نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

٣ ـ الاعتقاد بالمعاد في كتب اليهود (١)

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ النصارى واليهود كانوا يؤمنون بعالم ما بعد الموت ، وقد اشير إلى هذه المسألة كثيراً في كتب «العهد الجديد» والأناجيل الكثيرة ، بالرغم من قلّة الإشارة إليها في كتب «العهد القديم» أي كتب اليهود.

ومن «المحتمل» أن يكون السبب في وجود هذا الفرق ، هو حب اليهود المفرط للحياة الماديّة ، والذي أشار إليه تاريخهم بوضوح ممّا يجعل الاعتقاد بالمعاد يزاحم برامجهم ، لذلك عندما كانوا يحرفون كتبهم المأثورة كانوا يثبتون كلّ ما شاهدوه يتحدّث عن الامور المادّية في الحياة بنحو أفضل وأبرز ممّا ذكر ، لكنهم كانوا يحذفون كلّ ما كانوا يواجهونه من حديث حول القيامة وعقوبة عبدة الدنيا والظلمة!

وقد وصفهم القرآن المجيد بهذا الوصف أيضاً ، قال تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). (البقرة / ٩٦)

ولكن بالرغم من جميع هذه الاحتمالات التي نشاهدها في كتب العهد القديم بالنسبة لمسألة المعاد ، فإننا نواجه عبارات واضحة الدلالة على الاعتقاد بمثل هذا العالم والتي منها :

١ ـ جاء في كتاب «النبي أشعيا» : «سوف تحيا أمواتك وسوف تبعث أجسادي» (٢).

٢ ـ وجاء في الكتاب الأول ل «صومائيل» مايلي : «إنّ الله يميتُ ويحيي ويُدخِلُ القبور ويبعث» (٣).

__________________

(١) تشتمل كتب اليهود المقدسة والتي تسمى بالعهد القديم على ٣٩ كتاباً ، خمسة منها اسفار التوراة الخمسة ، وسبعة عشر كتاباً منها تسمى بمدوّنات المؤرخين وكما هو ظاهر من اسمها فهي تحمل في طياتها ما دوّنه المؤرخون حول سِيَر الملوك والحكّام وغيرهم ، أمّا الكتب السبعة عشر الاخرى والتي ، تسمى بمدوّنات الأنبياء فهي تتألف من شرح سِيَر الأنبياء وكلماتهم القصار ونصائحهم ومناجاتهم ، وأمّا بالنسبة لكتب المسيح المقدسة (العهد الجديد) فمجموعها سبعة وعشرون كتاباً لا غير ، فالاناجيل الاربعة دوّنت على يد تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه وأثنان وعشرون كتاباً منها هي رسائل (بولص) وسائر رموز الدين المسيحي الذين بعثوا للتبشير إلى مناطق مختلفة ، وآخرها كتاب الرؤيا (ليوحنا) الذي شرح فيه مشافهاته الغيبية.

(٢) كتاب أشعيا ، باب ٢٦ ، جملة ١٩.

(٣) كتاب صاموئيل الأول ، باب ٢ ، ج ٦.

٣٠١

٣ ـ وجاء في سفر المزامير ل «داود» : «بما أنني أسير تحت ظل الموت دائماً فإني سوف لن أخاف السوء ، لأنّك معي ، وسوف تتبعني الرحمة والاحسان في كل لحظات عمري ، وسوف أسكن بيت الله إلى الأبد (١).

بهذا أشار كل من الأنبياء «صاموئيل» و «اشعيا» و «داود» إلى القيامة بإشارات بارزة ، بالرغم من أنّ هذه الأحاديث وأمثالها لم يتلقّها اليهود بقناعة ، ومن المحتمل أن يكون هذا هو السبب في حذفهم لعبارات كثيرة اخرى في هذا المجال.

قال بعض المؤرخين في معرض ذكره لنبذة من عقائد اليهود : «إنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ الأموات سوف يبعثون أخيراً (وتحل فيهم الروح من جديد) ... فيأتي المنقذ على الفور ، وبعد انتصاره يجتمع المحسنون جميعاً ويلتحق بهم (حتى) من كان في القبور فيحشرون في الجنّة التي هي مقرّه الأبدي» (٢).

وقد أشار هذا الكاتب في محل آخر إلى العقيدة الزرادشتية فقال : «سوف يبعث الأموات ؛ وتحل الروح في أجسادهم ، ويعود التنفس إلى صدورهم فيتخلّص العالم المادي من الكهولة والموت والتفسخ والانقراض ، ويبقى على هذه الحالة إلى الأبد».

* * *

٤ ـ القيامة من وجهة نظر الأناجيل

وكما أشرنا سابقاً إلى أنَّ مسألة الحياة بعد الموت قد ذكرت بوضوح أكثر في أناجيل النصارى ، فمن جملة ذلك :

جاء في انجيل «مَتّى» الذي هو من أقدم الأناجيل : «عندما يَمْتَثِلُ ابن آدم بين يدي الأب مع ملائكته ، حينئذٍ يجازى كل على قدر عمله» (٣).

وجاء في انجيل «يوحنا» مايلي :

__________________

(١) مزامير داود ، مزبور ٢٣ ، جملة ٤ إلى ٦.

(٢) تاريخ تمدن ، ول ديورانت ، ج ٣ ، ص ٦٣٧ (باختصار).

(٣) انجيل متّى باب ١٦ ، جملة ٢٧.

