نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

تحدث عند انقباض أجزاء عالم المادّة كما أشرنا إليها في الصفحات السابقة ، ومن الممكن أيضاً أن تكون بياناً لحركة العالم المستديرة في مسير انبساط وانقباض المجموعة الكونية.

وقال الفخر الرازي خلال تعليقه على هذه الآية : وقوله (وتسير الجبال) يُحتمل أن يكون بياناً لكيفيّة مور السماء ، وذلك لأنّ الجبال إذا سارت وسير معها سكّانها يظهر أنّ السماء كالسيّارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة ، فانّه يرى الجبل الساكن متحرّكاً (١).

مفهوم هذا الكلام هو أنّ السموات ثابتة في الحقيقة ولكنّها تبدو للانظار متحركة ، لكن هذا على خلاف ظاهر الآية.

٢٨ ـ يوم تشقَّقُ السماءُ بالغمام

٢٩ ـ يوم تشققُ الأرض عنهم سراعاً

هذان التعبيران عن يوم القيامة متشابهان في أحد أبعادهما.

ففي الآية الاولى قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمَامِ). (الفرقان / ٢٥)

وفي الآية الثانية قال تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً). (ق / ٤٤)

إنّ انشقاق الأرض من فوق الناس له مفهوم واضح وهو بيان لزلزال القيامة الذي يشق القبور ويحيى الناس بأمر الله ويخرجون بسرعة للحساب والجزاء.

أمّا تمزق السموات بالغمام فيمكن أن يكون بياناً للانفجارات الهائلة التي تحدث في الأجرام السماوية عند فناء الكون وأنّ الغمام الحاصل من هذه الانفجارات يملأ السماء (هذا على أنّ «الباء» في «بالغمام» باء الملابسة أي يلابس ويصطحب مع الغمام).

أو أنّ السموات أي «الأجرام السماوية» تتمزق بتأثير الغيوم التي تحمل أمواجاً قوية هائلة حاصلة من الانفجارات النووية أو غيرها (وفي هذه الحالة تكون الباء سببية) (٢) ـ (٣).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٨ ، ص ٢٤٣.

(٢) قال بعض المفسرين إنّ «الباء» بمعنى «عن» فيكون المعنى هو أن تتمزق وتتنحى عن واجهة السماء لكن هذا المعنى بعيد جدّاً.

(٣) «الغمام» من مادة «غم» بمعنى الحجب ، ومن حيث إنّ الغيوم تحجب السماء فإنّهم اطلقوا عليها «الغمام» ومن حيث إنّ الهم والحزن يملاً قلب الإنسان فإنّهم اطلقوا على ذلك الغم.

٦١

قال المرحوم العلّامة الطباطبائي في تعليقهِ على هذه الآية : «ليس من البعيد أن يكون هذا الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان» (١).

ولكن بما أنّ الحمل على الكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة عليه في الآية فإنّ التفسير الأول يظهر على أنّه أكثر مناسبةً ، وهكذا في الآية الثانية أيضاً فإنّ انشقاق الأرض يحمل المعنى الظاهري لا الكنائي والمعنوي.

والشاهد الآخر وجود الآيات الكثيرة في القرآن المجيد والتي تدل على حدوث تغيّرات وانقلابات شديدة في جميع شؤون عالم المادّة لا في السماء والأرض والجبال والبحار فقط.

* * *

٣٠ ـ يوم تكون السماء كالمُهل

هذا وصف آخر ليوم القيامة والتغيّرات الحادة التي تطرأ على العالم ، وقد ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن حيث قال تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ). (المعارج / ٨)

و «مُهْل» : على وزن (قُفْل) فسروها تارة بمعنى المعادن المنصهرة ، وتارةً بمعنى الثُقل أو الرسوبات التي تترسب في قعر إناء الزيت وأمثاله ، وتارةً اخرى بمعنى الفضة المذابة وتارة بمعنى رسوبات الزيت (٢) ، هذا ولكن المعنى الأول أرجح عند إمعان النظر في آيات اخرى تحدثت عن وقائع يوم القيامة.

والمراد بالسماء هنا هو إمّا الأجرام السماوية أو واجهة السماء التي تصبح على هيئة معدن منصهر بفعل انفجار الأجرام.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٢٠٢.

(٢) تفاسير مجمع البيان ؛ الكبير ؛ الميزان وتفاسير اخرى في التعليق على الآية.

٦٢

قال بعض المفسرين : من المحتمل أنّ عدداً كبيراً من الأجرام السماوية والتي هي حالياً على هيئة غازات مضغوطة تتبدل صورها يوم القيامة وتتحول إلى أشكال ذائبة ، وهي الصورة الجديدة لتلك الغازات والتي تكون مقدمة لحدوث القيامة (١).

* * *

٣١ ـ يوم ترجف الأرضُ والجبال

لوحظ هذا الوصف في آيتين من القرآن المجيد على تفاوت ضئيل بينهما في وصف يوم القيامة ، وجاء هذا الوصف في الآية : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ والْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً). (المزمل / ١٤)

وكذلك قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ). (النازعات / ٦)

اليوم الذي تتعرض فيه كل الأرض للزلازل العنيفة وتَتحطّم الجبال بشدّة حتى تصبح أكواماً من الرّمل ، فما هو حال الإنسان الضعيف المنهك في ذلك اليوم؟!

جميع تلك الامور تتعلق بالوقائع التي تؤدّي إلى فناء هذا العالم ، ثم تبدأ مرحلة العالم الآخر ، فالقرآن جمع بين هاتين المرحلتين ووضعهما في وصفٍ واحد.

