نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

مقوّمات التقوى والنزاهة فإنّهم سوف يعودون إلى الله وسوف يرون نتائج أعمالهم في دار البقاء.

على أيّة حال فإنّ جملة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) هي تقرير لهذه الحقيقة وهي أنّ سير الإنسان التكاملي لا ينتهي بالموت وسوف يستمر حتى يلاقي الله.

قال المفسر الكبير المرحوم الطبرسي في تفسير الآية الثالثه من آيات بحثنا : (قالوا إنّا لله) هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد الله وملكه «وإنّا إليه راجعون» هذا إقرار بالبعث والنشور ، أي نحن إلى حكم الله نصير ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ قولنا «إِنَّا لِلَّهِ» إقرارٌ على أنفسنا بالملك ، وقولنا «وَإِنَّا الَيه رَاجِعُونَ» إقرارٌ على أنفسنا بالهلك» (١).

ومن الجدير بالذكر إنّ القرآن المجيد ذكر هذه العبارة بعنوان كأفضل ما يقوله الصابرون عند حلول المصائب بهم ... فهي عبارة تزيل الهم عن الإنسان عند حلول المصائب وتوقظ قلبه وروحه عند مواجهة الصعاب وتطرد وساوس الشيطان عن روح الإنسان في تلك اللحظات الحساسة ، وذلك لأنّه يعترف من ناحية بأنّه وجميع ما يملك ملك لله ، فهو الذي يعطي النعم وهو الذي يسلبها ، وقد قال بعض المفسرين في مجال سلب النعم : بما أنّ الكريم لا يسلب ما وهب فإنّ سلبه يعتبر ادخار ذلك لموضع افضل ، وهذا بعينه يعتبر مواساة لمن حلت به المصيبة.

ومن ناحية اخرى فإنّه عندما يعترف بالرجوع إليه فإنّ هذا التعبير هو مواساة اخرى لأنّه يعني الرجوع إلى مركز فيضه ولطفه ورحمته والرجوع نحو دار الخلد وموعد اللقاء مع الله.

لذا قال البعض : إنّ هذه العبارة من المواهب الإلهيّة العظيمة التي منَّ بها الله على هذه الامة كي يستعينوا بها في المصائب ، وكم من فرقٍ شاسع بين هذه الآية وبين كلام نبي الله يعقوب عليه‌السلام الذي قال عندما فقد يوسف عليه‌السلام : «وَقالَ يا اسَفَى عَلى يُوْسُفَ». (يوسف / ٨٤) أجل إنّ جملة الاسترجاع هذه لم تكن نازلة حينذاك.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٣٨ ، وقد وردت هذه العبارة أيضاً في نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٩٩.

٢٠١

وعلى أيّة حال فإنّ هذه العبارة هي عصارة التوحيد الكامل والمعاد والتوكل على الذات المقدسة الإلهيّة في جميع الاحوال وفي كل زمان (١).

* * *

وفي الآية الرابعة تجلّت هذه الحقيقة بلباس جديد بعد أن أشار تعالى في الآية التي سبقتها إلى الأحداث العجيبة التي يواجهها العالم عند تأهبه للقيامة ، قال تعالى : (الَى رَبِّكَ يَوْمَئذٍ الْمُسْتَقَرُّ).

وأشار بذلك إلى أنّ الدنيا ليست مقراً ، وأنّ جميع العلائم تدل على أنّ الدنيا هي دار فناء وعدم ، وتغيير وزوال ، وعلى هذا فمن البديهي أن لا تكون الدنيا هي الهدف الرئيسي من السير التكاملي للإنسان ، إذا لابدّ أن يكون مقر الإنسان في عالم آخر.

لكن بعض المفسرين قدّروا كلمة محذوفة وقالوا : المراد هو «إلى حكم ربّك» أي إلى حكم ربّك يومئذٍ المستقر فبحكم الله يقوم العدل ويتحقق أو بحكم الله يستقر فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في النار.

ولكن بما أنّ التقدير خلاف القاعدة ، بالإضافة إلى أنّه لاضرورة له هنا فإنّنا لا نرى دليلا واضحاً لمثل هذه التفاسير.

* * *

وفي الآية الخامسة والأخيرة ورد ما ذكر في الآية السابقة بتعبير جديد بعد أن أشار إلى حالات المحتضر ولحظات الاحتضار وطيّ سجل حياة الإنسان ، قال تعالى : (الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ).

و «المساق» : مصدر ميمي بمعنى «السوق» وهذا يدل على أنّ جهة سير البشر التكاملي

__________________

(١) من خلال هذا التفسير يتضح تفسير الآيات المتشابهة لهذه مثل : المائدة ، ١٠٥ ؛ العلق ، ٨ ؛ الانعام ، ٣٦ ؛ الغاشية ، ٢٥.

