نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

المعاد الجسماني

٢٤١
٢٤٢

المعاد الجسماني

تمهيد :

هل يختص المعاد بالجانب الروحي فقط؟ أي هل ينفصل الإنسان بعد موته عن جسمه إلى الابد فيتفسخ جسمه ويفنى ولا يتعلق خلوده في الدار الآخرة إلّابالروح؟ أم تتحقق مسألة المعاد بكلا الجانبين فيعاد الجسم والروح معاً ويتحدان مرة اخرى هناك؟ أم لا يعاد إلّا الجسم لوحده لأنّ الروح ماهي إلّاآثار الجسم ومتعلقاته؟

أم يعاد الجسم والروح معاً ، ولكن الجسم الذي يُعاد هناك هو غير الجسم المادّي المؤلف من العناصر المادية بل هو جسم شفاف أرقى من الجسم الموجود في الدنيا فيكون المعاد ذا حيثية «روحية» وحيثية «نصف جسمية»؟

إنّ لكل واحدة من هذه النظريات الأربعِ المذكورة أنصاراً كثيرين ، لكنّ ما يستفاد من القرآن والذي دلت عليه مئاتُ الآيات هو أنّ المعاد يتمّ بالروح والجسم معاً (وبهذا الجسم المادي) وبما أنّ اعادة الروح من الامور البديهية لدى العلماء والفلاسفه فقد عبّروا عن المعاد ب «المعاد الجسماني» مع أنّ مرادهم من ذلك هو «المعاد الجسماني والروحي».

بعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى القرآن المجيد لنمعن خاشعين في الآيات التي تحدثت عن المعاد الجسماني :

ونظراً لكثرة هذه الآيات فقد قسمناها إلى «تسع مجموعات» واخترنا من كل مجموعة عدّة نماذج وهي كما يلي :

* * *

٢٤٣

المجموعة الاولى :

وهي الآيات التي تجيب على اعتراضات منكري المعاد الذين كانوا كثيراً ما يسألون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف نحيى ثانيةً بعد أن نصبح تراباً وعظاماً رميمة؟ فتقول لهم هذه الآيات إنّ الله قادرٌ على أن يحيي العظام المتفسخة وأن يُلبسها ثوب الحياة (أجل إنّه يحيي هذه الأجسام المؤلفة من العناصر المادية) ، ومن هذه الآيات مايلي :

١ ـ (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ العِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى انْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). (يس / ٧٨ ـ ٧٩)

٢ ـ (ايَحْسَبُ الْانْسَانُ الَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى انْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ). (القيامة / ٣ ـ ٤)

٣ ـ (ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُوْنَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوْعَدُونَ). (المؤمنون / ٣٥ ـ ٣٦)

٤ ـ (وَكَانُوا يَقولُونَءَاذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماًءَانَّا لَمَبْعُوثُونَ* اوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ* قُلْ إِنَّ الْاوَّلِينَ وَالأَخِرينَ* لَمجْمُوعُونَ الَى مِيقَاتِ يَومٍ مَّعْلُومٍ). (الواقعة / ٤٧ ـ ٥٠)

٥ ـ (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِانَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُواءَاذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاًءَانَّا لَمَبعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيْداً) (١). (الاسراء / ٩٨)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

كيف تحيى العظام البالية؟

بما أننا تعرضنا لتفسير الآيات المذكورة وبحثناها في المواضيع السابقة فسوف نكتفي بالتركيز على بحث أجزاء منها تتعلق ببحثنا هذا :

__________________

(١) وهناك آيات متعددة اخرى أيضاً وردت في القرآن المجيد ولكن بسبب مشاكلتها في المضمون مع الآيات المذكورة اكتفينا بذكر الآيات أعلاه.

٢٤٤

فالآية الاولى تجيب بصراحة عن هذا السؤال وتقول : (يُحْيِيهَا الَّذِى انْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ). وجملة «يُحييها» تدل على احياء الأجسام بكل وضوح ، ولو لم يكن في القرآن الكريم إلّا هذا التعبير لكان وافياً في إثبات هذه المسألة ، مع أنّنا ذكرنا آنفاً بأنّ هناك مئآت الآيات التي وردت للدلالة على إعادة الأجسام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ الآية المذكورة تؤكّد على احياء نفس هذا «الجسم المؤلف من العناصر المادية» ، لا جسم آخر مشابه له أو جسم برزخي ونصف مادي.

والآية الثانية ابطلت ادّعاء اولئك الذين يرون أنّ الله لا يعيد عظام الإنسان فقالت بكل وضوح : إننا لا نعجز عن إعادة الإنسان مرّة اخرى (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى انْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ).

ووضوح هذه الآية في الدلالة على المعاد الجسماني ممّا لا يشوبُهُ أيّ ريب.

