نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

على العذاب غدواً وعشياً في عالم البرزخ.

ويحتمل أن يكون السبب في استخدام كلمتي «الغدوّ» و «العشيّ» في الآية الشريفة أنّ هذين الوقتين من الأوقات التي كان الطواغيت يتجهون خلالها ويبرزون سطوتهم ومن الأوقات التي يستغلّونها في اللهو والبذخ.

وأمّا التعبير بـ «يُعرضون» فإنّه لايعني دخولهم النار وهذا ممّا لا شك فيه ، وهو غير ما اريد في ذيل الآية ، ومن المحتمل أنّ المراد منه الدلالة على اقتراب النار منهم ، فهم يقتربون من النار في عالم البرزخ ويلجونها يوم القيامة!.

لقد استدل الكثير من المفسرين بهذه الآية على عذاب القبر أو البرزخ (١) ، ومن البديهي أنّ عذاب القبر (أو البرزخ) لا معنى له من دون خلود الروح.

جاء في الحديث المروي عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة وإن كان من أهل النار فمن النار يقال هذا مقعدك حين يبعثك الله يوم القيامة» (٢).

وهذا الحديث يشير إلى أنّ الثواب والعقاب البرزخي لا يختص بالشهداء وآل فرعون بل يشمل الجميع.

* * *

قبض الأرواح!

وفي الآية الرابعة (والآيات المشابهة لها) نلاحظُ تعبيراً آخرَ في هذا المجال ، قال تعالى : (قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الَى رَبِكُمْ تُرْجَعُونَ).

والتعبير الجديد واللطيف في هذه الآية «يتوفاكم» من مادة «التوفّي» على وزن «الترقّي».

قال الراغب في المفردات «وافي» في الأصل بمعنى وصول الشيء إلى الكمال ، بناءً

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٥٢٥ ؛ تفسير الكبير ، ج ٣٧ ، ص ٧٣ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٧٦٣ ؛ تفسيرالميزان ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤.

(٢) نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح البخاري ومسلم (ج ٧ و ٨ ، ص ٥٢٦).

٢٢١

على هذا فإنّ «التوفّي» يكون بمعنى أخذ الشي بصورة كاملة وهذا التعبير يدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أنّ الموت لا يعني الفناء أبداً ، بل نوع تام من أنواع القبض ، والأخذ أخذ روح الإنسان بصورة تامّة ، دليلٌ واضح وملموس على أنّ روح الإنسان لا تفنى بعد «التوفّي» (أي الأخذ الكامل) لها.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الآية وردت في الجواب عن تساؤل منكري المعاد ، وقد نُقل عنهم في الآية السابقة قولهم : (وَقَالُواءَاذَا ضَلَلْنَا فِي الْارْضِءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيْدٍ).

فأجابهم تعالى في هذه الآية : «أنّكم لستم أجساداً فحسب كي تضلوا بعد الموت ، بل إنّ الروح هي الأصل في وجودكم والتي تتوفاها الملائكة ، وسوف تُعادُون وتحشرون يوم القيامة (بالجسم والروح معاً) وكما قلنا آنفاً : إنّ هذا التعبير قد تكرر ذكره في آيات متعددة في القرآن وقد اكّد عليه كثيراً».

إنّ خطاب الآيات القرآنية فيه ارشاد للاثبات بعدم النظر إلى الموت من منظارٍ مادّي أبداً ، فالمادّيّون يعتقدون بأنّ الموت نهاية الطريق بالنسبة للإنسان وينادون دائماً بهذا الشِعار : (انْ هِىَ الّا حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) بينما لا يكون الموت إلّاعبارة عن الانتقال من «الحياة الدنيئة» إلى «الحياة الراقية» ويتم ذلك الانتقال بواسطة ملائكة الله.

وفي بعض الموارد نسب الله التوفّي إلى نفسه : قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْانْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا). (الزمر / ٤٢)

وقال من موضعٍ آخر : (وَلكِنْ اعْبُدُ اللهَ الَّذِى يَتَوفَّاكُمْ). (يونس / ١٠٤)

ومن البديهي أن لا يوجد هناك تناقض بين تعبيرات القرآن الثلاثة المذكورة (التوفي من قبل الله والتوفي بواسطه ملك الموت والتوفّي بواسطة الملائكة) ، لأنّ هؤلاء جميعهم يطيعون أمر الله ، والله عزوجل هو الفاعل الحقيقي ، كما أنّ الملائكة التي تتوفّى الأرواح لهم رئيس أيضاً الذي يسمى بملك الموت وسائر الملائكة الموكلين بقبض الأرواح يعتبرون مسيّرين من قبل هذا المَلك.

* * *

٢٢٢

وفي الآية الخامسة والاخيرة ورد هذا المعنى نفسه مع مقارنة وضع الإنسان عند النوم مع وضعه عند الموت ، وقد عبّر بـ «التوفّى» عن كلتا الحالتين ، قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الانْفُسَ حينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وُيُرْسِلُ الْاخْرَى الَى اجَلٍ مُسمَّىً انَّ فِي ذلِكَ لَايَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ).

و «انفس» : جمع «نفس» بمعنى الروح ، والمراد من الروح هنا الروح الإنسانية ويستفاد من الآية المذكورة إنّ روح الإنسان تقبض في كلتا الحالتين ، حالة الموت وحالة النوم ، مع فارق واحد أنّ التوفي في حالة النوم غير تام حيث تعود الروح ثانية إلى الجسد ، أمّا في حالة الموت فلا عودة لها ، (وهناك طبعاً من ينتقل من حالة النوم إلى الموت مباشرة ولا يستيقظ من نومه أبداً ، وقد أشارت الآية المذكورة لهذه الحالة أيضاً).

وعلى حد تعبير بعض المفسرين : «إنّ للروح ثلاث حالات ، فتارةً يشع نورها على ظاهر البدن وباطنه ، واخرى على الظاهر فقط ، وثالثة ، ينقطع اشعاعها عن الظاهر والباطن معاً. فالحالة الاولى حالة اليقظه ، والثانية حالة النوم ، والثالثة حالة الموت» (١).

ولمزيد من الايضاح يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان له ثلاثة أنواع من الحياة.