٢٠٢

يكون نحو الله أي نحو الكمال المطلق والكمال اللامتناهي.

وهنا أيضاً قدّر البعض كلمة «حكم» أو «جزاء» وقالوا : المراد هو سوق الجميع نحو حكم الله وجزائه ، ولكن وكما أشرنا في تفسير الآية السابقة فإننا لا نرى أية ضرورة لمثل هذه التقديرات ، فالتحرك يكون نحو الله تعالى.

وفي بعض آيات القرآن أشير أيضاً إلى أنّ الذات المقدسة الإلهيّة هي منتهى السير التكاملي والهدف النهائي ، قال تعالى : (وَأنَّ الى رَبِّكَ الْمُنتَهى). (النجم / ٤٢)

وهذا دليل آخر على الحقيقة المذكورة.

* * *

توضيح

نهاية المطاف :

ينصب التأكيد في الآيات المذكورة على (رجوع جميع البشر إلى الله) ... ذلك الأمر الذي يمكن إثباته بواسطة العقل أيضاً ، لأنّ المجتمع البشري يشبه القافلة التي بدأت مسيرها من نقطة العدم المظلمة واتّجهت نحو النور المطلق ، وهذا المسير يتمّ تحت ظل الربوبية وبإذنها (يجب الالتفات إلى أنّ هذه البحوث تأتي بعد قبول مبدأ التوحيد والصفات الإلهيّة).

وكلمة «الرب» الواردة في هذه الآيات تدلّ على أنّ هذه الحركة تكون تحت ظل ربوبية الله تعالى وبصورة دقيقة.

ومن ناحية اخرى لو كان الموت نقطة النهاية للحركة فانّها ستكون حركة غير هادفة ولا مقر لها ، وبتعبير آخر تعتبر حركة عشوائية ، بينما يكون السير الإلهي ذا هدف مناسب يسير نحوه يقيناً.

فلو تأمّلنا جيداً لوجدنا أنّ كل حركة تكاملية تسير بغية الوصول إلى مرحلة أعلى ونحو نقطة وجودية أرقى هي الذات الإلهيّة المقدّسة ، بناءً على هذا فإنّ جميع هذه التحركات تستهدف الوصول إليه ، ومادام الهدف النهائي لم يتحقق بعد فسوف لن يهدأ الإنسان ولا يقر

٢٠٣

له قرار إلّابعد بلوغ جوار الله وحتى يصل إلى مقام شهود الذات المقدّسة في زمرة المقرّبين ، (فتأمل).

وهذا الحديث في جميع أبعاده يدل على أنّ السير التصاعدي للإنسان لا يتوقف بالموت ، بل يستمر في العالم الآخر أيضاً ، بناءً على هذا فإنّ وجود الحركة والهدف يعتبر بحد ذاته دليلاً ملموساً على مسألة الحياة بعد الموت.

* * *

٢٠٤

٥ ـ برهان الرحمة

تمهيد :

«الرحمة» : من صفات الله الواضحة والمعروفة ، ومن البديهي أنّ الرحمة تعني اعطاء الفيض والنعم لمن له القابلية والاستعداد لاستيعابها.

وبما أنّ الإنسان له كيان خاص وله روحٌ ولجت بدنه ببركة النفخة الإلهيّة فهو يمتلك الاستعداد للخلود وبلوغ الكمالات الرفيعة ، لذا فإنّ الله الموصوف بصفات الرحمن والرحيم لا يمكن أن يمنع النسان من هذا الفيض وهذه الرحمة ، ولن يقطع عنه فيضه ورحمته بسبب موته.

وهذا ما نسمّيه ب «برهان الرحمة» بعد هذا نعود إلى القرآن ونتأمل خاشعين في هذه الآية المباركة :

(قُلْ لِّمَنْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَالْارْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فِيهِ). (الانعام / ١٢)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

تنقسم هذه الآية في الحقيقة إلى أربعة أقسام : ففي القسم الأول ابتدأ سبحانه وتعالى بالاستفهام مخاطباً الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (قُلْ لِّمَنْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَالْارْضِ) ، ثم أضاف بلا فاصلة : «قُل لِلَّهِ» أيْ إنَّ أمراً كهذا لا يحتاج إلى مناقشة واستدلال.

وفي القسم الثاني قال تعالى : (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (كي يشمل برحمته الواسعة ولطفه وعنايته اللامتناهية جميع العباد).

٢٠٥

وفي القسم الثالث يُوَجِّهُ الأنظار نحو مسألة المعاد فيقول تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ الَى يَومِ القِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ).

وفي القسم الرابع يلفت النظر إلى هذه النتيجة : (الَّذِيْنَ خَسِرُوا انْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمنُونَ).