فتارةً يبين ضعف الإنسان واخرى يُخبر عن التطورات الرهيبة عند فناء العالم وثالثة يصور تغيّرات العالم الممهِّدة لقيام القيامة ، كل هذه التعبيرات جاءت من أجل تربية الإنسان وتشكّل انذاراً مؤكداً ومتواصلاً له.

إنّ «ترجف وراجفة» من مادة «رَجْف» بمعنى الاهتزاز الشديد ولذا اطلق على البحر المائج «بحرٌ رَجّاف» ، و «ارجاف» بمعنى بث الشائعات التي تهز المجتمع ، و «اراجيف» تطلق على جذور الفتن والوقائع.

وقد احتملوا لمعنى «الراجفة» في الآية السابقة معانٍ مختلفة منها الواقعة والصيحة

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢٧٨ و ٢٧٩.

٦٣

الكبرى و... ، ولكن الآية الآخرى تشكّل قرينة على أنّها الأرض التي تُزَلزَل بشدّة في ذلك اليوم.

و «الكثيب» : بمعنى «الرمل المتراكم» والبعض حملها على معنى «التل الكبير من الرمل».

و «المهيل» : بمعنى الرمل الناعم جدّاً الذي يتطاير عند وضع القدم عليه ، وإذا ما خُلّي جانبه انهال ما تبقّى منه ، ولذا فسّره البعض بالرمل السيّال (١).

* * *

٣٢ ـ يوم يَسْمَعُونَ الصيحةَ بالحقِ

٣٣ ـ يَومَهُمُ الذي فيه يُصْعقون

التعبيران أعلاه ، واللذان يتقاربان في الافق هما أيضاً وصفان آخران لذلك اليوم العظيم ، ففي الآية الاولى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ). (ق / ٤٢)

نحن نعلم بأنّه عند انتهاء الدنيا وابتداء القيامة تطلق هنالك صيحتان على حد تعبير القرآن المجيد واللتان عبّر عنهما أحياناً بـ «نفخ الصور» وهما : «الصيحة الاولى» وهي صيحة فناء العالم والموت الشامل ، و «الصيحة الثانية» صيحة الحياة الجديدة والقيامة ، والآية التي وردت أعلاه تدلّ على الصيحة الثانية وذلك بقرينة (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) التي جاءت في آخر الآية.

أمّا ما هي كيفية هذه «الصيحة العظيمة»؟ وبأي الوسائل يحدث هذا الصوت؟ وما هو تأثيره في احياء الموتى؟ فإنّ هذه الامور لايعلم أحد تفاصيلها ، بَيد أنّ القرآن أشار إليها إشارةً اجمالية ، ولا عجب من جهلنا بها في هذا الزمان ؛ وذلك لأنّ كل ما يتعلق بالقيامة يختلف اختلافاً تاماً عمّا في الدنيا ، ومحفوف بهالة من الابهام ، كما هو الحال في الجنين فإنّه لا يمكن أن يُدرك حياة هذه الدنيا وإن كان بالفرض يمتلك قدرة فكرية عظيمة.

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ وتفسير مجمع البيان ؛ وتفسير الكبير وتفاسير اخرى في التعليق على آيات البحث.

٦٤

وفي الآية الثانية قال تعالى : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ). (الطور / ٤٥)

«يصعقون» : من مادة «اصعاق» اشتقت في الأصل من «الصاعقة» ، وبما أنّ الصاعقة لها صوت عظيم بالإضافة إلى أنّها مهلكة فقد فُسِّرت هذه الجملة بهذين المعنيين معاً ، فإن كانت بمعنى الهلاك فتكون دليلاً على إرادة النفخة الاولى وفناء الكون ، كما جاء في الآية : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّموَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ). (الزمر / ٦٨)

وإن كانت كلمة (صعق) بمعنى الصوت فإنّها من الممكن أن تكون دليلاً على النفخة الاولى أو الثانية التي هي نفخة يوم القيامة ، فعلى هذا تكون مرادفة للآية السابقة.

ورجّح كثير من المفسرين المعنى الأول ، وفي نفس الوقت لم يهجروا المعنى الثاني (١).

وأمّا ما احتمله البعض من أنّ الآية تشير إلى هلاك مجموعة من المشركين في غزوة بدر فيبدو بعيداً جدّاً (بدليل الآية ٦٨ من سورة الزمر التي مرّ ذكرها).

٣٤ ـ يوم يُنفخُ في الصور

ورد هذا التعبير أربع مرات في القرآن المجيد ففي الآية الاولى قال تعالى : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). (الانعام / ٧٣)

وفي الآية الثانية قال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجرِمِينَ يَؤمَئِذٍ زُرْقاً). (طه / ١٠٢)

وفي الآية الثالثة قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ). (النمل / ٨٧)

وفي الآية الرابعة قال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأتُونَ افْوَاجاً). (النبأ / ١٨)

يتحدث القرآن المجيد ـ كما سيأتي في بحث «نفخ الصور» إن شاء الله ـ عن نوعين من

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٦٩ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٢٤٧ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٣٧ ، ص ٣٤ ؛ وتفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٣ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٥.

٦٥

نفخ الصور : ففي النفخ الأول تموت جميع الاحياء الموجودة في الأرض والسماء ، وفي النفخ الثاني والذي هو نفخة الحياة يحيا الجميع ويتأهبون للحساب والكتاب ، لكن الآيات الاربع السابقة الذكر كلّها أو جلّها تتعلق بالنفخ الثاني أي نفخ الحياة في القيامة.

