بدورها جمع «سطر» بمعنى الشي المدوّن كذباً ، وقال البعض أيضاً : بما أنّ «اسطورة» من الصّيغ «المزيد فيها» فإنّها تدل على زيادة في السطر المعهود ، ولذا اعتبروها بمعنى «السطر المنّمق» ، ومهما يكن من أمر فإنّ الاسطورة بمعنى المقولة الباطلة الخرافية التي لا أصل لها. (مقاييس اللغة ـ المفردات ـ مصباح اللغة ـ التحقيق).

١٠٦

وفي الآية الخامسة يَردُ تعبير آخر عن ذلك الإنكار والاستبعاد ، قال تعالى : (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَىءٌ عَجِيبٌ*ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (١).

فهم في مبتدأ مقولتهم يعتبرون ذلك أمراً «عجيباً» ، وفي ذيل مقولتهم يعتبرونه «بعيداً» ولكنهم لم يفكّروا بخلقهم وإن هذا الأمر «العجيب والبعيد» قد تحقق بوضوح في خلقهم الأول ، بل كما سوف يأتي لاحقاً بأنّ مسألة المعاد وتجدد الحياة من الامور التي شاهدناها ونشاهدها دائماً في هذه الدنيا ، فكيف يكون هذا الأمر عجيباً وبعيداً؟

* * *

وفي الآية السادسة نرى المخالفين يكررون هذا اللون من الانكار ولكن بأُسلوبٍ آخر ، فكانوا يقولون لقرنائهم وأقربائهم مشكّكين متخذين أسلوب الاشاعة والاثارة : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتٌّم وَكُنْتُمْ تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ).

ثم إنّ هؤلاء الحمقى لايخالون أنّ هناك حاجة للاستدلال فيقولون بِتَعَسُّفٍ : (إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِيَن).

وهذا من أشد تعبيرات المنكرين المعاندين في مجال إنكار المعاد ، وذلك من دون أن يفكروا في فلسفة خلق الإنسان وأنّه هل من الممكن أن تكون هذه الحياة القصيرة المليئة بالمصائب والمشاكل الهدف والغرض الرئيسي من خلق الإنسان؟ ومن دون أن يفكّروا بفلسفة الأوامر الإلهيّة وأنّه هل من الممكن أن يعامل الله العادل ، الصالحين والطالحين على حدٍ سواء؟ وأن لا يفرّق بينهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ومن دون أن يفكّروا بنشأتهم الاولى حين كانوا في البداية تراباً وعناصر متفرّقة.

قد يكون تقدم كلمة التراب على العظام في الآية الكريمة ـ مع أنّ بدن الإنسان يتحول إلى عظام رميمة أولاً ثم يكون تراباً ـ وذلك للإشارة بالتراب إلى اللحم الذي يصبح تراباً

__________________

(١) بعض المفسرين لا يرون فرقاً بين «رَجْع» و «رجوع» (مثل صاحب الميزان) بينما يعتقد البعض الآخر بأنّ «رَجْع» استعمل متعدياً و «رجوع» لازم (تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١٠٣) وجاء في تفسير فخر الرازي أيضاً الفرق بين هذين التعبيرين ، ولكن الآية تحتمل كلا المعنيين (تفسير الكبير ، ج ٢٨ ، ص ١٥٢).

١٠٧

قبل العظام ، أو الذكر له بالتراب على الأجداد والماضين الذين تحولت أبدانهم إلى تراب تماماً ، وللدلالة بالعظام إلى الأباء والامهات الذين فارقوا الحياة قريباً ، أو لأنّ عودة الحياة إلى التراب أبعد إلى التصديق من عودته إلى العظام ، لذا تقدمت كلمة التراب ، وفي كل الأحوال فيه بيان لشدّة معارضتهم لهذه المسأله.

* * *

إن هي إلّاحياة واحدة وموتة واحدة :

وفي الآية السابعة والاخيرة نلاحظُ تعبيراً جديداً أيضاً ، وهو إن مشركي العرب ومنكري المعاد من دون أن يتحدّثوا عن الرفات والتراب وأمثال هذه الامور ، ادّعوا بدون دليل : (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِن هِىَ إِلّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنْشَرِينَ).

