نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

المعاد في الحضارات السالفة

تمهيد :

كان لعقيدة المعاد صدىً واسع لدى الأمم السابقة ويلاحظ تجسّد آثار هذه العقيدة بكل وضوح في نفوس الشعوب التي عاشت في العصور الغابرة أي في قرون ماقبل التاريخ ممّا لايبقي أي شك في أنّ أولئك كانوا يحملون اعتقاداً راسخاً بوجود العالم الآخر.

وعندما ندخل في مرحلة ما بعد التاريخ نلاحظ أيضاً أنّ جميع الشعوب والأقوام تقريباً يؤمنون بمسألة المعاد على الرغم من اختلاف ثقافاتهم.

وقبل الخوض في مطالعة هذا الأمر عن طريق مشاهدة أسانيد ووثائق المؤرخين نعود إلى القرآن لنرى مايقوله في هذا المجال :

أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضاً وهي أنّ الاعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت كانت مطروحة منذ خلق آدم عليه‌السلام ، حتّى أنّ ابليس كان يعترف بذلك ، وبعد آدم عليه‌السلام كان الأنبياء أيضاً ـ الذين كانت مهمتهم هداية الشعوب ـ يدعون الناس إلى الإيمان بهذه المسألة (مسألة الحياة بعد الموت وحياة الآخرة) ، وقد أدّت دعوة الأنبياء إلى أن تصبح هذه المسألة من المسائل المألوفة لدى الناس.

كما أنّنا نُقِرُّ بأنّ هذه المسألة وما يتعلق بها من المعارف التي نزلت عن طريق الوحي قد وردت على لسان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وبصورة أوسع ممّا كانت عليه سابقاً ، لذا فإنّ قسماً مهماً من آيات القرآن المجيد تصدت لشرح مسألة المعاد بجميع فروعها وتفاصيلها.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في نماذج من الآيات المختصة بهذا المجال :

٢٨١

١ ـ (قَالَ انْظِرْنى الَى يَومِ يُبْعَثُونَ). (الاعراف / ١٤)

٢ ـ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ). (الاعراف / ٢٥)

٣ ـ (إِنّى ارِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِى وَاثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ). (المائدة / ٢٩)

٤ ـ (ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُونَ). (المؤمنون / ٣٥)

٥ ـ (وَلَا تُخزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَومَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ). (الشعراء / ٨٧ ـ ٨٨)

٦ ـ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ الّا مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارى). (البقرة / ١١١)

٧ ـ (وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ ابْعَثُ حَيّاً). (مريم / ٣٣)

٨ ـ (وَالَى مَديَنَ اخَاهُمْ شُعَيباً فَقَالَ يَاقَومِ اعبُدُوا اللهَ وَارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ). (العنكبوت / ٣٦)

٩ ـ (... انِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَومٍ لَّايُؤمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى ابْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ). (يوسف / ٣٧ ـ ٣٨)

١٠ ـ (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ انْ هَذَا الّا اسَاطِيْرُ الْأَوَّلِينَ). (النمل / ٦٨)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الاعتقاد بالمعاد خلال العصور المختلفة :

الآيات المذكورة أعلاه يرتبط كل منها بأحد العصور.

فالآية الاولى تشير إلى قصة «ابليس» بعد طرده من الجنّة ، فبدلاً من التوبة إلى الله من فعله الشنيع تمادى في العناد بسبب وقوعه في شراك الغرور والأنانية ، وكان هذا طلبه من الله تعالى : (قَالَ انْظِرْنى الَى يَومِ يُبْعثُونَ).

وطلبه هذا لم يكن من أجل التوبة أو أن يعمل صالحاً ، بل من أجل أن يكمن لآدم وذريّته ليصدهم عن الصراط القويم لكي يطفئ نار غضبه الجهنمية وحسده.

ويتّضح من خلال هذه الآية أنّ مسأله القيامة كانت موضع الاهتمام منذ البداية ،

٢٨٢

فالشيطان كان يعلم علم اليقين بحتمية وقوع مثل هذا اليوم.

أمّا طلب الشيطان فإنّه لم يتلق الجواب بالصورة التي أرادها ، قال تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ* الَى يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ). (الحجر / ٣٧ ـ ٣٨)

وفسّر البعض هذا اليوم باليوم الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا والذي يرفع فيه التكليف ، وفسره آخرون باليوم الذي يظهر فيه المهدي الموعود (عج).

وهناك احتمال أيضاً جاء في كلمات بعض المفسرين وهو أنّ المراد من اليوم المعلوم يوم القيامة ، لكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً ، وذلك لأنّه لا يوافق ظاهر آيات القرآن ولاينسجم مع الروايات الواردة في تفسير هذه الآية (١).

وقد طرحت عدّة أسئلة في هذا المجال وبالصورة التالية :

١ ـ لماذا أمهل اللهُ إبليس لينفذ خطته المشؤومة لإغواء الناس؟!

الجواب : إنّ إمهال إبليس كأصل وجوده وهو زاوية من زوايا الامتحانات الإلهيّة التي أعدّها للبشر ، ففي ظل تلك الامتحانات يصل أولياء الله إلى الكمال ويفترق عنهم اولئك الذين لم يخلص إيمانهم.

٢ ـ ألا يعني إعطاء الوعد لإبليس باستمرار الحياة حتى انتهاء العالم يشجعه على الاستمرار في ارتكاب أعماله وعدم الكف عنها إلّاعندما يشعر بانتهاء عمره فيتوب إلى الله تعالى؟

الجواب : إنّ الطريق الذي سلكه إبليس لا يسمح له بالعودة ، وتحت تأثير حالة الطغيان الشديدة تصبح هذه الصفه من طبائعه الثانوية ، ولايمكن العودة في مثل هذه الحالة.

