نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

٢ ـ إبراهيم عليه‌السلام والمعاد

إنَّ قصّة إبراهيم عليه‌السلام و «الطيور الأربعة» تعتبر من النماذج التاريخية الحيّة التي استدل بها القرآن الكريم على قضية المعاد ، وقد ورد ذكر هذه القصة بعد ذكر قصة عزير عليه‌السلام مباشرة ، قال تعالى :

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَّ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيْنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ انَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ). (سورة البقرة / ٢٦٠)

لو أمعنّا النظر في ظاهر الآية بعيداً عن أي حكم مسبق وبعيداً عن تأثير آراء ونظرات الآخرين نراها تدلّ بوضوح على أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان يريد أن يرى كيفية احياء الموتى ليطمئن قلبه ، فأُمِرَ أن يمارس عملياً نموذجاً حيّاً لاحياء الموتى بإذن الله ، وهو أن يجعل أجساد الطيور الأربعة بعد ذبحها وسحقها كالعجين ثم يجعل عدّة أجزاء من العجين على عدّة جبال وبعد أن يدعو هذه الأجزاء إليه تصبح طيوراً أربعة كما كانت بإذن الله وتُعاد إليها الحياة من جديد.

كما أنّ السبب الذي أشار إليه الكثير من المفسرين في شأن نزول هذه الآية الشريفة يؤيد هذا المدعى ، فقد مرّ إبراهيم عليه‌السلام على ساحل البحر فوجد جيفة نصفها في الماء والنصف الآخر على الساحل تأكل منها حيوانات البحر من جانب والطيور من جانب آخر ، فأثر هذا المنظر في نفسه عليه‌السلام وغرق في التفكير في كيفية جمع أجزاء هذا الجسد وإحيائه من جديد بعد أن صار جزءاً من حيوانات كثيرة اخرى.

إنَّ إبراهيم عليه‌السلام كان مؤمناً بالمعاد وكل مايرتبط به لأنّه نبي وله ارتباط مع الوحي وكان إيمانه أعمق من الإيمان الحاصل عن طريق الاستدلال العقلي ، لكنّهُ كان يبغي شاهداً حسياً في هذا المجال ولهذا جسَّد له الله هذا المشهد كي يتجسّد أمامه المعاد الجسماني بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وليشاهده بأمّ عينيه كي يطمئن قلبه.

* * *

١٦١

وهنا ينبغي أن نشير إلى عدّة امور :

أولاً : إنّ جملة : «فَصُرْهُنَّ» كما صّرح بذلك بعض اللغويين وعدد من المفسيرين هي من مادّة «صور» على وزن (قول) بمعنى التقطيع والتمزيق ، وهي دليل على أنّ إبراهيم عليه‌السلام أمر بأن يذبح تلك الطيور الأربعة ثم يقطعها ويخلط أجزائها.

لكنّ بعض اللغويين فسروها بمعنى التعويد والتربية (على الأخص عندما تتعدى بـ «إلى») ومن أجل هذا أكّد بعض المفسرين الذين يسمّون أنفسهم بذوي الأفكار النيّرة على أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يقطع تلك الطيور أبداً ، بل أمر بأن تعود تلك الطيور إليه وبعد أن تأنس به يضع كل واحد منها على جبل ثم يناديها كي تسعى إليه جميعاً فيحصل من خلال هذا العمل على دليل لإحياء الموتى ، ولكي يعلم أنّ إحياء الموتى على الله يبلغ من السهولة ما يبلغه نداء إبراهيم عليه‌السلام لتلك الطيور ومجيئها إليه بمجرّد أن يناديها (١).

وقد فات هؤلاء أنّ إبراهيم عليه‌السلام أراد مشاهدة إحياء الموتى وأنّ الله تعالى استجاب دعوته من هذا الباب كي يطمئن قلبه ، فلو كانت المسألة تُحلّ بتربية الطيور وإتيانها بعد دعوتها لما تحقق ما أراده إبراهيم عليه‌السلام من مشاهدة إحياء الموتى ولما اطمئن قلبه بذلك ، بل لا علاقة لهذا الأمر بما طلبه إبراهيم عليه‌السلام فإنّ مثل هذا الجواب لمثل هذا الطلب قبيح وغير لائق لو صدر من الفرد العادي ، فكيف يصدر ذلك من الله تعالى وبالأخص عندما يرد في كلام فصيح ككلام القرآن ...؟

ثانيا : الظاهر أن تفسير كلمة «جزء» باطلاقها على كلِّ واحد من الطيور الأربعة ، غير مناسب أبداً.

ثالثاً : إنّ سبب نزول هذه الآية الشريفة والوارد في روايات متعددة لا يتناسب مع هذا المعنى ، بل صرحت جميعها بالحقيقة التالية ، وهي أنّ إبراهيم عليه‌السلام أخذ أربعة من الطير فذبحها وخلط أوصالها ببعضها ثم قسّمها حصصاً فوضع كلٍ منها على جبل (٢).

