نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

٢ ـ الآيات التي تحدثت عن بعث من في القبور.

٣ ـ الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من التراب وإنّه سوف يعود إليه ثم يبعث منه مرّة اخرى.

٤ ـ الآيات التي شبّهت احياء الموتى باحياء الأرض الميتة.

٥ ـ الآيات التي تحدثت عن مواقف اعداء الإسلام الصارمة ازاء مسألة تحقق المعاد (على الرغم من أنّ أكثر هؤلاء كانوا يؤمنون بمعاد الروح إلّاأنّهم كانوا يتعجبون من تحقق المعاد الجسماني).

٦ ـ الآيات التي تحدثت عن أنواع النعم المادية في الجنّة.

٧ ـ الآيات التي تحدثت عن أنواع العقوبات المادية في نار جهنم.

٨ ـ الآيات التي تحدثت عن اعضاء جسم الإنسان وما يطرأ عليها يوم القيامة كالعين والاذن واليد والرجل والوجه والعنق ، وأخيراً الآيات التي أشارتْ إلى نماذج عينية من تَحقّق المعاد.

ونظراً لصراحة وكثرة تلك الآيات يجب الاعتراف بأنّ المعاد الجسماني هو من الضروريات من وجهة نظر القرآن المجيد ، أمّا اولئك الذين يبحثون عن طريق آخر فإنّهم غرباء عن القرآن وتعاليمه.

من هنا نّتجه لذكر توضيحات هذا البحث ، لنذكر الأدلة التي اقيمت على إثبات المعاد الجسماني ثم نذكر ما أورده المخالفون بقالب منطقي ونتعرض لنقد تلك الايرادات.

* * *

توضيح

المعاد الجسماني في مقياس العقل :

هل يمكن إثبات المعاد بهذا الجسم المادّي المؤلف من العناصر المادية عن طريق العقل أم لا؟

يرى البعض عدم وجود دليل عقلي مقنع لاثبات هذه المسألة كما أنّه لا يوجد دليل على

٢٦١

نفيها أيضاً ، وبما أننا لانمتلك دليلاً على استحالة ذلك فإننا نكتفي في هذا المجال بأدلة كتاب الله والسنّة من دون تأويل ظواهرهما (١) وبتعبير آخر إنّ دليل العقل يعجز عن إثبات هذه المسألة فعندما يتمكن الدليل العقلي من إثبات ذلك فإنّه لا يبقى أمامنا سوى التسليم للدليل النقلي.

هذا بالإضافة إلى مايراه البعض من أنّ المعاد الجسماني مطابق للدليل العقلي ويقولون بأنّ روح الإنسان تنمو بموازاة نمو البدن وترتقي معه إلى الكمال. لذا فإنّه توجد هناك رابطة وثيقة بين «الروح» و «البدن» فتؤثّر حالات كلٍّ منهما في الآخر ، فالآلام الجسمية تؤثّر على الروح كما أنّ الآلام الروحية تؤثّر على الجسم أيضاً ، فالسكينة وراحة البال في كلٍّ منهما له تأثير إيجابي على الآخر بصورة تامة.

على هذا فإنّ الروح والجسم رفيقان حميمان ينشآن وينموان معاً.

ولا شك في أنّ الموت يقطع هذا الارتباط بصورة مؤقتة ، ولكن من أجل إقامة العدالة الإلهيّة والوصول إلى العقاب والثواب التام يجب أن تعاد تلك الرابطة على مستوى ارقى كي يتم لقاء الروح برفيقها الحميم ليتمكن من التحرك ونيل المواهب المعنوية والمادية التي اعدت لها في الآخرة أو تحمّل العذاب إن كانت تستحق العقاب.

وقصارى القول إنّ إعادة كل واحد من هذين الاثنين بمفرده يعني وجود نقص في المعاد وكمال المعاد لا يتمّ إلّاعن طريق إعادتهما معاً.

ورغم أنّ الروح هي التي تتلقى العقاب أو الثواب واللذة أو الألم لكننا نعلم جيداً بأنّ الكثير من هذه الآلام والملاذ تتلقاها الروح عن طريق الجسم ، فإذا عُدِم الجسم فإنّ قسماً كبيراً من هذه الملاذ أو الآلام لن يبقى لها أيّ تأثير.

بناءً على هذا فالعقل يقول : يجب أن يقترن هذان ببعضهما في الآخرة كما كانا مقترنين في الدنيا ، وذلك لأنّ كل واحد منهما يعتبر ناقصاً لوحده (فتأمل).

* * *

__________________

(١) قال المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار : إنّ المعاد الجسماني هو من المسائل المتفق عليها بين الأديان ويعدُّ من ضروريات الدين ، ومن أنكر ذلك فقد خرج عن الإسلام. فالآيات صريحة الدلالة على ذلك ولا تقبل التأويل كما أنّ الأخبار متواترة في هذا المجال ولا تقبل الانكار (بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٤٧).

٢٦٢

شبهات جاحدي المعاد الجسماني

لنرى هنا ما هو السبب الذي دعا عدداً من الفلاسفة وغيرهم لانكار مسألة المعاد الجسماني؟ وما هي العوامل التي دفعتهم لقبول هذا الاعتقاد؟

ومن خلال تتبع كلماتهم يُلاحظُ بأنّ «العوامل الثمانية» التالية هي السبب في مخالفتهم لهذا الاعتقاد :

١ ـ استحالة إعادة المعدوم.

٢ ـ شبهة الآكل والمأكول.

٣ ـ معضلة تبدّل خلايا الجسم طيلة عمر الإنسان.

٤ ـ شّحة العناصر الترابية على قشرة الأرض.

٥ ـ إذا ما تحقق المعاد الجسماني على الكرة الأرضية فسوف تظهر معضلة اخرى وهي شحّه المكان.