٣٠٢

«... تأتي تلك الساعة فيستمع جميع من في القبور نداءها فيخرجون جميعاً ، فمن عمل صالحاً يذهب إلى قيامة الحياة ، ومن عمل سيئاً يذهب إلى قيامة الجزاء» (المراد من قيامة الحياة ظاهراً هي الحياة في النعيم الإلهي التي هي ثواب الصالحين ، والمراد من قيامة الجزاء هو مجازاة المذنبين طبقاً لمقتضى قضاء العدل الإلهي) (١).

ثمرة البحث :

من خلال البحوث المذكورة يمكننا بكل وضوح الوصول إلى هذه النتيجة وهي : إنّ الاعتقاد بالحياة بعد الموت في نظر مؤَرِّخي الأديان وغيرها هو من أقدم المعتقدات لدى الأقوام المختلفة للبشر بل هو أقدم من اختراع الخط وتدوين التاريخ أيضاً ، وإنَّ جميع الأقوام والشعوب كان لديهم نوعٌ من هذه الاعتقادات التي لم تؤثّر فيها لا القومية ولا الجنس ولا اللغة ولا الخصوصية الجغرافية ، بل هي عقيدة شمولية حملها البشر على مرّ التاريخ وقبل تدوينه.

وطبقاً لما جاء مفصلاً في بحث كون المعاد فطرياً ، فإنّ شمولية هذه العقيدة نابعة من كونها ذات جذور فطرية ، فهي ذاتية وليست من الامور الطارئة على البشر من الخارج ، كي تتطوّر بمرور الزمان أو بتطور الشعوب.

* * *

__________________

(١) انجيل يوحناً ، الباب ٥ ، جملة ٢٨ و ٢٩ (اقتباس من ترجمة «وليام غلن» طبع المجتمع البريطاني للترجمة الاجنبية للكتب المقدسة سنة ١٨٧٨).

٣٠٣
٣٠٤

الإيمان بالمعاد وعلاقته بالتربية

تمهيد :

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بالمعاد له تأثير بالغ على أعمال البشر ، فأعمال الإنسان أساساً ، ما هي إلّاانعكاسات لعقائده ، أو بتعبير آخر إنّ سلوك كل إنسان له علاقة وثيقة بنظرته الكونية.

فمن يعتقد بأنّ جميع أعماله بلا استثناء ، سوف تناقش قريباً في محكمة يتّسم قضاؤها بالعلم بجميع الامور ، وأنّه لا تنفع في تبديل حكمهم شفاعة الآخرين أو الرشوة ، وأنّه لا مجال لدخول التعديلات على احكامها الصادرة ، التي سوف يثاب أو يعاقب وفق مفادها ، بل من ناحية اخرى إنَّ من يعتقد بأنّ أعماله محفوظة على الدوام وتتسم بصبغة الخلود ، وأنّها سوف تحشر معه في الآخرة لتعيين مصيره من ناحية الفخر أو الذّلة ، والطمأنينة أو العذاب ، وبأنّها تجرّه إلى السعادة الخالدة أو العذاب الأبدي ، فإنّه من البديهي أن لا يسعى مثل هذا لإصلاح نفسه فحسب ، بل يصبح حذراً جدّاً في ممارسة سلوكه وأعماله المختلفة ويتمعن فيها كثيراً ، كما هو الحال في العالم المطّلع على خواص العقاقير الطبيّة النافعة والسموم القاتلة ، فإنّ هذا يسعى لتجنيد جميع طاقاته للحصول على العقاقير النافعة ، كما أنّه يحذر كل الحذر من السموم القاتلة ، فهذه المسألة تصدق على موارد الاعتقاد بالحياة بعد الموت ومحكمة القيامة.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية الواردة في هذا المجال :

٣٠٥

١ ـ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). (الكهف / ١١٠)

٢ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). (الانسان / ٨ ـ ١٠)

٣ ـ (وَمَالِىَ لَاأَعبُدُ الِّذى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (يس / ٢٢)

٤ ـ (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَاقُوا اللهِ كَمْ مِّنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). (البقرة / ٢٤٩)

٥ ـ (قَالُوا لَنْ نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَلَنَا خَطَايَانَا). (طه / ٧٢ ـ ٧٣)

٦ ـ (فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الُمجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ ... وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ). (المدثر / ٤٠ ـ ٤٦)

٧ ـ (وَيَلٌ لِّلْمُطَفِّفينَ ... الَا يَظُنُّ اولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ). (المطففين / ١ ـ ٤ ـ ٥)

٨ ـ (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ). (التوبة / ٤٥)

٩ ـ (أَرَأَيتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ اليَتِيمَ). (الماعون / ١ ـ ٢)

١٠ ـ (بَلْ يُريدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَومُ القِيَامَةِ). (القيامة / ٥ ـ ٦)

١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ). (النمل / ٤)

١٢ ـ (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً* وَجَعَلْنَا عَلَى قُلوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً). (الاسراء / ٤٥ ـ ٤٦)

* * *

٣٠٦

جمع الآيات وتفسيرها

الإيمان بالمعاد هو المحفِّز على عمل الصالحات :

لقد عكست لنا الآية الاولى الرابطة الوثيقة بين الإيمان بالآخرة والعمل الصالح ، قال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لَقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

فالايمان بالآخرة طبقاً لمفاد هذه الآية يمكنه في الواقع أن يؤثّر في الإنسان من جهتين ، الاولى هي حثّه على العمل الصالح ، والاخرى على الإخلاص في العبودية. والظريف هو أنّ هذه الآية اطلقت على يوم القيامة عنوان «لقاء الله» ، ونحن نعلم بأنّ هذا اللقاء المعنوي والشهود الباطني هو قمّة التكامل بالنسبة للبشر ، وتذكّر ذلك اليوم بإمكانه أن يوجد دوافعاً للاخلاص الكامل والعمل الصالح. (وقد اصطلحوا على هذا بتعليق الحكم على وصف مشعر بالعلية).