__________________

(١) وهذا التفسير في الأساس مقتبس من أحد المفسرين المعروف باسم (أبومسلم) وقد نقل عنه هذا التفسير في «المنار» ودافع عنه وأيّده (ج ٣ ص ٥٦).

(٢) للاطلاع أكثر على هذه الروايات راجع تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٨٢ ؛ وتفسير الدّر المنثور ، ج ١ ، ص ٣٣٥.

١٦٢

واما جملة «فصرهن» فهي لا تؤثر في محتوى الآية إن كانت بمعنى التقطيع أو بمعنى التعود ، لأنّ الآية ـ على أية حال ـ جاءت لتوضيح كيفية إحياء الموتى بإذن الله.

وكما قلنا آنفاً إنّ السبب الرئيسي في نزوع هؤلاء إلى مثل هذه التفاسير هو عدم استيعابهم للمعجزات الخارقة للنواميس الطبيعية ، ولإرضاء المدافعين عن العقيدة المادية ولذلك ورطوا أنفسهم في هذه المتاهات ، بينما تعتبر هذه الخوارق ووقوع المعجزات من البديهيات لدى جميع الأديان ، ونحن في عالم الطبيعة نشاهد الكثير من هذه الخوارق التي عجز عن تفسيرها العلم الحديث (فتأمل).

٢ ـ والمعروف من أنواع الطيور الأربعة هي : الطاووس والديك والحمام والغراب ، وكلّ واحد من هذه الطيور يحمل صفات متميزّة وقد شبّهوا حركات الإنسان بحركات هذه الطيور ، فالطاووس هو مظهر الكبرياء والرياء ، والديك هو مظهر الشره الجنسي ، والحمام هو مظهر اللهو واللعب ، والغراب هو مظهر الآمال البعيدة المنال!

وجاء في كثير من التفاسير احتمالات اخرى أيضاً منها : أنّ تلك الطيور هي الهدهد والبوم والقصر والنسر (١).

ومن البديهي أنّ خصوصيات تلك الطيور المذكورة لا علاقة لها بأصل المسألة ، غاية مانعلم هو أنّ أنواع الطيور كانت مختلفة وهذا الإختلاف جاء من أجل الحكاية عن اختلاط تراب البشر مع بعضه.

أمّا عدد الجبال التي وضع إبراهيم عليه‌السلام عليها أجزاء تلك الطيور فهي عشرة طبقاً لما ذُكر في الروايات ويحتمل أن يكون وقوع هذه الحادثة بعد ذهاب إبراهيم عليه‌السلام إلى الشام ، لأنّ أرض بابل خالية من الجبال.

٣ ـ قصة أصحاب الكهف

ورد محتوى هذه القصة في سورة الكهف خلال أربع عشرة آية ، وجاء في بعضها :

__________________

(١) تفاسير مجمع البيان والقرطبي والكبير ونور الثقلين في ذيل الآية مورد البحث.

١٦٣

(وَكَذلِكَ اعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيَها). (الكهف / ٢١)

نستفيد بوضوح من هذا التعبير بأنّ أحد الأهداف المتوخّاة من هذا السبات العجيب والطويل الذي له شبه كبير بالموت هو أنّ هذه الحادثة تعتبر درساً لجاحدي المعاد أو للذين ينتابهم الشك والترديد في هذا المجال.

ويعين على ذلك بالخصوص مااستنبطوه من جملة : (اذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ، من أنّ الناس اختلفوا في ذلك الزمان في مسألة المعاد (المعاد الجسماني) فالمخالفون كانوا يسعون لمحو آثار قصة أصحاب الكهف كي يسلبوا هذا البرهان القاطع من أيدي المؤمنين بالمعاد (لقد احتملوا في تفسير هذه الجملة احتمالات جمّة ، وماقلناه هو أحد هذه الاحتمالات).

وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره خمس احتمالات اخرى في تفسير هذه العبارة ، منها الاختلاف في عدد أصحاب الكهف ، ومنها الاختلاف في أسمائهم أو في مدّة نومهم وفي مسألة المعبد الذي شُيّد بالقرب من الغار هل كان على غرار معابد المشركين أو معابد الموحّدين (١).

فالآيات الواردة في هذه السورة من القرآن صرحت بوضوح بأنّ مدّة نومهم امتدّت إلى ثلاثمائة وتسع سنين : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِيْنَ وَازْدَادُوا تِسْعاً). (الكهف / ٢٥)

إنّ نوماً عميقاً كهذا يشبه الموت ، والنهوض بعده أشبه بالحياة بعد الموت بلا شك ، لذا فهو يصلح أن يكون نموذجاً حياً للمعاد من وجهة نظر التاريخ.

* * *

توضيحات

هناك حديث طويل يدور حول هذه القصة ، إلّاأنّ ما يتعلق بموضوع بحثنا هو عدّة امور :

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ١٠٥.