الأمر العجيب في هذه الآية أنّ هؤلاء قالوا إن هي إلّاموتتنا الاولى ، فلماذا اتوا بهذا التعبير بينما كان عليهم أن يقولوا : إن هي إلّاحياتنا الاولى؟

وقد أجاب المفسرون عن هذا السؤال بأجوبة مختلفة ، ولكن الجواب الأكثر مناسبة أن يقال إنّهم كانوا يقصدون من كلامهم هذا إنّه لا يوجد بعد هذه الحياة إلّاالموت ولا شيء يحدث بعد الموت ، أيْ لا يوجد هناك حياة اخرى.

وآخر الكلام في هذه الآية قال الزمخشري بعد أن طرح هذا الإشكال في الكشاف : إنّه قيل لهم إنّكم تموتون موتة تتعقبها حياة ، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عزوجل : (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ). (البقرة / ٢٨)

فقالوا : (إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى) يريدون : ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلّا الموتة الاولى دون الموتة الثانية وما الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلّا للموتة الاولى خاصة (١).

لكنّ التكلف واضح على هذا التفسير ، والتفسير الأول هو المناسب (فتأمل).

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٢٧٩ في ذيل الآية مورد البحث.

١٠٨

السؤال الآخر الذي طرح في مورد هذه الآية إنّ كل «أول» يجب أن يكون له «ثانٍ» فعلى هذا كيف يمكن أن لا يتلو «الموت الأول» «موت ثانٍ»؟

والجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّه ليس من الضروري أن يكون لكل أولٍ ثانٍ ، فمثلاً لو نذر الإنسان على نفسه أن يسمّي أوّل ابنٍ يهبه الله له «محمداً» ، فمن الممكن أن لا يهب الله له إلّاذلك الابن ، أو أن ينذر لله على نفسه أن يهدي أوّل كتاب يؤلفه إلى أبيه ، ومن الممكن أن لا يؤلّف كتاباً غيره ، ونحن نعلم أيضاً أنَّ أحد أسماء الله تعالى هو الأول مع أنّه لايوجد هناك إلهٌ ثان.

نتيجة البحث :

تعرفنا من خلال الآيات السبع المذكورة والآيات الاخرى المقاربة لها على منطق منكري المعاد وبالأخص اولئك الذين عاصروا نزول القرآن ، ويمكن تلخيص اقوالهم في مجال إنكار المعاد الجسماني غالباً في عدّة جمل ادّعائية :

كيف يمكن للعظام الرميم أن تلبس ثوب الحياة من جديد؟

كيف يمكن لِلَحْمِنا وعظامنا التي تحولت إلى تراب وتفرقت عناصرها في كل صوب وتحللت واختلطت بالأرض وتلاشت أن تجمع ثانية وتدبَّ فيها الحياة من جديد؟ أليس هذا افتراء على الله أو من علائم الجنون؟!

لا يوجد هناك غير هذه الحياة الدنيا وهذا الموت ، فهل قام أحد من مرقده كي نصدق هذا الادّعاء؟ إنّ هذا الإدعاء لا أساس له وهو أمرٌ عجيب وغير ممكن فلا يمكن تصديقه!

إنّ هؤلاء المنكرين الغرورين الذين لم يتأملوا حتى في خلقهم الأول ، ولم يعوا نماذج الحياة بعد الموت التي يشاهدونها باستمرار في حياتهم ، وهؤلاء الذين يعتمدون على الادّعاءات الواهية ، لا شيء إلّامن أجل العناد والحميّة لا يختصون بذلك الزمان فحسب ولا بأيّ زمانٍ معيّن ، فنحن في هذه الأيّام أيضاً نسمع مثل هذه الأقاويل على لسان أفراد آخرين من الذين حشروا أنفسهم بين الفلاسفة والعلماء.

١٠٩

وعلى أيّة حال فإنّ القرآن المجيد أجاب عن هذه الادّعاءات بكل قوّة كما سوف يأتي ذلك في البحوث القادمة ، فهي إجابات لجميع فرق منكري المعاد وعلى جميع المستويات العلمية ، ومن الممكن أن تقنع هذه الأجوبة حتى اولئك الذين لم يمتلكوا شيئاً من العلم ، ولكن على شرط أن يكونوا من طلّاب الحقيقة.

والآن نستمع لبيانات القرآن في مجال أدلة إمكان المعاد.