وهذه الملاحظة أيضاً جديرة بالإهتمام ، وهي أنّ التطرّق إلى رجاء المعاد بدل اليقين به ، إشارة إلى أنّ مسألة المعاد ، بدرجه بحيث إنّه حتى الرجاء بتحقُّقِهِ يكفي لوحده لكي يكون منبعاً لمثل هذه الآثار (١).

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الإتيان بصيغة المضارع «يَرْجُو» التي تدل على الاستمرارية ، ثم الإتيان بعدها بالأمر بالعمل الصالح والإخلاص بصورة مطلقة ، كل ذلك من أجل الدلالة على أنّ ذلك الرجاء وهذا العمل مقترنان ويحاذيان بعضهما على الدوام.

كما يمكن الكشف عن هذه المسألة الظريفة من هذه الآية أيضاً وهي أنّ القرآن شبّه العباد بالمسافرين الّذين يعودون ليلاقوا محبوبهم بعد انصرام مدّة الفراق ، ومن البديهي أنّه يجب عليهم بأن يأتوا معهم بهدايا وأن يتصرّفوا بما يليق بهذا اللقاء كي لا يقفوا خجلين بين يدي الحبيب.

جاء في بعض التفاسير في سبب نزول هذه الآية : إنّ رجلاً أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنني أحب الجهاد في سبيل الله ولكنّي أحبُّ أن أبرز ما لديّ من مفاخر أمام الآخرين ، فنزلت هذه

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٠٦.

٣٠٧

الآية (وأكّدت على الإخلاص في العمل).

وجاء في رواية اخرى في سبب نزول هذه الآية أَنّ رجلاً أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يارسول الله إنّي أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلّالله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسّرني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يقل شيئاً ، فأنزل الله تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١).

إنّ هذه الروايات الواردة في سبب نزول الآية تدل بوضوح على أنّ الإخلاص التام يعتبر اساس العبادة والعمل الصالح ... الإخلاص الذي لا يشوبه شيء من الرياء ولا يحتوي على ايّ نوع من أنواع الشرك.

* * *

والآية الثانية تتحدّث عن القصة المعروفة وهي نذر اهل بيت النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله صيام ثلاثة أيّام واهداؤه طعام الافطار إلى «المسكين» و «اليتيم» و «الأسير»، وهذه الآية تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا الايثار الذي لا مثيل له ينبع من الإيمان بالمعاد ، قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَانُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَاشُكُوراً* إِنا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٢).

أجل إنّ من يخاف الله ويخاف يوم الجزاء ، لا ينفق ممّا فَضَل عن حاجته فحسب ، بل ينفق ممّا هو بأمسّ الحاجة إليه وذلك في سبيل الحبيب الذي لا مثيل له ، هذا بالإضافة إلى أنّه ينفقه بإخلاص تام ، ولا ينفقه من أجل الحصول على مكافأة أو اظهار الشكر على لسان من أحسَن إليهم ، وهذا انّما يدل على أنّ الإيمان بذلك اليوم العظيم هو محفّز قوي لعمل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٤١٠٩.

(٢) «عبوس» بمعنى متقطّب الوجه و «قمطرير» بمعنى صعب وشديد ، وتشبيه يوم القيامة بالإنسان العبوس هو تعبير لطيف يصوّر ما لذلك اليوم من رعب وخوف شديدين ، ثم إنّ كلمة «قمطرير» على رأي البعض مشتقة من مادة «قَمْطَر» وعلى رأي البعض الآخر هي من مادة «قُطر» (على وزن قُفل) ، ولكن المشهور هو الرأي الأول. الدهر آية ٧ ـ ٩.

٣٠٨

الصالحات والإخلاص في النيّة.

وممّا يجدر بالذكر هنا هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن تأثير الرجاء والأمل بتحقق القيامة ، على الإخلاص وعمل الصالحات ، وفي الآية الثانية جاء الحديث عن تأثير الخوف من ذلك اليوم ، فعند الجمع يتشكَّلُ لدينا ركنان اساسيان للحثّ على العمل الصالح والإخلاص وهما (الرجاء والخوف).

* * *

والآية الثالثة تنقل ما جاء على لسان رجلٍ مؤمن نهض في انطاكيا للدفاع عن مبعوثي المسيح عليه‌السلام ، وليهدي أهل تلك المنطقة للسير على خطى اولئك السفراء ، إنّ هذا الرجل كان يقول خلال دعوته للناس وكما قال تعالى : (وَمَالِىَ لَاأَعبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

فهو في الحقيقة ذكر خلال دعوته دليلين على وجوب العبودية للرب وهما :

أولاً : لأنّه خلقنا وأنّ وجودنا وعلمنا وقدرتنا كلّها منه.

وثانياً : أنّه هناك دنيا اخرى أمامنا سوف يلحق بها الجميع ، ويمتثلُ الكل بين يدي الله تعالى ومحكمته العادلة.

والملفتُ للنظر هو أنّه نسب الخلق واعطاء المواهب إلى نفسه ، أمّا بالنسبة للمعاد والقيامة فقد نسبها إليهم ، وهذا يدلّ على أنّ المورد الأول يتضمّن شكره للنعمة ، والمورد الثاني يتضمن تهديد المخالفين من عذاب الله يوم القيامة.