١٦٤

١ ـ ملخص الحادثة

إنّ ما جاء في القرآن المجيد والروايات المستفيضة في هذا المجال هو مايلي : كان هناك ملك ظالم يدعى «دقيانوس» وقيل إنّ اسمه «دسيوس» وكان متسلطاً على شعب وثني حوالي الفترة مابين القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي ، وكانت عاصمة البلاد تدعى «أفسوس» ، وكان لهذا الملك عدّة وزراء قد بانت لهم سخافة الوثنية من خلال أحد الحوادث فرجّحوا التحرر من قيود هذه الخرافات على الاحتفاظ بمناصبهم ، فهجروا ديارهم سرّاً من دون أن يعينوا هدفاً لمسيرهم ، وأخيراً عثروا على غارٍ فاختبؤا فيه فالقى الله عليهم نوماً عميقاً يثير العجب حتى إذا استيقضوا من نومهم العميق هذا تساءلوا في ما بينهم فظنّوا أنّهم لبثوا في نومهم يوماً أو بعض يوم ولكن مظاهر وسمات أطراف الغار كانت تُنبيُ عن شيٍ آخر لذا تسرب الشك إليهم.

ولكونهم جياعاً بعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بالطعام سرّاً ، لكّن المسكوكات النقدية كشفت سرّهم وساعد في ذلك أكثر تصرفاتهم وعاداتهم غير المألوفة لدى الناس في ذلك العصر ، بالإضافة إلى أنّ قصة تواري عدد من الشبّان من أصحاب المناصب الرفيعة عن الأنظار كانت متداولة بين الناس في تاريخهم المعاصر ، فاتحدت جميع هذه الشواهد للدلالة على أنّ هؤلاءهم الذين تواروا عن الأنظار في تلك الفترة!

فسمع الملأ بهذا الخبر والتفوا حولهم ، لكن اولئك الشبان عادوا إلى كهفهم وتواروا إلى الأبد فبنى الناس هناك معبداً لتخليد ذكراهم.

* * *

٢ ـ قصة أصحاب الكهف في كتب التاريخ

هل ورد ذكر لهذه القصة في كتاب آخر غير القرآن أم لا؟ وهل ذكر في التوراة والانجيل الحاليين شيئاً عنها؟

إنّ الجواب عن السؤال الأول بنعم ، أمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو لا.

١٦٥

لأنّ وقوع هذه الحادثة كما ذكر المؤرخون ـ يتعلق بالفترة التي تلت ميلاد المسيح عليه‌السلام ، وقد صرّح البعض بأنّ وقوع هذه الحادثة حصل في الفترة مابين عام ٢٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، فعلى هذا لا يمكن أن تكون مذكورة في التوراة والانجيل ، نلاحظ ماورد في كتاب أعلام القرآن :

«إنّ خلاصة ما نقله المؤرخون الاوربيون عن قصة أصحاب الكهف هو : في عصر دكيوس (٢٤٩ م ـ ٢٥١ م) الذي كان يسوم المسيحيين سوء العذاب ، هرب سبعة شبان من النبلاء ولجأوا إلى غار ، فأمر دكيوس أن يغلقوا فوهة الغار ببناء جدار عليه ليهلكوا جوعاً وعطشاً ، لكن هؤلاء السبعة غرقوا في نومٍ عميق ، وبعد مرور ١٥٧ عام استيقظوا من نومهم في عصر الملك «تيوذر الثاني» ويطلق المؤرخون الاوربيون على هؤلاء اسم النيام السبعة في أفسوس».

وجاء في فصل آخر من هذا الكتاب : إنّ أول من سرد هذه القصة هو «جاك» في القرن الخامس الميلادي ، وهو من سكنة «ساروك» الذي كان يرأس الكنيسة في سوريا خلال رسالة كتبت بالسريانية ، وترجم هذه الرسالة من السريانية إلى اللاتينية شخص يدعى «غوغويوس» وانتخب لها اسم «جلال الشهداء» (١).

لقد احتلت هذه القصة مقاماً متميزاً في التاريخ الإسلامي والادب الشرقي والغربي ، وتمكنت هذه القصة من وضع بصماتها على الادب «الروسي» و «الحبشي» أيضاً (٢).

بناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم لم ينفرد بذكر هذه الحادثة ، بل ورد ذكرها في الكتب التأريخية الاخرى.

* * *

٣ ـ مكان الغار

المشهورة أنّ الغار يقع بالقرب من مدينة «افسوس» أحد مدن آسيا الصغرى (تركيا

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٨١.

١٦٦

الحالية التي تشتمل على قسم من بلاد الروم الشرقية القديمة) ، بالقرب من نهر «كايستر» الواقع على بعد ما يقارب أربعين ميلاً إلى جنوب شرق «أزمير» (١).