ويرى عدد من المفسرين بالنسبة إلى الرابطة التي تربط هذه الأقسام الأربعة مع بعضها بأنّ القسم الأول يختص بأمر التوحيد ، والقسم الآخر بالمعاد (أو بالنبوّة والمعاد معاً) لبيان أبعاد اصول الدين الرئيسية (١).

لكنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي يرى بأنّ الآية بِرمّتها تختصّ ببيان أمر المعاد ، وهذا التفسير أقرب إلى الصّحّة ، ولتوضيحه نقول :

إنّ الله تعالى بيّن في القسم الأول من الآية مالكيته وحاكميته على عالم الوجود من خلال طرح سؤالٍ واحدٍ والإجابة عليه ، فهو يوضَّح ذلك الأمر بواسطة سؤالٍ ينبع جوابُهُ من صميم الفطرة والروح حتى أنّ المشركين أيضاً يخفضون جناحهم له كما لو قال الأب لولده : ألم اوفِّر لك جميع متطلبات طلب العلم والارتقاء؟ ومن دون أن ينتظر الجواب يقول : لقد فَعَلْتُ وذلك حقاً).

وبهذا يثبت أنّه لا يوجد في عالم الوجود أي شيء يمكنه الوقوف أمام إرادة الحق تعالى وأوامره.

ثم يضيف : إنّ الله القادر كتب على نفسه الرحمة ، وكيف لا يكتب ذلك على نفسه عندما يكون مصدراً للفيض الذي لا يتخَّللُهُ بخلٌ ولا ينقصه العطاء الدائم شيئاً.

فهل الرحمة إلّااعطاء النعم لمن يستحقّها ويليق بها؟ وهل هي إلّاايصال كل موجودٍ إلى كماله المطلوب وفقاً لاستعداده؟

وبعد أن أثبت هاتين المقدمتين (أيْ أنّ الله العالم منبع الرحمة من جهة ، ومن جهة اخرى لا يمكن أن يمنع فيضه ورحمته أيُّ مانع) ذكر النتيجة في الجملة الثالثة

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ١٦٤ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٣٩٢.

٢٠٦

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ الَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فيهِ) لأنّ الموت انْ كان نهاية الإنسان فهذا يعني أنّ الإنسان لم يصل إلى الكمال المطلوب فيبقى استعداده للحياة الخالدة من دون اشباع أو يعني عدم وصول الرحمة الإلهيّة إليه لوجود مانع ، ولكن بما أنّ المانع غير موجود وأنّ وصول رحمته أمرٌ حتمي فإنّ الوصول إلى الحياة الخالدة في الدار الآخرة ومجاورة الحق للبشر أمرٌ لا شك فيه.

ومن الطبيعي أنّ بعض الناس يفقدون استعدادهم الخاص لنيل الحياة الخالدة ويكونون في عداد الخاسرين ، لذلك نراهم لا يؤمنون بالمعاد.

بناءً على هذا فإنّ «برهان الرحمة» الذي يعتبر عصارة هذه الآية هو برهان منطقي ذو استدلال تام ، وبرهان آخر غير برهان العدالة وبرهان الحكمة ، (فتأمل).

وقد يُطرح هذا السؤال : بما أنّ القيامة تعتبر رحمةً لبعض البشر ونقمة على البعض الآخر ، فكيف يمكن التوفيق بين هذا المعنى وبين الرحمة الإلهيّة؟

والجواب عن هذا السؤال جاء في ذيل الآية تلميحاً إلى أنّ الله تعالى مَنَّ على جميع البشر باستعداد نيل الرحمة ووضع بين أيديهم السبل المعدّةَ للوصول إليه ، فلو أضاع فريق من البشر هذا العطاء على الرغم من امتلاكهم العقل وعلى الرغم من وصول تعاليم الوحي إليهم ـ فسوف يكونون السبب في خروجهم عن دائرة الرحمة ولا تنزل اللائمة إلّاعليهم!

وكل هبات الله تعالى من هذا القبيل ، ففريق يستمتعون بها وفريق يستبقون في ضياعها ويصبح هذا الأمر حاجزاً أمام وصول الفيض والرحمة الإلهيّة للفريق الآخر ، ومن الجدير بالذكر إنّ جملة ليجمعنكم ... جاءت مقرونة ب «لام القسم) و «نون التوكيد الثقيلة» معاً وبجملة «لا ريب فيه» التي تأتي جميعها للتوكيد ، فهي مؤكدة بثلاثةِ توكيدات في آنٍ واحد ، وهذا لأَجْلِ الدلالة على أنّ وقوع القيامة بالنظر إلى الرحمة الإلهيّة أمرٌ حتمي من جميع الأبعاد.

وبما أنّ ما قدّمناه من التوضيح يكفي لاثبات هذا البرهان فإننا لا نرى حاجة لذكر توضيحات أكثر في هذا المجال.