«الحياة النباتية» وهذا يعني أنّ خلايا البدن تتغذى وتنمو وتتكاثر (كما هو الحال في النباتات).

«الحياة الحيوانية» التي تشتمل على الحس والحركة ، والحركة هنا تشمل الحركة الارادية كالمشي وحركة اليد والرجل أو الحركات غير الارادية كضربات القلب وغيرها من الحركات.

«الحياة الإنسانية» التي تختص بالإدراكات الرفيعة التي يمتلكها الإنسان والتي تتعلق بالإرادة وتحليل المسائل المختلفة والابداع والابتكار والشعور بالمسؤولية.

وممّا لا شك فيه أنّ النوعين الأول والثاني من أنواع الحياة لا يُسلب من الإنسان في

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٦ ، ص ٢٨٤.

٢٢٣

حالة النوم ، والنوع الثالث الوحيد الذي يخرج عن اختيار الإنسان في تلك الحالة.

وممّا يجدر ذكره أنّ هذه الآية تفيد بأنّ النوم «موت مخفف» أو بتعبير آخر إنّ الموت «نموذج كامل من النوم» كما يُفهم أيضاً بأنّ الإنسان مركب من الروح والجسد وأنّ الجسد مادّي والروح جوهر لا يخضع للقوانين المادّية :

ومن خلال ماتقدم يمكن التوصل إلى معرفة نبذة من أسرار الأحلام والرؤيا وما يدركه الإنسان من حقائق جديدة في تلك الحالة ، لأنّ روح الإنسان في حالة النوم تنفصل عن الجسد وتنجز فعّالياتها بحريّة أكثر ، إذن فهي تَحوم في عوالم جديدة.

جاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «إنّ الروح يخرجُ عند النوم ، ويبقى شعاعه في الجسد ، فلذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه عادَ روحُهُ إلى جسده بأسرع من لحظة!»(١).

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات لا تفسر إلّابمسألة بقاء الروح ، وذلك لأنّ توفّي الشيء أي أخذه بصورة تامة عند الموت لايصدق على التوفّي الجسدي ، فالحياة النباتية والحيوانية تفْنى بواسطة الموت ولا يبقى منها شيء فلايمكن أن تكون مصداقاً لعنوان «التوفّي» ، فبناءً على هذا تكون النتيجة أنّ المراد من التوفي توفي الروح الإنسانية التي تعتبر العامل الرئيسي في حياة الإنسان.

* * *

توضيحات

١ ـ خلود الروح

إنّ مسألة خلود الروح لها علاقة وثيقة بمسألة استقلالها وأصالتها ، لأنّ الروح إن كانت مستقلة فيحتمل أن تبقى على حالها بعد الموت ، لكنّها لو كانت تابعة لقوانين المادة وكانت تشبه في خواصها المادة فإنها سوف تفنى تبعاً لفناء الجسم (كما هو الحال في حركة عقارب

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ١١٥.

٢٢٤

الساعة التي تتبع في وجودها وعدمها نفس الساعة).

لذا علينا وقبل كل شيء أن نبحث في هذه القاعدة هل أنّ روح الإنسان جوهر مستقل أم شيء مشابه للخواص الفيزيائية والكيميائية التي تمتلكها خلايا المخ التي تفنى تبعاً لفناء المخ ، كما هو الحال في الروح الحيوانية والنباتية التي هي عبارة عن التغذية والنمو والتكاثر والحس والحركة؟

إنّ ممّا لا شك فيه أنّ التغذية والنمو والتكاثر لا تبقى بعد فناء الجسم وكذلك تنعدم فيه الحركة والحس (فتأمل).

ولكن لدينا أدلة كثيرة تثبت أنّ الروح الإنسانية لا تشبه الروح النباتية والحيوانية ، بل هي حقيقة مستقلة تتعلق بالبدن تارة وتنفصل عنه اخرى.

من هنا ننطلق لبحث الأدلة العقلية التي أتى بها الفلاسفة لإثبات أصالة الروح واستقلالها أولاً ، وبعد ذلك نشرع بذكر أدلة المنكرين أي الماديين ثم نشرعُ بنقد تلك الأدلة.

ومع أنّ مجرد إثبات خلود الروح لا يُثبت جميع ما نريد إثباته في مباحث المعاد ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ (لوجود قسم كبير من مسائل المعاد يرتبط بجانب المعاد الجسماني) إلّا أنّه يُمهّد امامنا نصف الطريق على الأقل ويكبح جماح المنكرين.

* * *

٢ ـ هل الروح مستقلة عن البدن؟

يشهد تاريخ العلم والحضارة البشرية على أنّ الروح وهيئتها وخواصّها الغريبة كانت موضع اهتمام العلماء دائماً.

وقد ساهم واحد منهم بجهوده ليكشف بُعداً من أبعاد دائرة الروح التي تعتبر لغز الالغاز وسر الخفايا ولهذا السبب كانت آراء العلماء في مجال الروح متنوعة وكثيرة جدّاً.

ورغم أنّ أرواحنا أقرب الينا من كل شيء في هذا العالم ، إلّاأنّه قد لا تتمكن جميع علومنا المعاصرة ـ بل حتى علوم اللاحقين لعصرنا ـ أن تكتشف جيمع أسرار الروح ، وليس

٢٢٥

هذا من الامور الغريبة لأنّ جوهر الروح يختلف كثيراً عمّا أنسناه من عالم المادّة ، ولاعجب في إخفاقنا في الاطلاع على أسرار وكنه هذا المخلوق العجيب الذي لا يخضع لقوانين المادّة.

ولكن هذا ـ على أيّة حال ـ لايمنعنا من مشاهدة ظل الروح بواسطة منظار العقل الثاقب ولا يمنعنا من التعرف على مجمل القوانين المهيمنة عليها.

وأهم ما ينبغي لنا معرفته هنا مسألة أصالة واستقلال الروح ، وعلينا أن نثبت ذلك في مقابل رأي الماديين الذين يرون أنّ الروح أمرٌ ماديّ وأنّها من افرازات خلايا المخ والخلايا العصبية ولا شيء وراء ذلك!