ومهما يكن من شيء فإنّ هذا التصوير للقيامة من قبل القرآن يصور للانظار الوقائع العديدة التي تقع عند ذلك اليوم ، وهذا التعبير هو أحد التعابير العديدة التي تحتوي على معنىً دقيق والتي تصوّر للضمائر وقائع ذلك اليوم الصعبة المرعبة فتنبّهها من غفلتها.

أمّا البحث عن معنى «الصور» ومفهوم «النفخ» والخصوصيات الاخرى فسوف نتناوله في محله إن شاء الله ، ولكن ولأجل الاطّلاع على محتوى هذا التعبير نتطرق لذكر الحديث النبوي الشريف الذي يذكر مجموعة من تلك الوقائع والذي ورد في تفسير الآية الرابعة من بحثنا هذا (الآية ١٨ من سورة النبأ) :

قال «معاذ بن جبل» سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير الآية : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يامعاذ بن جبل سألت عن أمرٍ عظيم ثم أرسل عينيه باكياً ، ثم قال : «يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميّزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدلّ صورهم ، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون ، أرجلهم أعَلاهم ، ووجوههم يسحبون عليها ، .... ، .... ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مُدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم لعاباً ، يتقذرهم أهل الجمع ، .... ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ؛ فامّا الذين على صورة القردة فالقَتَّات من الناس ـ يعني النمام ـ وأمّا الذين على صورة الخنازير ، فأهل السحت والحرام والمَكس ، وأمّا المنكسون رؤوسهم ووجوههم ، فأكلة الربا ، .... ، .... ، والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم ، ... ، والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله من أموالهم ، والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكِبْر والفخر والخيلاء» (١).

__________________

(١) ذكر هذا الحديث عدد كبير من المفسرين مثل أبي الفتوح الرازي والقرطبي وروح البيان وقد أوردنا الحديث باختصار.

٦٦

٣٥ ـ يومٌ كان مقدارُهُ خمسين الف سنةٍ

وصف القرآن المجيد وفي آيتين يوم القيامة بأنّه يومٌ طويل للغاية ، قال الله تعالى في أحد الآيتين : (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). (المعارج / ٤)

وقال في محلّ آخر : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). (السجدة / ٥)

لا شك في أنّ الآية الاولى تختص ببيان يوم القيامة ، والآيات التي أتت بعدها تتعرض لصفات القيامة ولعذاب المجرمين في ذلك اليوم وكذلك إلى أوصاف جهنم.

وقد اختلف المفسرون في مورد الآية الثانية فهناك عدة آراء (١) فالبعض قالوا : إنّها إشارة إلى المنحنى النزولي والصعودي للتدبير الالهي في هذه الدنيا ، أو بتعبير آخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم والتي تتم كل مرحلة منها في مدّة الف عام على يد الملائكة المكلّفين بأمرٍ من الله بإجراء هذا التدبير التكويني ، ثم بعد انتهاء هذه المرحلة تبدأ مرحلة اخرى وهلمّ جرّا.

لكن بعد البحث في الآيات القرانية التي تحدثت عن انطواء السماء والأرض ، وكذلك الروايات التي وردت في شرح هذه الآية يفهم منها أنّها تتحدث عن يوم القيامة.

ولذا رجّح المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان هذا التفسير أيضاً بعد أن ذكر عدّة احتمالات لهذه الآية (٢).

لكن يبقى هنالك سؤال وهو كيف قُدِّر ذلك اليوم في الآية الاولى بخمسين الف سنة ـ من سنين الدنيا ـ وفي الآية الثانية بالف سنة؟

اجيبَ بوضوح عن هذا السؤال في حديثٍ نقله المرحوم الشيخ الطوسي في أماليه عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : «إنَّ في القيامة خمسين موقفاً ؛ كُلُّ موقفٍ مثلُ الف سنةٍ ممّا

__________________

(١) ذكر الآلوسي في تفسير روح المعاني ، ج ٢١ ، ص ١٠٧ سبعة تفاسير للآية ، أحدها هو القيامة.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢٦١ ، وجاء نفس هذا المعنى أيضاً في تفسير ظلال القرآن ج ٦ ، ص ٥١١.

٦٧

تعدون ثم تلا هذه الآية : (فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

والكلام في أنّ العددين (الف وخمسين الف) سنة هل جاءت هنا لبيان العدد أم للدلالة على الكثرة؟ فيه احتمالان ، ولكن على أيّة حال فإنّ مضمون خطاب هذه الآية هو أنّ ذلك اليوم يومٌ صعبٌ جدّاً ومعضل ، ولا يتيسر لأحد تجاوزه بسهولة ، ويجب على الجميع أن يتأهبوا لمثل هذا اليوم الطويل الملي بالمخاطر.

وهناك أمرٌ يثير الاهتمام وهو أنّ اليوم (أي دوران الكواكب السماوية حول محورها دورة كاملة) يختلف تماماً من كوكب لآخر ، فالكرة الأرضية تدور حول محورها في كل ٢٤ ساعة دورة كاملة بينما تطول مدة الدوران الموضعي في القمر لمدّة شهر تقريباً (فالنهار فيه يبلغ اسبوعين والليل فيه يبلغ اسبوعين تقريباً) وهكذا الحال في الكواكب الشمسية الأخرى فكل منها له ليلٌ ونهار يختص به ويمتد زمانه بمقدار متميز ، والآن في هذا الزمان من الممكن أن تكون في عالم الوجود كواكب يمتد دورانها الموضعي إلى مئات أو الاف من السنين ، بناءً على هذا فلا عجب من أن يكون امتداد كل يوم في القيامة يعادل خمسين الف سنة.