٣ ـ لماذا يطلب الشيطان البقاء إلى يوم القيامة مع أنّ أهدافه تتحقق ببقائه إلى الفترة التي تنتهي بها حياة البشر؟

الجواب : جاء في تفسير الميزان : إنّ إبليس كان يتمنى أن يستمر بإغوائه للبشر في عالم

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٣.

٢٨٣

البرزخ أيضاً ، أي المدّة الفاصلة بين انتهاء الدنيا وقيام يوم القيامة (١)!.

٤ ـ كيف يتوقع إبليس أن تستجاب دعوته مع أنّه يعلم بأنّه طرد من ساحة الرحمة الإلهيّة؟

الجواب : قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : «إنّ ابليس كان متيقناً بأنّ فضل الله وكرمه يتسع لشمول المذنبين والمطرودين أيضاً» (٢).

وجاء في احدى الروايات أيضاً إنّ استجابة دعاء إبليس كانت بإزاء العبادات التي أدّاها قبل ذلك.

* * *

وفي الآية الثانية التي تتعلق بقصة هبوط آدم عليه‌السلام وزوجه حواء من الجنّة إلى الأرض وطرد إبليس من مقام القرب الإلهي ، قال تعالى : (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ).

وهذه التعبيرات تشير إلى أنّ المقصود من الاخراج لا يختص بحشر البشر فحسب ، بل يشمل حشر الجن أيضاً والذين كان الشيطان من زمرتهم ، وتدلّ على أنّ هذا الأمر كان يعتبر من الامور البديهية منذ اليوم الأول ، أمّا ما احتمله البعض في تفاسيرهم أنّ المخاطب في هذه الآية هم آدم وحواء عليهما‌السلام وذرّيتهما فحسب فلا يؤيده دليل واضح.

ويدل هذا التعبير بوضوح على أنّ الأرض هي مبدأ حياة الإنسان ومحل موته ومحل بعثه معاً (٣).

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ٢٨.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٣.

(٣) جاء شبيه هذا المعنى في مسألة هبوط آدم والإشارة إلى مسألة الحشر في سورة طه ، الآية ١٢٣ و ١٢٤.

٢٨٤

وتحدثت الآية الثالثة عن ابناء آدم «هابيل» و «قابيل» عندما تقبّل الله قربان هابيل بسبب إخلاصه ولم يتقبّل قربان قابيل لعدم اخلاصه فيه ، فتأججت نار الحسد في قلب قابيل وهدد أخاه بالقتل ، فقال هابيل إن قصدت قتلي فإنني لن أفعل ذلك لأنني أخاف الله ، ثم أضاف : (انَّى ارِيدُ انْ تَبُوأَ بِاثْمى وَاثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ).

وهذا يدل على أنّ مسألة المعاد كانت من الامور البديهية لدى أولاد آدم منذ ذلك الزمان ، لذا هدد هابيل أخاه قابيل بعذاب الله في الدار الآخرة.

و «بَوَأَ ، تبوءَ» من مادة «بواء» ، قال الراغب في المفردات : هي في الأصل بمعنى السطح الصقيل ، وتقابلها «نبوة» التي بمعنى السطح غير الصقيل ، لذا عندما يقال بوّأتُ مكاناً فهذا يعني ساويت له سطح المكان.

وتأتي هذه الكلمة أحياناً بمعنى الإقامة وملازمة المكان أيضاً ، لأنّ الإنسان إذا ما أراد أن يقيم في مكانٍ ما فإنّه ينظم سطحه ويساويه ، وقد فسروا هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.

لكن صاحب «المصباح المنير» فسّرها بمعنى الاعتراف وحمل العبء الكبير ، أمّا صاحب المقاييس فقد ذكر لها معنيين هما : عودة الشيئين ، وتساوي الشيئين.

وقال صاحب كتاب «التحقيق» ، إنّ الأصل فيها هو (السفول) والانحطاط ، وعدّ جميع المعاني الاخرى من المجاز واعتبرها من لوازم المعنى الحقيقي ، وطبقاً لهذا المعنى يصبح مفهوم الآية المعنية بالبحث : إنّي اريد أن تسقط من ساحة الرحمة الإلهيّة بإثمك وإثمي.

وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن المجيد والمصادر الاخرى يؤيد ماذكره صاحب المقاييس من أنّ هذه الكلمة لها مفهومان وكلا المفهومين ينطبقان على الآية المعنية ، فطبقاً للمعنى الأول تصبح الآية بهذا المعنى : «إنّي اريد أن تعود (إلى الله) وأنت تحمل إثمك وإثمي» ، وطبقاً للمعنى الثاني تصبح بهذا المعنى : «إنّك تعدّ مكاناً لنفسك بارتكابك هذا الإثم وحملك إثمي».

وهنا يطرح هذا السؤال المهم : ما هو المراد من ذنب هابيل الذي قُتِلَ على يد أخيه حتى يثقل كاهل أخيه؟ وكيف يمكن قبول هذا الحديث أساساً مع أنّ الآية تقول : (الَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ

٢٨٥

وِزْرَ اخْرَى). (النجم / ٣٨)

سلك مشاهير المفسرين عدّة طرق تحتاج أغلبها إلى التقدير في الآية وقالوا : إنّ المراد من إثمي هو إثم قتلي.

لكن المناسب عدم التقدير ، والمراد في الآية هو : إنّك إن عملت بتهديدك هذا وقتلتني فإنّك سوف تحمل ثقل جميع ما ارتكبته أنا من إثم ، وذلك لأنّك يجب أن تدفع غرامة قتلي يوم القيامة وبما أنّك لم تعمل صالحاً في الدنيا فعليك أن تحمل عبءَ ذنوبي غرامة فعلك!

وقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية ما يؤيد هذا المعنى ، قال عليه‌السلام : من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها ، وذلك قول الله عزوجل : (انِّى ارِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإثْمى وَإِثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ) (١).

وروي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يعزز هذا المعنى (وإن لم تكن الرواية واردة في تفسير هذه الآية) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حساب الظالم فتراهُ في حسنات المظلوم ، حتى يُنتصف ، فإن لم تكن له حسنات اخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» (٢).

* * *

والآية الرابعة تشير إلى عصر نوح عليه‌السلام ، فقد نقل القرآن دعوته على لسان الكافرين والجاحدين ، قال تعالى : (ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُونَ).

ويدل هذا التعبير بوضوح على أنّ نوح عليه‌السلام قد طرح على هؤلاء مسألة المعاد وبالأخص المعاد الجسماني ـ وقد ملأت دعوته آذان جميع المخالفين ، وبسبب انحطاطهم الفكري بهتوا لماجاءهم وقالوا محدثين بعضهم البعض : (هَيهَاتَ هَيهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ).

ويستفاد بوضوح من الآيات الواردة في سورة نوحٍ أيضاً أنّ نوحاً عليه‌السلام حاول رفع

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦١٣ ، ح ١٣٣.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٢١٣٤.

٢٨٦

الشبهات والخوف وعدم الاطمئنان الذي جثم على أذهانهم بسبب طرح مسألة المعاد فعمد إلى تشبيه حياة البشر بحياة النباتات ليوضح لهم الأمر ، قال تعالى عن لسان نوح : (وَاللهُ انبَتَكُمْ مِنَ الْارْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ اخْرَاجاً). (نوح / ١٧ ـ ١٨)

ويتّضح ممّا تقدم أنّ المعاد كان معروفاً لدى قوم نوح عليه‌السلام بالاسلوب المشابه لُاسلوب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي استخدمه مع مشركي مكة أيضاً ، ونوح صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أول الأنبياء من اولى العزم وكان صاحب شريعة.

* * *

وتحدثت الآية الخامسة عن «إبراهيم عليه‌السلام» وإيمانه بمسألة المعاد ، فقد بينت هذه الآية جانباً من ادعية إبراهيم عليه‌السلام عندما عاش الآلام بسب المعارضة الشديدة التي تلقّاها من كفّار عصره ، قال تعالى عن لسان إبراهيم عليه‌السلام : (وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ).

وقال في الآية التي سبقت هذه الآية بآيتين : (وَاجْعَلْنِى مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيمِ).

فالادعية المذكورة أعلاه تشير بوضوح إلى أنّ إبراهيم عليه‌السلام يخاف الخزي يوم القيامة مع مالديه من مقام عظيم لأنّه كان من أعظم الأنبياء من اولي العزم.

ومن الممكن أن يعتبر البعض هذا التعبير عن أنّه رشاد للاخرين وتعليم لغير المعصومين ، وذلك لأنّ المعصوم لا يخزى يوم القيامة ، لكن البعض لهم تعبير لطيف في هذا المجال وهو أنّهم قالوا : «حسنات الابرار سيئات المقربين» فالأعمال الصالحة العادية لا تلائم مقام الأنبياء والمعصومين ، وكذلك الحال بالنسبة للمقربين فإنّهم إن حشروا يوم القيامة مع «الابرار» وهو مقام أدنى من مقام المقربين فهو خزى بالنسبة لهم ، وذلك لأنّه يتوقع من كل شخص عمل يتناسب معه ، كما أنّ لكل شخص مقامه المناسب!.

وتحدثت الآية السادسة عن عقيدة «اليهود والنصارى» في المعاد ، قال تعالى : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ الَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَو نَصَارى).

٢٨٧

أجل إنّهم كانوا يعتقدون بأنّهم أرقى الأمم وأنّ الجنّة خصصت لهم ولم يعبهوا بغيرهم حتى لوكانوا مؤمنين.

فأجابهم القرآن اولاً فقال : (تِلكَ أَمَانِيُّهُمْ) أي آمال بعيدة عن الواقع ولن تتحقق أبداً.

ثم وجّه الخطاب إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ انْ كُنْتُمْ صَادِقينَ). (البقرة / ١١١)

أي أعطونى دليلاً عقلياً يدعم هذا التخصيص وبأي دليل خصص اللطف الإلهي بكم وحرم الآخرين منه؟ فهل من الممكن أساساً أن يتسق هذا التمييز مع العدالة الإلهيّة وأن يحرم المؤمنون المحسنون كما تزعمون؟

إن كانوا يدّعون بأنّ دينهم لن يمسخ إلى الأبد فلماذا حكموا على الامم السابقة التي كانت تتبع أنبياء السلف ويعملون بتكاليفهم بهذا الحكم؟ إنّ كل هذا يدل على أنّ هؤلاء في تخصيصهم الجنّة بهم لم يتبعوا إلّاأوهامهم النابعة من أنانيتهم.

والجدير بالذكر إنّ «أماني» جمع «امنية» وهي بمعنى الأمل (وقد صرح عدد من المفسرين بأنّ الأماني بمعنى الآمال التي يستحيل تحققها).

بناءً على هذا فـ «أماني» بمعنى الآمال وتحمل معنى الجمع ، بينما لا يشكل تخصص الجنّة إلّا «أمل واحد». وللاجابة على ذلك قال بعض المفسرين : إنّ الأمل الواحد هذا تتبعه آمال اخرى أيضاً وهي الخلاص من العذاب الإلهي وخوف المحشر وعُسر الحساب ومسائل اخرى من هذا القبيل.