* * *

١١٠

أدلة إمكان المعاد

١ ـ الخلق الأول

٢ ـ القدرة الإلهيّة المطلقة

٣ ـ آيات احياء الأرض

٤ ـ التطورات الجنينية

٥ ـ المعاد في عالم الطاقة

١١١
١١٢

١ ـ الخلق الأول

تمهيد :

لقد وردت طرق كثيرة لإثبات إمكان المعاد في القرآن المجيد جميعها على شكل استدلالات منطقية ، فصوّرها القرآن بتعابير راقية جدّاً.

ويمكن تلخيص ما جاء في القرآن ـ كما أشرنا سابقاً ـ إلى ستة مواضيع :

١ ـ الخلق الأول.

٢ ـ شمول القدرة الإلهيّة.

٣ ـ تكرر حدوث الموت والحياة في عالم النباتات.

٤ ـ التطورات الجنينية.

٥ ـ اعادة الطاقة.

٦ ـ النماذج الحيّة لوقوع المعاد.

إنّ القرآن الكريم أوردَ آيات متعددة لكلٍ من العناوين المذكورة ، والتدبر في هذه الآيات لايوصلنا إلى إثبات إمكان المعاد فحسب ، بل ويدلّنا على مواضيع مهمّة اخرى أيضاً.

بعد هذه الإشارة الوجيزة نعود إلى القرآن المجيد فنمعن النظر خاشعين في القسم الأول من الآيات المتعلقة بالخلق الأول :

١ ـ (وَضَرَبَ لَنَا مَثلاً وَنَسِىَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحىِ العِظَامَ وَهِىَ رَمْيِمٌ* قُلْ يُحيِيهَا الَّذِى انشَأَهَا اوَّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). (يس / ٧٨ ـ ٧٩)

٢ ـ (افَعَيِينَا بِالخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلقٍ جَدِيدٍ). (ق / ١٥)

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيْهِ). (الروم / ٢٧)

١١٣

٤ ـ (اوَلَمْ يَرَوَا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (العنكبوت / ١٩)

٥ ـ (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (الاعراف / ٢٩)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

من يحيي العظام وهي رميم؟!

تبدأ الآية الاولى بسرد القصة المعروفة للرجل المشرك وهو إمَّا «ابَي بن خلف» أو «العاص بن وائل» أو «اميّة بن خلف» الذي جاء يحمل بيده عظماً رميماً وهو يقول سأذهب وأخاصم محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الدليل القاطع! وابطلُ ما جاء به عن المعاد!

فذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونادى قائلاً : «من الذي يحيي هذا العظم الرميم؟» ومن يصدق هذه الدعوى؟ ومن المحتمل أنّهُ من أجل التأكيد على خطابه سحق جزءاً من ذلك العظم ونثره على الأرض : (قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).

وبعد وقوع تلك الحادثة خاطب القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (في خمس آيات) وأمره أن يجيب على هذا الرجل وأمثاله بقوّة ومن طرق متعددة إحداها الإشارة إلى الخلق الأول وقد بينها القرآن بعبارة وجيزة ولطيفة جدّاً ، قال تعالى : (ونَسِىَ خَلْقَهُ)!

ثم قام تعالى بشرحها فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ) فإن كنت تتصور أنّ العظام بعد أن تبلى وتنشر كل ذرّة منها في ناحية فإعادة جميع الأوصاف الاولى إليها أمرٌ محال حيث لا يوجد أحدٌ يحيط بها علماً ، فإنك في ضلالٍ بعيد ، لأنّ الله تعالى الذي خلق كل شيء : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

و «انشأها» : من مادة «انشاء» بمعنى الإيجاد والهداية وهي هنا كأنّها إشارة لهذه الحقيقة وهي أنّ الذي خلقها في البداية من لا شيء فإنّه من الأَولى أن يتمكن من خلقها مرّة اخرى من التراب.

١١٤

وهناك احتمالان في المراد من نسيان الخلق في هذه الآية ، الاحتمال الأول : إنّ الإنسان نسيَ خلقه الأول الذي بدأ من نطفة حقيرة وقطرة ماءٍ مهين ثم بدأ يتردّدُ ويشكك بقدرة الله على الإحياء الجديد.