٦ ـ كيف يحصل الجسم الذي من صفاته الفناء على حياة خالدة؟

٧ ـ لا يمكن الجمع بين عودة الأرواح والأجسام.

٨ ـ نحن نعلم بأنّ جسم الإنسان يتبدّل عدّة مرّات طول فترة حياته ، فهل تعود إليه جميع تلك المكونات عند المعاد أم لا يعود إلّابعضها؟

ولنبدأ ببحث كل واحد من هذه الإشكالات المذكورة :

١ ـ استحالة «اعادة المعدوم»

إنّ عدداً من علماء العقائد نقلوا البحث في مسألة المعادِ إلى بحث إعادة المعدوم وقالوا :

٢٦٣

بما أنّ جسم الإنسان يفنى عن آخره فإنّ إعادته يوم القيامة من قبيل إعادة المعدوم ، ونحن نعلم باستحالة إعادة المعدوم ، فمن هنا تصبح مسألة المعاد الجسماني أمراً معضلاً.

ولكننا لو أمعنّا النظر في هذه المسألة لتبيّن بأنّ إعادة المعدوم بتلك الصورة ليس بمحال ، ويتضح أيضاً بأنّ المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم.

توضيح ذلك : لقد استدل الفلاسفة بأدلة متعددة على استحالة إعادة المعدوم ، حتى أنّهم يرون بأنّ استحالة إعادة المعدوم إلى الوجود من الامور البديهية ، وذلك لأنّ إعادة الشيء يجب أن تكون إعادة من جميع الجهات ، ومن البديهي أنّ الشيء الذي كان موجوداً بالأمس يستحيل أن يعاد اليوم بجميع خصوصياته ، وذلك لأنّ «وجوده بالأمس» هو من أحد خصوصياته فكيف يمكن أن نجمع بين اليوم والأمس في آن واحد؟ هذا عين التناقض.

ولكن إذا ما صرفنا «النظر عن هذه الخصوصية بالذات فإنّه لا يبقى أي مانع من إعادة عين الموجود الأول بجميع خصوصياته باستثناء خصوصية الزمان. ومن البديهي أنّ الموجود الجديد لا يكون عين الموجود السابق بالدقّة التامّة بل هو مثله ، بهذا يعود النزاع في مسألة استحالة أو عدم استحالة المعدوم إلى نزاع لفظي ، فالمنكرون يقولون باستحالة إعادة جميع الحيثيات ، بينما يقول المؤيدون بإمكان الإعادة بجميع الحيثيات «باستثناء الزمان».

وممّا لا شك فيه أنّ أنصار تحقق المعاد الجسماني لا يعتقدون بإعادة نفس الموجود المقيد بالزمان الماضي ، بل بإعادة الشي في زمانٍ آخر فهو عين الموجود السابق من جهة ومثله من جهة اخرى. (فتأمل).

وإذا ما تجاوزنا ذلك لا يُعتبر المعاد من مصاديق إعادة المعدوم ، وذلك لأنّ الروح لا تفنى وتبقى بعينها ، وبالرغم من اضمحلال الجسم وتفرّقه فهو «لا يفنى أيضاً ، بل يتحوّل إلى تراب ، وكل ما في الأمر أنّه يفقد شكله الظاهري فيعاد إليه يوم القيامة شكله السابق. فإذا كان المراد من إعادة المعدوم إعادة الصورة فحسب فإنّ ما يعاد يوم القيامة هو صورة مشابهة للصورة السابقة ، لكنّ بقاء الروح مع وحدة مادة الجسم هما العامل الرئيسي لحفظ وحدة

٢٦٤

شخصية الإنسان ، لذا يمكننا القول : إنّ الإنسان هو نفس الإنسان السابق ، لأنّ روحه عين تلك الروح ومادة جسمه عين تلك المادّة والفارق الوحيد هو إنّ صورة الجسم تشبه الصورة السابقة لا عينها ، ومن المحتمل أن يكون التعبير ب «مثل» كما في قوله تعالى : (اوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟! يشير إلى هذا المعنى. (يس / ٨١)

والطريف هو ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية : (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوْداً غَيْرَهَا لَيَذُوقُوا الْعَذَابَ). (النساء / ٥٦)

في جوابه عليه‌السلام عن سؤال «ابن أبي العوجاء» عندما سأل الإمام عليه‌السلام : ماذنبُ الغير؟ (أي الجلود الاخرى» ، فأجابه الإمام عليه‌السلام : «هى وهى غيرها». فطلب ابن أبي العوجاء توضيحاً أكثر وقال : اضرب لي مثلاً في هذا المجال ممّا اعتدناه في هذه الدنيا! قال الإمام عليه‌السلام : «أرأيت لو أنّ رجُلاً أخذ لبنةً فكسّرها ثم ردّها في ملبنها ، فهي هي وهي غيرها!» (١).

* * *

٢ ـ شبهة الآكل والمأكول

إنّ شبهة «الاكل والمأكول» هي مسألة اخرى من المسائل التي طرحت على طاولة البحث وهي في الحقيقة من أكثر معضلات مباحث المعاد الجسماني من ناحية التعقيد.

وتوضيح ذلك : يتفق في بعض الأحيان أن تحل بعض أجزاء بدنِ أحد الناس في بدن شخص آخر ، إمّا بصورة مباشرة كما يحصل ذلك عند حصول المجاعات حيث يتغذى بعض الناس على لحوم البشر ، وإمّا بصورة غير مباشرة كما لو تحللت اجزاء الإنسان وتحولت إلى تراب فتتغذى النباتات من ذلك الجسم فيأتي إنسان آخر ويتغذى من تلك النباتات (كالخضر والحبوب والفواكه) ، أو أن يتغذى أحد الحيوانات على تلك النباتات فيأكل الإنسان الآخر لحم تلك الحيوانات ، كما أنّه من الممكن أن تتحلل بعض أجزاء جسم

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٣٨ ، ح ٦ ، وقد جاء نفس هذا المعنى في حديث آخر بصورة مختصرة (المصدر السابق ، ص ٣٩ ، ح ٧) وقد ورد ذكر الحديث المذكور في نور الثقلين أيضاً في التعليق على الآية ٥٦ من سورة النساء.