وأشارت الآية الثالثة إلى مجادلة قوم (١) ثمود لنبيهم صالح ، إذ قالوا في محاورتهم وهم يقرّعون نبيّهم : (ايَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُوْنَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوْعَدُونَ).

فهذه التعبيرات تشير إلى أنّ نبي هؤلاء القوم وهو صالح أو هود عليه‌السلام كان يعدهم بأنّ أجسامهم سوف تعاد يوم القيامة ، إلّاأنّهم عارضوه بشدّة وأخيراً ابتلاهم الله بعذاب شديد واهلكهم عن آخرهم بسبب تكذيبهم (كما دل على ذلك ما ورد في هذه الآيات من سورة الحج).

وفي الآية الرابعة كان الحديث عن «أصحاب الشمال» وقد كرر القرآن ذكر هذا المعنى فقال : (وَكَانُوا يَقُولُونَءَاذَا مِتْنا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماًءَانَّا لَمَبعُوثُونَ).

وهذا الذم العنيف في الواقع جاء دفاعاً عن هذه الحقيقة وهي أنّ العظام التي أصبحت تراباً سوف تلبس ثوب الحياة ثانية.

والآية الخامسة والاخيرة تحدثت عن جميع الكفار أيضاً ، قال تعالى : (ذَلِكَ جَزَاوُهُمْ

__________________

(١) لم يصرّح في الآية المذكورة باسم القوم أو اسم نبيهم ، فالبعض يرى أنّ هؤلاء هم قوم ثمود (قوم صالح) والبعض الآخر يرى أنّهم قوم عاد (قوم هود) ، ولكن بالالتفات إلى نوع العذاب (وهو الصيحة) الذي ذكرت في ذيل الآية فإنّه من المناسب أن يكونوا هم قوم ثمود.

٢٤٥

بِانَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُواءَاذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاًءَانَّا لَمَبعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً).

ويستفاد من هذه الآية بالإضافة إلى ماتقدم بأنّ منكري المعاد الجسماني هم من أصحاب النار ، وهذا دليل آخر لإثبات المدّعى.

ومن خلال الآيات المذكورة نصل بسهولة إلى هذه النتيجة وهي إن الجسم بعد فنائه يعود إلى الحياة مرّة اخرى.

* * *

المجموعة الثانية :

وهذه المجموعة هي عبارة عن الآيات التي صرّحت بخروج البشر من القبور يوم القيامة ، فالقبور هي محل رقود الأجسام وهذا واضح من دون الحاجة إلى دليل ، وهذا التعبير دليل واضح آخر على المعاد الجسماني.

وقد ورد هذا النوع من الآيات في القرآن بكثرة أيضاً إلّاأننا نكتفي بذكر نماذج منها :

١ ـ (وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ) (١). (الحج / ٧)

٢ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَاذَا هُمْ مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢). (يس / ٥١)

٣ ـ (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ). (يس / ٥٢)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

كيف يُبعث من في القبور؟

طُرحت الآيات المذكورة أعلاه تحت ثلاثة عناوين (الخروج من القبور والأجداث

__________________

(١) جاء نفس المضمون في سورة الانفطار الآية ٤ والعاديات الآية ٩.

(٢) ورد هذا المعنى في آيتين أُخريين من القرآن الكريم (المعارج ٤٣ ؛ والقمر ٧).

٢٤٦

والمرقد) وإذا شفعناها بالآيات المشابهة لأصبح عددها سبع آيات ، وكل هذه الآيات تبحث بوضوح في مسألة المعاد الجسماني.

ففي الآية الاولى ، قال تعالى : (وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ).

وممّا لا شك فيه هو أنّ ما يَرْقُد في القبور هي أجسام البشر ، وهذا التعبير يشير إلى أنّ ما يُحيى هو ذلك الجسم المادي.

* * *

وورد التعبير بـ «الأجداث» في الآية الثانية بدلاً من القبور ، و «الأجداث» جمع «جَدَث» (على وزن قَفَصْ) بمعنى القبر ، قال بعض اللغويين إن «جدث» لغة «أهل تهامة» أمّا «أهل نجد» فإنّهم يستعملون كلمة «جدف» بدلاً عن «جدث».

على أيّة حال فإنّ هذا التعبير لا يدلّ إلّاعلى المعاد الجسماني ، وذلك لأنّ القبور تضم في باطنها أجساد البشر أو عظامهم البالية وترابهم ، وخروج الناس من القبور يوم القيامة هو دليلٌ حيّ على احياء تلك الأجساد.