ونواصل التأكيد على أنّ هدف القرآن الرئيسي هو الجانب التربوي الكامن في مثل هذه التعبيرات.

* * *

القسم الثالث :

٣٦ ـ يومَ يكونُ الناسُ كالفراشِ المبثوث

كل ما قرأنا لحد الآن في وصف ذلك اليوم كان يتحدّث عن الوقائع المزلزلة التي تقع في مقدمة ذلك اليوم في عالم الدنيا وإن كل وصف يحمل في طياته خطاباً خاصاً ، ففي الوصف الأخير طرحت مسألة طول وامتداد ذلك اليوم وهذا أيضاً يحمل انذاراً متميزاً.

والآن نذهب صوب الأوصاف التي تصوّر حال الناس في ذلك اليوم ، ونلتفت إلى أنَ

٦٨

تعبيراتٍ كل واحد منها أقوى تأثيراً من الآخر وكأنّها تأخذ بيد الإنسان وتسير به في اروقة المحشر وتعرفه على كل موضع منه فتجسّم له وقائع ذلك اليوم العظيم وكأنّه يراه بعينه المجردة.

في الوصف الذي نتناوله بالبحث والذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد فقط حيث يصور وضع الناس المروع في ذلك اليوم بهذا النحو : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ). (القارعة / ٤)

وجاء مثل هذا التعبير ولكن باختلاف ضئيل عندما قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ). (القمر / ٧)

وللمفسرين آراء مختلفة في سبب تشبيه الناس في ذلك اليوم بالفراش ، ومن جمله ما قالوا هو أنّ السبب في هذا التشبيه هو كثرة الناس واضطرابهم وخوفهم وفرارهم في كل صوب وضعفهم وتخبّطهم.

ومن الممكن أيضاً أن تكون هذه المسألة من مكنونات التعبير المذكور أعلاه وهي أنّ الفراش عادةً يرمي بنفسه باتجاه نور الشمع والمصباح بصورة جنونية فيحترق ، وأنّ المجرمين أيضاً في ذلك اليوم تعتريهم هذه الحالة عند مواجهتهم لنار جهنم ، وكل هذا يدلّ على الحيرة والضلال الشديد والاضطراب والرعب العظيم الحاصل في ذلك اليوم.

على أيّة حال فإنّه تعبير ناطق وتصوير واضح عن حالة الناس العجيبة الحاصلة في ذلك اليوم والتي عبّر عنها القرآن بتعبير وجيز ، ويرى البعض أنّ السبب في دوران الفراشة حول النار حتى الاحتراق هو فقدانها للذاكرة ، فإنّها تقترب من الشعلة وتحس بحرارتها فتهرب ولكنها تنسى بسرعة وتعود ثانيةً وتقترب من شعلة النار وتكرر هذا العمل حتى تلقي بنفسها في النار وتحترق.

وكذلك الحال بالنسبة للمسيئين والمجرمين ، فمن شدّة الاضطراب والجزع كأنّهم يفقدون صوابهم ويلقون أنفسهم في النار كما تفعل الفراشات.

وذكر أهل اللغة والمفسرون معاني متعددة ل «الفراش» : فالبعض فسّره بمعنى الجراد الذي

٦٩

ينتشر بكثافة في السماء ، والبعض فسّرها بمعنى البعوض الذي يطير على شكل أفواج ، ولكن أغلب المفسرين واللغويين فسروها بذلك المعنى وهو الفراش ، على الأخص ما قاله «الخليل بن أحمد» في كتاب «العين» فإنّه قال : «الفراشُ التي تطيُر طالبةً للضوء» وقال في صحاح اللغة أيضاً : «الفراش» جمع «فراشة» تلك الحشرة الطائرة التي تطير وتقع في النار.

* * *

٣٧ ـ يوم تبلى السرائر

٣٨ ـ يوم هم بارزون

هذان الوصفان يبينان خلال تعبيرين اثنين حقيقة واحدة عن ذلك اليوم العظيم (وقد وردا في الآية ٩ من سورة الطارق والآية ١٦ من سورة المؤمن) ، ويقرران أمراً خطيراً إذا ما آمن به الناس كان له أثر عميق في تربيتهم.

ففي ذلك اليوم لا تخفى خافية ؛ وذلك لارتفاع الاستار الطبيعية مثل الجبال والتلال ، وتكون الأرض كما أشار إلى ذلك في الآية : (قَاعاً صَفْصَفاً) ، (أي صافية خالية من المرتفعات). (طه / ١٠٦)

ومن ناحية اخرى يخرج الناس من القبور وتُخرج الأرض ما في باطنها : (وَأَخْرَجَتِ الْارْضُ أَثْقَالَهَا). (الزلزال / ٢)

وثالثة ، تنشر صحف أعمال الناس والامم ويُعلن عن محتواها أمام الملأ : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ). (التكوير / ١٠)

وتنطق الأيدي والأرجل وجميع الجوارح حتى الجلود ، وتبدأ بالعويل واعلان الفضائح.

فالأرض والدهر كلها تنطق وشهداء الأعمال يشهدون على أعمال الناس ، ففي ذلك اليوم يعلن أمام الملأ حتى عن نيّات الناس واعتقاداتهم فضلاً عن أعمالهم ، إنّه يوم الفضيحة الكبرى للمسيئين ويوم الفخر العظيم للمحسنين حقاً.