٢٦٥

الإنسان وتتحوّل إلى بخار وغازات فيستنشقها إنسان آخر فتحلُّ في جسمه.

ومن الممكن أيضاً أن تحل جميع أجزاء بدنِ الإنسان في بدن إنسان آخر بالتدريج.

من هنا يُطرح هذا السؤال وهو : بأيِّ جسم تختص هذه الأجزاء عندما تعود الروح إلى البدن؟ فإن كانت مختصة بالجسم الأول فالأجسام الاخرى تكون حينئذٍ ناقصة وإذا مااختصت بالأجسام الاخرى فسوف لن يبقى للجسم الأول شيء ، وبالإضافة إلى هذا من المحتمل ، أن يكون أحد الشخصين صالحاً والآخر مذنباً فما مصير هذه الأجزاء في هذه الحالة؟

كما يستفاد أيضاً من سبب نزول الآية ٢٦ من سورة البقرة في قصة إبراهيمعليه‌السلام والطيور الأربعة أنّ سؤال إبراهيم عليه‌السلام كان منحصراً في مجال المعاد الجسماني وشبهة الآكل والمأكول ، وذلك لأنّ الحيوان الميت الذي شاهده إبراهيم عليه‌السلام على ساحل البحر كان قسم منه في ماء البحر وكانت تتغذى عليه حيوانات البحر وكان القسم الآخر على اليابسة وكانت تأكُلُ منه الحيوانات البرية ، وهذا المشهد هو الذي جعل إبراهيم عليه‌السلام يغرق في التفكير ثم عرض طلبه على الله لمشاهدة كيفية إعادة الحياة للموتى.

* * *

الجواب :

قد اجيب عن هذا الإشكال القديم بأجوبة مختلفة ، وأشهر هذه الأجوبة هو التمسك بعدم فناء «الأجزاء الأصلية».

قال أنصار هذه النظرية : إنّ جسم الإنسان مركب من أجزاء أصلية وغير أصلية ، فالأجزاءُ الأصلية هي التي لا تعرض عليها الزيادة ولا النقصان ، وغير الأصلية ما تعرض عليها الزيادة والنقصان باستمرار.

فالأجزاء الأصلية تحافظ على بقائها بعد موت الإنسان وإذا ما تحولت إلى تراب فإنّ ذلك التراب لن يحل في جسم موجودٍ آخر ، وفي يوم القيامة تنمو هذه الأجزاء فيتكون منها

٢٦٦

جسم الإنسان ثم تحلّ فيها الروح.

وقد دعموا هذه النظرية بذكر عدّة روايات والتي منها : ما رواه مصدق بن صدقة عن عمار بن موسى عن الإمام الصادق حيث سئل عليه‌السلام عن الميت يبلى جسده ، قال : «نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلّاطينته التي خلق منها فانّها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرّة» (١).

وجاء في رواية اخرى مرسلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً في قصة ذبح بقرة بني اسرائيل أنّه قال : «فأخذوا قطعةً وهي عَجْبُ الذنوب الذي منهُ خلِقَ ابنُ آدم ، وعليه يُركبُ إذا اريدَ خلقاً جديداً فَضربوه بها» (٢).

الجدير بالذكر أنّ الرواية الثانية ضعيفة السند لأنّها مرسلة ، أمّا الرواية الاولى فهي ضعيفة أيضاً لحصول الاختلاف بين علماء الرجال في «عمرو بن سعيد» بالإضافة إلى أنّ هذه الروايات مخالفة لظاهر القرآن ـ كما سيأتي شرحه ـ ، لذا فلا يمكن التعويل عليها.

ومهما يكن من شيء فإنّ العلوم التجريبية الحديثة أبطلت هذا الرأي من الأساس فهي لا ترى أي فرقٍ بين أجزاء الجسم وترى أنّ جميع أجزاء جسم الإنسان تتحول إلى تراب ومن الممكن أن تحلّ جميعها في أجسام أفرادٍ آخرين.

وقد أثبتت التجارب خلاف ما يعتقده أنصار نظرية الأجزاء الأصلية من أنّ الحلقة الأخيرة من العمود الفقري التي تسمى «عجبُ الذنب» هي الجزء الأصلي من أجزاء البدن وأنّها لا تفنى بمرور الزمان وكثيراً ما شاهدنا تبدّل جميع أجزاء البدن إلى رماد عند نشوب الحرائق كما أننا لم نشاهد أىّ فرق بين أجزاء الرماد المتخلف منها أيضاً.

وحتى لو تجاوزنا ذلك فإنّ النظرية المذكورة لا توافق ظاهر القرآن ، لأنّ القرآن عندما أجاب عن إشكال الأعرابي الذي كان يحمل بيده عظماً رميماً قال : (قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى انْشأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). (يس / ٧٨ ـ ٧٩)

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٤٣ ، ح ٢١.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٩.

٢٦٧

فإنّه من المستبعد جدّاً أنّ الأعرابي كان يحمل الحلقة الأخيرة من العمود الفقري عندما سأل عن ذلك.

كما يستفاد أيضاً من ظاهر قصة إبراهيم عليه‌السلام مع الطيور الأربعة أنّ الأجزاء المتفرّقة تعود جميعها إلى ما كانت عليه سابقاً.