* * *

الإيمان بالمعاد وتأثيره على الثبات :

وفي الآية الرابعة جاء الحديث عن تأثير الإيمان بالمعاد في الثبات والصمود أمام الأعداء في سوح الجهاد ، وهي تنقل ما جاء على لسان قوم من مؤمني بني اسرائيل الذين

٣٠٩

رافقوا «طالوت» (قائد الجند الّذي نُصِّب من قبل الباري تعالى) في حربهم مع «جالوت» الملك الظالم ، وبعد خوضهم لامتحان صعب تخلّف فريق منهم ولم يبقَ في ساحة القتال إلّا عدد ضئيل ، ثم إنّ هذا العدد الضئيل انقسم بدوره إلى قسمين ، فقسم منهم استحوذَ عليهم الخوف والهلع فقالوا : (قَالُوا لَاطَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ). (البقرة / ٢٤٩)

وفي قبال هذا القسم ، قسم آخر كانوا يعلمون بأنّهم ملاقو الله حيث قالوا : (قَال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرينَ).

والتعبير بـ «يظنون» ـ على رأي كثير من المفسرين ـ وَرَدَ هنا بمعنى «اليقين بقيام يوم القيامة» وهو كذلك ؛ لأنّ هذا الحديث صدر عن الذين خاضوا مختلف أنواع الامتحانات ، ثم دخلوا ساحة الجهاد بإيمان راسخ.

ولا يخفى أنّ «الظنَّ» بمعنى الاعتقاد الناشىء من الأدلة والشواهد ، وكلّما كانت الأدلة قوية ، فإنّه سوف ينتهي إلى العلم وكلّما ضعفت شواهده فإنّه لايتجاوز حدّ الوهم.

وقال بعض المفسرين أيضاً : إنّ الظن هنا لا يصل حدّ العلم ، لكن «لقاء الله» لم يأتِ هنا بمعنى القيامة ، بل جاء بمعنى الشهادة في سبيل الله ، أي أنّ هذا الحديث كان صادراً عن الذين كانوا يظنّون بأنهم سوف ينالون وسام الشهادة الرفيع.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً ، وذلك لأنّه لا يتناسب مع «غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة» ، بالإضافة إلى أنّ «لقاء الله» الذي ذُكِر في آيات القرآن يدل عادةً على القيامة لا على الموت أو الشهادة.

وعلى أيّة حال فمن البديهي أنّ الذين يؤمنون بالقيامة لا يعتبرون الموت نهاية الحياة أبداً ، بل يعتبرونه بداية حياة أرقى فمثل هؤلاء لا يخافون الموت بل يذهبون لاستقباله بكل شجاعة وشهامة.

* * *

٣١٠

والآية الخامسة تتضمّن ما جاء على لسان سحرة فرعون عندما آمنوا بموسى عليه‌السلام ، بعد أن هددهم فرعون بالعذاب الأليم والتقتيل ، قال تعالى نقلاً عن لسانهم : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيرٌ وَأَبْقَى).

إنّ الإيمان بالقيامة وعدم الإكتراث بقيمة الحياة الدنيا ، دفع بالسحرةِ الفراعنة أن يمارسوا أقوى درجات الإيثار والتضحية ، فقد صرفوا أنظارهم عن جميع ما أعدّه لهم فرعون من الهدايا ، وصرفوا أنظارهم عن جميع الماديّات وذهبوا لاستقبال القتل والتنكيل ، ووقفوا بكل صلابة أمام استفزازات ذلك الطاغية الجبّار ، وشربوا شهد الشهادة بكل شجاعة.

أجل عندما يبرق الإيمان بالمعاد في القلوب ، فإنّه يؤجج النّار فيها بنحوٍ لا ينفع معه أيّ تهديد ، فيفقد كل شيٍ أهميته في نظر الإنسان إلّاالله ولقاء الآخرة ونعيمها الخالد.

إنّ هذا الإيمان القوي المتقد بدّلَ السحرة الذين كانوا بالأمس عبيد الدنيا وكانوا أذلة متملقين بدّلهم اليوم وحولهم إلى رجال أقوياء وشجعان صامدين (١).

والتعبير بـ (الحَيَاةَ الدُّنْيَا) هو دليل على إيمانهم بالحياة الآخرة الخالدة السامية ، والآيات التي تتلو هذه الآية أيضاً قد صرحت بوضوح أكثر على إيمان هؤلاء بالدار الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ، والجنّة والسعير والدرجات المختلفة لأصحاب الجنّة وأنواع النعم الخالدة في الجنّة.

* * *

إنكار المعاد هو السبب الرئيسي لاقتحام الفجور :

اشير في الآيات الخمس السابقة إلى الآثار الإيجابية للإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت

__________________

(١) ذُكِرَ في تفسير جمله «والذي فطرنا» احتمالان الأول أنّ الجملة تدل على القسم ـ كما ذكرنا في تفسيرها أعلاه ـ والثاني أنّ الجملة معطوفة على جملة سابقة ، ففي هذه الحالة يصبح المعنى بهذا النحو : «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا» لكنّ المعنى الأول أقرب على الأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ السحرة في عدّة آيات كانوا يقسمون بعزّة فرعون ، وهنا أقسموا بخالق جميع البشر!.

٣١١

في أبعاد مختلفة وحيثيات متعددة ، وابتداءً من الآية السادسة فما بَعدها اشير إلى الآثار السلبية لعدم الإيمان بالمعاد.

ففي الآية السادسة قال تعالى : (فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الُمجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (١).

فينادي أصحاب السعير ليبّينوا أسباب دخولهم النار ويلخصونها في أربعة عوامل هي : ترك الصلاة ، وترك اطعام المساكين ، ومعاشرة أهل الباطل ، وأخيراً التكذيب بيوم الجزاء على الدوام ، قال تعالى بلسان حالهم (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدَّينِ).

إنَّ هذه الآيات تدلَّ بوضوح على أنّ أحد عوامل السقوط في احضان جهنّم ، وَالعامل الأساس المؤدّي إليها هو إنكار يوم الجزاء ، الذي يجعل من الإنسان موجوداً غير مكترثٍ ولا مسؤول وفاقد للتقوى والإيمان.