* * *

٢٠٧
٢٠٨

٦ ـ برهان الوحدة

تمهيد :

إنّ وجود الاختلاف في الآراء والأفكار من مميزات الحياة الدنيا ، حتى أنّ أصحاب المذهب الواحد غالباً ما ينقسمون إلى فرقٍ متعددة ذات عقائد مختلفة.

وهذا الاختلاف ينتقل أحياناً من المجتمع الكبير إلى الاسَر ، وترى كل واحد من أعضاء الاسرة يحمل عقيدة معيّنة ويدافع عن فكر معين.

لا شك أنّ كل إنسان يتألّم لوجود هذه الاختلافات في هذه الدنيا ، ويتمنى الجميع أن يأتي اليوم الذي تقلع فيه جذور جميع هذه الاختلافات.

ومن البديهي إنّ الذي خلق الإنسان من أجل التكامل والهداية سوف لن يحرمه من نيل هذه الأماني بمقتضى مقام ربوبيته ، وبما أنّ هذا الهدف لم يتحقق في هذه الدنيا ـ للأسباب التي سوف نطرحها فيما بعد وللشواهد الدالة على هذا المعنى أيضاً ، فإنّ رفع الاختلافات والوصول إلى الوحدة سوف يتحقق في الدار الآخرة.

فالقرآن المجيد أكّد كثيراً على هذا الأمر ، وهناك أكثر من عشر آيات في القرآن تشير إلى هذا الموضوع وهو أنّ إزالة الاختلافات لا تتمُّ إلّافي الدار الآخرة ، وإنّ الله تعالى سوف ينجز هذا الأمر.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتمعن خاشعين في الآيات الكريمة الآتية :

١ ـ (وَاقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ ايْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيْهِ). (النحل / ٣٨ ـ ٣٩)

٢ ـ (ثُمَّ الى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). (الانعام / ١٦٤)

٢٠٩

٣ ـ (انَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). (يونس / ٩٣)

٤ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). (الحج / ٦٩)

٥ ـ (انَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالِّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ والنَّصَارى وَالَمجُوْسَ وَالَّذِيْنَ اشْرَكُوا انَّ اللهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهيدٌ) (١). (الحج / ١٧)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

متى تُحلّ هذه الاختلافات؟

بدأت الآية الاولى بنقل قَسَمَ منكري المعاد الذي ورد في نفي تحقق الدار الآخرة ، قال تعالى : (وَاقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ ايْمَانِهمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).

ثم يجيب تعالى بهذا الجواب : (بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ).

بعد ذلك يبيّن الهدف من البعث فيقول تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيْهِ).

وبهذا يتّضحُ بأنّ «رفع الاختلافات والعودة إلى الاتحاد هو أحد أهداف المعاد» وذلك لأنّ طبيعة هذه الدنيا التي تحتوي على أنواع الحجب لا تسمح بزوال هذه الاختلافات ، ولكن بما أنّ يوم القيامة يوم رفع الحجب وكشف الغطاء وكشف الأسرار والسرائر فإنّه سوف يتضح كل شئ في ذلك اليوم وبذلك ينتهي الاختلاف.

فالمؤمنون يرسخ إيمانهم ويصلون إلى مقام عين اليقين ، والكافرون واتباع المذاهب الباطلة يعترفون بخطئهم ويرجعون إلى الحق.

* * *

__________________

(١) وهناك آيات اخرى في القرآن يشبه مضمونها الآيات المذكورة مثل : آل عمران ، ٥٥ ؛ المائدة ، ٤٨ ؛ النحل ، ١٢٤ ؛ البقرة ، ١١٣ ؛ الزمر ، ٣ ؛ الجاثية ، ١٧ ؛ الحج ، ٦٩ ؛ الدخان ، ٤٠ ؛ النبأ ، ١٧ ؛ المرسلات ، ١٣ و ١٤ ؛ والسجدة ، ٢٥.

٢١٠

وفي الآية الثانية ورد نفس هذا المعنى ولكن بأسلوب آخر ، فبعد أن أبطل ربوبية آلهة المشركين وذكر بأنّ كل إنسان رهين عمله وأن المذنب لا يحمل اصره غيرُهُ ، قال تعالى : (ثُمَّ الَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

فالآية الاولى تتحدث عن بيان الاختلاف وهذه الآية اخبرت عن ذلك الاختلاف فالإخبار في الواقع تعليل لما جاء في الآية الاولى وذلك لأنّ الإخبار الإلهي في يوم القيامة يعتبر المصوِّرَ الرئيسي لبيان الحقائق ، أو يكون «التبيين» متعلقاً بالامور المرئية و «الإنباء» متعلقاً بالامور المسموعة.