* * *

وفي الآية الثالثة نواجه تعبيراً ثالثاً هو مسألة بعث الأموات من «مرقدهم» ، ويتمّ ذلك بهذا النحو وهو إنّ مجموعة من الكفار عندما يبعثون من مرقدهم ويرون أنّهم عادوا للحياة وقامت القيامة يضجون بالصياح والعويل ويقولون : (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا هذَا).

و «مرقد» من مادّة «رقود» و «رقاد» بمعنى النوم ليلاً أو نهاراً ، ويرى بعض اللغويين أنّه يختص بالنوم ليلاً ، وقيل أيضاً إنّه في الأصل بمعنى الاستقرار والنوم عند نزول البلايا المعضلات (أي النوم المُسكِّن) لذا استُخدم في المكث عند معالجة المعضلات أيضاً.

٢٤٧

بناءً على هذا فـ «المرقد» بمعنى المقر ومحل الاستراحة ومحل النوم ، واطلق على القبر من أجل أنّ الميت يتحرر من الابتلاءات النازلة في هذه الدنيا وكأنّه يغرق في القبر في نومٍ مُسكّن ومُهدىء (١).

واستعمال هذا التعبير بشأن القبور لوجود شبه كبير بين النوم والموت ، من أجل هذا قالوا النوم أخُ الموت.

وقال البعض : إنّ هدف المنكرين من استعمال هذا التعبير هو أنّهم أرادوا بذلك أن يظهروا شكهم مرّة اخرى ولسان حالهم يقول هل كنّا نياماً فاستيقظنا أم كُنّا أمواتاً فعدنا للحياة؟! ولكن لا يلبثون حتى يجيبوا عن سؤالهم هذا ويعترفوا بالحق قائلين : (هَذا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ).

فهؤلاء ومن خلال وصفهم الله بـ «الرحمن» كأنّهم يريدون التمسك بالرحمة الإلهيّة بالإضافة إلى اعترافهم بخطئهم لعلهم يصلحون ماضيهم الأسود بسلوكهم هذا الطريق.

ومهما يكن من شيء فإنّ هذا التعبير دليل آخر على صحّة المعاد الجسماني ، وذلك لأنّ المعاد إن كان بالروح فإنّ ذكر «المرقد» لا يكون له أيّ معنى.

* * *

المجموعة الثالثة :

وهي الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان من التراب وعودته إلى التراب ثانياً وحشره مرّة اخرى منه ، مثل :

١ ـ (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى). (طه / ٥٥)

٢ ـ (وَاللهُ انْبَتَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ اخْراجاً). (نوح / ١٧ ـ ١٨)

٣ ـ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ). (الاعراف / ٢٥)

* * *

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ وصحاح اللغة ؛ والتحقيق في كلمات القرآن مادة (رقد).

٢٤٨

جمع الآيات وتفسيرها

من التراب نخرجكم تارة اخرى

تخللت الآية الاولى قصة موسى وفرعون ، لكن الخطاب كان من قبل الله تعالى عندما أشار إلى الأرض في الآيات السابقة ، قال تعالى : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى).

فنحن جميعاً خُلقنا من التراب ، إمّا لأننا خلقنا من آدم وآدم من تراب ، وإمّا من أجل أنّ جميع الأغذية (من نباتات أو حيوانات تتغذى على النباتات) التي ينشأ منها لحمنا وجلدنا وعظامنا ، قد خُلقت من التراب فمن البديهي أن نعودَ جميعاً إلى التراب ونُبعث ثانيةً من التراب ، وهذا دليل واضح على إثبات المعاد الجسماني ، وهذا التعبير ، بالإضافة إلى كونه جواباً لمن يقول بعدم إمكان تحقق المعاد بعد تحلل الأجسام وتحولها إلى تراب ، وجواباً لمن غفلوا عن كونهم خلقوا من التراب ، فهو انذارٌ لجميع الطغاة والمستكبرين المتغطرسين أمثال فرعون وأعوانه لاعلامهم بأنّهم كانوا في بداية الأمر تراباً وسوف يعودون إلى التراب ويخرجون تارةً اخرى من التراب ويُحضرون في محكمة العدل الإلهيّة.

إن أدنى تأمّل في مراحل وجود الإنسان يكفي لتحطيم غروره واحياء روح التواضع والتسليم أمام الحق في أعماقه.

* * *

والآية الثانية جاءت على لسان النبي نوح عليه‌السلام حيث شبّه الإنسان بالنبات الذي ينبت في التراب ، قال تعالى : (وَاللهُ انْبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ اخْراجاً) (١).

إنّ استعمال «الإنبات» في مورد الإنسان تعبير لطيف جدّاً ، والمراد منه هو لفت الأنظار

__________________

(١) تقتضي القاعدة في هذه الآيات بوجوب استخدام كلمة «انباتاً» التي هي مصدر لفعل «أنبتكم» لكن بعض المفسرين يرى أنّ هناك تقديراً في الآية على النحو التالي : «أنبتكم من الأرض فنبتكم نباتاً ـ أو ـ أنبتكم من الأرض انبات النبات» (تفاسير الكبير ؛ وروح الجنان ؛ والميزان).