والجدير بالذكر هو أنّ المتسائلين لم يسألوهم : لماذا ألقاكم الله في النار؟ بل كان سؤالهم : ما هو السبب الذي أدّى إلى دخولكم النار؟ ، وذلك لتوضيح القانون الطبيعي الذي يربط «المنكرات والعقائد السيئة» ب «دخول جهنّم».

وممّا يجدر الإشارة إليه أيضاً هو أنّ العامل الأول من هذه العوامل الأربعة ، هو ترك الارتباط بالله (الصلاة) ، والثاني هو ترك الارتباط بالضعفاء (اطعام المساكين) ، والثالث هو معاشرة أهل الباطل (الخوض مع الخائضين) ، والرابع هو عدم الإيمان بالقيامة.

والتأكيد على «يَومِ الدِّينِ» (يوم الإدانة) من بين أسماء القيامة هو للدلالة على هذه الحقيقة وهي أنّ المحرّك الرئيسي نحو الإيمان والعمل الصالح هو الاعتقاد بأنّ يومَ القيامة هو يوم الإدانة والجزاء.

* * *

__________________

(١) «سَقَر» على وزن «سَفَر» في الأصل من مادة «سَقْر» على وزن «فَقْر» وهي بمعنى التبدّل والذوبان إثر حرارة الشمس ، وعدّ البعض (مثل صاحب مقاييس اللغة) من معانيها الاحراق والاحتراق أيضاً ، وفي «صحاح اللغة» عدّها من أسماء النار ، وعلى أيّة حال فإنّ انتخاب هذا الاسم لجهنم هو من أجل أنّ جميع المعاني مجموعة فيها ، وجاء في كتاب «التحقيق» أَنّ سقر هي نفس النار لا محلّها كما هو الحال في جهنم.

٣١٢

وتحدثت الآية السابعة عن «المطففين» (الذين ينقصون الكيل) ، قال تعالى : (وَيَلٌ لِّلْمُطَفِّفينَ ... الا يَظُنُّ اولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمينَ).

ومن المحتمل هنا أن يكون الظن بمعنى اليقين ، أو بمعنى الظن بالمعنى الثاني ، والهدف هو التأكيد على هذا الواقع وهو أنّ يوم الجزاء يبلغ من الأهميّة والعظمة ، ممّا يجعل من يظن وقوعه يحرص على عدم ارتكاب المعصية فضلاً عن أن يكون متيقناً.

لكن الكثير من المفسرين انتخبوا المعنى الأول أيضاً ، كما جاء في بعض الآيات السابقة مثل الآية ٢٤٩ من سورة البقرة ، وقد أكّدت الروايات على هذا المعنى أيضاً (١).

على أَىِّ حال فإنّنا إن فسّرنا الظنّ باليقين أو بالظن الذي هو أقل درجةً من اليقين ، ففي كلا الحالتين تعتبر الآية دليلاً على أنّ الإيمان بالقيامة له أثر احترازي مهم ، في ترك الظلم والكف عن غصب حقوق الناس وأمثال ذلك.

فكلما قطع أحدٌ ، أو حتّى لو احتمل أنّ هناك محكمة عظيمة ، يُحاسَبُ فيها على الأعمال الصالحة أو الطالحة حتى لو كان مقدارها «مثقال ذرة» ، وينالُ جزاءه على كل عمل ، وأنّه لا مفر له من الامتثال أمام تلك المحكمة ، فمن البديهي أن يراقب الشخص أعماله في هذه الدنيا ، وإيمانه هذا واعتقاده سوف يؤثّر في تربيته.

ومن الطبيعي أنّه ليس المراد هنا بأنّ كل من ينقص الكيل ، أو يرتكب ذنباً آخر لا يؤمن بالمعاد وهو كافر ، بل المراد هو أنّ هؤلاء إمّا أن يكون إيمانهم ضعيفاً جدّاً أو أن يكونوا غافلين ، وإلّا فكيف يؤمن الإنسان إيماناً راسخاً بمثل هذا اليوم ويبتلى بالغفلة أيضاً ويغرق بمثل هذه الذنوب.

* * *

لو آمنوا بالمعاد لما ارتكبوا الذنوب :

تحدثت الآية الثامنة عن الذين تقاعسوا عن الاشتراك في الجهاد عندما صدر الأمر بهذه

__________________

(١) ورد في احدى الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : «الظنّ ظنان : ظنُّ شكٍّ وظنُّ يقين ، فما كان من أمرِ المعاد من الظنّ فهو ظنُّ يقين وما كان من أمرِ الدنيا فهو على الشك». (تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٨ ، ح ٦) كما جاء في عبارة الراغب أيضاً إنّ (ظنّ) في اللغة تستعمل في كلا الموردين.

٣١٣

الفريضة الإلهيّة ، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتحجّجون بحجج واهية ، ليحرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يأذن لهم بعدم الذهاب إلى سوح القتال ، وبهذا كانوا يريدون أن يتخلَّصوا من ثقل هذه الفريضة المهمّة ، من دون أن يكونوا في الظاهر قد ارتكبوا معصية!

قال تعالى : (لَايَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَانْفُسِهِمْ). (التوبة / ٤٤)

بل عندما يأتي الأمر بالجهاد يذهبون نحو ميادين القتال بكل اشتياق ورغبة ، فهل يحتاج القيام بالواجب إلى الاذن؟

ثم يضيف : (إِنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ).