* * *

وفي الآية الثالثة طُرِحَتْ مسألةُ الحكم والقضاء الإلهي فيما اختلف فيه الناس يوم القيامة ، قال تعالى : (انَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

ومن البديهي أنّ الله تعالى عندما يحكم بينهم بنفسه في ذلك اليوم فسوف تزول الاختلافات وتتضح الحقائق كما هي.

وهذه الآية إمّا أن تكون إشارةً لاختلاف بني اسرائيل فيما بينهم في العصور الغابرة أو أنّها تشير إلى اختلافهم الذي ظهر في عصر الرسالة ونزول القرآن بسبب علائم ظهور الإسلام وعلائم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله التي آمن بها فريق منهم وجحدها آخرون حفظاً لمصالحهم الشخصية.

وقد تكون إشارةً لاختلافهم الذي وقع في عصر موسى عليه‌السلام بعد نجاتهم من مخالب الفراعنة ومشاهدتهم هذه المعجزة العظيمة ، أو إشارةً إلى اختلافهم الذي حصل عند ذهاب موسى عليه‌السلام إلى جبل الطور وظهور السامري بعجله.

وبالرغم من أنّ أكثر المفسرين رجّحوا الاحتمال الأول إلّاأنّ الآيات المتقدمة على هذه الآية ترجّح الاحتمال الثاني (١) ، كما أنّ الجمع بين التفاسير الثلاثة ممكن أيضاً.

__________________

(١) وقد تبنى التفسير الأول الفخر الرازي في تفسير الكبير وتفسير القرطبي والمرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان ، لكنّ تفسير صاحب الميزان أكثر انسجاماً مع التفسير الثاني.

٢١١

وعلى أيّة حال يرى بعض المفسرين المشهورين أنَّ الاختلافات من هذا القبيل لا يمكن القضاء عليها في الدار الدنيا ، ولا تنتهي إلّافي الآخرة عندما يقضي الله عزوجل بين الناس ويُميَّزُ الحقُ من الباطل والصادقُ من الكاذب (١).

* * *

وفي الآية الرابعة ورد التعبير بالحكم ، بعد الإشارة إلى نبذة من اختلافات بني اسرائيل قال تعالى : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

ولمعرفة الأمر الذي اختلف فيه اليهود يستفاد من بداية الآية حيث إنّهم اختلفوا في يوم السبت الذي يعتبر يوم العطلة الاسبوعية لليهود (واختلافهم في حكم الصيد في ذلك اليوم هل هو حرام أو حلال على الرغم من أنّ نبيّهم عليه‌السلام قد حرّم عليهم ذلك ، أو كان الاختلاف في ترجيح ذلك اليوم على يوم الجمعة أو ماشابه ذلك).

إنّ تأريخ بني اسرائيل يشهد على أنّهم كانوا بؤرة للخلاف والتشتت على العكس تماماً من تاريخهم المعاصر ، فهم اليوم أصبحوا يداً واحدة بسبب بعض الأحداث التي هددّت مصيرهم لاسيما مجابهتُهم لمسلمي العالم.

* * *

وفي الآية الخامسة والاخيرة جاء مجموع ماورد في الآيات السابقة لكن بصورة اجمالية وعامّة وتحت عنوان آخر ، فهي تشير إلى الاختلافات الواسعة الحاصلة بين المؤمنين وأصناف من الكفّار ، قال تعالى : (انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ والنَّصَارى وَالَمجُوْسَ وَالَّذِينَ اشْرَكُوا انَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهيدٌ).

والجدير بالذكر إنّ «يوم الفصل» أحد الأسماء المعروفة ليوم القيامة ، قال تعالى : (إِنَ

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٧ ، ص ١٥٩.

٢١٢

يَوْمَ الفَصْلِ كَانَ مِيْقَاتاً). (النبأ / ١٧)

وورد نفس التعبير عن يوم القيامة في آيات متعددة اخرى من آيات القرآن أيضاً.

و «الفصل» : في الأصل بمعنى افتراق شيئين عن بعضهما ، : ولهذا اطلق على يوم القيامة يوم الفصل ، لأنّ الحق يُفْصَلُ عن الباطل في ذلك اليوم وترفع جميع الاختلافات بواسطة القضاء الإلهي وبهذا يُفْصَلُ الصالحون والطاهرون عن الطالحين والأرجاس.

قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» : «سوف تبيَّضُ هناك وجوه أصحابِ الحقِّ وتمتلئ بالنور وتسودّ وجوه أهل الباطل ويعمّها الظلام» (١).