وقد كسبت مدينة «افسوس» شهرتها العالمية من المعبد ومجمع الأصنام الشهير «اوطاميس» الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع (٢).

لكنّ البعض يرى بأنّ غار أصحاب الكهف يقع في موضعٍ بالقرب من الشام يدعى «طرطوس» (٣).

ويوجد حالياً موضعٌ بالقرب من دمشق يزوره الناس اشتهر باسم غار أصحاب الكهف. لكنّ الرأي الأول أشهر.

* * *

٤ ـ قصة أصحاب الكهف في تصور العلم الحديث

هل يمكن للإنسان أن يعمرّ ولعدّة قرون ويتساوى لديه أن يكون في حالة اليقظة أم في حالة النوم؟

ولو سلّمنا بامكانية ذلك في اليقظة فإنّ المعضلة تزداد تعقيداً في حالة النوم ، لأنّ هذا يعني أنّ الإنسان يمكنه البقاء حيّاً من دون أن يتناول طعاماً أو ماءً ، بينما يحتمل أن يحتاج الإنسان خلال هذه المدّة وفي الظروف العادية إلى أكثر من مائة طن من الغذاء ومائة الف ليتر من الماء!

هذه هي التساؤلات التي طرحها العلم حول هذه الحادثة ، ويحتمل أن تكون هذه التساؤلات هي السبب في سلوك طريق الجحود من قِبَل لم يجدوا جواباً لها ، واعتبروا هذه القصة «اسطورة» من الأساطير.

لكنّ البحوث الأخيرة للعلماء من ناحية ، والاكتشافات التي وصلت الينا عن

__________________

(١) فرهنگ قصص القرآن ، ص ٣٥١.

(٢) القاموس المقدّس ، ص ٨٧.

(٣) دائرة المعارف ، دهخدا ، مادة (أصحاب الكهف).

١٦٧

الموجودات الحيّة من ناحية اخرى تؤكّد على إنكار هذا الأمر ليس بهذه البساطة.

ومن أجل أن نتعرف إجمالاً على المنهج العلمي للعلماء المعاصرين في هذا المجال نُلقي نظرة خاطفة على الصحف العلمية التي نشرت حديثاً :

جاء في إحدى هذه الصحف في موضوع تحت عنوان هل (ينتصر الإنسان على الموت)؟

في عام ١٩٣٠ سعى عالم الاحياء الشهير «متالينكف» لأن يثبت بأنّ الحياة الخالدة موجودة بالقوة في نفس الطبيعة ، وأنّ مهمة العلم هي أن يصل إلى كشف أسرار الحياة الخالدة.

فهو يقول : إنّ الاحياء البسيطة مثل أحاديات الخلايا لا تموت في الواقع ، لأنّها تبقى حيّة إلى مالا نهاية عن طريق انشطار الخليّة الحيّة ... فلماذا نستغرب أن تكون هناك موجودات حيّة مركّبة من ملايين من الخلايا الخالدة وأنّ علينا نحن العلماء أن نتوصل إلى كشف أسرارها.

وجاء في فصل آخر من هذه المقالة موضوع بعنوان (نوم ستمائة عام) مايلي : مثل هذه الأفكار كانت تقوى يوماً بعد آخر حتى جاء البروفسور «ايتنجر» فصاغها بصيغة علمية ، قال ايتنجر : بإمكاننا الآن أن نتحدث عن الحياة الخالدة بلا تردد ، لأنّ الحياة الخالدة ثبتت امكانيتها نظرياً ، وقد بلغنا من التقنية ما يساعدنا على تحقيق ذلك عملياً.

ثم تحدّث عن استمرار الحياة بواسطة التجميد فأضاف : عندما تنخفض درجة حرارة الجسم بشدّة فإنّ سير الحياة يبطأ حتى كأنّه يتحرر من قيود الزمان ، وعندما يقترب انخفاض درجة حرارة جسمنا من «الصفر المطلق» ، (الصفر المطلق / (٢٧٠) درجة سانتيغراد تحت الصفر في المحرار المئوي!) فإنّ مقدار الحرارة الكافي لاستمرار الحياة لمدة ثانية واحدة في الظروف الاعتيادية يكفي حينئذٍ لادامة الحياة عدة قرون!

ثم تحدّث عن جزيئات الملح البلورية الشكل التي تحتوي في داخلها على خلايا متحجرة من البكتريا والعائدة لعصور مضت قبل مائة مليون عام ، وقد هيأ هذا العالم لها

١٦٨

الظروف الملائمة فعادت إلى الحياة ثانية وبدأت بالتكاثر (وهذا في الحقيقة يعني أنّ تلك البكتريا نهضت من رقادها بعد مائة مليون عام) وبعد هذه التجربة قام هذا العالم بجمع بلورات الملح من جميع أرجاء العالم ومن مناطق مضى عليها ستمائة مليون عام! فهيّأ لها الظروف الملائمة ورأى ببالغ العجب بأنّ هذه المتحجرات انبعثت من نومها العميق! وبهذا سجّل رقماً قياسياً آخر «ستمائة مليون عام» لحياة هذه الموجودات الحيّة المجهرية!