ويجب الانتباه إلى أنّ «تُبلى» من مادة «بلاء» بمعنى الامتحان وبما أنّ حقائق الأشياء تظهر عند الاختبار فقد فُسِّر البلاء هنا بمعنى الاتضاح.

٧٠

جاء في الحديث عن «معاذ بن جبل» أنّه قال : (سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة ، فقال : «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأنّ الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوضأ ، فذلك قوله يوم تبلى السرائر» (١).

والجدير بالذكر هو أنّ ما جاء في الحديث الشريف المذكور هو بيان أمثلة من هذه الحقيقة الكلية ، وإلّا فإنّ الآية الشريفة تشتمل على جميع «العقائد» و «النيات» وأعمال الناس» سواء الحسن منها أم السيء.

ومن هنا يظهر أنّ العناوين البراقة الكاذبة التي حصلت عليها الكثير من الشخصيات بواسطة التضليل والتستر في هذه الدنيا سوف تذهب هباءً بفعل زوابع المحشر وتحل محلها الفضيحة العظمى ، وما أروع من سقوط هؤلاء الأفراد وأصحاب الواقع السي المتلبسين بالظاهر الأنيق ، من اوج العزّة والكرامة إلى قعر الذّلة والمهانة!

وما أحلى الكرامة التي حاز عليها المؤمنون المخلصون الذين لم يراؤوا وحافظوا على اخفاء ارتباطهم بالله في هذه الدنيا وما أجمل ظهورهم في ذلك اليوم وجلوسهم على عرش العزة والعظمة!

هذا هو النداء الذي يقدّم لنا الوصف المذكور أعلاه وهو انذار لجميع الناس العالِم منهم والجاهل.

* * *

٣٩ ـ يوم ينظُرُ المرءُ ماقدَّمت يداه

٤٠ ـ يوم تجدُ كُلُّ نفسٍ ما عَمِلَت من خيرٍ مُحضراً وما عملت من سوءٍ

هذان التعبيران أيضاً يوضحان أحد الحقائق التي صُبَّت في قالبين ، ويبينان حقيقة مهمّة اخرى لذلك اليوم تقصم الظهر وتزلزل القلوب وتجعل الإنسان يسرح في تأمّل عميق.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧١.

٧١

ففي الآية الاولى قال تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرءُ مَاقَدَّمَتْ يَدَاهُ). (النبأ / ٤٠)

بما أنّ مسألة تصور الأعمال في ذلك اليوم العظيم ومشاهدة جميع الأعمال التي ارتكبها الإنسان في هذه الدنيا يُعتبر أمراً غير معقول لكثير من المفسرين فإنّهم فسّروا «ينظر» حيناً بمعنى «ينتظر» ، وحيناً آخر بمعنى مشاهدة كتاب الأعمال أو مشاهدة ثوابها وعقابها.

والسبب الذي دفعهم إلى ذلك هو أنّ المفسرين في تلك العصور لم يمعنوا النظر في مسألة تجسّم الأعمال ، وإلّا فما الضرورة لهذه التقديرات والتأويلات ؛ وذلك لأنّ القرآن يقول : إنّ الإنسان سوف يشاهد بعينيه في ذلك اليوم كل ما ارتكب من قبل ، أي أنّ نفس أعماله التي فنيت مادياً في الظاهر لم تفن في الواقع وسوف تبقى وتظهر للعيان بصورةٍ ما ، وليس بالضرورة أن يراها جميع أهل المحشر ، كما جاء نفس هذا المعنى أكثر وضوحاً في الآية : (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً)! (الكهف / ٤٩)

وورد نفس هذا المعنى بجلاء في الآية الثانية أيضاً قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً). (آل عمران / ٣٠)

وممّا يثير الاهتمام هنا هو ما قاله المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» في تعليقه على الآية الثانية ، قال : «فأما أعمالهم فهي اعراض قد بطلت ولا يجوز عليها الاعادة ، فيستحيل أن ترى محضرة» ، لذا ذهب إلى تفسيرين آخرين أحدهما حضور كتب الأعمال ، والثاني حضور جزاء الأعمال من ثوابٍ وعقاب.

ولكن كما أشرنا في كتاب (التفسير الأمثل) ، أنّ أعمال الإنسان هي نوعٌ من الطاقة مثل جميع أنواع الطاقة الموجودة في العالم ، فإنّها لا تفنى أبداً بل تتغير اشكالها وهي باقية قطعاً.

وقلنا أيضاً بأنّ تحوّل «المادة إلى «طاقة» والطاقة» إلى «مادة» كلاهما أمر ممكن من الناحية العلمية ، فعلى هذا لا مانع من بقاء أعمال الإنسان وتحولها في ذلك اليوم إلى مادة ، وظهور كل واحد منها على هيئة مناسبة لحاله ، وبناءً على هذا فإنّ الآيات المذكورة تُمثّل في الواقع جزءً من المعجزات العلمية للقرآن والتي لم تكن حين نزول القرآن معروفة لأحد،

٧٢

وهذه الحقيقة اتضحت لنا بسبب الاكتشافات العلمية الحديثة.

وممّا يثير الاهتمام أيضاً أنّ الروايات الإسلامية تحدثت كثيراً أيضاً عن تجسم الأعمال في البرزخ والقيامة ، ولكن لا يعلم علّة عدم اهتمام المفسرين السابقين بهذه الروايات ، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو اعتقادهم بأنّ الأعمال «اعراض» وبأنّها فانية وبأنّ إعادة المعدوم محال ، بينما اتّضح لنا في هذا الزمان بطلان هذا الاستدلال كلياً (وسوف نقرأ في بحث تجسم الأعمال تفصيلاً أكثر في هذا المجال).