وقال آخرون : إنّ الأمل كلما كبُر يصبح بحكم «الآمال» ، وهذا تعبير لطيف يشير إلى مدى بعد هؤلاء عن الواقع!.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو إنّ السبب في عدّها آمالاً هو وجود هذا الأمل في قلب كل واحد منهم ، أو أن يكون الواحد منهم تمنى ذلك كثيراً ، لذا جيء بصيغة الجمع للدلالة على أنّ هذا التوهم لا ينحصر بفرد معيّن منهم أو بمرحلة معينة ، بل هو أمرٌ له طابع العموم والدوام.

٢٨٨

ومهما يكن من شيء فإنّ هذه الآية تدل بوضوح على وجود الاعتقاد بالمعاد لدى اليهود والنصارى.

وفي الآية السابعة نلاحظ تعرّض «المسيح» عليه‌السلام لذكر المعاد عندما تكلم في المهد بإذن الله تعالى ، فقال في بعض كلامه : (وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ ابْعَثُ حَيّاً).

والسبب في اختيار هذه الأيّام الثلاثة (يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث) هو خطورتها ودورها المهم في تقرير المصير ، وبتعبير آخر أنّ كل يوم من هذه الأيّام الثلاثة يشكل بداية لفصل جديد في مسار الإنسان وتعتبر السلامة امرٌ مهم فيها ولا تتيسر إلّابلطف من الله ، فطلب المسيح عليه‌السلام أن يمن الله بلطفه عليه في هذه الأيّام الثلاثة.

بالإضافة إلى ذلك فقد وجّه نداءه بنفي الوهيته ومذ كان في المهد وصرّح بأنّه كسائِر عباد الله بعثه الله للناس جميعاً.

وجاء في الآية ١٥ من نفس هذه السورة ذِكر هذا الموضوع عند الحديث عن النبي يحيى عليه‌السلام ، لكن الفرق بينهما هو كون الخطاب هنا صدر عن المسيح عليه‌السلام والخطاب هناك عن الله تعالى.

جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم ولد من بطن امه فيرى الدنيا ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا».

ثم تعرّض الإمام لذكر الآيات المتعلقة بالنبي يحيى والمسيح عليهما‌السلام الواردة في هذا المجال(١).

وعلى أيّة حال فقد أشارت الآية المذكورة بوضوح إلى أنّ مسألة المعاد كانت من الامور البديهية لدى الأقوام السالفة ممّا جعل المسيح يتحدّث عنها وهو في المهد.

إلى هنا تحدثنا بصورة موجزة عن موضوع المعاد في شريعة أربعة أنبياء من «اولي العزم» ، وإذا ما أضفنا الآيات الكثيرة الواردة في موضوع المعاد في شريعة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فسوف يختتم الحديث عن المعاد في خمس شرائع.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٣٥ ، ح ٧٥.

٢٨٩

كما لاحظنا هذا الموضوع أيضاً لدى الأنبياء «غير أولى العزم» في الأحداث التي مرت على آدم عليه‌السلام وماتعلق بها مثل قصة أولاد آدم وقصة إبليس.

ولا بأس هنا من الاطلاع على هذا الموضوع من خلال ما جاء على لسان سائر الأنبياء عليهم‌السلام :

عندما بُعث شعيب عليه‌السلام الذي كان يعيش في فترة حياة موسى عليه‌السلام إلى مدينة (مدين) (مدينة تقع جنوب غرب الاردن اسمها الحالي (معان) وتقع شرق خليج العقبة) قال لقومه : (فَقَالَ يَا قَومِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَاتَعْثَوا فِي الْارَضِ مُفسِدِينَ). (العنكبوت / ٣٦) لقد أكّد شعيب عليه‌السلام في بداية دعوته على مبدأين أساسيين تعتمد عليهما جميع الأديان هما «المبدأ» و «المعاد» ودعا الناس للإيمان بهما.

والمراد من رجاء اليوم الآخر هو رجاء نيل الثواب الإلهي في ذلك اليوم ، أو أن يكون معنى الرجاء هنا بمعنى الإيمان والاعتقاد بذلك اليوم.

* * *

والآية التاسعة تتحدث عن حوار «يوسف عليه‌السلام» مع صاحبيه في السجن ، قال تعالى عن لسان يوسف : (... انِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَومٍ لَايُؤمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

والسبب في استعماله لهذا التعبير هو أنّ مشركي ذلك الزمان عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله إلّاأنّهم كانوا يعتقدون بأنّ المعاد والجزاء يحصلان بواسطة التناسخ ، فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ روح الإنسان بعد الموت تحل في جسم إنسان آخر في هذه الدنيا وتتلقى ثوابها وعقابها خلال الحياة الجديدة ، لكنّ دين التوحيد يرفض عقيدة التناسخ وعودة الأرواح في هذه الدنيا كما أنّه يرفض عقيدة الشرك أيضاً ، لذا عدّهم يوسف مشركين وجاحدين للمعاد(١).

و «الملّة» : في الأصل بمعنى (الدين) والفرق بين الملّة والدين هو أنّ الدين يضاف إلى الله وإلى الأشخاص معاً ، فيقال دين الله أو دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما تضاف الملّة عادة إلى الأنبياء

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١١ ، ص ١٨٩.

٢٩٠

(أو إلى الأقوام الذين بُعث فيهم النبيون أو مدّعو النبوة) فيقال ملّة إبراهيم وأمثال ذلك (١) ولا يقال «ملّة الله».

والمراد من القوم الذين ذكرهم يوسف عليه‌السلام هم عزيز مصر وزوجته زليخا وتابعوهم وهم شعب مصر بصورة عامّة ، فهؤلاء لم يكن لديهم اعتقاد صائب لا بالمبدأ ولا بالمعاد.

وعلى أيّة حال فإن دلّ هذا على شيء فإنّه يدل على أنّ المعاد كان يشكل أحد الركنين الأساسيين في دين يوسف عليه‌السلام أيضاً ، وقد أشار إلى هذين الركنين معاً في السجن عند محاورته للسجناء.