٢٤٩

إلى التشابه الكبير بين القوانين السائدة على الحياة النباتية وعلى الحياة الإنسانية ، بالإضافة إلى أنّ الله تعالى لا يُعتبر معلماً للإنسان فحسب ، بل هو كالفلاح الذي يزرع البذور في الجوّ الملائم ويستمر في سقيها ومداراتها حتى تُخرجُ ثمرها وهو الاستعداد الذي يكمن فيها!

إننا نعلم بأنّ النباتات التي تستحق الحياة هي النباتات التي تنبت وتنمو كي تعطي ثمراً وظلاً وتساهم في تنقية الهواء ، فإن لم تكن كذلك فهي لا تنفع إلّافي استعمالها حطباً ، وهكذا الحال في الإنسان ، قال الشاعر الفارسي :

لتُحرق الأشجار غير المثمرة

هذا جزاء لِلذي لا ينفع!

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية تدل بوضوح على تحقق المعاد الجسماني ، وذلك لأنّها تقول : سوف تعودون إلى التراب وتبعثون منه ، فأنتم في بداية الأمر كنتم تراباً وسوف تُبعثون مرّة اخرى من التراب.

* * *

وتحدثت الآية الثالثة عن آدم وحواء ونسلهم ، قال تعالى : (قَال فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوْتُوْنَ وَمِنْهَا تُخْرَجُوْنَ).

وجملة : (وَمِنْهَا تُخْرَجُوْنَ) دليل واضح على تحقق المعاد الجسماني من وجهة نظر القرآن المجيد ، ولا يمكن بأيّ وجه أن تدل على معاد الروح فقط أو على المعاد النصف جسماني (أي بالجسم البرزخي).

كما أنّ هذا التعبير يشير أيضاً إلى أنّ مسألة المعاد الجسماني كانت مطروحة على طاولة البحث منذ بداية خلق آدم عليه‌السلام ولا يختصُّ طرح هذه المسألة بعصر ظهور الإسلام ونزول القرآن المجيد.

* * *

المجموعة الرابعة :

وهي الآيات التي تُشبِّه بعث الإنسان مرّة اخرى بحياة الأرضِ بعد موتها ، مثل :

٢٥٠

١ ـ (وَاللهُ الَّذى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ الَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ). (فاطر / ٩)

٢ ـ (وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الخُرُوجُ). (ق / ١١)

جمع الآيات وتفسيرها

المعاد يشبه إحياء الأرض بعد موتها

لقد تعرضنا في هذه الآيات في البحوث السابقة لمناسبات اخرى ، وهنا نتعرض لبحثها من زاوية اخرى وهي أنّ القرآن المجيد شبّه نشور الناس بحياة الأرض عند نزول المطر فقال : (كَذلِكَ النُّشُوْرُ). وقال في موردٍ آخر : (كَذلِكَ الخُرُوجُ).

فهذه التعبيرات والتعبيرات المشابهة لها تتطرق للمعاد الجسماني ، وذلك لأنّ الجسم المادي إذا لم يتلبس بالحياة مرّة اخرى فإنّه سوف لن يكون له ايّ شبه بالأرض التي تحيى بعد موتها ، لأنّ معاد الروح بمعنى بقاءها بعد موت الجسم ، فما هو العامل المشترك بين احيائها واحياء الأرض ليكون التشبيه صحيحاً؟!

وكما أشرنا آنفاً فإنّ القرآن يحتوي على آيات اخرى تحمل نفس هذه المضمون أيضاً وردت بعبارات وصورٍ مختلفة تدل جميعها على تحقق المعاد الجسماني.

المجموعة الخامسة :

وهي الآيات التي تشير إلى شدّة مخالفة اعداء نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سائر الأنبياء في مسألة المعاد ، اولئك الذين كانوا يرون أنّ الاعتقاد بمسألة الاحياء بعد الموت ضربٌ من الجنون (والعياذ بالله) وكانوا يعدّونه من الامور العجبية غير المألوفة.

فلو كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو الناس للتصديق بمسألة تحقق المعاد بالروح فقط لما كان هذا من العجائب طبعاً ، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانوا يعتقدون ببقاء الروح ولم يكن بقاء الروح آنذاك أمراً عجيباً.

٢٥١

وبالإضافة إلى ذلك تشير هذه الآيات إلى أن تعجب هؤلاء نابع من عدم تصديقهم بإمكانيّة جمع أجزاء الإنسان التي تحللت في التراب.