وهذا لا ينحصر طبعاً بفريضة الجهاد ، فالمؤمنون الذين لديهم اعتقاد بالمعاد ، يتسلحون بعزم راسخ وإرادة قوية لا تتزلزل في جميع المجالات ، عند انجازهم للتكاليف الإلهيّة الموكلة إليهم ، لكن عديمي الإيمان والذين ضعف إيمانهم وتزلزل ، وبالأخص المنافقون يسعون دائماً للتخلص من عبء التكاليف ، مع أنّهم في نفس الوقت يحاولون أن يظهروا بمظهر من يلتزم بالموازين الشرعية وأنّ الشرع قد استثناهم من هذا المجال ، ويالها من علامة حسنة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين الذين يضمرون الكفر!.

* * *

وتحدّثت الآية التاسعة عن الذين يتعاملون بعنف مع الأيتام بسبب عدم إيمانهم بيوم الدين ، والذين لا يشجعون الآخرين على اطعام المساكين ، قال تعالى : (أَرَأَيتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ اليَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

وكلمةُ «يدعّ» مشتقة من مادة «دعّ» (على وزن سدّ) وهي في الأصل بمعنى الطرد المقرون بالغلظة ، وكلمة «يحُضُّ» مشتقة من مادة «حضّ» وهي بمعنى تشجيع الآخرين على القيام بعملٍ ما ، وبما أنّهما جاءتا في الآية المذكورة بصيغة المضارع فهما تدلان على الاستمرار ، و «طعام» بمعنى «إطعام».

وبما أنّ «الفاء» في «فذلك» في الآية المذكورة «للسببية» فهذا يدل بوضوح على أنّ

٣١٤

إنكار يوم الجزاء هو المنبع الرئيسي لهذه الأعمال السيئة والمشؤومة ، فهو لا يحرم الأيتام فحسب ، بل يمنعهم بغلظة وشدّة ، ولا يكف نفسه عن اطعام المساكين فحسب ، بل يدفع الآخرين أيضاً على الكف عن اطعامهم ، ويقف حائلاً دون تصدّق الآخرين عَليهم ، وذلك لأنّه لا يخاف عاقبة سوء أعماله.

إنّه لا يؤمن بمحكمة العدل الإلهيّة ولا يؤمن بالحساب والثواب والعقاب ، فهو لا يعتقد إلّا بالحياة الدنيوية المحدودة والامور المادية فقط ، لذا فهو مشغوف بحبها ولا يفكّر بسواها.

وجملة «أَرأَيتَ» مأخوذة من مادة «الرؤية» ، ويحتمل دلالتها على الشهود العيني أو على الشهود اللّبي ، وهي بمعنى العلم والمعرفة ، وعلى أيّة حال فالآية تفيد هذا المعنى وهو : إنّك إنْ لم تعرف من ينكر يوم الجزاء فهم يحملون علائم واضحة ، إحداها أنّهم قساة القلوب ولا يرحمون اليتيم ، والاخرى أنّهم لا يَعبأون بحال المعدمين ، فبهذه الصفات السيّئة يمكنك تمييزهم بوضوح ، وتلمسُ حقيقة غيابِ الإيمان بالمعاد في وجودهم.

وقد ذكر المفسرون أسباباً عديدة في نزول هذه الآيات ، منها : إنّ هذه الآيات نزلت في شأن (أبو سفيان) ، فإنّه كان يذبح في كل اسبوع إثنين من الابل (لكنّه كان يحتفظ بها لنفسه وذويه) ، فجاءه في أحد الأيّام فقير يطلب منه شيئاً ، فدفعه أبوسفيان بعصاه إلى الخلف (فنزلت هذه الآية إِثر تلك الحادثة).

ونقل الفخر الرازي عن «الماوردي» أَنّ هذه الآية نزلت في شأن (أبوجهل) ، فأبو جهل كانت له وصاية على أحد الأيتام ، فجاءه اليتيم وهو عريان ، وطلب من أبي جهل أن يمدّه بشي من أمواله ، لكن أبا جهل طرد اليتيم بعنف ، فقال وجهاء قريش لليتيم اليائس : اطلب من محمد أن يذهبَ إلى أبي جهل فيشفع لك عنده ، وكانوا يريدون بذلك الاستهزاء والسخرية ، فتوجَّهَ الطفل إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لا يعلم الهدف من كلام وجهاء قريش ، وطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشفع له عند أبي جهل ، وكان من عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يردّ طلب محتاج أَبداً ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله فاصطحب الطفل وذهب إلى أبي جهل ، وعندما وقع نظر أبي جهل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رحّب به (وقد ملأ وجوده العجب) ، ثم أعطى اليتيم مالاً كثيراً ، بعد ذلك وجَّهَ

٣١٥

وجهاء قريش اللوم لأبي جهل على فعله ، وقالوا له أملكك حبُ محمدٍ يا أبا جهل؟ فقال كلاً والله إنّ حبّه لم يدخل قلبي ، لكنني شاهدتُ حراباً على يمينه وشماله فخفت إنْ لم البِّ دعوته أن تمزقني تلك الحراب (١)!.

وعلى أيّة حال فإنّ دلالة الآية على تأثير الإيمان بالمعاد على سلوك الإنسان ظاهر بكل وضوح.

* * *

وفي الآية العاشرة طُرِحت نفس هذه المسألة أي العلاقة بين «الإيمان بالحياة بعد الموت والحساب والجزاء والقيامة» وبين «أعمال الإنسان في هذه الدنيا والمسائل المتعلّقة بالتربية» ولكن بنحوٍ آخر ، قال تعالى : (بَلْ يُريدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَومُ القِيَامَةِ).

وَهل يمكن للإنسان الذي يؤمن بعظمة الله ، وقدرته على خلق جميع هذه الأجرام السماوية والمجرّات والعوالم العجيبة ، أن ينكر قدرته على احياء الموتى؟!