وهذا العالم يرى أنّ هذا الأمر يمكن أن ينطبق على الإنسان أيضاً من وجهة نظر العلم (وهذا الإنجماد يحصل خلال اللحظة التي تسبق الموت طبقاً لظروف معينة بحيث تصان اجهزة البدن من حدوث أيّ تلف) (١).

إنّنا لا نرى أنّ أصحاب الكهف كانوا منجمدين ، بل نقول بالتحديد إنّ النوم العميق يؤدّي إلى بطء فعالية أجهزة الجسم إلى ادنى حدّ ومن المحتمل في هذه الحالة أن تكفي الطاقة المخزونة لديه لإدامة الحياة عدّة قرون ، لأنّ نوماً كهذا ليس أمراً معتاداً وقد تحقق بإذن الله وفي ظروف خاصة غير طبيعية.

يقول القرآن الكريم إنّ نور الشمس لم يمسّهم أبداً : (وَتَرى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَّزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الَيمِيْنِ وَاذَا غَرَبَتْ تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ). (الكهف / ١٧)

أمّا مسألة السبات (لو تتبعنا حياة كثير من الحيوانات لوجدنا أنّها تغرق في سبات عميق طيلة الشتاء) في عصرنا الحاضر من الامور البديهية ، ففي هذا النوع من الرقاد تتوقف الحياة في الأجسام تقريباً ولا يبقى إلّابصيص منها ، فضربات القلب تهبط إلى حدٍ وكأنّه قد توقف عن العمل ، ويمكن تشبيه جسم الحيوان في هذه الحالة بأفران ضخمة لم يبق فيها بعد خمود نارها إلّاشعلة صغيرة ، وممّا لا ريب فيه هو أنّ مقدار الوقود الذي تحتاجه الافران لحرقه في يوم واحد قد تتغذّى عليه تلك الشعلة الصغيرة مئات السنين.

إنّ العلماء يرون أنّ السبات لا يختص بالحيوانات التي لا تتناسب درجة حرارة أبدانها مع درجة حرارة محيطها بل يحصل السبات لدى الحيوانات ذات درجة الحرارة الثابتة

__________________

(١) مجلة (دانستنيها) تشرين الثاني ـ ١٩٨٢ ، العدد ٨٠.

١٦٩

أيضاً ، ففي مرحلة السبات تصبح الفعاليّات الحياتية بطيئة كثيراً وتتغذى تلك الحيوانات على الشحم الذي تدّخرة في أجسامها (١).

وليس غرضنا هنا التعرض لكيفية نوم أصحاب الكهف ، بل الغرض الرئيسي هو بيان أمرين :

الأول : هو أنّ نومهم بنحو الإجمال لم يكن نوماً طبيعياً ، على الأخص لو استندنا إلى ماقاله القرآن : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً). (الكهف / ١٨)

والأمر الثاني : هو أنّ القوانين الحاكمة على النوم المعتاد لا تنطبق على هذا النوع من النوم ، فمن المحتمل في هذا النمط من النوم أن تبلغ مسألة استهلاك الطاقة في البدن من الانخفاض حدّاً ينتفي معها موضوع التغذية كلياً.

* * *

٥ ـ قصة هزيمة بني اسرائيل

النموذج الآخر الذي ذكره القرآن الكريم هو القصّة الواردة في سورة البقرة بخصوص مجموعة مؤلفة من آلاف الأشخاص فرّوا حذر الموت وهجروا ديارهم ، لكن فرارهم هذا لم ينقذهم ، فوقعوا في مخالب الموت بإذن الله ، وبعد ذلك احياهم الله مرّة اخرى ، قال تعالى :

(الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ الُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ). (البقرة / ٢٤٣)

ادّعى المفسرون بأنّ هؤلاء كانوا فريقاً من بني اسرائيل فرّوا من ديارهم خوفاً من الملاريا أو الطاعون ، لكنّهم ما برحوا حتى ماتوا بذلك الوباء فمرّ أحد انبياء بني اسرائيل ويدعى «حزقيل» ودعا الله عزوجل أن يمنّ عليهم بالحياة ، فأحياهم الله ليكونوا دليلاً على احياء الموتى (في مقابل جاحدي المعاد).

وجاء في بعض الروايات أنّ هؤلاء كانوا يسكنون احدى مدن الشام وكان الطاعون

__________________

(١) دائرة المعارف «فرهنگ نامه» مادّة (زمستان خوابي).

١٧٠

يصيبهم بين الحين والآخر ، فكلّما بان لهم أثر الوباء غادر المدينة أثرياؤهم وبقي الفقراء فريسة للهلاك فيموت منهم الكثير ، أمّا الفارّون فإنّهم غالباً ما ينجون.