وعلى أيّة حال لا يمكن الاعتماد على جواب هذه النظرية نظراً لما توصل إليه العلم الحديث ، ونظراً للاستناد إلى آيات القرآن الواردة في هذا المجال ، كما أنّه لا يمكن الاعتماد على خبر الواحد لإثبات هذه النظرية.

وقد سلك آخرون للردّ على «شبهة الآكل والمأكول» طريقاً آخرَ فقالوا : ليس من الضروري أن تعاد نفس الأجزاء السابقة لجسم الإنسان ، لأنّ شخصية الإنسان تكمن في الروح ، وإذا ما حلّت الروح في جسمٍ ما فسوف يكون ذلك المركب عين الإنسان السابق ، على هذا سوف لن يمس وحدة شخصية الإنسان أيّ ضرر بسبب التحولات التي طرأت على الجسم بسبب طول المدّة وتبدّل الأجزاء بأجزاء اخرى.

بناءً على هذا فلا يوجد هناك مانع من أن يخلق الله جسماً آخر لتحل فيه الروح ، فتتنعم الروح بواسطة هذا الجسم بنعم الجنّة أو تتعذب بواسطته بعقوبات النار ، فنحن نعلم بأنّ اللذة والألم يتعلقان بالروح وما الجسم إلّاواسطة لا أكثر!

لكنّ هذا الجواب غير صحيح أيضاً ، لمعارضته ظاهر كثير من الآيات القرآنية ، وقد مرّ علينا في البحوث السابقة تصريح القرآن بأنّ عين تلك العظام المتفسخة تخرج يوم القيامة من عين تلك القبور التي دُفِنت فيها ، لا أنّ الله يخلق جسماً آخر لتحلّ فيه الروح. بناءً على هذا فالجواب المذكور يفتقد القيمة العلمية أيضاً.

* * *

الجواب النهائي لشبهة الآكل والمأكول :

إنّ الجواب المتين الذي أُجيب به عن هذه الشبهة يحتاج إلى ذكر عدّة مقدمات :

٢٦٨

١ ـ نحن نعلم بأنّ أجزاء بدن الإنسان منذ مراحل الطفولة وحتى نهاية العمر تتبدّل عدّة مرات ، وهذا التبدّل يشمل خلايا المخ أيضاً على الرغم من أنّ البعض يرى أنّ عددها ثابت إلّا أنّ محتواها متغيّر ، وذلك لأنها تحتاج إلى «التغذية» من جهة و «تتحلل» وتتفسخ من جهة اخرى ، وهذان الأمران هما السبب في تبدّل محتوياتها بأكملها على مرّ الزمان.

والخلاصة : إنّه بمرور سبع سنين تقريباً لا يبقى أيّ أثر لخلايا الجسم السابقة وتحلّ محلّها خلايا جديدة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الخلايا السابقة عندما تموت تعطي جميع ما تحمله من صفات وخواص وآثار للخلايا الجديدة ، لذا فإنّ خصوصيات جسم الإنسان من لون وشكل ومواصفات جسمية اخرى تبقى ثابتة على مرّ الزمان ، وهذا لا يتمّ إلّابانتقال صفات الخلايا القديمة إلى الخلايا الجديدة ، (فتأمّل).

بناءً على هذا سوف تحمل أجزاء جسم الإنسان الأخيرة ـ عند الموت والتي سوف تتحول إلى تراب ـ جميع الصفات التي كان يتصف بها الإنسان طوال عمره وفي طياتها تاريخ ناطق بجميع فعاليات جسم الإنسان التي أدّاها خلال فترة حياته!

٢ ـ رغم كون الروح هي الأساس في تحقق شخصية الإنسان ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الروح تنمو وتتكامل بموازاة نمو وتكامل الجسم ، وإن كلاً منهما له تأثير متبادل على الآخر ، وبما أنّ الجسمين المستقلين عن بعضهما لا يوجد بينهما شبه من جميع الجهات فإنّ الروحين المستقلّتين لا تتشابهان أيضاً بصورة تامّة ، لذا لا يمكن لأيّ روح ممارسة نشاطاتها بصورة تامة بدون الجسم الذي نمت وتكاملت بموازاته ، على هذا يجب أن يعاد يوم القيامة عين ذلك الجسم الذي كانت تحلّ فيه تلك الروح لتمارس نشاطها بعد حلولها بذلك الجسم على مستوى أرقى لتتمتع بنتائج الأعمال التي ارتكبها.

٣ ـ كل خليّة من خلايا الجسم تحمل جميع خصوصيات ذلك الجسم ، فلو تمكنّا من تربية ايّ خلية من خلايا الجسم وتنميتها لتتحوّل إلى إنسان كامل فإنّ ذلك الإنسان الجديد سوف يحمل جميع الخصوصيات التي كانت تحملها تلك الخلية والتي ورثتها من الإنسان السابق ، (فتأمّل).

٢٦٩

أوَلَم يكن الإنسان في يومه الأول خلية واحدة؟ فتلك النطفة كانت عبارة عن خلية واحدة كانت تحمل جميع صفات ذلك الإنسان ونمت بالتدريج عن طريق الانشطار إلى خليتين ثم إلى اربع وهكذا حتى تكوّنت منها جميع خلايا بدن الإنسان. بناءً على هذا فإنّ كل خلية من خلايا الإنسان هي فرعٌ من تلك الخلية الاولى ولو أنّها نمت وتكاملت مثل سابقتها لأصبحت إنساناً يشبه الإنسان السابق ويحمل صفاته من جميع الجهات.

٤ ـ يُستفاد من آيات القرآن في مجال المعاد الجسماني أنّ جسم الإنسان الاخير الذي تحول إلى تراب في القبر يحيى بأمر الله ويُعدّ للجزاء.

ويؤيد هذا المعنى الآيات العديدة التي أشرنا إليها سابقاً في مجال المعاد الجسماني.