فلنتأمل الآن بهذه الآيات :

١ ـ (وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفْى خَلْقٍ جَديدٍ* افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّةٌ). (سبأ / ٧ ـ ٨)

٢ ـ (إِنْ هُوَ إِلّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً ومَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤمِنينَ). (المؤمنون / ٣٨)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

هل يمكن أن نُخلقُ من التراب ثانية؟

قد تعرضنا سابقاً لتفسير هذه الآيات أيضاً ، لكننا هنا ننظرإليها من زاوية اخرى جديدة ، وكل مافي الأمر أنّ المشركين الذين عاصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذين هبّوا لمعارضته قالوا : لقد ظهر رجلٌ يدّعي بأنّكم سوف تُبعثون مرّة اخرى بعد أن تتحولوا إلى تراب وينتشر ترابكم في كلِّ صوب ، ثم يصفون هذا الادّعاء بالافتراء على الله وأن قائله أصابه مسٌ من الجنون ، أي أنّه إنْ لم يكن مجنوناً فقد افترى على الله كذباً كي يخدع الناس بذلك ، وإلّا فإنّه تحدّث بهذا بسبب ما أصابه من الجنون!

وفي الآية الثانية نواجه نفس هذا المعنى أيضاً ، فهذه الآية تتحدّث عمّا جاءَ على لسان قوم ثمود عند مقابلتهم لنبيّهم صالح ، فعندما تحدّث لهم النبي صالح عليه‌السلام عن المعاد غضبوا عليه وعدّوا ذلك نوعاً من الافتراء والكذب على الله!.

لقد كانت جميع هذه الاعتراضات التي جُوبه بها نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أو النبي صالح عليه‌السلام أو سائر الأنبياء منبثقة من دعوة الأنبياء الناس للتصديق بتحقق المعاد الجسماني ، فإنْ لم يكن الأمر كذلك فما معنى هذه الاعتراضات الشديدة ، فهذه الامور تعتبر أدلة اخرى ممّا ورد في القرآن المجيد لإثبات تحقق المعاد الجسماني.

* * *

٢٥٢

المجموعة السادسة :

وهي الآيات التي تحدثت عن أنواع النعم الماديّة في الجنّة كالفواكه والأنهار والأرائك وأنواع الشراب وأنواع الملابس الفاخرة والظل وأنواع الأشجار وعن جميع الملاذ الجسمية الاخرى ، وعدد ما ورد في القرآن من هذه الآيات ممّا لا يحصى.

ومن البديهي عدم إمكانية حمل جميع معانيها على المجاز فنصرف الألفاظ عن معناها الحقيقي من دون ايّ قرينة ، فرغم اختلاف هذه الفواكه والأشربة والملابس والأطعمة الموجودة في الجنّة عن أمثالها في الدنيا وبالرغم من أننا اسارى هذه الدنيا المحدودة وأننا لا نتمكن من درك تلك الآفاق بصورة مُثلى إلّاأنّ هذه النعم مهما كانت كيفياتها فهي نعم مادية ولا يكون ذكرها مناسباً إلّامن أجل تحقق المعاد الجسماني.

بالإضافة إلى عدم انحصار نعم الجنّة بالنعم المادية وأنّ هناك نعماً ومواهب معنوية وروحية لا مثيل لها أيضاً إلّاأنّ هذه النعم لا تتنافى مع وجود النعم المادية.

وبتعبير آخر : بما أنّ المعاد يتحقق بالجسم والروح معاً فإنّ نعم الجنّة لها حيثية مادية وروحية معاً ، بناءً على هذا لايصح أن نحصرها في البعد الروحي ونغض النظر عن جميع هذه الآيات الواضحة.

أمّا بالنسبة لعدد هذه الآيات فإنّه قد يبلغ المئات ، وما نذكره من نماذج فيما يلي هو من سورة واحدة من القرآن المجيد وهي سورة الرحمن فمن أراد تفصيلاً أكثر عليه تتّبع باقي الآيات في مواضع اخرى من القرآن :

١ ـ (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). (الرحمن / ٤٦)

٢ ـ (ذَوَاتَا افْنانٍ). (الرحمن / ٤٨)

٣ ـ (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ). (الرحمن / ٥٠)

٤ ـ (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ). (الرحمن / ٥٢)

٥ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ اسْتَبْرَقٍ). (الرحمن / ٥٤)

٦ ـ (وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ). (الرحمن / ٥٤)

٢٥٣

٧ ـ (ومِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ). (الرحمن / ٦٢)

٨ ـ (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ). (الرحمن / ٦٦)

٩ ـ (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ). (الرحمن / ٦٨)

١٠ ـ (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ). (الرحمن / ٧٠)

١١ ـ (حُوْرٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ). (الرحمن / ٧٢)

١٢ ـ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ انْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ). (الرحمن / ٧٤)