بعد ذلك قرروا أن يهاجروا جميعاً بمجرد ظهور آثار الطاعون وهكذا خرجوا فراراً من الموت.

إلّا أنّه لم ينج أحد منهم وماتوا جميعاً بأمر الله (١).

إنّ الآية المذكورة لم تشر إلى أنّ الغرض من احيائهم هو اجراء مشهد المعاد في الدنيا ، لكن بعض الروايات الواردة في هذه الحادثة صرّحت بذلك (٢).

ونواجه هنا مرّة اخرى تفسيراً منحرفاً لبعض المفسرين الذين يصطلح عليهم بالمثقفين ونحن نعلم بأنّ فهم مثل هذه الحوادث ذات الأبعاد الاعجازية صعب على أفراد من هذا القبيل لذا فإنّهم رفضوا بالمرة حكاية وقوع هذه الحادثة بالشكل الوارد في ظاهر القرآن الكريم واعتبروا بيان تلك الحادثة مجرّد مثال لحياة وموت الامم الذي يعتبر كناية عن النصر والهزيمة.

فقالوا : إنّ الآية المذكورة تخبر عن جماعة من الناس فقدوا سيادتهم واستقلالهم كلياً فأصبحوا كامّة ميتة ، ثم نهضوا من نومهم وشمروا عن سواعدهم وحصلوا على استقلالهم وسيادتهم بما مَنَّ الله عليهم (٣).

لكننا نعلم بأنّ مثل هذه التفاسير والآراء إذا دخلت إطار القرآن الكريم فإنّ كثيراً من حقائقه سوف تكون عرضة للانكار ، وحينئذٍ يستطيع كل شخص أن يفسّر الآيات الشريفة بتفسيرات ملائمة لميوله ورغباته ويصبح القرآن الذي يعتبر هادياً ومسيّراً للناس وسيلة لدعم أفكار وميول هذا وذاك! فيكون تابعاً بدلاً عن أن يكون متبوعاً.

وعندما تنهى الروايات بشدّة عن التفسير بالرأي ، وتُشبهُ من يفسر القرآن برأيه بالذي يهوي من السماء إلى الأرض ، فالمراد منه مثل هذا التفسير المنحرف الخارج عن الضوابط والقواعد السليمة لفهم القرآن.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ؛ وتفسير الكبير ؛ وتفسير نورالثقلين في تعليقهم على ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٤٧.

(٣) تفسير المنار ، ج ٢ ، ص ٤٥٨.

١٧١

فإن أراد هؤلاء ـ بهذه التفاسير ـ اقناع الماديين ، فإنّهم لن يقتنعوا بها ، وإن أرادوا نفى وقوع الظواهر الخارقة للقوانين الطبيعية فهذا ممّا لا يرتضيه المؤمنون ولا المخالفون أيضاً.

* * *

قصة قتيل بني اسرائيل :

الحدث الأخير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد كمثال ملموس لإحياء الموتى في هذه الدنيا هو القصة المتعلقة بفئة من بني اسرائيل.

في هذه القصة يُقتل أحد الشخصيات البارزة منهم غيلةً ، فيقع بينهم شجار عنيف من أجل العثور على القاتل ، فكل قبيلة منهم تتهم القبيلة الاخرى بارتكاب القتل ، وخوفا من اتساع رقعة النزاع بينهم بما يهدد بخطر جسيم ، لذا فانّهم ذهبوا إلى موسى عليه‌السلام راجين منه الحل ، فما كان من موسى عليه‌السلام إلّاأن حل هذه المعضلة بواسطة الاستعانة بألطاف الله تعالى عن طريق معجزة آمن بها الجميع.

فقد أمرهم بذبح بقرة لكن ذبحها لم يتم بسهولة طبعاً ، فقد عاد إليه المتذرعون من بني اسرائيل كراراً للسؤال عن اوصاف تلك البقرة وأخّروا انجاز ذلك العمل بهذه الأسئلة التافهة الفارغة ، وأخيراً ذبحوا بقرة تحمل أوصاف معيّنة وضربوا القتيل بجزء منها فعاد مدّة وجيزة إلى الحياة وكشف عن قاتله.

وجاء في القرآن الكريم في القسم الأخير من هذه القصة قوله تعالى : (وَاذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (فتنازعتم فيها) (وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحىِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيْكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلُونَ). (البقرة / ٧٢ ـ ٧٣)

والعجيب في هذه القصة هو أنّ الضرب بقطعة من جسم «ميت» بجسد «ميت آخر» يؤدّي إلى إحيائه لإحقاق الحقيقة! ، فما هي العلاقة بين هذين الأمرين؟ وما هو المؤثر في ذلك؟ بديهي أنّ هذا من الأسرار الإلهيّة التي لا يعلمها أحد إلّاذاته المقدّسة ، فهو لا يوضّح أكثر من ذلك بل يقتصر على الاستدلال بهذا وهو أنّ إحياء الموتى في عالم الآخرة أمر يسير

١٧٢

بالنسبة لقدرته ، فلا توجد هناك ضرورة لأنّ يولد «الموجود الحي» من موجود حيّ آخر ، بل يمكن أن تنبعث شرارة الحياة من تلاقي عضوين ميتين!