والاحتمال الثاني : إنّ هذه الآية تشير إلى خلق آدم من التراب ، وكأنّها تريد أن تقول : ألم نخلق الإنسان من تراب في بادئ الأمر؟ فكيف يكون من المحال تكرار هذا الأمر؟ وذلك لأنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد».

ومن اليديهي أنّ «النسيان» هنا إمّا جاء بمعنى النسيان الحقيقي الواقعي أو تنزيل الشخصِ منزلة الناسي وإن لم يكن في الواقع كذلك ، وذلك لأنّه لم يعمل وفق علمه بل اتّخذ موقفَ المُنكِرِ (١).

* * *

وفي الآية الثانية أشير إلى هذه الحقيقة ببيانٍ آخر ، فقد قال تعالى في جواب منكري المعاد : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ حتى نعجز عن خلقه مرّة اخرى.

ثم يضيف تعالى : إنّ هؤلاء لم يشكوا في قدرة الله تعالى على الخلق الأول ، بل ترددوا وشككوا بالاحياء المجدد بسبب غفلتهم ونسيانهم أو بسبب تعصبهم وعنادهم أو أنّهم اعتادوا على ما يشاهدونه في حياتهم أنّهم لم يروا أحداً خرج من قبره حياً بعد موته : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلْقٍ جَدِيدٍ).

وهكذا ورّطوا أنفسهم في تناقضٍ واضح لايجدون له مخرجاً أبداً.

«عيينا» : من مادة «عَيّ» تأتي أحياناً بمعنى العجز وعدم القدرة وأحياناً بمعنى التعب والألم ، وقد جاءت هنا على المعنى الأول ، أي أننا لم نعجز عن الخلق الأول.

والمراد من «الخلق الأول» إمّا الإيجاد الأول لكل إنسان أو يختص بخلق آدم ، وأمّا ما احتمله بعض المفسرين من أنّ المراد من الخلق الأول هو خلق عالم الوجود فإنّه لا يتناسب مع بحثنا.

__________________

(١) جاء هذان الاحتمالان في تفسير روح المعاني ، ج ٢٣ ، ص ٥٠.

١١٥

و «لبس» : على وزن «حَبْس» في الأصل بمعنى ستر الشيء واللباس سُمّيَ بذلك لأنّه يستر ويغطّي البدن ، أمّا الراغب فإنّه يرى أنّه يستعمل في الامور المعنوية أيضاً ، فيدلّ على ستر الحقائق ، وفي الآية المعنية جاءَ هذا المعنى ، أي أنّ أمر المعاد هو حقيقة التبست عليهم.

* * *

وفي الآية الثالثة نلاحظ تعبيراً آخر في هذا المجال ، هو إجراء المقارنة بين «مبدأ» الحياة و «المعاد» ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِى يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

فسّر عدد من المفسيرين جملة «يبدأ» على أنّها تدل على الماضي ، أيْ أنّ الله تعالى بدأ الخلق ، لكن ماهو المانع من تفسير «يبدأ» بمعناه الحقيقي بما أنّه فعل مضارع؟ وبما أنّ الفعل المضارع يدل على الاستمرار فيكون معنى الآية هنا : «إنّ الله يخلق ويعيد على الدوام» أي أنّ عالم الوجود هو عبارة عن تكرار الحياة والموت واستمرار المبدأ والمعاد ، فعلى هذا الأساس لا يمكن الشك في إمكان وقوع المعاد.

فعالمنا يموت ويحيى ويخلق من جديد باستمرار ، ومن هنا تكون الإعادة إلى حياة جديدة أمراً غير مستغرب ، فيكون هذا جواباً دقيقاً وجميلاً للجاحدين.

وجملة «وهو أهون عليه» تُبين هذا المفهوم ، وهو : أنّه لايوجد في قاموس القدرة الإلهيّة المطلقة واللامحدودة أي معنى للسهل والصعب فكل شيء لديه سهل يسير ، ولا فرق بين قلع جبل من أعظم جبال العالم من مكانه وبين رفع قشة صغيرة ، وخلق منظومة شمسية وخلق ذرة من تراب ، لأنّ السهل والصعب في مقابل القدرة الإلهيّة لا معنى له ، طبعاً بالنسبة لنا أصحاب القدرة المحدودة ، فإنّ رفع حجر صغير أمر سهل أمّا رفع حجر كبير يعد من المصاعب.