١٣ ـ (متَّكِئيْنَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرىٍّ حِسانٍ). (الرحمن / ٧٦)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

نِعَم الجنّة المادية دليلٌ على تحقق المعاد الجسماني

كما لاحَظْتمُ فإنّ سورة الرحمن لوحدها والتي تعتبر من قصار السور تقريباً قد احتوت على اثني عشر نوعاً من نعم الجنّة المادية على الأقل ، وهذه الأنواع هي : بساتين الجنّة والأشجار المثمرة المتنوعة والفواكة المختلفة التي تدنو من أهل الجنّة ليسهل قطفها ، وفرش الجنّة المصنوعة من قماش ناعم وجميل والزوجات الباكرات اللواتي يشبهن الياقوت والمرجان لشدّة جمالهن والعيون الجارية والحور المستورات في خيام الجنّة والأرائك المزينّة بأنواع الأقمشة الجميلة التي يتكئ عليها أهل الجنّة وما شابه هذه النعم.

وقد ورد في القرآن ذكر نماذج اخرى أيضاً في سور اخرى كثيرة جدّاً كأنّهار الجنّة التي تحتوي على أشربة مختلفة والأواني المختلفة التي يستخدمها أهل الجنّة وغرف الجنّة وأرائكها التي يتكئون عليها متقابلين يتسامرون.

فقد ورد ذكر هذه النعم الماديّة في الآيات بصورة متتالية أحياناً وهذا النحو من ذكر الآيات لا يُبقي أي مجال للشك والتردد في أنّها نعم ماديّة فلنتأمل بالإضافة إلى ماسبق في عدّة آيات قصيرة وجميلة من سورة «الغاشية» :

٢٥٤

(وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ نَّاعِمَةٌ). (الغاشية / ٨)

(فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ). (الغاشية / ١٠)

(فِيْهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ). (الغاشية / ١٢)

(فِيْهَا سُرُرٌ مَّرْفُوْعَةٌ). (الغاشية / ١٣)

(وَاكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ). (الغاشية / ١٤)

(وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ). (الغاشية / ١٥)

(وَزَرابِىُّ مَبْثُوتَةٌ). (الغاشية / ١٦)

ففي هذه السورة التي بلغ عدد آياتها ستاً وعشرين آية قد اختصت سبع آيات منها بالمعاد الجسماني ونعم الجنّة المختلفة ، فإذا أردنا احصاء جميع آيات القرآن التي اختصت بهذا المبحث فإننا بهذا تحصل على عدد كبير من هذه الآيات.

ومن الضروري هنا أيضاً أنْ نوضّح أمرين :

١ ـ إنّ نِعَم الجنّة لا تقتصر على النعم الماديّة فحسب ، بل تحتوي على نعم روحية ومعنوية كثيرة أيضاً ـ سوف نتطرق لبحثها باذن الله في محلها المناسب ـ ، ولكن هل من الممكن أساساً أن يوفِّر الله تعالى جميع هذه النعم المادية لتنعّم الجسم بها من دون أن يوفّر النعم والمواهب الملائمة للروح التي تعتبر الجزء الرئيسي في وجود الإنسان والتي هي أرقى وافضل من الجسم من جميع النواحي؟ كلّا طبعاً ، لكنّ عدم ذكر هذه النعم هو لسبب قصور الألفاظ عن بيانها وشرحها ولعدم امكان دركها إلّاعن طريق الوصول إليها ، من أجل هذا لم يأت شرحها في القرآن المجيد ، ولكن رغم ذلك فقد وردت عدّة تعابير غامضة ومختصرة وجذّابة في هذا المجال لبيان عمق وعظمة هذه النعم ، وسوف نتحدث عنها بالتفصيل في بحثٍ مستقل.

٢ ـ إنّ البعض تجرأ في تاويل جميع هذه الآيات بجسارة وحملها على مفاهيم خارجة عن دلالة ظاهر ألفاظها وعدّها كناية عن النعم المعنوية ، لكنّ القواعد المعروفة في باب الألفاظ لا تسمح لنا أبداً بأن نرتكب مثل هذا العمل ، فإذا ما سمحنا لأنفسنا باستخدام هذه

٢٥٥

التأويلات فإنّه سوف لن يبقى هناك أيّ معنىً لحجيَّةِ الظواهر وسوف تخرج الألفاظ عن كونها وسيلة لنقل المفاهيم وتفقد أصالتها وأهميّتها بالمرّة ، وهذا العمل نوع من التجرّي على الله والقرآن المجيد.

* * *

المجموعة السابعة :

وهي الآيات التي تحدّثت عن جزاء المجرمين وعقابهم يوم القيامة ، وهذه العقوبات لها حيثية مادّية ، فإذا كان المعاد بالروح فقط فإنّه يجب أن نحمل جميع هذه التعبيرات على معانيها المجازية ، وهو عملٌ غير مسموح به أبداً.