وجملة : (كَذلِكَ يُحىِ اللهُ المَوْتَى) تدلّ بوضوح على هذه الحقيقة وهو أنّ القتيل في هذه القصة قد عادت له الحياة واصبح نموذجاً محسوساً للدلالة على بعث البشر بعد موتهم.

ونواجه هنا أيضاً بعض الكُتّاب من أمثال مؤلف «المنار» الذي يصرّ على حمل جملة تامة الوضوح على خلاف ظاهرها من دون وجود أي قرينة عقلية أو لفظية على ذلك ، ومن دون أن تكون هناك أي ضرورة.

قال صاحب المنار : «يحتمل وجود سنّة لديهم وهي أنّهم كانوا إذا وجدوا قتيلاً بالقرب من أحد المدن ولم يعثروا على قاتله كان كل واحد منهم يغسل يده خلال طقوس معيّنة ليبرأ من القتل ، وكل من يمتنع من أداء ذلك فإنّهم يعتبرونه هو القاتل ، والمراد من احياء الموتى هنا هو حقن الدماء التي كانت تراق بسبب هذه الاختلافات أي أنّ الله حقن الدماء بواسطة هذا التشريع!» (١).

وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً فإنّ هذه التفاسير هي نوع من التلاعب بالالفاظ تحط من شأن «كلام الله» وتفسح المجال لأنّ نستدل بكل الآيات على كل شيء وأن نحمل الألفاظ على الكناية والمجاز من دون وجود أي قرينة ، ومن غير أي مبرر لهذا العمل ، لأنّ المتدينين في كل الأحوال يؤمنون بالمعجزات والخوارق؟ فما هي الضرورة لهذا التكليف.

ونضيف أيضاً : إنّ انتخاب البقرة للذبح يحتمل أن يكون من أجل تقديم قربانٍ لله تعالى. أمّا مايتعلق بدوافع ارتكاب هذه الجريمة ، فقد جاء في الروايات أنّ شاباً قتل عمَّه من أجل الحصول على أمواله (أو من أجل أن يتزوج منه ابنته) على هذا يكون سبب تلك الجناية هو حب المال أو النساء (هذه هي الدوافع الرئيسية لارتكاب جرائم القتل في العالم) ، وتحتوي هذه الحادثة العجيبة وعلى الأخص تفاصيلها ـ على بنود تربوية كثيرة اعرضنا عن ذكرها لخروجها عن دائرة موضوع بحث المعاد ومن أجل الاطلاع راجع تفسير

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٣٥١.

١٧٣

الامثل ذيل الآية ٥٥ و ٥٦ من سورة البقرة. (١)

كانت هذه هي النماذج المتعددة المحسوسة من إحياء الموتى التي ذكرها القرآن المجيد وبهذا الحديث ينتهي بحث إمكان المعاد ، ونتوجه إلى بحث الأدلة العقلية لوقوع المعاد.

* * *

__________________

(١) جاءت في سورة البقرة إشارة إلى نموذج آخر من مشاهد الحياة المستأنفة بعد الموت عندما رافق وجهاء بني اسرائيل موسى عليه‌السلام إلى جبل الطور وطلبوا منه أن يروا الله فأصابت الجبل صاعقة اندك لها الجبل وصُعِقَ موسى عليه‌السلام ومات بنو اسرائيل ، ثم بعثهم الله لعلهم يشكرون (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ). (البقرة / ٥٦) بما أنّ هذه الآية لم تأت من أجل إثبات المعاد ، فلذلك لم نجعلها من ضمن آيات البحث ، وعلى الاخص بعدما احتمل عدد من المفسرين أنّ بني اسرائيل لم يموتوا عندما شاهدوا الصاعقة ، بل اغمي عليهم ، وفسر آخر الموت هنا بمعنى الجهل والبعث بمعنى العلم (ذكر الآلوسي هذين التفسيرين في روح المعاني نقلاً عن بعض المفسرين ، ج ١ ص ٢٣٩) وإن كانت هذه التفاسير على خلاف ظاهر الآية وغير مقبولة.

١٧٤

دلائل وقوع المعاد

١ ـ برهان الفطرة

٢ ـ برهان الحكمة

٣ ـ برهان العدالة

٤ ـ برهان الغاية والحركة

٥ ـ برهان الرحمة

٦ ـ برهان الوحدة

٧ ـ برهان خلود الروح

١٧٥
١٧٦

دلائل وقوع المعاد

تمهيد :

يوجد في القرآن الكريم أدلة منطقية وعقلية متعددة لإثبات المعاد ، فهو يصرّح بها حيناً ويلمح إليها حيناً آخر ، وبعبارة اخرى أنّ القرآن من خلال تلميحاته وإشاراته ارشد المسلمين إلى تتبع هذه الأدلة والبراهين.