فهل يبقى داعٍ للاختلاف بين الحق والباطل عند ظهور مثل هذه العلائم البيِّنة؟

أشارت هذه الآية إلى ستة أديان كانت سائدة في عصر نزول القرآن وكانت تمثّل الاديان الرئيسية آنذاك ، قال تعالى الذين آمنو (المسلمون) واليهود والصابئة (وهم اتباع يحيى عليه‌السلام إلّاأنّهم انحرفوا عن رسالته فأطلقوا عليهم اسم عبدة النجوم) والنصارى (المسيحيون) والمجوس (الزرادشتيون) والمشركين وعبدة الاوثان ، ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ...).

فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا بحاجة إلى الاستدلال والمنطق من أجل المتمييز بين أهل الحق وأهل الباطل فهو في ذلك اليوم يستغني عن كل ذلك فإذا كان المصداق العيان فما الحاجة للبيان لأنّ لون الوجوه يدل على سرائر أصحابها!

* * *

توضيح

من خلال الآيات الخمس المذكورة وذكر خمسة عناوين مختلفة : «الانباء» و «التبيين» و «الحكم» و «القضاء» و «الفصل» اتضحت الحقيقة بأفضل أساليب البيان وأنّ يوم القيامة يوم انتهاء الاختلافات ويوم تجلّي الحقائق وفرز الحق عن الباطل ويوم الحكم والقضاء النهائى.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٧٦.

٢١٣

وكيف لا يكون الأمر كذلك ويوم القيامة يوم البروز ويوم الظهور : (وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ القَهَّار). (إبراهيم / ٤٨)

ويوم رفع الحُجب وكشف الغطاء : (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). (ق / ٢٢)

إنّ الطبيعة المظلمة لعالم الدنيا أو التي يمتزج فيها النور بالظلمة لا تفسح المجال لظهور الحقائق على ماهِيَّتِها ، كالليل بالضبط ، فالإنسان مهما يبذل جُهْدَهُ لكشف الحقائق بواسطة المصابيح إلّاأنّ قسماً كبيراً منها يبقى في دائرة الظلام ، أمّا القيامة فهي تشبه سطوعَ الشمس التي تكشف بأشعتها كل شيء.

من الممكن أن يكتشف فريقٌ طريقهم في الظلام إلّاأنّ فريقاً آخر يضلُّ عن الطريق ، كما أنّه من الممكن للَّذينَ سلكوا طريقاً ما أن يصفه كل واحد منهم بوصفٍ يتناسب مع منظاره الخاصّ ، وهناك مثال معروف في توضيح هذا الأمر وهو إنّ عدداً من الأشخاص الذين لم يشاهدوا الفيل من قبل دخلوا في غرفة مظلمة فيها ذلك الحيوان ، ثم لمس كلّ واحد منهم عضواً من أعضاء الفيل ، ولمّا خرجوا أخذ كل واحد منهم يصف ذلك الحيوان فوصفوه بصفات متناقضة ، فالذي لمس رجل الفيل وصفه بأنّه يشبه العمود! ومن لمس خرطوم الفيل وصفه بأنّه انبوب كبير ، والثالث الذي لمس صدر الفيل وصفه بأنّه يشبه السقف ، ولكن عندما أُخرج الفيل من الظلام بانت الحقيقة لهم ورُفعت تلك التناقضات وعلم الجميع أنَّ وصفهم كان قاصراً!

فالإنسان ـ وكما أشرنا سابقاً ـ لديه الاستعداد التامُّ للخروج من خضم أمواج الاختلافات وأن يضع قدمه في عالم اليقين وعدم الاختلاف ، ومن البديهي أنّ الله تعالى الذي خلق الإنسان سوف لن يحرمه من هذا الفيض.

فالاختلاف يسلب الطمأنينة وهو مِنْ موانع الوصول إلى التكامل ، والسبب في نفوذ الشكّ إلى جذور المعتقدات في بعض الأحيان ، بناءً على هذا علينا السعي لبلوغ المرحلة التي تنتهي فيها هذه المؤثّراتُ السلبية.

٢١٤

ومن الطبيعي أنّ الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام وضّحوا الحقائق على قدر ما تسمح به طبيعة الحياة الدنيا بالاعتماد على الكتب السماوية ، ولكن هؤلاء لم يكونوا إلّاكمثل المصابيح التي تنير الطريق للإنسان ، لذا يَحلُّ الاختلافُ محلَ الإتحادِ بمجرّد غياب ذلك النور عنهم ، قال تعالى في قرآنه المجيد : (وَمَا انْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذى اخْتَلَفُوا فِيْهِ). (النحل / ٦٤)

وقال تعالى في موضع آخر : (فَمَا اختَلَفُوا الّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ). (الجاثية / ١٧)

وهذا دليل على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام قد سعوا في إزالة الاختلاف الموجود بين الناس إلّاأنّه لم ينته كلياً.