ومن الجدير بالذكر أنّ يوسف عليه‌السلام قال بعد هذا الحديث : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى ابْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) ، وهذا يدلّ على أنّ المبدأ والمعاد كانا ركنين ثابتين في جميع الاديان الإلهيّة السابقة.

* * *

وتحدثت الآية العاشرة والأخيرة من آيات بحثنا عن خطاب «مشركي مكة» عند معارضتهم دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعاهم للإيمان بالمعاد ، فبعد اظهارهم التعجب من عودة الإنسان إلى الحياة بعد تحوله إلى تراب قالوا : (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ انْ هَذَا الَّا اسَاطِيْرُ الْاوَّلينَ).

ويشير هذا التعبير بوضوح إلى أنّ الدعوة إلى الإيمان بالمعاد كانت حاصلة من قبل الإنسان منذ القدم إلى الحد الذي عدّها المشركون من (أساطير الأولين)!.

و «اساطير» : جمع «اسطار». واسطار جمع «سطر» بمعنى الصف من الأشجار أو الكلمات وغيرها ، ف «أساطير» جمع الجمع وتستعمل بمعنى الروايات المنقولة عن الأقوام السالفة ، وبما أنّ روايات السالفين كانت تضج بالخرافات فقد استعملوا هذا التعبير عادةً في مجال «الخرافات».

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (ملّة).

٢٩١

وقال البعض : إنّ «أساطير» جمع «اسطورة» و «اسطارة» و «اسطير» ووجود الزيادة على المصدر الثلاثي دليلٌ على الإضافة في المعنى ، فيكون المعنى الأصلي هو السطر الطبيعي والمعنى الاضافي هو الأسطر المزيّفة والكاذبة (١).

* * *

ثمرة البحث :

يستفاد من خلال الآيات المذكورة وكذلك الآيات الكثيرة المشابهة لها في القرآن المجيد أنّ مسألة المعاد قد طرحت منذ وطأ آدم عليه‌السلام الأرض وأنّ جميع الأنبياء دعوا الناس للإيمان بها ، خلافاً لزعم المغفلين الذين يرون أنّ الحديث عن الإيمان بيوم القيامة طرح مؤخراً من قبل المؤمنين.

بل يستفاد من آيات متعددة من القرآن أنّ الله أيضاً يحاجج المجرمين بمسألة المعاد يوم القيامة ، قال تعالى : (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالْانْسِ الَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ايَاتِى وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (الانعام / ١٣٠)

فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ انبياء الله دعوا جميع الجن والانس للإيمان بالمعاد.

وجاء هذا المعنى في آية اخرى نقلاً عن لسان خزنة جهنم عند محاورتهم أصحاب النار : (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا الَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (الزمر / ٧١)

واللطيف أنّ أصحاب النار يعترفون جميعاً بهذا المعنى أيضاً ، كما يدل على ذلك ماجاء في تتمة هذه الآية : «قَالُوا بَلَى».

بناءً على هذا فالقرآن يرى أنّ مسألة المعاد تشكل العمود الفقري في دعوة الأنبياء ، وان الدعوة للإيمان بالمعاد بدأت منذ خلق آدم عليه‌السلام واستمرت على مرّ العصور بواسطة دعوة الأنبياء وأنّ جميع الشعوب قد تعرّفت على هذا الموضوع.

والآن ننتقل إلى بحث الأسانيد التاريخية وتقارير العلماء الواردة في هذا المجال.

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٩٢

توضيحات

١ ـ المعاد لدى شعوب ما قبل التاريخ

نحن نعلم بأنّ حياة البشرية تقسّم إلى مرحلتين : مرحلة ما بعد اختراع الكتابة عندما تمكن الإنسان من تدوين شيء من نفسه وسمّيت هذه المرحلة بمرحلة التاريخ ، ومرحلة ماقبل اختراع الكتابة ، فمن الطبيعي أنّ الإنسان لم يكن في هذه المرحلة قادراً على تدوين شيءٍ ممّا كان يدور حوله كي يصبح له تاريخ مدوّن ، وأطلق على هذه المرحلة اسم مرحلة ما قبل التاريخ.

لكن عدم اختراع الكتابة في تلك العصور لم يكن حائلاً أبداً أمام معرفتنا لأوضاع تلك الشعوب ، وذلك لأنّ ما خلّفوه من آثار تحت التراب وفي المغارات وغيرها كثير جدّاً ممّا يسهّل الكشف عن مجهولات كثيرة في اسلوب معيشتهم.

فالعلماء ما زالوا مستمرين في التنقيب في مختلف أنحاء العالم عن الآلات المختلفه التي كان الإنسان يستخدمها في تلك الفترة وما زالوا ينقّبون عن بيوتهم وقراهم التي كانوا يسكنونها ، كي يطالعوها بدقّة بعد العثور عليها ليدوّنوا ما يكتشفونه من عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم فيتوصلوا عن هذا الطريق إلى معرفة طقوسهم وعقائدهم الدينية أيضاً.

يقول عالم الاجتماع الشهير «صاموئيل كينغ» في كتابه : «إنّ أسلاف الإنسان الحالي (الذين عُثر على آثارهم خلال التنقيب) أي «النياندرتال» كانوا يمارسون طقوساً دينية ، والدليل على ذلك هو دفنهم أمواتهم بطريقة خاصة ودفنهم آلاتِ عملهم معهم وهذا ما يكشف عن عقيدتهم بوجود عالم آخر» (١).

ونحن نعلم بأنّ نسل النياندرتال يتعلق بعصورمضت عليها عشرات الآلاف من السنين في زمانٍ لم تخترع فيه الكتابة ولم تدخل مرحلة التاريخ البشري.