فالقرآن المجيد لم يعتمد في الامور الاعتقادية على التعبد والكلام غير المستند ، بل ارشد إلى الأدلة العقلية ، لذا فقد تشكل الآية القصيرة أحياناً جسراً للوصول إلى دليل عقلي مهم ، ولدينا في مباحث التوحيد نماذج عديدة من هذا القبيل وسوف نلاحظ ذلك في مباحث المعاد أيضاً ـ بإذن الله ـ من خلال بحثنا هذا.

والأدلة الصريحة والتلميحية الرئيسية في القرآن المجيد هي سبعة براهين :

١ ـ برهان الفطرة.

٢ ـ برهان الحكمة.

٣ ـ برهان العدالة.

٤ ـ برهان الغاية والحركة.

٥ ـ برهان الرحمة.

٦ ـ برهان الوحدة.

٧ ـ برهان خلود الروح.

وسوف نتناول بالشرح كل واحد من هذه البراهين السبعة :

١٧٧
١٧٨

١ ـ برهان الفطرة

المراد من برهان الفطرة هنا (كما هو المراد من الاستدال بالفطرة في جميع الموارد) هو أنّ الإنسان يرى في أعماقه عقيدة وإيماناً بحقيقةٍ ما ، ويشعر من خلال الإيمان بوجود عالم الآخرة والقيامة والعدالة الإلهيّة.

ولا ريب أنّ هذا المعنى يمكن توضيحه وبيانه بعدّة طرق ، وبعد شرح آيات القرآن المجيد سوف نتعرض لهذا الأمر في فصل التوضيحات ، والآن لنتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذْلَكَ الَّدِيْنُ الْقَيّمُ). (الروم / ٣٠)

٢ ـ (لَااقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَاأُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* ايَحْسَبُ الْانسَانُ ألَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ). (القيامة / ١ ـ ٣)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

المعاد يكمن في أعماق الروح :

قد يحتمل البعض بأنّ الآية الاولى المذكورة أعلاه لا تشير إلّاإلى الفطرة التي تهدي إلى معرفة الله ، لكن التعمق في الآية يهدي إلى أنّ موضوع دلالتها عام ، وأنّها تعتبر الدين كله فطرياً ، بمعنى جميع الاصول الاعتقادية ، بل حتى عموم فروع الدين فطرية وأنّ الأحكام الشرعية موجودة في أعماق الفطرة بصورة إجمالية.

١٧٩

قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنَ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الَّدِيْنُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُون).

وهكذا نلاحظ أنّ كلمة «دين» قد تكرر ذكرها مرتين في الآية ، وليس ذلك إلّالأجل الدلالة على جميع الحقائق الدينية ، وهو سبحانه وتعالى يؤكد بالقول : «فطرة الله» ثم يضيف إلى ذلك : «لا تبديل لخلق الله» ويؤكد ثالثاً ، على هذه المسألة ويقول : ذلك الدين القيم».

وبهذا يستخدم التأكيد ثلاث مرات على أنّ الدين امر فطري بالنسبة للإنسان (١).

ويستفاد من مجموع ماورد في هذه الآية أنّ مسألة معرفة الله ليست هي القضية الوحيدة التي فطر الله الإنسان عليها ، بل إنّ الاعتقاد بالقيامة ومحكمة العدل الإلهيّة كذلك.

والجدير بالذكر هو أنّ الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية قد أشارت إلى هذا المعنى أيضاً.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه عندما سُئل عن معنى الفطرة في هذه الآية ، أجاب : هي الإسلام (٢).

وجاء في الدر المنثور نقلاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها : دين الله (٣).

وجاء في حديث مشهور روي من طرق الشيعة والسنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«مامن مولود إلّايولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويُمجسانه ...» (٤).

* * *

__________________

(١) «حنيف» بمعنى خالص أو لا يوجد فيه أي منعطف نحو الضلالة ، والأصل في الاستعمال هو «الميل» إلّاأنّها جاءت هنا بمعنى الانعطاف نحو الحق ، و «الفطرة» من مادّة «فطر» على وزن (سَطَرَ) بمعنى الشقّ ، وبما أنّ الإنشاء والخلق كأنّه شق لحجاب العدم فقد استخدمت هذه الكلمة في الخلق والإنشاء ، و «قيّم» بمعنى ثابت وذو استقامة.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٨٤ ، ح ٥٤.

(٣) تفسير در المنثور ، ج ٥ ، ص ١٥٥.

(٤) تفسير در المنثور ، ج ٥ ، ص ١٥٥ ؛ وتفسير جامع الجوامع في تعليقه على الآية المعنية ؛ وكذلك في تفسير الميزان ، ج ٢١ ، ص ١٨٨.

١٨٠