بناءً على هذا لا يكون الهدف من انكار هذا الإنسان إلّاالتحرر من القيود من أجل اشباع جميع غرائزه ، وليبسط يديه في الظلم وهتك حدود العدالة وارتكاب الذنوب ، أنّه يريد أن يخدع نَفسهُ بهذا الاسلوب حتى تصل به القناعة المزيّفة بأُسلوبه هذا حدّاً يجعله يخلق الاعذار والتبريرات لإخفاء قباحة أعماله عن أنظار الناس ، إنّه يريد أن يحطّم السدّ العظيم الذي أوجده الإيمان بالمعاد للمنع من ارتكاب أي نوع من المعصية ، وهذا الأمر لا يختص بالزمان الماضي ، فاليوم كالأمس أيضاً.

لهذا ذُكِر في البحوث المتعلّقة بالدوافع نحو التمايل إلى الماديّة وإنكار المبدأ والمعاد ، أنّ إحدى تلك الدوافع هو الهروب من عِبءِ المسؤوليات وتجاوز السنن الإلهيّة وخداع الوجدان الإنساني.

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ١١١ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٢.

٣١٦

والمراد من «الإنسان» في هذه الآية هو نفس ذلك الإنسان الذي جاء الحديث عنه في بداية سورة الدهر ، ذلك الإنسان الذي انكر القيامة ، وكان يظن بانّ الله لا يقدر على جمع العظام الرميم واحيائها مرةً أخرى ، والفرق هنا ـ كما ورد في تفسير «الميزان» ـ عدم استخدام الضمير واستبداله بالاسم الظاهر (كلمة الإنسان) ، وهذا في الواقع هو من أحد أشكال اللوم والتحقير وكأنّه قال : كيف لمن حصل على مقام الإنسانية أن يسلك هذا الطريق الخاطيء (١).

أمّا استعمال صيغة المضارع في (يُريدُ ـ يفجُرَ) التي تستعمل عادة للدلالة على الاستمرارية ، فقد جاء هنا للدلالة على هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان انانيٌّ ويحبّ الذات على الدوام ويريد الاستمرار على المضيّ في فجوره.

و «فجور» : من مادة «فجر» بمعنى تمزُّق الشيء بشدّة ، وبما أنّ الذنب يسبب خرق حُجب التديّن لذا استخدمت هذه الكلمة في هذا المورد (٢).

وأمّا كلمة «أمام» (على وزن مقام) فهي في الأصل بمعنى الجهة الإمامية وهي تقابل «الخلف» وبتعبير آخر إنّ «أمام» بمعنى ما يقابل وجه الإنسان ، وبما أنّ الجهة المقابلة لوجه الإنسان ذات أهميّة بالغة بالنسبة له ، لذا استخدمت هذه الكلمة هنا (لأنّ مادة «أمّ» بمعنى «قصدَ»).

لكنّه من الواضح أنّ استخدام هذا التعبير هنا هو من أجل الدلالة على مستقبل العمر ، وهي ظرف مكان ـ على حدّ تعبير بعض المفسرين ـ وقد استخدمت للدلالة على ظرف الزمان من باب الكناية (٣) ، والمراد هنا في الحقيقة هو أنّ الإنسان المتصف ذاتاً بحبّ الذات ، يتّخذ من إنكار المعاد ذريعة لكسب الحرية في ارتكاب الذنوب خلال فترة حياته.

أمّا ما احتمله البعض أنّ «أمام» للدلالة على القيامة فإنّه بعيد جدّاً ؛ وذلك لأنّها لا تتلاءم مع مادة الفجور ، بالإضافة إلى أنّ هذا المعنى يقطع صلة الترابط الموجود بين الآيات.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٩٠.

(٢) مفردات الراغب مادة (فجر).

(٣) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٤٥ ، وقد أخذ أيضاً بهذا المعنى صاحب الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٩٠.

٣١٧

الإيمان بالمعاد وعلاقته بالرؤية الواقعية :

طرحت هذه المسألة بشكل جديد في الآية الحادية عشرة ، حيث قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ).

وكما اشتهر لدى علماء الأدب وعلماء علم اصول الفقه أنّ هذا هو من باب تعليق الحكم على الوصف ، وهوَ يُشعِرُ بعلّية الوصف للحكم ، بناء على هذا إنْ كانت الآية تنسب تزيين الأعمال إلى عدم الإيمان بالآخرة فيكون مفهومها هو : عندما يفقد الإنسان الإيمان بالآخرة فإنّه سوف يبتلى بهذه العاقبة ، (فتأمّل).

كما يمكننا الحصول على هذه النتيجة أيضاً بإعمال شيء من التحليل وهي : إنّ الإِيمان بالآخرة بمعنى الإيمان بوجود محكمة عادلة يباشر الباري تعالى فيها القضاء ، وإنّ الشهود هم الملائكة ، وإنّ الكذب والاحتيال والشفاعة والرشوة لا تنفع هناك ، فالايمان بوجود هذه المحكمة يبعث الإنسان على التدقيق في أعماله ، ويجعله ينظر إليها من منظار الواقع.

أمّا بالنسبة لمن يبتعد عن هذه الحقيقة ويشعر بأنّه حرّ أمام الفوارق الموجودة بين المفاهيم من حسنها وسيئها ، فإنّ ذلك يؤدّي بالإنسان الأناني إلى الإتيان بالاعذار والتبريرات لخداع نفسه وخداع الآخرين في اضفاء صبغة التقوى والصلاح على شهواته الجموحة ، واظهار السيئات بمظهر جميل ممّا يؤدّي به في النهاية إلى الوقوع في أحضان الحيرة والضياع ، (وهذا يستفاد من فاء التفريع التي تدلّ على السببية) وهذا من أخطر النتائج المترتبة على إنكار المحكمة الإلهيّة العظمى.