٥ ـ لا يمكن لجسمٍ ما أن يحلّ بجسم آخر بصورة تامّة ، وبتعبير آخر لا يمكن أن يصبح الجسم الثاني عين الجسم الأول ، بل قد يشكل الجسم الأول قسماً من الجسم الثاني ، وذلك لأنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّابوجود الجسم الثاني أولاً كي يتحول الجسم الأول ـ أو قسم منه ـ إلى جزءٍ من الجسم الثاني عن طريق التجزئة.

بناءً على هذا لا يوجد أيّ مانع من حلول جسم بصورة كاملة في جسم ثانٍ ويصبح «جزءاً» منه ، ولكن المستحيل أن يصبح «جميع» أجزاء الجسم الثاني ، كما يُحتمل حلول أجسام متعددة في جسم آخر لكنها لا يمكن أن تصبح جميع أجزائه ، (فتأمل).

* * *

وبعد طرح هذه المقدّمات الخمس نتجه للجواب الرئيسي في الرد على شبهة الآكل والمأكول :

يقول القرآن بكل وضوح : إنّ مكونات جسم الإنسان التي يمتلكها عند الموت هي التي تبعث يوم القيامة ، بناءً على هذا فلو حلّت هذه الأجزاء بعد تحولها إلى تراب في جسم إنسان آخر فإنّها سوف تعاد إلى صاحبها الأول يوم القيامة ، لكن قد تقولون إنّ جسم الإنسان الثاني سيصبح ناقصاً لأنّه فقد قسماً من مكوناته. إلّاأنّهُ من الأفضل أن يقال إنّ جسم

٢٧٠

الإنسان الثاني سوف يضمر (لا أن يكون ناقصاً) لأنّ أجزاء جسم الإنسان الأول بعد أن تغذّى عليها الإنسان الثاني قد انتشرت في جميع أعضاء بدنه لا أنّها حلت في مكانٍ معينٍ من بدنه (لأنّ الغذاء الذي يتناوله الإنسان يوزّع على جميع أعضاء البدن) ، بناءً على هذا فإنّه من الممكن أن يفقد الإنسان الذي وزنه سبعون كيلو غرام مثلاً نصف وزنه أو أن يفقد جميع مكوناته باستثناء كيلو غرام واحد منها أو حتى أقل من ذلك ولا يبقى منه إلّاجسم صغير بحجم جسمه الذي ولد به أو بحجم جسمه عندما كان جنيناً!.

ومع ذلك فإننا لا نواجه أيّة مشكلة ، وذلك لأنّ الجسم الصغير يحمل في طياته جميع خصوصيات ذلك الجسم الكبير ، فإذا ما نما فسوف يعود عين ذلك الجسم الكبير.

فالمولود في يومه الأول لا يمتلك إلّاجسماً صغيراً وقبل ذلك أي عندما كان جنيناً كان جسمه أصغر من ذلك فنما وكبُر حتى اصبح يحمل صفات الإنسان الكامل من دون أن تتبدّل شخصيته ويتحول إلى شخص آخر.

والسؤال الوحيد الذي ظل من دون اجابة هو : ما هو مصير الأجزاء التي أصبحت جزءً لجسمين أو عدّة أجسام إذا كان أحد صاحبيها مطيعاً والآخر مذنباً؟

والجواب عن هذا السؤال أمرٌ يسيرٌ أيضاً ، لأنّه كما أشرنا سابقاً فإنّ الثواب والعقاب في الحقيقة يتعلقان بالروح ، والدليل على ذلك هو عندما ينقطع الارتباط الموجود بين الروح والجسم بسبب فقدان الوعي بعد ممارسة عملية التخدير فإننا نرى أنّ الروح لا تتأثّر عند استخدام المَشرط الحاد حتى لو قطّع الجسم إرباً.

وبتعبير آخر : إنّ الثواب والعقاب واللذة والألم لا يختصان بالجسم بل ليس الجسم إلّا واسطة لإيصال آثار الثواب والعقاب واللذة والألم إلى روح الإنسان.

بهذا يتضح أنّ المعاد الجسماني ـ طبقاً لظاهر الآيات ـ يتحقق بعين هذا الجسم المؤلف من العناصر المادية ، وحتى لو فرضنا أنّ شبهة الآكل والمأكول ترد على هذا الاستدلال فإنها سوف لن تخدش فيه أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أنّ بعض منكري المعاد الجسماني سعوا إلى تغطية حقيقة آرائهم في

٢٧١

الأوساط الإسلامية لتبرير جحودهم الواضح مخالفة للآيات القرانية وجاءوا بتعبيرات في مجال المعاد الجسماني تدل في الواقع على أنّ المعاد يتحقق بالروح فقط أو بالروح مع جسم مادي غير هذا الجسم.

فتمسكوا أحياناً بالجسم النوعي وقالوا : إنّ شخصية الإنسان تتمثل بروحه وهذه الروح إذا ما تعلقت بجسمٍ ما فسوف تشكل نفس ذلك الشخص.

وقالوا أحياناً بإعادة الجسم البرزخي أي الجسم النوراني اللطيف.

وتارةً قالوا : إنّ شيئية الشي ووجوده يكمنان في صورته لا في مادته ، فحيثُما وُجِدَتْ الصورة وُجِدَ ذلك الشي ، وإنّ روح الإنسان هي قوام هذه الصورة ، بناءً على هذا فأينما وُجِدَتْ روح الإنسان فسوف تتحقق شيئيته ووجوده.

لكن هذه التعبيرات جميعها لا تتلائم مع تعبيرات القرآن الواردة في مجال المعاد الجسماني ، والسبب في سلوك هؤلاء هذا الطريق هو ولعهم بكلام بعض الفلاسفة وعجزهم عن حلّ معضلة شبهة الآكل والمأكول ، وهذا ممّا لا يليق بالعالم المسلم الذي يتمسك بتعاليم القرآن.