فما هو المراد من قوله «أهونُ»؟ هل هناك شيء صعب عليه وآخر أهون منه مع أنّ قدرته واحدة بالنسبة لجميع الأشياء؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بعدّة أجوبة فقالوا : إنّ أفضل جواب هو أنّ هذا

١١٦

الخطاب ذكره الله تعالى من أجل استئناس العباد بهذا المنظار وهذا المنطق ، لأنّ من ينجز عملاً يكون عليه إنجاز ذلك العمل في المرّة الثانية أهون ، وإن كانت جميع الأشياء متساوية بالنسبة للقادر المتعال.

واجيب تارةً أخرى : إنَ «أهون» لم تأتِ هنا بصيغة افعل التفضيل ، بل أتت بمعنى «هين» أي سهل.

وقد أتوا بتفسيرات اخرى أعرضنا عن ذكرها لعدم مناسبتها المقام.

على أيّة حال فإنّ مفهوم سهل وأسهل يصدق على الناس ، وإن كل شيء بالنسبة لقدرة الله سبحانه السر مدية متساوٍ ، ولا يوجد هنالك اسهل أو أصعب بالنسبة له تعالى.

* * *

والآية الرابعة تحمل مضمون الآية السابقة بنحو آخر ، وماهي في الحقيقة إلّاتفسير وتوضيح لما جاء في تلك الآية ، حيث قال تعالى : (اوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعُيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١).

والإتيانُ بصيغة المضارع «يبدأ» و «يعيد» من المحتمل أن يكون تأكيداً لما جاء في الآية المذكورة سابقاً من أنّ الله يُبدئ ويعيد الخلق على الدوام وبصورة مستمرّة فيتجدد العالم ويتغير ويتكرر وقوع الإيجاد والمعاد في كل آنٍ وخاصة عندما اتى بهذا التعبير : اوَلَم يروا ... الذي يشير إلى أنّ مشاهدة هذا الايجاد المستمر والاعادة المتكررة أمر ممكن لجميع الناس.

ويوجد هناك احتمالٌ أخر هو أنّ «يُعيدُ» بيان للمعاد الحاصل في يوم القيامة لا غير ، ففي هذه الحالة يكون معنى الآية بهذا النحو : أولم يروا كيف يُبدئ الله الخلق؟ فإنّ المُبدئ للخلق يمكنه أن يعيده مرّة اخرى.

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّ يُبْدي (من باب الأفعال) وَيبْدأ (من الثلاثي المجرد) كلاهما لهما معنىً واحد وهو ابداء واظهار الشيء.

١١٧

وجملة «إنّ ذلك على الله يسير» تشير إلى أنّ كل شيء سهل ويسير على الله تعالى ، ومن الممكن أن تكون دليلاً للذين فسّروا «أهون» بمعنى «هيّن» في الآية السابقة.

على أيّة حال فإنّ جميع منكري المعاد يرون بأعينهم كيف تنبت النباتات في الأرض الميتة؟ ، وكيف يضع البشر أقدامهم في عالم الوجود؟ وكيف تورق وتثمر الأشجار من جذع يابس؟ وكيف تتكرر عملية الخلق والايجاد في هذا العالم في كل آن؟

فهل تكون هذه الاعادة لجميع الموجودات أمراً عسيراً على خالقها؟ مع أنّ الإيجاد والاعادة كلاهما واحد بالنسبة لشمول قدرته ، ووجود الشي أفضل دليلٍ على إمكانه؟

وقد بيّن سبحانه في الآية الخامسة الأخيرة لُبّ المطلب من خلال تعبير وجيز ومختصر جدّاً ، حيث قال تعالى : (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف / ٢٩)

إنّ هذه العبارة في الحقيقة أقصر تعبير واوضح استدلال للقرآن الكريم في مجال إمكان المعاد ، فإنّه قاس إمكان الحياة الثانية على إمكان الحياة الاولى ، وهذا قياس منطقي لقضية عقلية ، أمّا اولئك الذين يعتبرون مثل هذه الآيات دليلاً على جواز القياس في الأحكام التعبدية فإنّهم قد وقعوا في خطأ فاحش ، لأنّ القياس لا يجوز إعماله إلّاإذا كان دليل الحكم الأول وعلته وحكمته واضحاً مبيناً ، ويجب أن تكون هذه العلة موجودة في الحكم الثاني أيضاً ، كما هو الحال في الآية المذكورة ، في بحث المعاد وغيرها من الامور ، لأننا نعلم بأنّ المؤثر في الخلق الأول هو القدرة الإلهيّة ، وهذا الأمر بنفسه يكون مؤثراً في الخلق المستأنف ، أمّا بالنسبة للقياس في الأحكام الفرعية التي لم تتضح عللها ولم يُصّرح عنها في ذلك الدليل فإنّه لا قيمة له ، وذلك لأنّه قياس ظنّي وتخميني لا يقيني وعقلي.