* * *

٤١ ـ يوماً تتقلَّبُ فيه القلوب والأبصار

٤٢ ـ يوم تشخصُ فيه الأبصار

التعبيران المذكوران في الآيتين أعلاه واللذان يجمعهما شبه كبير يرفعان الستار عن أسرار اخرى من أسرار ذلك اليوم العظيم ، ويحملان لجميع الناس نداءات جديدة.

ففي الآية الاولى قال تعالى : (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْابْصَارُ). (النور / ٣٧) وفي الآية الثانية قال تعالى : (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ). (إبراهيم / ٤٢) حلبة المحشر رهيبة من عدة جوانب : من جانب ما يستجد فيها من الوقائع الرهيبة التي تقع عند قيام القيامة ، ومن جانب استعداد الملائكة مع حضور الاشهاد لمحاسبة العباد ، ومن جانب نشر الصحف التي تحتوي على سائر أعمال الإنسان التي ارتكبها خلال حياته صغيرها وكبيرها ، ومن جانب اتضاح ملامح النار والعذاب الإلهي واستحالة العودة لإصلاح مافات وعدم وجود خليلٍ ومنقذ!

إنّ هذه الوقائع والتي يكفي كل واحد منها بوحده لقلب افئدة الناس ، تقع جميعها في وقت واحد ، تجعل الإنسان في حصار شديد ممّا يؤدّي به إلى أن يقلّب عينيه في كل جانب بدون إرادة ويتلفت إلى كل جانب باضطراب يطلب العون ، وعلى حد تعبير القرآن أنّها تقلب الأبصار وأحياناً تقف عن الحركة نهائياً وتبقى الأجفان مفتوحة وكأن روح الإنسان فارقت جسده!

٧٣

ومن الجدير بالذكر أنّ الآية الاولى تختص بالمؤمنين والآية الثانية بالظالمين ، وهذا يدل بوضوح على أنّ الجميع من المحسنين والمسيئين سوف يستولي عليهم الرعب في ذلك اليوم المفزع ، وذلك (لجهل الناس بعواقب أعمالهم بسبب الدقة والشدة في الحساب الإلهي فلا أحد يعلم بالضبط إلى اين ينتهي مصيره.

«تتقلب» : بمعنى انقلاب الشيء رأساً على عقب وبمعنى التحوّل ، وللمفسرين تعابير مختلفة في تفسير هذه الجملة تشير جميعها إلى الخوف والاضطراب الشديد الذي يهيمن على ظاهر وباطن الإنسان وعلى بصره وبصيرته.

«تَشْخَصُ» : من مادة «شخوص» بمعنى توقف العين والأجفان عن الحركة والتركيز بالنظر على نقطةٍ دون التفات.

والأصل في «شخوص» على وزن «خلوص» هو بمعنى القيام أو الخروج ، و «الشخص» من حيث إنّه يبدو من بعيد على هيئة بارزة اطلق عليه كلمة شخص ، وخروج الإنسان من محلٍ آخر يطلق عليه الشخوص أيضاً.

و «شاخص» : المشتق من نفس هذه المادة أيضاً بمعنى الجسم المرتفع الذي يستخدم لقياس الوقت وأمثال ذلك (١).

وبما أنّ عين الإنسان حين التعجب والتحديق كأنّها تريد أن تخرج من حدقتها فقد استعمل هذا التعبير في عدة موارد ، بلى إنّ الناس في عرصة المحشر يصبحون أُسارى الخوف بنحوٍ يجعل عيونهم تتوقف عن الحركة وتشخص وكأنّها تريد أن تخرج من حدقتها ، وهذه الحالة تظهر لدى الإنسان أحياناً في حال الاحتضار.

ومن البديهي أن تكون هذه الحالات أشد بكثير عند المذنبين والمجرمين ، ولذا جاء في القرآن المجيد : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا). (الأنبياء / ٩٧)

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ ومقاييس اللغة ؛ والمصباح ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٧٤

٤٣ ـ يوم يتذكَّرُ الإنسان ما سعى

هذا التعبير أيضاً من التعبيرات التربوية التي وردت مرّة واحدة في القرآن المجيد ، قال تعالى : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى). (النازعات / ٣٥)

هذا التذكّر والانتباه إمّا أن يحصل بسبب مشاهدة صحيفة الأعمال ، وإمّا بسبب تجسم الأعمال ، أو بسبب شهادة الجوارح أو الملائكة التي تشهد على الأعمال أمام الله ، أو بسبب ارتفاع الحجُب عن قلب وروح الإنسان وزوال ما يسبب الغفلة والنسيان.

ولذا تبرز جميع الحقائق المكنونة ويتذكّر الإنسان كل سعيه ومحاولاته ، ولكن ياللحسرة فلا مجال أمامه لجبران الخطايا والتقصير والغفلة.

وجاء هذا التعبير بصورة اخرى في الآية (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) ، ثم يضيف إلى ذلك : (يَقُولُ يَالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى). (الفجر / ٢٣)

إنّه أسف وحسرة لا فائدة منها هناك أبداً سوى مضاعفة المعاناة والألم.

وكلمة «لحياتي» تثير الانتباه ، وهي تدل على أنّ الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة ، وأنّ الحياة الدنيا لا تستحق حتى اطلاق اسم الحياة عليها ، وعلى حد تعبير القرآن ماهي إلّالهو ولعب.