ونحن نتعرض بدورنا لهذا البحث هنا ونمعن النظر فيه ، لأنّ بحث «خلود الروح» و «مسألة التجرد الكامل أو التجرد البرزخي» تعتمد على هذا الأمر.

إلّا أنّه قبل الولوج في هذا البحث نرى من الضروري ذكر هذه الملاحظة وهي أن تعلق الروح ببدن الإنسان ليس من قبيل حلول الهواء في المنطاد مثلاً ـ كما يعتقد البعض ـ بل هو نوع من الارتباط القائم على اساس هيمنة الروح على البدن في التصرف والتدبير ، وقد شبّه بعضهم هذه الرابطة بالعلاقة الموجودة بين «اللفظ» و «المعنى» وسوف تتضح هذه المسألة بجلاء خلال بحث مسألة استقلال الروح فلنعُد إلى صلب البحث.

ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان يختلف عن الجمادات كالحجر والخشب ، لأنّنا نشعر في قرارة أنفسنا بأنّنا نختلف عن سائر الموجودات غير الحية ، بل حتى عن النباتات ، فنحن بإمكاننا أن نفهم شيئاً أو نتصور شيئاً أو نريد شيئاً ونمتلك إرادة ونحب ونبغض و... ، أمّا بالنسبة للجمادات والنباتات فهي لا تمتلك شيئاً من هذه الأحاسيس ، إذن هناك شيء أساسي نتميز به عن هذه الموجودات ، ذلك الشيء هو ما نسمّيه الروح.

لا أحد ينكر أصل وجود «الروح» و «النفس» أبداً ، لا الماديون ولا غيرهم ولهذا فالجميع يعتقد بأنّ علم النفس (السيكولوجي) وعلم التحليل النفسي (البيسكاناليزي) من العلوم الثابتة ، وهذان العلمان على الرغم من كونهما في مرحلة النشوء وفي المراحل

٢٢٦

البدائية إلّاأنّهما من العلوم التي تُدرس في الجامعات الكبيرة في العالم ويتابع تطورهما الاساتذة والمحققون ، وكما سنلاحظ فإنّ «الروح» و «النفس» هما حقيقتان غير منفصلتين عن بعضهما بل تمثلان حقيقة واحدة لمراحل مختلفة.

وسوف نطلق اسم «النفس» في المجالات التي تتعلق بارتباط الروح بالجسم والتأثيرات المتبادلة كما نطلق اسم «الروح» عند الحديث عن الروح المستقلة عن الجسم.

وقصارى الكلام هو عدم وجود من ينكر امتلاكنا روحاً ونفساً ، فمن هنا علينا أن نحدد دائرة النزاع المحتدم بين «الماديين» و «الميتافيزيقيين».

ولتحديد دائرة النزاع نقول : إنّ العلماء الالهيين والفلاسفة الميتافيزيقيين يرون أنَّ الإنسان بالإضافة إلى امتلاكه لجسم مادي يمتلك جوهراً آخر غير مادّي ، والجسم يتلقى أوامره من ذلك الجوهر بصورة مباشرة.

وبعبارة اخرى إنّ الروح من الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة وتختلف عن عالم المادة من ناحية وجودها ونشاطها معاً ورغم ارتباطها الدائم بعالم المادة إلّاأنّها ليست مادة ولا تملك صفات المادة!

والرأي المقابل لهذا هو رأي الماديين حيث يقولون : إنّ كياننا خالٍ من وجود شيء مستقل عن المادّة يسمى بـ «الروح» أو ايّ اسم آخر وما كياننا إلّاهذا الجسم المادّي والآثار الفيزيائية والكيميائية المختصة به فنحن لدينا جهاز نسميه «المخ والأعصاب» وهو ينجز لنا قسماً كبيراً من أعمالنا الحياتية وهذا الجهاز مادّي كسائر أجهزة البدن الاخرى ويخضع في نشاطاته لقوانين المادة.

فالإنسان لديه مثلاً غدد تحت اللسان تسمى «الغدد اللعابية» وهذه الغدد تمارس أفعالاً فيزيائية وكيميائية في آن واحد ، فعندما يدخل الطعام الفم تمارس هذه الغدد نشاطاتها بصورة ذاتية لا إرادية ، وتضخ من الماء الكميّة اللازمة لمضغ الطعام بصورة دقيقة ، فالغذاء الجاف يحصل على ما يكفيه من الماء من هذه الغدد وكذلك الغذاء الرطب ، فكل واحد منهما

٢٢٧

يحصل على ما يناسبه من كميّة الماء لا أكثر ولا أقل!.

والأغذية الحامضة بالخصوص تثير هذه الغدد لفرز كميّات أكبر من الماء إذا كان تركيز الحموضة كبيراً فيها ، وذلك من أجل خفض نسبة الحموضة كي لا تؤثر على جدار المعدة والجهاز الهضمي.

وبعد بلع الطعام تتعطل هذه الغدد عن العمل وإذا اختلّ نظام هذه الغدد لساعة من الزمان فإمّا أن يجف الفم فلا يتمكن الإنسان من بلع الطعام ، أو يسيل اللعاب بصورة مستمرة من الفم!.

وهذه هي المهمّةُ «الفيزيائية» لهذه الغدد ، لكننا نعلم أنّ المهمّة الأكثر أهميّة لهذه الغدد هي الافرازات الكيميائية ، فاللعاب يحتوي على مواد مختلفة تتفاعل مع الغذاء لهضمه ولتسهيل عمل المعدة في هضمه.

فالماديون يقولون : إنّ الجهاز الهضمي والمخ يشبهان في عملهما النشاطات الفيزيائية والكيميائية للغدد اللعابية ، (التي تسمّى النشاطات (الفيزياكيميائية) التي نسميها «مظاهر الروح» أو «الروح».

فهولاء يقولون : عندما يمارس الإنسان عملية التفكير تشع من المخ مجموعة خاصة من الأمواج الالكترونية ، وهذه الأمواج في عصرنا الحاضر تُسجل على شريط من الورق بواسطة أجهزة معيَّنة متوفرة في المستشفيات وبالأخص في المصحات المعدّة لعلاج الأمراض النفسية ، ويواكب الأطباء مطالعة هذه الأمواج المسجلة على الشريط لتشخيص الأمراض النفسية التي يعاني منها المرضى لغرض علاجها ، وهذه هي النشاطات الفيزيائية للمخ.