إنّ حبّ المادّياتِ وجموح الشهوات والبغضاء والعداوة في هذه الدنيا هي الأسس الحاكمة على الناس وهذه الامور هي اعظم الحجب ، وما لم ترفع لا يستطيعُ الإنسان أن يتقدم خطوة صوب الوحدة ، لكنّ هذه الحجب سوف تفنى وتحترق جميعها فتنكشف الحقائق على ما هي عليه يوم القيامة.

* * *

٢١٥
٢١٦

٧ ـ برهان خلود الروح

تمهيد :

تَعَرَّضَ الكثير من الفلاسفة في بحث المعاد لمسألة خلود الروح واعتبروها من الأدلة الحيّة في هذا المجال.

وممّا لا شك فيه إنّ الاعتقاد ببقاء الروح يعبّد لنا طريق الوصول إلى إثبات المعاد والحياة الآخرة ، ولكنَّ هذا لايعني أَنَّ من لا يعتقد بخلود الروح لا يمكنه الإيمان بالمعاد ، بل يمكن إثبات المعاد من دون أن يكون لمسألةِ بقاء الروح أي أثر في ذلك.

ومن المحتمل أن يكون هذا سبب عدم تأكيد القرآن على مسألة بقاء الروح ، وبتعبير آخر إنّ القرآن لا يعتقد بأَنَّ هناك صلة ورابطة بين مسألة خلود الروح وبين المعاد ـ كما سنرى ـ ، ولكن لا يخفى أنّ إثبات مسألة المعاد بالاعتماد على مسألة خلود الروح تكون اوضح وايسرَ كما أنّه لا يمكن إنكار الإشارات الظريفة واللطيفة التي وردت في مسألة خلود الروح في القرآن المجيد ، لذا مِنَ المناسب أن نلقي نظرة إجمالية على مسألة خلود الروح من دون التوغُّلِ في أعماق هذه المسألة ، لأنّ البحوث المتعلقة بالروح بحوث واسعة ولها ميدان عريض وتحتاج لوحدها إلى تأليف كتاب مستقل أو عدّة كتب لبحثها بصورة مستقلّة.

نعود بعد هذه المقدمة إلى القرآن المجيد ونستمع خاشعين إلى الآيات الآتية :

١ ـ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ اللهِ امْوَاتاً بَلْ احْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (آل عمران / ١٦٩)

٢ ـ (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ امْوَاتٌ بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرونَ). (البقرة / ١٥٤)

٢١٧

٣ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ فِرعَونَ اشَدَّ العَذَابِ). (المؤمن / ٤٦)

٤ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). (السجدة / ١١)

٥ ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الانْفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وُيُرْسِلُ الْاخرى الَى اجَلٍ مُّسمَّىً انَّ في ذلِكَ لَايَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١). (الزمر / ٤٢)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

استقلالية الروح :

دار الحديث في الآية الاولى حول الشهداء. فقد كان هناك عدد من ضعفاء الإيمان يتألَّمون لهؤلاء الشهداء لأنّهم ماتوا ودفنوا وحرموا من كل شيء ، لقد خاطب القرآن في هذه المناسبة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله (كي يتّعضَ الآخرون) قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ امْوَاتاً بَلْ احيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وبهذا غيّر نظرة الناس حول الموت تغييراً جذرياً وبالأخصَّ نظرتهم إلى «موت الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله» ، وأبان لهم أنّ هؤلاء يرقدون في جوار رحمة الله ويملأ وجودَهم الفرحُ وينادون الآخرين بأنّهم لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.

فهذا التعبير الحي الواضح يدل بجلاء على أنّ الروح خالدة وأنّ الشهداء احياء في عالمٍ أرقى واعلى بكثير من هذا العالم.

فإذا كانت حياة الإنسان تفنى بالموت إلى الأبد تصبح هذه التعبيرات مبهمة وغير مفهومة حتى في مجال اطلاقها على الشهداء ، ولن تكون سوى حفنة من المجازات اللغوية لا غير.

__________________

(١) هناك آيات عديدة في القرآن المجيد تعبّر عن الموت بالتوفّي ، وهذه دلالة لطيفة على مسألة خلود الروح ، مثل : النساء ، ٩٧ ؛ الانعام ، ٦١ ؛ النحل ، ٢٧ و ٣٢ و ٧٠ ؛ يونس ، ٤٦ ؛ الرعد ، ٤٠ ؛ غافر ، ٦٧ و ٧٧ ؛ الانفال ، ٥٠ ؛ الاعراف ، ٣٧ ؛ الحج ، ٥.