وهنايجب أن نذكّر ثانية بأنّ عقوبات يوم القيامة على نوعين : عقوبات معنوية وعقوبات مادية ، وقد ورد ذكر كلا النوعين في آيات القرآن رغم تركيز القرآن على ذكر العقوبات المادية ، وذلك لما أشرنا إليه في البحث السابق.

أمّا بالنسبة لعدد هذه الآيات فهو كثير جدّاً ، ولنمعن فيما يلي بنماذج منها :

١ ـ (وَاصْحَابُ الشِّمَالِ مَا اصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّنْ يَحْمُومٍ* لَا بَارِدٍ وَلَاكَريمٍ). (الواقعة / ٤١ ـ ٤٤)

٢ ـ (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوْبُهُم وَظُهُورُهُم). (التوبة / ٣٥)

٣ ـ (... وَقَالُوا لَاتَنْفِرُوا في الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ اشَدُّ حرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ). (التوبة / ٨١)

٤ ـ (... كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ امَعَاءَهُمْ). (محمد / ١٥)

٥ ـ (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). (القمر / ٤٨)

٦ ـ (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً* تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ الّا مِنْ ضَرِيعٍ* لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِنْ جُوعٍ). (الغاشية / ٤ ـ ٧)

٢٥٦

٧ ـ (انَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْاثِيم* كَالمُهْلِ يَغْلِى فِي البُطُونِ* كَغَلْىِ الْحَمِيْمِ). (الدخان / ٤٣ ـ ٤٦)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

دليل آخر على كون العذاب المادي في جهنم

يتضح الجانب الذي يخص بحثنا في تفسير هذه الآيات بشكل كامل ، بدون حاجة للاطالة فيه لأنّ الآيات تحدثت عن نار جهنم التي يسحب المجرمون فيها على وجوههم.

وفيها نار وقودها كنوز الدراهم والدنانير التي لم تدفع الحقوق الإلهيّة منها فتحمى وتكوى بها جباه أصحابها وجنوبهم وظهورهم.

وكذلك ورد فيها الحديث عن الرياح ذات السموم القاتلة ، وماء الحميم ، وظلل من النار التي تنتظر المجرمين.

وكذلك جاء الحديث فيها عن الوجوه التي ترد جهنم وعن العيون الآنية التي يسقون منها ولا طعام لهم فيها إلّاالضريع.

وتحدثت عن شجرة الزقوم التي هي طعام المذنبين وكذلك عن الشراب الحميم الذي هو كالمهل يغلي في البطون.

هذه الشواهد كلها وما شابهها دلائل واضحه على المعاد الجسماني.

* * *

المجموعة الثامنة :

وهي الآيات التي تتحدث عن اعضاء جسم الإنسان مثل اليد ، والرجل ، والعين ، والاذن ، واللسان ، والوجه والجلد ، وجميعها تدل على المعاد الجسماني.

ومثل هذه الآيات كثيرة في القرآن الكريم وسنلقي النظر على النماذج التالية.

٢٥٧

١ ـ (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى افْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا ايْدِيْهِمْ وَتَشْهَدُ ارْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (يس / ٦٥)

٢ ـ (حَتّى اذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأبْصَارُهُمْ وَجُلُوْدُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (فصلت / ٢٠)

٣ ـ (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنا قَالُوا انْطَقَنَا اللهُ الَّذِى انْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ). (فصلت / ٢١)

٤ ـ (فَامَّا مَنْ اوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه ... وَامَّا مَنْ اوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُوْلُ يَالَيْتَنى لَمْ اوْتَ كِتَابِيَه). (الحاقّة / ١٩ ـ ٢٥)

٥ ـ (وُجُوْهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوةٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ). (عبس / ٣٨ ـ ٤١)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

تكلُّم اعضاء الجسم دليل ملموس آخر

بما أنّنا سنتعرّض لتفسير هذه الآيات في مباحث اخرى مثل بحث شهود يوم القيامة وبحث كُتب الأعمال فإننا هنا نتعرض لتفسيرها بصورة إجمالية ولا نبحثها إلّامن بُعدٍ واحد وهو (كيفية دلالتها على المعاد الجسماني).

فالآية الاولى تحدثت عن ختم الأفواه وتوقف اللسان عن النطق بصورة مؤقتة وتكلّم الأيدي والأرجل للادلاء بالشهادة على الأعمال التي ارتكبها الإنسان في الدنيا.