وبالإضافة إلى هذه النشاطات تحدث في خلايا المخ تفاعلات كيميائية عند ممارسة التفكير أو عند حدوث الانفعالات النفسية.

وبناءً على هذا ليست الروح والمظاهر الروحية إلّاتلك النشاطات الفيزيائية أو تلك التغييرات الكيميائية لا غير.

٢٢٨

وتوصل هؤلاء من خلال هذا البحث إلى النتائج الآتية :

١ ـ كما أنّ أفعال الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لا توجد قبل وجود البدن وتفنى بفنائه ، فكذلك الحال في الروح التي توجد مع وجود المخ والجهاز العصبي وتفنى بفنائهما!.

٢ ـ إنّ الروح من مختصات الجسم ، فهي مادّية وليس لها بعدٌ ميتافيزيقي.

٣ ـ إنّ الروح تخضع لجميع القوانين التي تتحكم بالجسم.

٤ ـ لا يمكن وجود الروح بصورة مستقله عن الجسم أو أن تستقل عنه.

* * *

٣ ـ أدلة الماديين على عدم استقلالية الروح

وقد ذكر الماديون عدّة أدلة لإثبات زعمهم بأنّ الروح والفكر وسائر الظواهر الروحية الاخرى إنّما هي امور مادّية ، : أي أنّها من الخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا العصبية وخلايا المخ ، وهي كما يلى :

١ ـ «نحن نرى بوضوح أنّ مجموعة من الآثار الروحية تعطّل بمجرّد أصابه قسم من المخ أو مجموعة من الخلايا العصبية» (١).

فمثلاً شوهد عند قطع قسم معين من مخ الطير ـ كما أثبتت التجربة ـ أنّ هذا الحيوان لا يموت بل يفقد قسماً كبيراً من معلوماته ، فعندما يوضع الغذاء في فمه فإنّه يبلع الغذاء ويهضمه ولكن عندما توضع الحبوب أمامه فإنّه لا يتناولها ولا يهتم لها ويظل على هذا الحال حتى يموت جوعاً!.

وكذلك الحال عند عطب قسمٍ من خلايا المخ عقب اصابتة بضربة أو مرض معين ، والإنسان يفقد قسماً من ذاكرته بفعل هذه الأسباب.

فقد ذكرت احدى الصحف أنّ شاباً معلماً فقد ذاكرته إثر ضربة شديدة اصابت دماغه في حادثة اصطدام ، وأصبح لا يعرف أحداً من أقربائه حتى أنّه لم يعرف امّه واخته! وعندما

__________________

(١) البيسكولوجيا ، الدكتور أراني ، ص ٢٣.

٢٢٩

أخذوه إلى الدار التي ولد وترعرع فيها لم يُبد أي انفعال وأنكر أن يكون قد رأى أو دخل هذه الدار سابقاً!

فهذه الامور ونظائرها تدل على أنّ هناك علاقة وثيقة بين «عمل خلايا المخ» وبين «الظواهر الروحيّة».

٢ ـ «عندما يفكّر الإنسان تحدث تغييرات مادّية على سطح الدماغ ، حيث يفرز فسفوراً أكثر ممّا يفرزه في حالة عدم التفكير ، ويحتاج بذلك إلى غذاء أكثر ، وعندما ينام الإنسان ولا يمارس الذهن عملية التفكير فإنّه يحتاج إلى غذاء أقل ، وهذا دليل واضح على أنّ آثار الفكر مادّية» (١).

٣ ـ أثبتت التجارب أنّ وزن المخ عند المفكرين غالباً ما يكون أكثر من الحدّ المتوسط لوزن المخ عند الآخرين (الحد المتوسط لوزن المخ عند الرجال ١٤٠٠ غرام تقريباً ، والحدّ المتوسط عند النساء أقل من ذلك) وهذا دليل آخر على كون الروح مادّية.

٤ ـ إذا كان التفكير والظواهر الروحية دليلاً على وجود روح مستقلة فهذا يعني أنّ الحيوانات لها روح مستقلة كذلك ، لأنّ الحيوانات لها إدراك محدود أيضاً!.

وخلاصة القول في رأي هؤلاء إنّنا لا نشعر بوجود روح مستقلة لدينا ، بالإضافة إلى أنّ علم النفس الحديث قد أكّد على صحة هذهِ النظرية أيضاً.

ومن خلال هذه الأدلة يخرجون بالنتيجة الآتية : إنّ تطور علم الفسلجة المستمر توصل إلى وجود علاقة وثيقة وجليّة بين الظواهر الروحيّة وخلايا المخ.

* * *

النقاط المبهمة في هذا الاستدلال :

إنّ الخطأ الفضيع الذي ابتليَ به الماديون كان نتيجة لاستنادهم على هذا النمط من الأدلة وخلطهم بين «آلة الفعل» وبين «فاعل الفعل».

__________________

(١) بشر از نظر مادّي ، الدكتور أراني ، ص ٢.

٢٣٠

ولبيان كيفية خلطهم بين الآلة والفاعل والتباس الأمر عليهم نضرب مثالاً لتقريب هذا الموضوع إلى الأذهان.

لقد طرأ تطور كبير على علم الفلك منذ عصر «غاليلو» فقد تمكن العالم الايطالي غاليلو بمساعدة رجل يمتهن صناعة النظارات من صنع تلسكوب صغير وقد غمر الفرح كيانه إثر هذا الانجاز ، وعند المساء كان غاليلو يشاهد النجوم بواسطة ذلك التلسكوب الصغير فظهرت أمامه أعاجيب لم يرها أحدٌ من قبل ، وعندما علم غاليلو بأنّه توصل إلى كشف سر عظيم ، اعتبرَ أنّ في ذلك اليوم حصل الإنسان على مفتاح كشف أسرار العالم العلوي!.

فالإنسان قبل اكتشاف التلسكوب كان كالفراشة العاجزة عن رؤية ما حولها باستثناء أغصان معدودة من أغصان الأشجار المحيطة بها ، ولكنّه عندما أمسك بالتلسكوب بيده صار بإمكانه مشاهدة عالم كبير من الأشجار الموجودة حوله في غابة الكون العظيم.