والهدف هو انذار سائر بني الإنسان بأن يستفيدوا من الفرصة المتاحة أمامهم قبل الابتلاء بمثل هذا البلاء فالتذكّر في ذلك اليوم لا ينفع مثقال ذرّة.

* * *

٤٤ ـ يوم تأتي كُلُّ نفسٍ تُجادلُ عن نفسها

هذا التعبير يرسم صورة اخرى لذلك اليوم العظيم ، قال تعالى : (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا). (النحل / ١١١)

نعم إنّ الرعب والخوف من العذاب والعقاب الإلهي يسيطر على وجود الإنسان ممّا

٧٥

يجعله ينسى أعزّ أحبائه ، فهو لا يهتم بالأبناء ولا بالزوجة ولا بالوالدين ولا بأعز الأصدقاء ، ولا يهتم إلّابانقاذ نفسه لا غير.

وجاء في الحديث الشريف : «كُلُّ احدٍ يقولُ يومَ القيامة نفسي نفسي من شدّة هول يوم القيامة سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يُسألُ في امته» (١).

* * *

٤٥ ـ يومَ يقومُ الناسُ لِرَبِّ العالمين

هذا التعبير في الواقع هو توضيح لاسم (القيامة) في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ). (المطففين / ٦)

إنّه قيام يدل على جدّية الموقف في ذلك اليوم ، ودليلٌ على الحضور في محكمة كبرى ، ودليل على خضوع جميع الأعمال للحساب.

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن المجيد أتى بهذا التعبير في سورة المطففين لتحذير وتنبيه الذين يبخسون الميزان ، قال تعالى : (أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ثم يضيف (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَميِنَ). (المطففين / ٤ ـ ٥)

أي أنّهم لو كانوا على يقين بأنّ مثل هذا «الحضور» و «القيام» في يوم كهذا واقع حتماً لما ارتكبوا السيئات أبداً ، ولكن للأسف أنّ حب الدنيا والغفلة والغرور وطول الأمل ظلل على أفكارهم وقلوبهم وأرواحهم ظِل الشؤم والظلام ممّا جعلهم يغفلون هذه الحقائق.

جاء في احدى الروايات «عن إبن عمر وهو من أصحاب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه وعند قراءته لسورة المطففين : لمّا بلغ قوله (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمينَ) بكى بكاءً شديداً أعجزه عن مواصلة القراءة» (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٠٩.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٣١ ص ٩٠ ؛ تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠٤٦.

٧٦

٤٦ ـ يوم يقوم الاشهاد

٤٧ ـ يومَ يقوم الروحُ والملائكة صفاً

التعبيران المذكوران أعلاه يذكّران بجانب آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويتركان أثراً اخلاقياً كبيراً لدى الإنسان ، ويشتملان على مناجاة تستهوي القلب والروح.

في التعبير الأول يصف ذلك اليوم بـ (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). (المؤمن / ٥١)

و «أشهاد» : جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل «أصحاب» التي هي جمع «صاحب» ، و «اشراف» جمع «شريف») والأشهاد هنا هم شهود يوم القيامة ، ويرى بعض المفسرين أنّ المراد من الأشهاد هم فقط الملائكة الذين يراقبون الأعمال ، ويرى البعض الآخر أنّ المراد بهم الأنبياء عليهم‌السلام والمؤمنون جميعاً.

ويرى آخرون أنّ المراد منهم جميع ماذكر بالإضافة إلى الجوارح التي تشهد على أعمال الإنسان أيضاً ، ولكن نظراً لوجود التعبير «يقوم» فإنّ هذا التفسير يبدو بعيد الاحتمال.

والتعبير ب «قيام» في مواردٍ كهذه هو بيان للوضع الخاص المتعارف عليه في المحاكم وهو قيام الشهود عند الادلاء بشهادتهم ؛ وذلك تأكيداً لجدّهم وحزمهم في أداء الشهادة واحتراماً لرسمية ووضع المحكمة.

على أيّة حال فهو يومٌ لايكفي فيه شاهد واحد فحسب بل يشهد فيه شهود كثيرون في تلك المحكمة العظمى ، شهادة تكون مصدر عز وفخر للمؤمنين وتأتي بالخزي والذلة للمجرمين ، شهادة تحيط بكل شيء ولا يخفى على شهودها شيء ، شهادة لا يسع المجرمون انكارها أبداً وتكون مدعومة بالقرائن الكثيرة حتى لا يبقى أمامهم طريق إلّاالتسليم والاذعان.

ومن هنا ينبغي الامعان في المعاني التي يحملها هذا الوصف عن القيامة وإلى مدى ما بلغت من التأثير والجذابية.

وفي الآية الثانية عبّر عن ذلك اليوم بـ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلَائِكَةُ صَفاً). (النبأ / ٣٨) بما أنّ «الصف» له معنىً مصدري ويستعمل في الجمع والمفرد على السواء ، فقد رأى

٧٧

جمع من المفسرين احتمال أن يكون المراد من الصف هو بيان صفوف مختلف الملائكة ، أو المراد منه صفّان على الأقل يستقر الروح في الصف الأول وفي الصف الثاني بقية الملائكة.

وفي الجواب عن ما هو المراد من «الروح» هنا؟ اختلفوا على أقوال عدّة بلغت الثمانية أقوال أو أكثر ، ومن بين هذه التفاسير المشهورة :

١ ـ الروح هو أحد ملائكة الله المقربين ، وهو أفضل من جميع الملائكة حتى جبرائيلعليه‌السلام ، وهو الذي كان يرافق الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

٢ ـ المراد به هو جبرائيل الأمين حامل وحي الله.