إنّ عملهم هذا كان خرافياً وهذا ممّا لا شك فيه ، لأننا نعلم بأنّ آلات العمل لا تنفع الإنسان في الآخرة ، لكنّ المحفّز لعملهم هذا هو الإيمان بالحياة بعد الموت كان واقعاً متجسداً بينهم.

__________________

(١) علم الاجتماع ، ساموئيل كينغ ، ج ١ ، ص ٢٩١.

٢٩٣

وجاء في كتاب دائرة معارف القرن العشرين نقلاً عن كتاب «اصول علم الاجتماع» لمؤلفه «هربرت اسبينسر» : «إنّ الإنسان القديم وبسبب عدم قدرتهم على التفكير العميق كانوا يتصورون وضع الحياة في الآخرة على قدر عقولهم ، لذا كانوا يحملون اعتقادات عجيبة وغريبة عن جزئيات تلك الحياة تشوبها الخرافات أحياناً ، فالكثير منهم وعلى الرغم من اعترافهم بالحياة الآخرة كانوا يعتقدون بأنّ تلك الحياة تختص بمن مات موتاً طبيعياً ، وكان البعض منهم يعتقد بأنّ تلك الحياة خاصة بالابطال والأقوياء. فقسم من هؤلاء كان يدفن مع الميت سلاحه ، كما كانوا يدفنون الأدوات المنزلية مع النساء ووسائل اللعب مع الأطفال (كي ينتفعوا بها عندما يبعثون ثانياً!).

كما كانوا يدفنون أحياناً جميع ما يمتلك الميت من حيوانات معه ، ويدفنون معه أحياناً شيئاً من حبوب الذرة والحبوب الاخرى لكي يستفيد منها في زراعته في الآخرة!.

كما كانوا يتجاوزون ذلك أحياناً فيدفنون مع الميت نساءه وغلمانه وبعض أعوانه المقربين كي يتسامر معهم في الآخرة! حتى وصل الحد في بعض مناطق المكسيك وأمريكا إلى قتل كاهنٍ (ودفنه) مع أصحاب النفوذ ليشاوروه في الامور الدينية والمعنوية في الآخرة!!.

كما كانوا يقتلون مهرّجه ويدفنونه معه أيضاً ليلهي سيده في الآخرة بحركاته وما يقصّه عليه من الطرائف.

فعدد الذين يقتلون ليدفنوا مع الشخصيات يتناسب مع حجم شخصية ومكانة ذلك الرجل ، وقد ذكر أحد المؤرخين : أنّ عدد ضحايا بعض هؤلاء الأموات يصل إلى مائتي شخص!

وفي بعض الأحيان عندما كان يتوفى أحد الأبناء الأعزاء كانوا يقتلون امّه وعمّته وجدّته فيدفنونهن معه كي يكنَّ إلى جواره في الآخرة» (١).

ممّا لا شك فيه هو أنّ هذه الخرافات المرعبة كانت وليدة أفكار تلك الشعوب المنحطة

__________________

(١) دائرة المعارف قرن بيستم ، ج ١ ، ص ٩٠ ـ ٩٤ (باختصار).

٢٩٤

فكرياً ، لكن كل تلك الأحداث تتحد في دلالتها على شيء واحد وهو أنّ الاعتقاد بعالم ماوراء الموت كان ذا جذور عميقة لدى الإنسان القديم.

وجاء أيضاً في كتاب «تاريخ الحضارات العام» أنّ أجساد الموتى كانت تدفن باهتمام خاص ومراسم خاصة منذ مراحل ما قبل التاريخ وحتى نهاية التاريخ القديم ، وكثيراً ما كانوا يدفنون مع الأموات الأدوات المنزلية أو اشكال غريبة اخرى ، وكان ذووهم يهدونهم الهدايا ، وهذه العادات والتقاليد إن دلت على شيء فإنها تدل على إيمانهم بالحياة الآخرة(١).

* * *

٢ ـ المعاد في ضمير شعوب ما بعد التاريخ

تدلّ الوثائق التاريخية على أنّ الشعوب التي كانت تعيش في مناطق مختلفة من العالم كانت تشترك مع الشعوب الأُخرى في هذه العقيدة ، وغالباً ما كانت المجتمعات تؤمنُ بِعقيدة راسخة في مسألة الحياة بعد الموت ، وَتُولي اهتماماً كبيراً بإقامة تلك الشعائر بالرغم من إدخالهم عليها بعض الخرافات ، ونحاولُ أنْ نلقي نظرةً على بعض المعتقدات لدى المجتمعات القديمة.

* * *

أ) المعاد لدى المصريين القُد ماء

جاء في كتاب تاريخ «آلبر ماله» في هذا المجال : «كان المصريون يعتقدون بأنّ أرواح الموتى تخرج من القبور ، وتمثل بين يدي الربِّ العظيم «آزيريس».

وعندما تُقاد الروح لتمتثل أمام أحكم الحاكمين فانَّ «آزيريس» يأخذ قلب الشخص ويضعُهُ في ميزان الحقيقة ليزنه ، فُترسل الروح الطاهرة إلى بستان لا يسع تصور الإنسانِ خيراتهِ ...

__________________

(١) تاريخ الحضارات العام ، ج ١ ، ص ٩٩.

٢٩٥

وكانوا يضعون إلى جوار كلٍ من الأموات سِفراً يُعينه ويَهديه في سَفرهِ إلى ذلك العالم ، وذلك السِفر العجيب يحتوي على جُمل ينبغي على الميّت أن يقولها أمام الإله العظيم «آزيريس» كي تبرأ ذمّته ، وهذه الجُمل هي :

إنّ العظمة تليق بك أيّها المتعال! إله الحقيقة والعدالة!