ثم استمرَّ هذا الاكتشاف والتكامل حتى صنعت التلسكوبات الفلكية العظيمة التي بلغ قطر عدساتها عدّة أمتار ، وقد نصبت هذه التلسكوبات على مناطق مرتفعة بعيداً عن الهواء الملوث.

واستطاعت هذه التلسكوبات التي تبلغ من الضخامة أحياناً بحجم بناء متعدد الطوابق أن تيسّر للإنسان مشاهدة حقائق كثيرة في العالم العلوي لم يسبق له أنّ شاهد منها بعينه المجردة بنسبة واحد من الألف.

هذا ما توصل إليه الإنسان حتى عصرنا الحاضر ، فإذا تطورت التقنية وتمكن الإنسان من صنع تلسكوبات يبلغ قطر عدساتها مائة متر واصبحت ملحقاتها تملأ رقعة من الأرض بسعة مدينة كاملة فإلى أي مدى سيصل الإنسان في اكتشافاته في مثل هذه الحالة؟!

وهنا يتبادر هذا السؤال إلى الاذهان : إذا ما فقدنا هذه التلسكوبات فإننا سوف نفقد قسماً كبيراً من معلوماتنا ومشاهداتنا الفلكية قطعاً ، ولكن يا ترى من المشاهد الحقيقي؟ فهل هو التلسكوب أم الإنسان؟! وهل يعتبر التلسكوب هو الناظر الحقيقي أم هو آلة ننظر نحن من خلالها؟!

٢٣١

فأمّا بالنسبة للمخ فإنّه لا أحد ينكر أنّ التفكر والامور الاخرى لا تحصل من دون توفّر الخلايا العصبية ، ولكن السؤال هو : هل المخ آلة تستخدمها الروح لانجاز فعاليتها أم هو نفس الروح؟!

وخلاصة الكلام : إنّ جميع الأدلة التي جاء بها الماديون هنا لا تثبت إلّاشيئاً واحداً وهو وجود علاقة بين خلايا المخ وإدراكات الإنسان لا غير ، ولكنّها لا تثبت لنا بأنّ المخ هو الفاعل الرئيسي للإدراك ، (فتأمّل).

ومن هنا يتضح أنّ السبب في عدم إدراك الجسد الميت هو انقطاع اتصاله بالروح ، وليس السبب فناء الروح ، كما هو الحال بالضبط بالنسبة للباخرة أو الطائرة التي تفقد اتصالها اللاسلكي بالقاعدة ، فالباخرة لم تفن ولم يفن الرّبان والطاقم أيضاً ولكنهم مع ذلك غير قادرين على الاتصال بالساحل وكل مافي الأمر أنّهم فقدوا وسيلة الاتصال بالقاعدة.

* * *

٤ ـ أدلة أنصار نظرية استقلال الروح

أ) خصوصية كشف الواقع (اي الاطلاع على العالم الخارجي)

إنّ أوّل سؤال يمكن أن يطرح على الماديين هو : إذا كانت خواص المخ «الفيزياكيميائية» نفس الأفكار والظواهر الروحية فينبغي أن لا يكون هناك «فرق مهم» بين عمل المخ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد مثلاً ، لأنّ عمل المعدة «مثلاً» يتمثل في مجموعة من النشاطات الفيزيائية والكيميائية ، فالمعدة بواسطة حركاتها الخاصة وضخ الافرازات الحامضية تهضم الغذاء وتعدّه لعملية الامتصاص ، وهكذا الحال في واجبات اللعاب الذي تقدم ذكره فهي مركزٌ من أعمال فيزيائية واخرى كيميائية ، لكننا نرى بالوجدان بأنّ أعمال الروح تختلف عن جميع هذه الأعمال.

فجميع أعمال أجهزة الجسم لها شبه ببعضها البعض إلّا «المخ» فهو لا يشبه في أفعاله أيّ واحدة من تلك الأجهزة لأنّ أجهزة الجسم ترتبط بالامور الداخلية للجسم بينما ترتبط الظواهر الروحية بالخارج أي أنّها تخبرنا عمّا هو خارج وجودنا.

٢٣٢

ولتوضيح ذلك يجب الالتفات إلى النقاط الآتية :

اولاً : هل يوجد هناك عالمٌ وواقعٌ خارج وجودنا أم لا؟

بالطبع إنّ وجود العالم الخارجي يُعد من الامور البديهية ، أمّا المثاليون فقد انكروا وجود عالمٍ خارجٍ عن وجودنا وقالوا إنّ كل ما نراه إنّما هو «نحن» و «تصوراتنا» ، ولا يوجد هناك عالم خارجي ، والعالم الخارجي ماهو إلِّاصور خالية من المحتوى تشبه الصور التي نراها في المنام عند الرؤيا فليس وجود العالم الخارجي إلّاكوجود تلك الصور لا غير ، وقد اخطأ هؤلاء في اعتقادهم هذا ، وافضل دليل على ذلك إيمانهم بالواقع أثناء عملهم ، فكل ما يحملونه من نظريات مثالية ينسونها بمجرّد أن يخرجوا من مكتبة أفكارهم ويضعوا اقدامهم في شوارع وأزقّة محيطهم الاجتماعي المعتاد ، ويتعاملون مع كل شيء على أساس الواقعية!.

ثانياً : هل للإنسان علمٌ بالعالم الخارجي أم لا؟

والجواب عن هذا السؤال بالإيجاب أيضاً ، وذلك لأنّنا نمتلك تصوّراتٍ كثيرة عن عالم الخارج ولدينا معلومات جمّة عن الموجودات المحيطة بنا أو عن المناطق النائية.

وهنا نواجه هذا السؤال وهو : هل تحضر الموجودات الخارجية بأعيانها في ذواتنا؟ وبالطبع فإنّ الجواب بالنفي ، فالذي يحضر في ذواتنا صور تلك الموجودات ، ونصل إلى إدراك الحقائق الخارجية بالاستفادة من خصوصية «معادلات كشف الواقع» الموجودة لدى الإنسان.