* * *

٣ ـ شحّة العناصر الترابية على سطح الأرض

هناك مسألة اخرى شغلت أذهان البعض واصبحت تمثّل معضلة من معضلات المعاد الجسماني هي مسألة شحّة العناصر الترابية على سطح الأرض.

توضيح ذلك : إننا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار عدد البشر الذين وضعوا أقدامهم على الكرة الأرضية على مرّ التاريخ وكذلك البشر الذين يلونهم إلى يوم القيامة مع علمنا بأنّ هؤلاء جميعاً سوف يتحولون إلى كميّة هائلة من التراب فإنّه من الصعب جدّاً أن يكفي تراب الكرة الأرضية لإعادة هؤلاء جميعاً يوم القيامة إلّاأن نقول : إنّ البشر يبعثون يوم القيامة بحجم الدُّمى ، لكنّ هذا غير معقول أيضاً ، وعلى أيّة حال فإنّ إعادة هؤلاء البشر بهذه المواصفات تشبه عملية صنع ملايين السيارات مثلاً من كمّية من الحديد لا تزيد على الألف طن.

٢٧٢

الجواب :

ألم يكن من الأفضل لهؤلاء الذين يطرحون مثل هذه الإشكالات أن يُتعبوا أنفسهم قليلاً قبل طرحها وأن يأتوا بقلم وورق لإجراء احصاء بسيط في هذا المجال ليجدوا أنّ هذه الإشكالات لا أساس لها من الصحة؟

إنّ الماء يشكّل ٦٥ خ إلى ٧٠ خ من جسم كل إنسان. على هذا لا يشكل التراب إلّا مايقارب ٣٠ خ من وزن الإنسان ، فلو فرضنا أنّ التراب يشكّل كلّ وزن الجسم فيا ترى كم هو وزن كميّة من التراب مقدار حجمها متر مكعب واحد؟ إنّه لا يزيد على طنين أو ثلاثة اطنان! ، فلو كان الوزن المتوسط لكل إنسان يبلغ ستين كيلو غرام فسوف يكفي كل متر مكعب واحد من التراب لخلق أربعين إنساناً تقريباً.

وطبقاً لهذه الاحصائية فإنّ الكيلومتر المكعب الواحد من التراب الذي هو عبارة عن «مليار متر مكعب» يكفي لخلق ما يقارب ثمانية اضعاف سكّان الأرض الحاليين ، وبما أنّ عدد سكان الكرة الأرضية كان قليلاً جدّاً بالنسبة لسكان الأرض الحاليين فإنّه من المحتمل أن لا يزيد عدد جميع البشر الذين وطأوا الأرض على أربعين مليار نسمة.

وكل هذه الحسابات تدور حول كيلومتر مكعب واحد من التراب الذي هو كقطرة في بحر بالنسبة لحجم الكرة الأرضية ، فإذا ما أجرينا هذه الحسابات على مائة كيلومتر مكعب أو ألف كيلومتر مكعب من التراب وهي نسبة ضئيلة جدّاً من حجم كل الكرة الارضية فإننا سوف نحصل على أرقام هائلة جدّاً وسوف تتضح لنا حقيقة الأمر بكل سهولة.

فبعد أن أجرينا هذه الاحصائيات على التراب تعالوا لنجري الاحصاءات في هذا المجال من زاوية الزمان.

فنقول : كم هو العمر المتوسط لحياة الإنسان؟ أو بتعبير آخر : كم عمر الجيل الواحد من البشر؟

من المحتمل أن يكون عمر الجيل الواحد ما يقارب الخمسين سنة أو أقل أو أكثر من ذلك بقليل.

٢٧٣

بناءً على هذا يكفي الكيلومتر المكعب الواحد من التراب لخلق ثمانية أجيال أي يكفي لخلقهم لمدّة أربعة قرون تقريباً (هذا لو فرضنا أنّ عدد نفوس الأجيال السابقة بعدد نفوس الجيل الحالي ، ومن البديهي أنّة لم يكن كذلك).

على هذا فكل ألفين وخمسمائة كيلومتر مكعب من التراب تكفي لخلق هذا العدد من البشر لمدّة مقدارها مليون سنة ، ولخلقهم لمدّة أربعة ملايين سنة نحتاج لعشرة الآف كيلومتر مكعّب من التراب فقط.

ونحن على يقين بعدم وجود أيّة نظرية تُقدِّرُ عمر البشر على الكرة الأرضية بأكثر من أربعة ملايين سنة ، لكننا لا نعلم كم هي مدّة الفترة الزمانية الفاصلة بين وقتنا الحاضر وبين نهاية الحياة على الأرض.

لذا فإننا لو أجرينا هذا الاحصاء بأي نحو كان فلن يمثّل التراب المتخلّف من جميع البشر على مرّ التاريخ إلّاكمية ضئيلة جدّاً لا تقدّر بأكثر من رقعة صغيرة من الأرض تبلغ مساحتها الف كيلومتر مكعب لا أكثر في بلد صغير.

هذا بالإضافة إلى أنّ احصاءاتنا كانت جميعها بحسابات الحد الأعلى ، لأننا لم نتقيّد بقيد ، فلم نعر أيّة أهميّة للماء الموجود في جسم الإنسان ولم نخفِّض من عدد سكّان الأرض في الأجيال السابقة وهو قليل جدّاً بالنسبة لعدد نفوس الجيل الحالى ، كما أنّنا اطلقنا العنان في حساب السنين الباقية من عمر الحياة على الأرض.

وقصارى القول : إنّ الادّعاء بعدم كفاية تراب الأرض لإعادة الأجسام يوم القيامة لا يصدر إلّاممن لا يعرفون العمليات الحسابية الأربع! أي الذين يتكلمون بغير حساب ويرجمون بالغيب!