ومن البديهي أنّ هذه المسألة لا تنسجم سوى مع المعاد الجسماني ، لأنّ المعاد إنْ كان ذا بعد روحي فقط لما كان هناك أيدٍ وأرجُل ولما كان هناك لسان وفم ولا أىّ نوع من التكلم. وتحدثت الآيتان الثانية والثالثة عن شهادة الأذن والعين والجلد في يوم القيامة على الأعمال التي ارتكبها الإنسان.

٢٥٨

وإدلاء تلك الأعضاء بالشهادة قد يكون بواسطة اعطائها القدرة على النطق أو بلسان الحال ، وذلك لأنّ الاذن والعين واليد والرجل والجلد تُسجِّلُ الأعمال في داخلها وتحتفظ بها وتظهر آثارها في يوم القيامة الذي هو «يوم البروز» (سوف يأتي شرح هذه المطالب ـ باذن الله ـ في بحث أشهاد يوم القيامة).

وتحدثت الآية الرابعة عن الذّين يأتون يوم القيامة وهم يحملون كتاب أعمالهم بيدهم اليمنى (للدلالة على موفقيتهم وطهارتهم وفوزهم) فيدعون الناس في المحشر بكل فخر واعتزاز لمطالعة كتب أعمالهم! وأمّا الذين يحملون كتب أعمالهم بيدهم اليسرى للدلالة على سوء أعمالهم فإنّهم ينادون بأعلى أصواتهم : ليتنا لم نؤت هذه الكتب!

والحديث هنا لم يقتصر على أعضاء البدن المختلفة فحسب بل قد أشير إلى اليد اليسرى واليمنى أيضاً.

وفي الآية الخامسة كان الحديث عن وجوه الصالحين المشرقة ووجوه الطالحين والمذنبين المغبرة المظلمة ، وهذه الامور تدلّ أيضاً على أنّ المعاد يتحقق بإعادة الجسم.

وبالإضافة إلى ماتقدّم من نماذج هناك آيات كثيرة اخرى في القرآن تحدثت عن الأغلال والسلاسل التي تثقل اعنان المذنبين كما جاء في (سورة إبراهيم / ٤٣) و (الإنسان / ٤).

وهناك آيات اخرى تحدثت عن ظواهر تعرض على الجسم كضحك المؤمنين : (فَالْيَومَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يضْحَكُونَ). (المطففين / ٣٤)

كما أشير في بعض الآيات إلى يوم القيامة بأنّه يوم رهيب تشخص فيه الأبصار من شدّة الخوف وتقف الاعناق عن الحركة وتبقى الوجوه مرتفعة نحو الأعلى ولا يرتد طرفهم وتبقى عيونهم مفتوحة من شدّة الخوف والرعب : (انَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَومٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُؤُسِهِمْ لَايَرتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ). (إبراهيم / ٤٢ ـ ٤٣)

وتحدثت بعضها عن عضّ الظالمين ايديهم حسرةً على مافاتهم : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ). (الفرقان / ٢٧)

وأمثال هذه الآيات.

٢٥٩

فهل يمكن أن تُحمل جميع هذه الآيات على الكناية والمجاز من دون أيّ دليلٍ واضح ، وأن نضرب القواعد المسلّمة في استعمال الألفاظ عرض الحائط؟!

* * *

المجموعة التاسعة :

وهي الآيات التي أشارت إلى نماذج عينية من تحقق المعاد على مرّ التاريخ كقصة إبراهيم مع الطيور وقصة عزير أو أرمينيا عليه‌السلام وكقصة أصحاب الكهف وأحداث قتيل بني اسرائيل التي مرّ شرحها بالتفصيل تحت عنوان «النماذج العينية والتاريخية لتحقق المعاد»(١).

فجميع هذه النماذج تدلّ بوضوح على أنّ المعاد لا يختص بالجانب الروحي فحسب ، بل تهتم بالجانب الماديّ أيضاً ، وإنّ استفسار الناس والأنبياء عن مسألة المعاد يدور حول محور الحيثية المادية للمعاد وإراءة تلك النماذج لم يتمّ إلّامن أجل إثبات الجانب المادّي للمعاد.

وبما أننا تعرضنا بالتفصيل لبيان هذه الآيات فإننا لا نرى ضرورة في إعادة شرحها هنا.

* * *

ثمرة البحث :

بالاعتماد على المجموعات التسع من آيات القرآن المجيد التي تحدثت عن المعاد الجسماني بكل وضوح وطرحت تلك المسألة بطرق مختلفة وببيانات متنوعة لن يبقى أي مجال للشك في أنّ مسألة تحقق المعاد الجسماني (بمحاذاة المعاد الروحي) هي من الامور القطعية الحدوث من وجهة نظر القرآن المجيد وهذه المجموعات هي :

١ ـ الآيات التي تحدثت عن إعادة العظام الرميم إلى الحياة مرّة اخرى.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٥٧ من هذا الكتاب.

٢٦٠