إنّ معادلات كشف الواقع ، لايمكن أن تكون مجرد خواص فيزياكيميائية بالنسبة للمخ ، وحتى لوكانت هذه الخواص نابعة حقاً من تأثرنا بالعالم الخارجي وناتجة عنه ، إلّاأنّ تأثيرها يشبه تأثير الغذاء على معدة الإنسان ، فهل تتمكن المعدة من الحصول على معلومات عن الغذاء بواسطة ممارستها الأفعال الفيزيائية والكيميائية عليه؟ إذن كيف يتمكن ذهننا من إدراك العالمِ الخارجي؟!

وبتعبير آخر : إنّ العلم بالموجوداتِ الخارجية والعينية لا يحصل إلّابواسطة حلول هذه

٢٣٣

الموجودات في وعاءٍ خاص ، مع أنّ خلايا المخ لا يمكنها أن تكون وعاءً ملائماً لهذه الموجودات بل تتأثر بها خلايا المخ فقط ، والتأثر هذا يشبه تأثر سائر أجهزة الجسم بالمؤثرات الخارجية ، ونحن ندرك ذلك بوضوح.

فإذا كان علمنا بالموجودات الخارجية يحصل بمجرد التأثّر بأيّ نحوٍ كان فهذا يستلزم حصول الإنسان على العلم عن طريق معدته أو لسانه أيضاً ، وهذا غير ممكنٍ بالبداهة. فالخلاصة : إنّ الوضع الاستثنائي لإدراكاتنا يدل على أنّ هناك حقيقة خفيّة لا تخضع مطلقاً للقوانين الفيزيائية والكيميائية أي يجب علينا أن نرضخ أمام هذه الحقيقة وهي إنّ هناك جوهراً آخر في ذواتنا وهو ما نطلق عليه اسم الروح يكون السبب في إدراك الحقائق (فتأمل).

* * *

ب) وحدة شخصية الإنسان

الدليل الآخر الذي يمكن التعويل عليه في مسألة استقلال الروح مسألة اتحاد شخصية الإنسان طوال عمره.

وتوضيح ذلك : إنّنا لو شككنا في أيّ شيء فإننا لا نشك في أننا «موجودون».

و «أنا موجود» ولا أشك أبداً في وجودي ، كما أنّ علمي بوجودي من نوع «العلم الحضوري» لا «العلم الحصولى» أي أنني حاضر لدى نفسي ولم أنفصل عنها.

على أيّة حال فإنّ علمنا بأنفسنا من أوضح المعلومات لدينا ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى إقامة البرهان ، أمّا بالنسبة للاستدلال المعروف الذي أتى به الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت لإثبات وجوده وهو : «أنا افكر إذن أنا موجود» فهو استدلال غير صحيح وغير مجدي ، لأنّه اعترف بوجود نفسه مرّتين قبل أن يثبت وجودها! فمّرة عندما قال «أنا» واخرى عندما قال «افكر» ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى فإنّ ال «أنا» لها وحدة واحدة لا تتبدل من بداية العمر حتى نهايته ، فـ «أنا

٢٣٤

اليوم» عين «أنا الأمس» ونفس «أنا قبل عشرين عاماً» ، «فأنا منذ الطفولة حتى اليوم لم أتغير» فأنا كنتُ ذلك الشخص وسأبقى ذلك الشخص حتى نهاية المطاف ، ومن البديهي أنني تعلمت واصبحت مثقفاً وتكاملت وسوف أتكامل لكنني لم أتحول إلى شخص آخر ، لذا فإنّ جميع الناس يعتبرونني شخصاً واحداً من البداية حتى النهاية فأنا لا أحمل إلّااسماً واحداً وهوية شخصية واحدة.

فلنرى الآن ما هذا الموجود الواحد الذي يرافقنا طيلة حياتنا ، فهل هو خلايا جسمنا أم مجموع خلايا المخ وفعالياتها؟ لا شيء من هذا طبعاً ، لأنّ هذه الأشياء تتبدّل عدّة مرات خلال فترة حياتنا ففي كل سبعِ سنين تقريباً تتبدّل جميع خلايا البدن ، لأنّنا نعلم بأنّ الملايين من الخلايا تموت في كل يوم وليلة وتحلّ محلها ملايين اخرى كما هو الحال في البناء الذي يستبدل حجراً بالتدريج ويوضع مكانه حجر جديد ، فهذا البناء سوف يتبدّل كليّاً بعد فترة من الزمن حتى لوكان ذلك التغيير خافياً على الناس أو كالمسبح الكبير الذي يدخله الماء من أحد جهاته بصورة بطيئة ويخرج من الجهة الاخرى بمقدار مايدخل فيه من ماء جديد ، فمن البديهي أن يتبدّل جميع ماء المسبح بعد مدّة من الزمان ، حتى لو غفل الناس عن ذلك التغيير ولم يدركوه.

وبصورة عامة فإنّ كل موجود لا يحافظ على بقائه إلّابواسطة الطعام ويستهلك ذلك الطعام بصورة تدريجية فهو يحتاج إلى «الترميم» و «التبديل».

بناءً على هذا فالإنسان البالغ من العمر سبعين عاماً تكون جميع خلايا جسمه قد تبدّلت مايقارب العشر مرات ، لذا فإننا لو اعتبرنا الإنسان ذلك الجسم والمخ والجهاز العصبي والخواص الفيزياكيميائية فإنّ «أنا» ذلك الشخص البالغ من العمر سبعين عاماً قد تبدلت عشر مرات وأنّني غير ذلك الشخص السابق ، مع أنّ هذا الكلام مرفوض بالوجدان.

ومن هنا يتضح أنّ هناك حقيقة واحدة ثابتة في جميع مراحل حياة الإنسان ، وهذه الحقيقة غير تلك الأجزاء الماديّة وليست متغيرة وهي التي تمثّل أساس وجودنا وتعتبر العامل الرئيسي في إيجاد وحدة الشخصية.