٣ ـ المراد به هو أرواح الموتى ، ولكن قبل إلحاقها بالأبدان.

٤ ـ المراد به هو مخلوق عظيم لا من صنف البشر ولا من صنف الملائكة.

٥ ـ المراد به هو القرآن المجيد ، ومعنى قيامه هو ظهور آثاره في مشهد المحشر.

وقد استُدل على كلٍ من هذه التفاسير المذكورة ببعض آيات القرآن.

مع أنّ للروح معانٍ مختلفة في مختلف آيات القرآن ، وأكثر هذه التفاسير قرباً للصحة كما يبدو هو التفسير الأول ، وقد ورد هذا التفسير صريحاً في بعض روايات المعصومينعليهم‌السلام.

فعن علي بن إبراهيم باسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل» (١).

وروي عن ابن عباس أيضاً بأنّه قال : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ، ثم قرأ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً) قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند» (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٧٧.

٧٨

٤٨ ـ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون

٤٩ ـ يوم لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ

ينعكس في هذين التعبيرين نداءان آخران متقاربان في الافق حول اوضاع ذلك اليوم العظيم ، ففي التعبير الأول قال تعالى : (يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَابَنُونَ* إِلَّا مَن أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). (الشعراء / ٨٨ ـ ٨٩)

وفي التعبير الثاني قال تعالى : (يَوْمٌ لَابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ). (إبراهيم / ٣١)

في الواقع أنّ رأسمال هذه الدنيا يتلخص في ثلاثة أشياء : المال والثروة ، والأولاد الراشدون ، والأصدقاء الأوفياء ، لكن معضلات المحشر وابتلاءاته المهيبة لا يمكن الخلاص منها بالمال والثروة ولا بمعونة الأولاد ولا الأصدقاء ، ولو افترضنا أنّ جميع أموال الإنسان تنقل إلى هناك وكان جميع الأولاد والأصدقاء إلى جانبه فهذا لا يحل حتى عقدة واحدة من مشاكله ، وذلك لأنّ المقاييس والمعايير هناك شيء آخر ، والمنقذ في المحشر هو الإيمان والعمل الصالح والقلب السليم ، القلب الخالي من أي شرك ورياء ولا يوجد فيه مكان لما سوى الله.

أغلب المشكلات في هذه الدنيا يمكن حلّها عن طريق المال والثروة وتقديم الفدية والخسائر والرشوة وما شابه ذلك بصورةٍ مشروعة أو غير مشروعة ، ويمكن حل كثير من المصاعب أيضاً بواسطة الجهود الإنسانية بالأخص الأولاد الطيبين والأصدقاء المخلصين ، وبناءً على ذلك فإنّ أغلب مشاكل هذا العالم تُحل بهذه السبل ، بينما لا يكون لهذه الامور أي تأثير هناك.

ولا شك في أنّ المراد من المال والأولاد هنا هو غير الأولاد الذين استخدموا في الطريق المؤدي إلى رضوان الله ، أو الأصدقاء الذين يمكنهم الشفاعة عند الله ، بل المراد هو أنّ هذه الامور لو نقلت إلى هناك بمجرّدها فهي لا تغني شيئاً.

ولذا جاء في قوله تعالى : (الْأَخِلّاءُ يومَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلّا الْمُتَّقِينَ)! (الزخرف / ٦٧)

* * *

٧٩

٥٠ ـ ... يوماً لا تجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً

٥١ ـ يوم لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً

٥٢ ـ يوم لا يجزى والدٌ عن ولده

أحد طرق الاخلاص من مخاطب العقوبات في هذه الدنيا هو أن يتقبل شخص التبعات التي تترتب على الآخر نيابة عنه ويؤدّي الغرامات المالية التي تحملها الشخص الآخر ويتقبل عقوبة ذنبه برحابة صدر وطيب نفس.

يبيّن القرآن الكريم في الآيات المذكورة أعلاه والتي هي من صفات يوم القيامة عدم جواز إلقاء أوزار أعمال أحد على عاتق الآخرين مطلقاً ، فالكل مسؤول عن أعماله وهو لوحده يتحمل جزاءها فيؤدّي ثمن ما اقترف من جرائم وذنوب.

ففي الآية الاولى التي وردت في القرآن المجيد مرتين قال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لَاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفسٍ شَيْئاً). (البقرة / ٤٨ ـ ١٢٣)

وجاء هذا المعنى باختلاف ضئيل في الآية الثانية ، قال تعالى : (يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). (الانفطار / ١٩)

وفي الآية الثالثة ركّز على مورد متميز فقال : (وَاخْشَوا يَوْماً لَّايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً). (لقمان / ٣٣)

إنّ العلاقة بين الأب والأولاد تقوم على أساس «العاطفة والمحبّة» ، وتقوم العلاقة بين الأولاد والأب على أساس «الاحترام والمحبّة» ، وفي الواقع أنّ هاتين العلاقتين هما أقرب وأقوى الروابط العاطفية لدى الإنسان ، ولكن رعب وخوف يوم القيامة يبلغ حداً من الهول العظيم ممّا يجعل هذه الروابط تتلاشى وتذوى وتبلغ حدّاً يؤدّي إلى أن لا يفكّر أحد إلّا بنفسه ، دون غيره.

وأفادَ عدد من المفسرين في تفسير الآيات المذكورة بأنّ «لا تجزي» أتت بمعنى «لا تغني» (١).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٠٣ ؛ وتفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢٥١ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ١ ، ص ١٢٧.

٨٠