٢١٨

أمّا الذين لم يتمكنوا من إدراك مغزى ومفهوم هذه الآية فقد اتبعوا رأي ضعاف الإيمان الذين عاصروا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّروا هذه التعبيرات بمعنى خلود اسم الشهداء وخلود معتقدهم! أو ما شابه ذلك ، بينما تُبطِلُ الآيةُ مثلَ هذه النظريات قطعاً ، وقد أكّدت على أنَّ للشهداءِ حياة خالدة ، ومن البديهي أن لا تكون هذه الحياة حياةً جسمانية وماديّة لأنّ أجساد الشهداء الداميةَ قد دُفنت تحت التراب ، فلن يبقى أمامنا إذن إلّاأن نعتبرها حياةً تختصّ بالروح عن طريق خلودها في البرزخ.

وعلى الرغم من اصرار البعض ـ على حدّ قول صاحب الميزان على أنّ الآية نزلت في حق شهداء بدر (وعلى رأي البعض أنّها تتعلق بشهداء أحد) إلّاأنّ البديهه تفترض أنّ الآية ذاتُ مفهوم واسع وشامل ، يشمل جميع الشهداء دون أيّ استثناء ، بالإضافة إلى أنّها لا تنفي الانطباق على غير الشهداء أيضاً.

وعلى أيّة حال فإنّ لهجة الخطاب في هذه الآية والآيات التاليه لها تَدلُ على خلود أرواح الشهداء والتنعّمِ بالرزق المعنوي عند ربّهم وسرورهم الحاصل من نيلهم تلك النعم وذلك الفضل الإلهي ، وهذه الآيات تبطل جميع الآراء والتفسيرات المنحرفة.

* * *

عن الشهداء في سبيل الله أيضاً :

ورد نفس هذا المعنى في الآية الثانية من آيات البحث بتعبيرٍ آخر ، والفرق بينهما أنّ الآية الاولى نزلت في شهداء احد والآية الثانية نزلت في شهداء بدر ، إلّاأنّ محتواهما يدل على العموم والشمول ، وهناك فرق آخر بينهما هو أنّ الخطاب في الآية الاولى كان موجَّهاً للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّا في هذه الآية فقد وجَّههُ تعالى لعامة المسلمين ، قال تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللهِ امْوَاتٌ بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ).

فعلى الرغم من احتواء الآية الاولى على تأكيدات أكثر على مسألة الحياة الروحية للشهداء من خلال ضمّها إلى الآيات الاخرى ، إلّاأنّ الآية الثانية بدورها تعبّر عن ذلك

٢١٩

المفهوم أيضاً على الأخص في قولِهِ تعالى : (بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ).

وفي هذه الآية أيضاً تُواجِهُنا أقوالٌ لبعض قاصرى التفكير الذين يرون أنَّ الحياة في هذه الآية تعني الهداية أو بقاء اسماء الشهداء حيّة أو بقاء معتقدهم ، وهكذا اعتبروا استخدم عبارة احياء عند ربّهم يرزقون من باب المجاز وانحرفوا في تفسيرهم وهم لا يملكون أيّ دليل لدعم ادّعاءاتهم.

وكأنَّ هؤلاء المفسرين لم ينتبهوا لكلمات هاتين الآيتين أبداً وإنّ الشهداء بالإضافة إلى وصفهم بأنّهم احياء فقد ذُكر بأنهم يرزقون ويفرحون ويتمتّعون بأنواع النعم الإلهيّة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وخاصة في قوله تعالى : ولكنْ لا تشعرون!

فلو كان المراد خلود اسمهم أو معتقدهم أو احياءهم يوم القيامة لما كان اطلاق أيّ واحد من هذه التعبيرات المذكورة بحقهم صحيحاً.

وبهذا شيّد القرآن أساس بحث خلود الروح وبدأه بذكر خلود حياة الشهداء.

* * *

عذاب آل فرعون في البرزخ :

تَحَدَّثَتْ الآية الثالثة عن عاقبة طائفة ظالمة وهي «طائفة آل فرعون» وصوّرتْ حالها في البرزخ في قبال حال الشهداء ، فهي تصفها بعد الموت على هذا النحو : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ فِرعَونَ اشَدَّ العَذَابِ).

إنّ ممّا لا شك فيه أنّ النار التي يُعرض عليها آل فرعون في الصباح والمساء نار البرزخ ، وذلك لأنهم ماتوا ولم تقم القيامة حتى الآن ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ القيامة ليس فيها صباح ومساء بل هم في اشد العذاب على مرّ الزمان (كما يشهد على ذلك ماجاء في ذيل الآية).

وهذا التعبير شاهد حيّ وملموس آخر على خلود الروح ، لأنّ ما يعرض على جهنم صباحاً ومساءً إن لم يكن الروح فما هو إذن؟ هل هو الجسد المجرّد عن الروح الذي أصبح تراباً؟ كلّا طبعاً ، لأنّ هذا لا يتأثر أبداً ، إذن يجب أن تبقى ارواحهم خالدة حيّة كي يعرضوا

٢٢٠