٢٣٥

خطأ ينبغي اجتنابه :

يتصور البعض أنّ خلايا المخ لا تتبدّل أبداً ، ويقولون : إننا قرأنا في كتب الفسلجة أنّ عدد خلايا المخ لا يتبدّل من بداية العمر وحتى نهايته ، أي أنّ عددها لا يزيد ولا ينقص أبداً ، وكل مافي الأمر أنّها تنمو ويكبر حجمها لكنّها لا تتكاثر ، لذا فإنّها لو اصيبت بعطب فلن ترمم. بناءً على هذا فنحن نمتلك شيئاً ثابتاً هو مجموع خلايا المخ ، وهذه الخلايا هي التي تحفظ لنا وحدة الشخصية.

إلّا أنّ هذا التصور يُعتبر خطأً فادحاً ، لأنّ هؤلاء خلطوا بين أمرين ، فما توصل إليه العلم الحديث هو إنّ عدد خلايا المخ ، ثابت من بداية الحياة حتى نهايتها فهو لا يزيد ولا ينقص ، لا أنّ أجزاء هذه الخلايا لا تتبدّل ، لأننا قلنا إنّ خلايا البدن تتغذى باستمرار وتفقد الأجزاء القديمة وتحل محلها أجزاء جديدة دائماً ، كما هو الحال في المسبح الذي يدخله الماء من أحد جهاته بالتدريج ويخرج من الجهة الاخرى وتتبدّل بعد فترة من الزمان جميع محتوياته على الرغم من ثبات مقدار كميّة الماء في المسبح ، بناءً على هذا فإنّ خلايا المخ تتبدّل أيضاً (١).

* * *

ج) عدم مطابقة الكبير للصغير

تصوروا أننا نجلس بالقرب من بحرٍ جميل تطفو على أمواجه عدد من القوارب الصغيرة وتعوم فيه باخرة عظيمة والشمس تغرب من أحد جوانبه والقمر يطلع من الجانب الآخر وبعض الطيور المائية في حالة ذهاب وإياب إلى ماء هذا البحر ، وبالقرب من البحر جبل شامخ ذو قمةٍ سامقة.

وهنا نغلق أعيننا لعدّة لحظات ونتخيّل كل ما رأيناه في أذهاننا من الجبل العظيم والبحر

__________________

(١) أتى في كتب علم وظائف الأعضاء هذه المسألة أيضاً ، يُراجُع على سبيل المثال كتاب الهورمونات ، ص ١١ ، وكتاب علم وظائف اعضاء الحيوان ، ص ٣٢ تأليف الدكتور محمود بهزاد وزملاؤه.

٢٣٦

الوسيع والباخرة الكبيرة ، فكل هذه الصور تتجسد في أذهاننا وكأنّ هناك لوحة كبيرة رُسمت في أذهاننا أو في أعماق أرواحنا.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو : أين تستقر هذه الصور الكبيرة؟ فهل تتمكن خلايا الدماغ البالغة في الصغر أن تحتوي هذه الصور العملاقة؟ كلا طبعاً ، اذن يجب أن يكون هناك قسم آخر من وجودنا لا يخضع لقوانين المادّة يبلغ من السعة مبلغاً يجعله يتمكّن من احتواء جميع هذه الصور.

هل يتمكن الإنسان من تشييد بناءٍ تبلغ مساحته ٥٠٠ متر في أرض مساحتها عدّة أمتار؟! كلّا طبعاً ، لأنّ الموجود الكبير لايمكنه أن ينطبق على الموجود الصغير مع حفظ حجمه الكبير ، لأنّ من مستلزمات المطابقة إمّا أن يكون الظرف والمظروف متساويين في الحجم وإمّا أن ينطبق الموجود الكبير على الصغير في حالة صنع نموذجٍ مصغرٍ منه.

ومهما يكن من شيء يبقى هذا السؤال بلا جواب وهو كيف نتمكن من استيعاب صور كبيرة جدّاً في خلايا أدمغتنا الصغيرة؟

فنحن نتمكن من تصور محيط الكرة الأرضية الذي يبلغ طوله أربعين مليون متر ونتمكن من تصور الشمس التي تعادل حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرّة ، وهكذا يمكننا أن نتصور المجرّات التي تعادل حجم الشمس بملايين المرات ، فمثل هذه الصور لا يمكنها أن تستقر في خلايا الدماغ الصغيرة طبقاً لقانون «عدم مطابقة الجسم الكبير للجسم الصغير» ، إذن يجب أن نعترف بوجود شيء غير هذا الجسم يحتوي هذه الصورة الكبيرة.

تساؤل :

من الممكن أن يقال : إنّ الصور الذهنية تشبه «الميكروفلم» أو «الخرائط الجغرافية» التي يدّون في إحدى زواياها مقياس الرسم الذي هو عبارة عن أعداد كسرية مثل : ١١٠٠٠٠٠٠ أو ١١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ والتي تدل على مقياس نسبة التصغير ، فإذا أردنا الحصول على المساحة الواقعية علينا أن نكبر تلك الخارطة بذلك المقياس ، وقد شاهدنا أيضاً الكثير من

٢٣٧

صور البواخر العظيمة التي لا يمكن من خلال تلك الصورة أن ندرك حجمها الحقيقي فهم من أجل اظهار حجمها الحقيقي يضعون على متنها إنساناً ثم يلتقطون لها صورة كي نتمكن من خلال مقارنة حجم الإنسان في الصورة من معرفة حجمها الحقيقي.

فالصور التي نحملها في أذهاننا صغيرة جدّاً أيضاً وقد صغرت طبقاً لمقاييس معيّنة ، فإذا ماكبّرنا تلك الصور وفقاً لتلك المقاييس فسنحصل على تلك الصور بحجمها الحقيقي ومن البديهي إنّ هذه الصور الصغيرة تستقر بنحوٍ ما في خلايا الدماغ ، (فتأمل).