إنني لم اراوغ مع الناس الذين كنت أعيش معهم ، ولم اضجّر امرأة عجوزاً ولم أكذب في محكمة ، ولم أدنّس نفسي بالحيل وتلفيق الحقائق.

إنني لم احمّل العامل أكثر ممّا يطيق من عمل في يوم واحد ، ولم أتماهل في انجاز وظائفي ، ولم اتّخذ من التواني موضعاً ، ولم أرضَ بهتك المقدسات ولم أنمَّ على عبدٍ لدى سيده ، ولم أُلقِ برزق احدٍ إلى القطط! ولم أقتل ، ولم أسرق لفائف وأمتعة الموتى (١).

إنني لم اغتصب أرض أحد ولم أصد عن رضع الأطفال ، ولم أُوقِفْ جريان نهرٍ ، إنني طاهر طاهر! ...

أيّها القضاة! افسحوا المجال أمام هذا المرحوم فاليوم يوم الحساب ، وهذا لم يقترف ذنباً ولم يكذب ولم يُسْ ، إنّه نصر الحق والانصاف في حياته ، فكان الناس يحمدون أفعاله وقد أرضى الإله ، إنّه أطعم الجياع وقدّم القرابين في سبيل الإله ومدّ الموتى بالغذاء ، أنّ فمه طاهر ويديه طاهرتان أيضاً.

قال المؤرخ المذكور (آلبر ماله) في نقد هذا الكلام : يلاحظ بوضوح من خلال هذه العبارات كيفية تصنيف المصريين للذنوب الكبيرة والحسنات والمستحبّات (٢).

ويجب أن نضيف إلى هذا الكلام أَن هذه العبارات تدل أيضاً على أنّ هؤلاء كانوا يؤمنون بالحساب الإلهي بالإضافة إلى إيمانهم بتمحيص الأعمال وإيمانهم بوجود الجنان ، كما يجب أن نضيف إلى هذا أَنّ هذه الأعمال أشبه ما تكون بتلقين الميّت لدى المسلمين ، وتشير إلى تطهير السلوك من دنس جميع الذنوب ، هذا بالإضافة إلى قياس حجم الذنوب بالنسبة إلى بعضها البعض.

__________________

(١) المراد من لفائف الموتى ظاهراً هو القماش الذي يلف على أجسام الموتى لتحنيطهم ، وكان ذا قيمة عالية ، أمّا الأمتعة فهي الغذاء الذي كانوا يدفنونه مع الموتى على أمل أن ينفعهم في حياتهم بعد الموت.

(٢) «آلبر ماله» تاريخ ملل شرق ويونان ، ج ١ ، ص ٧٤.

٢٩٦

وعلى أيّ حال فالمصريون بناءً على ما جاء في تاريخهم ، كان لهم اعتقاد راسخ بمسألة الحياة بعد الموت على الرغم من نفوذ خرافات كثيرة فيها ، ومن جملة معتقداتهم هو وضعهم الأدوات التي كانوا يستخدمونها في حياتهم والأمتعة ، ووضعهم صور وتماثيل ورسوم الموتى في القبور ، لاعتقادهم بأنّ هذه الصور والرسوم يمكنها أن تحل محل الموتى.

ففي بعض المقابر عثر على صورة مزرعة وفي بعضها عثر على صورة تُصوّر كيفية عمل الرغيف ، وفي بعضها عثر على صورة تحتوي على منظر ذبح بقرة ، واخرى تحتوي على منظر تقديم اللحم المشوي الموضوع في الآنية للضيوف (١) ، كما أنّ تحنيط الموتى ، وبناء القبور الرصينة مثل الأهرام ، كلها تصب في هذا الميدان ، والهدف منها هو حفظ أجساد الموتى من التفسخ إلى يوم القيامة ، كي تتمكن مِن الحصول بسهولة على وسائل العيش بعد أن تحل فيها الروح (لذا) كانوا يضعون أنواع المأكولات وتماثيل الطبّاخين والخبّازين ، وأنواع الأسلحة والجواهر في القبور إلى جوار الأجساد ، ولمّا كانت هذه القبور عادةً عرضة لعبث الحيوانات الوحشية ، أو عرضة لحملات اللصوص لما يوجد فيها من جواهر فقد بادر أصحاب النفوذ والأثرياء إلى بناء الأهرام ، أو بناء الأبنية الرفيعة على القبور واطلقوا عليها اسم «پيرموس» أي «مرتفع» (٢).

* * *

ب) «البابليون»

إنَّ البابليين أيضاً كانوا مِن أصحاب الحضارات القديمة ، وتدل الآثار الباقية من حضارتهم على أنّهم كانوا يدفنون أجساد الموتى في قبور على شكل غرف مُسقّفة تحت الأرض ، وبالرغم من عدم تحنيطهم الموتى إلّاأنّهم كانوا يُلبسونهم الملابس الفاخرة بعد غسلهم ، وكانوا يصبغون وجنات الموتى بالألوان ويكحّلون أجفانهم باللون الأسود! وكانوا

__________________

(١) قصة الحضارة ، ول ديورانت ، ج ٢ ، ص ٧١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٧١.

٢٩٧

يضعون الخواتم في أصابعهم ، أمّا بالنسبة للنساء فإنّهم كانوا يدفنون معهنَّ حِقاق الطيب والمشط ودقيق وزيوت التجميل ، كي يحتفظن بطيب الرائحة وطراوتهنَّ وجمالهنَّ في العالم الآخر (١)!

* * *

ج) «السومريون»

يعتبر السومريون من أصحاب الحضارات السالفة ، الذين كانوا يقطنون جنوب العراق ، قال المؤرخ «ول ديورانت» : كان السومريون يدفنون الأمتعة والآلات مع الأموات.