على أيّة حال فإنّ التفسير المذكور أعلاه واضح جدّاً إذا ما استعنّا بالآيات الاخرى التي وردت في هذا المجال ، ولكن العجيب تفسير بعض المفسرين من أنّ المراد من هذه الآية هو : كما بدأكم أول الأمر وخلق منكم السعداء والأشقياء والكفار والمؤمنين فإنّه سوف يعيدكم في الآخرة على تلك الحال (١).

__________________

(١) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير واعتبره أحد الاحتمالين في تفسيير هذه الآية (تفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ٥٨).

١١٨

ومن المحتمل أن يكون السبب في هذا التفسير هو أنّ البعض أرادوا عن هذا الطريق أن يجدوا دليلاً لتعزيز عقيدتهم الباطلة في مسألة الجبر ، بينما لم يكن الحديث في هذه الآية إلّا عن أصل خلقة الإنسان وإيجاده ، ثم اعادته إلى حياة جديدة ، ولم تأتِ حتى إشارة واحدة للسعادة والشقاء الجبري في هذه الآية ولم يرد فيها شيء عن ذاتية الكفر والإيمان.

* * *

ثمرة البحث :

اتضح جيداً من خلال هذه الآيات أنّ السبب الرئيسي في إنكار المعاد من قبل المنكرين هو غفلتهم وعدم توجههم للخلق الأول لهذا العالم والإنسان ، وذلك لأنّهم لو تمعّنوا قليلاً في ذلك الأمر لحصلوا على الجواب المطلوب.

فهل من الممكن أن يكون (الخلق الأول للإنسان من التراب أمراً يسيراً بينما لا تكون إعادته كذلك)؟!

* * *

توضيح

اليوم الذي خلق فيه الإنسان :

يقول العلماء إنّ الكرة الأرضية بعد انفصالها عن الشمس قبل خمسة مليارات عام تقريباً كانت على شكل كتلة من نار ، وبمرور عدّة مليارات من السنين أخذت درجة حرارتها بالانخفاض تدريجياً ، ثم تحولت الغيوم التي كانت تحيط بالأرض بكثافة إلى أمطار ، وتلك الأمطار التي كانت تهطل بغزارة على الأرض كانت تغلي لشدّة حرارة الأرض وتتبخّر ثانياً فتتحول إلى غيوم مرّة اخرى ، واستمرت هذه العملية واستمر معها انخفاض درجة حرارة الأرض.

بعد ذلك بدأت إنسيابيّة المياه إلى المناطق المنخفضة من الأرض وكوّنت البحار والمحيطات ، ولم يكن آنذاك للحياة أثر.

١١٩

ولم يكن للنبات أثر.

ولم يخفق طائر بجناحه أو يغرّد.

ولم يتحرك في تلك المحيطات العظيمة أيُّ موجودٍ حي.

وذلك لأنّ محيط الكرة الارضية لم يزل حاراً للغاية ممّا لم يفسح المجال لظهور الحياة عليها.

ثم أخذت درجة الحرارة بالإنخفاض أكثر فاكثر حتى ظهرت بقدرة الله اوّلُ براعم الحياة في البحار والصحاري ثم ظهرت بعد ذلك موجودات حيّة كثيرة وأخيراً خلق الإنسان.

وبناءً على هذا لا يوجد أيّ شك في أنّ الإنسان خلق من التراب ثم يعود إليه فما المانع في أن يعاد ثانياً من التراب؟!

إنّ استئناس الإنسان بهذه الحياة وقصر نظرته وحُجب العناد والتعصب الفكري أحياناً تمنع الإنسان من أن يرى هذه الحقائق الواضحة وأن يصدق أو يعترف بها.

* * *

١٢٠