الجواب :

نحن نواجه هنا مسألة مهمة هي إنّ الميكروفلم يُكبّر عادةً بواسطة المكبرات ثم يعرض على العارضات ، ويمكننا أنْ نتصور الحجم الواقعي في أذهاننا للخارطة الجغرافية بواسطة إجراء عملية الضرب ، وهنا يطرح هذا السؤال : أين تقع هذه العارضة الكبيرة التي يُعرض عليها الميكروفلم الذهني الذي كُبّر عدّة أضعاف؟ فهل العارضة الكبيرة هي نفس خلايا المخ؟

وبعبارة أوضح : إنّ الموجود الخارجي في مثال الميكروفلم والخارطة الجغرافية هو الأفلام والخرائط الصغيرة ، أمّا الموجود الذهني منها فهو الصور التي تطابق حجم الموجودات الخارجية لتلك الصور ، ومن الطبيعي أن تحتاج تلك الصور المطابقة للواقع إلى مكان مطابق لحجمها ، ونحن نعلم بأنّ خلايا الدماغ لا تتمكن من احتواء تلك الصور العظيمة.

وخلاصة الكلام : إننا نتصور تلك الصور في أذهاننا بحجمها الخارجي وإنّ هذه الصور الكبيرة لايمكنها أن تستقر في خلايا المخ الصغيرة ، إذن فنحن نحتاج إلى مكان مناسب لها لذا فإننا نُدرك أنّ هناك وجوداً حقيقياً غير هذه الخلايا نسمّيه (الروح).

* * *

٢٣٨

د) الظواهر الروحية لا تتلائم مع الكيفيات الماديّة

الدليل الآخر الذي يمكن أن نثبت من خلاله استقلال الروح وكونها غير مادّية هو : إنّنا نشعر بالوجدان بأنّ الظواهر الروحية وخواص الروح وكيفياتها لا تشبه بأيّ نحو خواص وكيفيات الموجودات المادّية ، وذلك لما يلي :

اولاً : إنّ الموجودات المادّية تخضع لقيد «الزمان» وتمتاز بالتدرج.

ثانياً : تتلاشى بمرور الزمان.

ثالثاً : قابلة للتحلل إلى أجزاء متعددة.

أمّا الظواهر الذهنية فلا تتصف بهذه الخصوصيات والآثار ، فالمناظر التي انطبعت في ذهننا في مرحلة الطفولة مثلاً لا تتلاشى ولا تبلى بمرور الزمان وتحافظ على كيفيتها طول هذه المدّة ، على الرغم من تلاشي خلايا المخ إلّاأنّ صورة البيت الذي انطبع في الذهن قبل عشرين سنة لا تفنى وتبقى تحافظ على نوعٍ من الثبات الذي هو من خصوصيات عالم ما وراء الطبيعة.

إنّ روح الإنسان تملك قوّة ابداع عجيبة في مجال خلق الصور ، ومن دون أي تأمّل يمكنها أن تخلق أيّ صورة شاءت ، كخلق صور الكواكب السيّارة والمجّرات أو صور الموجودات الأرضية كالبحار والجبال وأمثالها ، ولا تتصف الموجودات الماديّة بشيء من هذا القبيل ، بل يعتبر هذا دليلاً على أنّها موجود غير مادي.

وبالإضافة إلى هذا فإننا نعلم مثلاً بأنّ ٢+ ٢ / ٤ وهذا بديهي ، ونتمكن أيضاً من تحليل طرفي المعادلة أي أن نحلل العدد اثنين أو العدد أربعة ، ولكن لا يمكننا أن نحلل هذه «المساواة» أي أن نقول : إنّ المساواة تنقسم إلى قسمين يختلف أحدهما عن الآخر ، لأنّ التساوي عبارة عن مفهوم وهو غير قابل للتحليل والتجزئة ، فهو إمّا أن يكون موجوداً وإمّا أن لا يكون موجوداً ولكن لا يمكن تقسيمه أبداً.

فالمفهوم لا يقبل القسمة ومن أجل هذا لايمكن أن يكون مادياً ، لأنّه لو كان مادياً لقبل الانقسام ، ولهذا السبب أيضاً لا يمكن أن تكون الروح مادية لأنّها تعتبر الظرف الذي يحوي هذه المفاهيم غير المادية ، إذن فالروح اسمى من المادة ، (فتأمل) (١).

__________________

(١) راجع تفسير الأمثل ، الآية ٨٥ من سورة الاسراء.

٢٣٩

٥ ـ هل النفس مجردّة؟

هل الروح مستقلة ولا غير؟ وهل يمكنها البقاء بعد موت الجسم وفنائه؟ أم لها حالة التجرّد عن المادة والاستقلال معاً؟ أي أنّها تفتقد خصوصيات المادة التي هي عبارة عن تقيدها بالزمان والمكان والتركيب.

لقد ذهب جمع من الفلاسفة إلى أنّ الروح مجرّدة ولا معنى لاحتوائها على كيفيات مادية ، واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة السابقة التي اقيمت على فرضية استقلال الروح.

والبعض الآخر يرى أنّ الروح مادّية لكنها مكوّنه من مادة شفافة وبتعبير آخر إنّهم يرون أنّ الروح «نصف مجرّدة» أي مجرّدة عن المادة الكثيفة والعناصر المادية.

فنحن نعلم مثلاً بأنّ النور جسم ، ولا فرق في ذلك في كونه على شكل أمواج أو ذرات «فوتونية» ، ولكن ممّا لا شك فيه هو عدم خضوعه للقوانين التي تخضع لها الأجسام العادية ، لذا فهو يخترق الأجسام الشفافة ولا فرق بالنسبة له بين الفراغ وغيره.

فهل أنّ روح الإنسان شبيهة بهذا حقاً؟ أم هي مجرّدة تماماً وأرقى من المادة بشقيها الكثيف والشفاف.

وبما أنّ إثبات مسألة تجرّد الروح أو إثبات كونها مادة شفافة هي من الأبواب غير المجدية في بحوث المعاد وبما أنّ المهم بالنسبة لنا هو استقلال الروح وبقاؤها بعد فناء الجسم ، فإننا نعرض عن ذكر مزيد من التفاصيل في هذا المجال ونوكل ذلك لعلم الفلسفة ، وكل ما يمكن أن نقوله هنا هو : إنّ الروح مستقلة سواء كانت مجرّدة أم كانت جسماً مادياً شفافاً وهي تبقى بعد فناء الجسم المؤلف من عناصر مادّية وتحافظ على حيويتها ، وهذه هي الخطوة الاولى نحو عالم ما بعد الموت ، (فتأمّل).

* * *

٢٤٠