وقال في هذا المجال أيضاً : إنّ السومريين كانوا يدفنون الأمتعة وآلات العمل مع الموتى ، فإنّ من الممكن أن نفترض بأنّهم كانوا يعتقدون بالدار الآخرة (٢).

* * *

د) «الزرادشت»

إِنَّ الزرادشت الذين كانوا يقطنون ايران ، كالشعوب الاخرى يعتقدون بعودة الحياة بعد الموت ، بل قد ذكروا لهذه المسألة جزئيات أكثر ممّا ذكرتهُ الشعوب الاخرى ، فهؤلاء لديهم عبارات حول الجنّة والنار والصراط ، حتّى أنّهم كانوا يصنفون أهل النار على دَرَكات تشبه إلى حد كبير المعتقدات المعاصرة.

وعلى حدّ قول «ول ديورانت» إنّهم كانوا يعتقدون بالآخرة و «جهنم» و «محلّ التطهير» (الاعراف) ويعتقدون بوجود الجنّة ، كما انّهم يعتقدون بأنّ الأرواح عليها أن تجتاز الصراط ، لتمييز الأرواح الخبيثة عن الأرواح الطيّبة فتهبط الأرواح المنزّهة بعد عبور الصراط إلى أرض «السرور» ، ليخلدوا إلى جوار «اهورامازدا» في النعيم والسعادة ، بينما لا

__________________

(١) قصة الحضارة ، ول ديورانت ، ج ٢ ، ص ٢٢٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٠.

٢٩٨

تتمكّن الأرواح الخبيثة من عبور الصراط فتهوي في حفر النار ، فالأرواح التي ارتكبت ذنوباً أكثر خلال حياتها تسقط في حفرٍ أعمق من حفر جهنم! (١).

وكما لاحظتم أَنّ هؤلاء كانت لديهم تفصيلات أكثر من غيرهم في مسألة الحياة بعد الموت.

* * *

ه) «الصينيون»

والصينيون أيضاً كانوا يؤمنون بوجود الحياة الاخرى في طيّات معتقداتهم ، قال «ول ديورانت» في هذا المجال : إنّ عقائد هؤلاء الدينية كانت مليئة بتمني الوصول إلى الآلهة والجنّة ، وكانوا يعتبرون الإله «أميتبها» حاكم الجنّة (من المحتمل أن يكون الإله هنا هو المَلَك) (٢).

وجاء في مصدر آخر : إنَّ الصينيين كانوا يعتقدون بأنّ الذين يموتون موتاً طبيعياً إذا ما كانوا صالحين ، فسوف تسمو أرواحهم وتصل إلى مراحل راقية بالتدريج من خلال تقديم الهدايا والقرابين ، وأخيراً يتحولون إلى آلِهة (ملائكة) (٣).

* * *

و) «اليابانيون»

واليابانيون أيضاً كانوا يشتركون في هذه العقيدة مع الشعوب الاخرى ، فعندما وصلت الديانة البوذية إلى اليابان كانت مُلَبَّدةً بغيوم من التشاؤم ، ولكن سرعان ما تغيرَّتْ تحت السماء اليابانية وأصبحت لها آلِهة حفظة (ملائكة حفظة) ، وطقوس جذّابة وجنّة آمنة ، ولا يخفى أَن هذه الديانة كانت تؤمن بوجود جهنم والوحوش الخرافية أيضاً (٤).

__________________

(١) قصة الحضارة ، ول ديورانت ، ج ٢ ، ص ٤٣٠.

(٢) المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٢٦١.

(٣) اسلام وعقائد وآراء بشرى ، ص ١٥٨.

(٤) قصة الحضارة ، ول ديورانت ، ج ٥ ، ص ٣٥.

٢٩٩

ز) «اليونانيُّون»

أظهَرَ اليونانيُّون (الاغريق) اعتقادهم بالحياة بعد الموت بصور مختلفة ، فمن جملتها إنّهم كانوا يدفنون مع الموتى بعضاً من الامتعة ووسائل التنظيف ليكونوا سعداء تحت التراب ، كما كانوا يدفنون معهم تماثيل فخارية صغيرة بهيئة النساء كي تحافظ عليهم وتسلِّيهم في الدار الآخرة (١).

* * *

ح) «الرومان»

وللرومان أيضاً تعابير مختلفة في هذا المجال. ف «الاتروريون» الذين هم احدى الفرق القديمة والذين حكموا روما ، كان من أهم اعتقاداتهم هو أنّ الميّت يحشر في المحكمة الإلهيّة تحت الأرض طبقاً للصورة التي تنقش على قبره ، ويمهل في آخر لحظات المحاكمة للدفاع عن أعماله التي ارتكبها في حياته ، فإن لم يتمكن من الدفاع عن نفسه فسوف يبتلى بأنواع العذاب ... وهؤلاء أيضاً كانوا يدفنون الموتى أحياناً في قبور تشبه البيوت يحفرونها في الصخور ، وكانوا يضعون مع الميت جميع ما يتعلق به من أدوات كالملابس والمزهريات والأسلحة والمجوهرات والمرآة وأدوات التجميل (٢).

وكان المؤرخ اليوناني «بلوتارخُس» الذي كان يعيش في الفترة مابين (٥٠ ـ ١٢٠) ميلادي ، الذي الّف كتبه في العقائد وسير مشاهير اليونان كان يعتقد بوجوب الإيمان بخلود الإنسان وبأنّ الجنّة محل الثواب ، وأنّ البرزخ محل التطهير ، وجهنم محل العقاب (٣).

* * *

__________________

(١) يونان القديم ، ج ٢ ، ص ١٨.

(٢) تاريخ تمدّن ، ول ديورانت ، ج ٣ ، ص ٩ (قيصر ومسيح).

(٣) المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٥٧١.

٣٠٠