ومن الجدير بالالتفات هنا هو أنّ تزيين الأعمال نُسبَ إلى الله ، بينما اسند ذلك إلى الشيطان وحب الهوى في آيات اخرى من القرآن المجيد (في ثمانية موارد) ، كما ورد بصيغة المبني للمجهول «زُيّن» في آيات عديدة اخرى (في عشرة موارد) ، وإذا ما تأمّلنا في ذلك لوجدنا أَنها تشير إلى حقيقة واحدة هي :

إذا اسند التزيين إلى الله فذلك لأنّ الله هو مسببب الأسباب ، لأنّ كل ما للمخلوقات من أفعال تنتهي أخيراً إلى الله ، أو بتعبير آخر إنّ الله جعل هذا الأثر مترتباً على إنكار يوم القيامة

٣١٨

أو على تكرار أعمال السوء ، كي تظهر هذه الأعمال بمظهر حسن في نظر الإنسان وتُسْلَبُ منه قوّة التمييز بين الحسن والقبيح.

أمّا إذا اسند التزيين إلى حب الهوى أو إلى الشيطان فذلك لأنّ هذين هما العلّة القريبة والمباشرة في تزيين الأعمال السيئة.

وأمّا لو اسند التزيين إلى الفاعل المجهول فذلك للدلالة على أنّ طبيعة إنكار القيامة أو الاصرار على ارتكاب السيئات ، تقتضي اعتياد الإنسان على تلك الأعمال أولاً ، ثم تصبح تلك الأعمال محبوبة لديه وتلبس ثوب الحسن في نظره.

ومن البديهي أنّ تزيين الأعمال يجّر وراءه الضياع الدائم والحيرة المستمرّة في وادي الضلالة والانحراف ؛ وذلك لأنّ الإنسان لا يكف عن ممارسةِ عمل ما إلّاإذا ما وجده سيئاً وَيُلحق به الأذى.

ويتضح ممّا قلناه أعلاه أنّ من فسّر الآية بأنّ الله يُزيّن أعمال هؤلاء في نظرهم ، فيصيبهم الغرور فيبتلون بالضياع ، أنّ تفسيره غير مناسب ، ومن المحتمل إنّ هؤلاء اتجهوا إلى هذا التفسير بسبب عدم تمكنهم من حل مغزى ما جاء في الآية من نسبة التزيين إلى الله ، ففسروها بهذا التفسير المخالف للظاهر.

* * *

وفي الآية الثانية عشرة والأخيرة من الآيات المعنية بالبحث توجّه تعالى بالخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (وَإِذَا قَرَأْتَ القُرَآنَ جَعَلْنْا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً) ، ثم اضاف تعالى : (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً).

وهنا أيضاً نواجه مسألة «تعليق الحكم على الوصف» أي أننا نرى أنّ مسألة وجود الحجب المعنوية بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين وإسدال الحجب على القلوب وانسداد آذانهم تَرَتّبتَ على وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة ، وهذا يدل بوضوح على أنّ عدم الإيمان بالمحكمة الكبرى يؤدّي إلى ظهور هذه الحجب والابتعاد عن إدراك الواقع ، ودليل ذلك

٣١٩

واضح وهو : إنّ عدم الاكتراث بالحساب وجزاء الأعمال يؤدّي بالإنسان إلى ركوب مركب الغرور والأنانية والعناد والتعصّب وعبادة الهوى ، ففي مثل هذه الحالة كيف يتمكّن من أن يرى الحقائق كما هي ويؤمن بها.

فهل يوجد حجاب أسوأُ من حجاب الهوى ، وهل يوجد مركب أسوأُ من مركب الأنانية والغرور؟

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من «الحجاب المستور» هو حجاب وجدار غير مرئي كان يحجب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أنظار المشركين ، حين تلاوته للقرآن كي لا يرونه ليكف عنه أذاهم ، وقد روي في سبب نزول الآية ما يشابه ذلك أيضاً.

لكنّ ظاهر الآية ينافي هذا التفسير ؛ وذلك لأنّ ظاهرها يدل على أنّ هذا الحجاب يمنع من فهم وإدراك الحقائق واللطائف القرآنية ، بناءً على هذا يجب القبول بأنّ المراد من هذا «الحجاب المستور» هو تلك الحجب المعنوية ، التي تمنع عيون وآذان وقلوب المشركين عبّاد الهوى الأنانيين المتعصبين من إدراك وفهم المعارف القرآنية السامية.

وهذا هو ما أشارت إليه الآيات المتعددة ، والذي بحثناه مفصلاً في الجزء الأول من هذا الكتاب تحت عنوان «حُجُب المعرفة» (١).

وجاء في ما يقارب هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُّنكِرَةٌ وَهُمْ مُّستَكْبِرُونَ). (النحل / ٢٢)

فهنا اشير أيضاً إلى أنّ «عدم الإيمان بالآخرة» هو من عوامل «إنكار الحق والمكابرة».

* * *

ثمرة البحث :

اتّضح من خلال ما جاء في الآيات الإثنتي عشرة الآنفة الذكر (والآيات المشابهة) أنّ

__________________

(١) وصف «الحجاب» ب «مستور» يستخدم أحياناً في معناه الظاهري ، أي «الحجاب اللامرئي» وأحياناً قيل : إِنّ اسم المفعول هنا جاء بمعنى اسم الفاعل فمستور هنا جاء بمعنى ساتر.

٣٢٠