* * *

٤ ـ هل تسع مساحة الأرض لحشر جميع البشر؟

لقد شغلت هذه المعضلة أذهان الكثيرين أيضاً وهي إذا كان المعاد يتحقق بالجسم

٢٧٤

ويشمل جميع البشر الذين وطأوا الأرض منذ ظهور الحياة عليها حتى نهايتها فلن تسعهم مساحة سطح الأرض ، وخلاصة مايمكن أن يقال : إنّنا إذا تمكنا من حل جميع المعضلات في مجال المعاد الجسماني فسوف تبقى معضلة شحة المكان على قوتها ، وذلك لأنّ بعض المناطق من الكرة الأرضية تضيق حالياً من تحمل سكانها الذين يعيشون عليها ، وقد حذّر الخبراء المتخصصون من مغبّة استمرار النمو السكاني على هذا السياق وقالوا : إنّ تزايد السكان إذا مااستمر على هذا المنوال فسوف تضيق الأرض بسكانها خلال فترة وجيزة.

وهنا يُطرح هذا السؤال : ماذا سيحدث إذا بُعث جميع البشر السابقين واللاحقين على هذه الكرة الأرضية؟!

فلو كان المعاد يتحقق بالروح فقط فإننا لن نواجه مثل هذه المعضلة من ناحية المكان ، لأنّ الأرواح غير متميزة فهي لا تحتاج إلى مكان ولا تتميز بمكان.

* * *

الجواب :

لقد فات الذين طرحوا هذا الإشكال أنّ القرآن قد صرّح في آياته المختصة بالمعاد بأنّ المعاد لا يتحقق على الكرة الأرضية بصورتها الحالية ، بل سوف تتبدّل بغيرها ، قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْارْضُ غَيْرَ الارضِ وَالسَّموَاتُ). (إبراهيم / ٤٨)

وجاء في القرآن أيضاً أنّ عَرض الجنّة يسع السماوات والأرض ، قال تعالى : «(سَابِقُوا الَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرضِ السَمَاءِ وَالارضِ). (الحديد / ٢١)

يستفاد من هذه الآيات وعدد من الآيات الاخرى أنَّ هنالك احتمالين :

وهما : إمّا أن تتسع الأرض ويصبح حجمها بحجم السماوات والأرض فتضم فيها الجّنة والنار وجميع البشر ، وإمّا أن ينتقل الناس يوم القيامة من الكرة الأرضية إلى مكان آخر. وفي كلتا الحالتين ترتفع مشكلة شحة المكان في مجال المعاد الجسماني لجميع البشر ولا تبقى هناك مشكلة في اسكان أهل الجنّة وأهل النار ... هذه المشكلة التي شغلت اذهان «ذوي اللجاج والعناد»!.

* * *

٢٧٥

٥ ـ كيف يتلائم الجسم الذي من صفاته الفناء مع الخلود؟

الإشكال الآخر الذي طرح في مسألة المعاد الجسماني هو أنّ الآخرة هي دار الخلد ، والآيات التي صرحت بهذا الخلود دليل واضح على الخلود يوم القيامة ، بينما نرى بالوجدان أنّ الجسم المادي ـ على أيّة حال ـ يبلى ويندرس ، وفي نهاية المطاف يصل إلى الفناء.

فإذا ما تحقق المعاد بالجسم فسوف يحصل التضاد وهو نفوذ «الفناء» ، في عالم «البقاء» ، وسوف يخلد الجسم الذي من طبعه الفناء.

وقد طرح هذا الإشكال المرحوم العلّامة الطباطبائي في شرح تجريد الاعتقاد بالنحو التالي : إن التناهي والمحدودية هي من ملازمات الجسم ، والقول بخلود نعم أهل الجنّة يستلزم عدم المحدودية وعدم التناهي (١).

* * *

الجواب :

ليس من الصعب أيضاً الإجابة عن هذا السؤال ، لأنّه لا خلاف في كون الفناء والاستحالة والتفسخ من طبيعة الأجسام ، لكن هذا يتمّ في حالة عدم وجود الدعم المستمر من الخارج ، فإذا ما شمل الدعم الالهي حال الجسم فإنّه من الممكن أن يحافظ على طراوته على الدوام وأن يبقى في حالة تجدد دائم.

وهذا يشبه حال الشجرة التي ترمم خلاياها المتفسخة وتبدّلها بخلايا جديدة لتبقى طرية وجديدة على الدوام وذلك عن طريق تغذيتها المستمرّة على نوع خاص من الغذاء ، وهذا غير مستحيل.

وبتعبير آخر : إنّ مقتضى الذات شيء ومقتضى العوامل الخارجة عن الذات شيء آخر ، والحديث يدور هنا عن خلايا الجسم التي من طبيعتها أن لا تعمِّر طويلاً أو التي تحصل على

__________________

(١) شرح التجريد ، ص ٣٢٢.

٢٧٦

عمر غير محدود بواسطة الترميم الحاصل من الخارج وعن طريق المدد الإلهي ، تخلد وتحافظ على بقائها. وهناك مثال من القرآن المجيد يمكن أن يكون دليلاً على ما قلناه ، وهو طول عمر النبيّ (نوح) عليه‌السلام حيثُ لبثَ في قومه ألفَ سنة إلّاخمسين فيما عدا عمره قبل تكليفه بالنبوّة ، ومعنى ذلك أنّ الله تعالى قد جعلَ خلايا جسمه عليه‌السلام تتجدّد بالحياة دون أن تتفسّح وينالها الموت بينما جميع خلايا أجسام الناس تتفسّخ وتموت بعدَ عُمرٍ يناهز المائة سنة أو أقلّ أو أكثر وذلك لعدم تتدخّل المدد الإلهي في تجديد حياة خلايا أجسامهم. وخلاصةُ القول : إنّ القادر على خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً ، والقادر على إحياء الموتى أليسَ بقادرٍ على جعل خلايا جسم الانسان في حيوية متجدّدة ونشاطٍ دائمٍ وحياةٍ خالدةٍ أبداً في دار الخُلد؟!

وعندما طرح المرحوم العلّامة الحلّي إشكال هؤلاء ، بالنحو المذكور لم يكترث به وقال : إنّ هذه ليست بأدلة بل استبعادات لا غير (١)! أي ماهي إلّاظنون غير مبرهنة منطقياً.

* * *

٦ ـ هل يمكن الجمع بين (معاد) الأجسام والأرواح؟

يُتصور أحياناً بأنّ الجمع بين إعادة الأجسام والأرواح ـ وهو رأى القائلين بالمعاد الجسماني ـ أمرٌ عسير ، وذلك للزوم وجود الثواب المعنوي والمادي ووجود اللذات بنوعيها لمكافأة الروح والجسم معاً ، مع أننا نعلم بأنّ الإنسان إذا ما غرق في عظمة أنوار العالم القدسي فإنّه لا يمكن أن يعير أيّة أهميّة للملاذ المادية ، وكذلك الحال إذا ما غرق في الملاذ الماديّة فإنّه لا يمكنه التفرغ لنيل الملاذ المعنوية ، وقصارى القول إنّ مقتضى المَعادَين متضاديّن فيما بينهما ولا يمكن الجمع بينهما!

* * *

__________________

(١) شرح التجريد ، ص ٣٢٢.

٢٧٧

الجواب :

إنّ هذا الإشكال ضعيف جدّاً ، لأنّ الروح إذا ماكانت تمتلك القدرة الكافية فسيُتاح لها التنعم بالملاذ المادية في نفس الوقت الذي هي مستغرقة في الأنوار الإلهيّة كما كان الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

قال المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار : «إن السبب في انصراف الإنسان عن المادّيات عندما يشتغل بالمعنويات وبالعكس هو ضعف روح الإنسان في الدنيا لكنه بعد الموت وبعد أن يصله المدد من العالم القدسي ويطهر من الدنس فإنّ روحه تشتد وتقوى فيتمكن آنذاك من الجمع بين الاشتغال بالماديات والمعنويات معاً» (١).

وعلى أيّة حال فهذا الإشكال أيضاً غير مستند إلى دليل منطقي وهو شبه دليل وما هو إلّا استبعادٌ لا غير.

* * *

٧ ـ ايّ جسمٍ يُعادُ يوم القيامة؟

والإشكال الأخير الذي يمكن طرحه هنا هو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ العلم الحديث أثبت أنّ جسم الإنسان في حالة تبدّل وتغيّر دائم ، فالخلايا تندرس بالتدريج ويحل محلها خلايا اخرى ، وبعد مرور سبع سنين تقريباً تتبدّل جميع خلايا الإنسان وتحل محلها خلايا جديدة ، كما هو الحال في الحوض الكبير الذي يدخله الماء من أحد جوانبه ويخرج من جانب آخر ، ومن الطبيعي أن يتبدل جميع مائهِ بعد فترة.

بناءً على هذا فإذا ما عمّر جسم الإنسان سبعين سنة فإنّه يتبدل عشر مرات ، فهل تعاد جميع هذه الأجسام العشرة يوم القيامة ويعاد الإنسان بحجم العمالقة؟! أم لا يعاد إلّابحجم جسم واحد منها؟ وإن قيل : إنّ أحد هذه الأجسام يعاد يوم القيامة فأيّها سوف يعاد؟ وما هو النصاب في هذا الترجيح؟

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٥٠.

٢٧٨

الجواب :

إنّ هذا السؤال استبعاد أيضاً ، فما المانع من أن تعاد جميع هذه الأجسام؟ لكن الحق هو إعادة الجسم الأخير فقط ، لأنّ القرآن يقول : «يبعث من في القبور» وتحيى العظام الرميمة والتراب ، وهذا لا يعني إلّاإعادة الجسم الأخير.

أمّا ما هو المناطُ في ترجيج هذا الجسم على الأجسام الاخرى؟ فالمناط أنّ هذا الجسم يحمل جميع صفات وخصوصيات تلك الأجسام ، وذلك لأنّ الخلايا التي تتخلّى عن محلها تعطي بالإضافة إلى ذلك جميع صفاتها للخلايا الجديدة التي تحل محلها ، بناءً على هذا فالجسم الأخير يحمل في طياته عصارة جميع الأعمال والأوصاف السابقة ، وإذا ما توفر المنظار الثاقب الذي يكشف الحقائق لأمكن مطالعة جميع سوابق الإنسان من خلال بصمات خاصيّة جسمه الأخير.

ومن البديهي أن لا يتنافى هذا أبداً مع حشر المؤمنين والصالحين على هيئة شباب يمتلئُون بالحيوية ، وهذا يشبه عملية جمع تراب اللبنة البالية ووضعها في قالب جديد لتصبح لبنة جديدة.

* * *

ثمرة البحث :

توصلنا من خلال ما مّر من البحوث إلى هذه النتيجة ، وهي أننا لا نواجه في بحث المعاد مشكلة عصيبة ، وما عَدَّهُ البعض من المشاكل في الغالب ناتجٌ عن عدم إعمال الدقّة الكافية خصوصاً في هذه المسألة ، ولا يستحق أى من هذه الإشكالات السبعة الذكر إلّاإشكال الآكل والمأكول ، أمّا بقية الإشكالات فهي جزئية تتضح الإجابة عنها بمجرّد إعمال شيء من الدقّة.

٢٧٩
٢٨٠