نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

القرآن ، يعتبر دليلاً ملموساً وواضحاً على وجود عالم البرزخ. وكل ما هنالك هو عدم ذكر الكثير من جزئيات عالم البرزخ ، ولم يُشَرْ إلّاإلى أصل وجود هذا العالم مع شيء من مكافآت المحسنين وعقوبات المسيئين ، ولكن الروايات أشارت إلى تفاصيل كثيرة في هذا المجال وسوف نتعرّض إلى ذكر قسم منها.

* * *

توضيحات

١ ـ البرزخ في الأحاديث الشريفة

ورد ذكر عالم البرزخ في الأحاديث الشريفة بصورة واسعة جدّاً ، وقد بلغ حجم هذه الروايات من الكثرة ممّا جعل المرحوم الخواجة الطوسي أن يعدّها في كتابه تجريد الاعتقاد من المتواترات ، في قوله «وعذابُ القبر واقعٌ بالإمكان وتواتر السمع بوقوعه».

ونشير هنا إلى نماذج واضحة من هذه الروايات :

١ ـ جاء في الحديث : «القبرُ إمّا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرةٌ من حفر النيران».

رواه «الترمذي» في «صحيحه» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما رواه المرحوم «العلامة المجلسي» في «بحار الأنوار» في موضعٍ عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وفي موضع آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

٢ ـ وجاء في المشهور عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه عندما ألقوا بأجساد قتلى مشركي مكّه ، الذين قتلوا في غزوة بدر في أحد الآبار وقف صلى‌الله‌عليه‌وآله : على البئر وقال : «يا أهل القَليب هل وجدتُم ما وعَدَ ربُّكُم حقاً؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً. قالوا ، يا رسول الله هل يسمعون؟ قال ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم : ولكنَّ اليوم لا يجيبون» (٢)!

ورويَ هذا المضمون بتعابير اخرى في روايات متعددة ، منها ما جاء في الحديث : نادى

__________________

(١) صحيح الترمذي ، ج ٤ ، كتاب صفة القيامة ، باب ٢٦ ، ح ٢٤٦٠ ؛ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨ ، وص ٢١٤.

(٢) كنز العمال ، ج ١٠ ، ص ٣٧٧ ، ح ٢٩٨٧٦. والقليب : بمعنى البئر.

٣٦١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عدداً من المشركين بأسمائهم وقال : يا اباجهل يا عتبة يا شيبة يا أُميّة! هل وجدتُم ما وعد ربُّكم حقاً؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً ، فقال عُمَرُ : يا رسول الله أما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواح فيها؟ فقال : «والّذي نفسي بيده ما أنتم باسمع لِما اقولُ منهُم غير انّهم لا يستطيعون جواباً» (١)!

إنّ هذه الأحاديث لا تدل على وجود عالم البرزخ فحسب بل تدل على وجود نوع من الحياة بعد موت الجسم ، بل وتدلّ على أنّهم لهم نوع من الارتباط بهذا العالم أيضاً ، فهم يسمعون بعض الحديث على الأقل.

٣ ـ جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : أنّه عندما عاد من حرب صفين وقف على مقبرة تقع خلف باب الكوفة وتحدث إلى الأموات بهذه الكلمات : «أنتم لنا فرطٌ سابقٌ ونحن لكم تبعٌ لاحقٌ ، أمّا الدورُ فقد سُكِنَت وأمّا الأزواج فقد نُكِحَت وأمّا الأموالُ فقد قُسِّمَت ، هذا خبرُ ما عندنا فما خبرُ ما عندكم»؟

والتفت إلى أصحابه وقال : «أمّا لو اذِن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى» (٢). وهذا الحديث أيضاً يدلّ على أنّه بالإضافة إلى أنّ عالم البرزخ يتحقق بالنسبة للأموات فإنّ للموتى نوعاً من الارتباط مع هذا العالم أيضاً.

٤ ـ وهناك خطب متعددة في نهج البلاغه أيضاً تحدثت عن البرزخ بوضوح ، فقد جاء في إحدى خطبه عليه‌السلام حيث ذكر الإمام عدداً من السابقين وقال : «اولئِكم سلفُ غايتكُم ... سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً» (٣).

وجاء في خطبة اخرى عنه عليه‌السلام عندما كان يصف «أهل الذكر» : «فكأنّما قطعوا الدٌّنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطلعوا عيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه» (٤).

__________________

(١) كنز العمال ، ج ١٠ ، ص ٣٧٦ ، ح ٢٩٨٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٣٠.

(٣) المصدر السابق ، الخطبة رقم ٢٢١.

(٤) المصدر السابق ، الخطبة رقم ٢٢٢.

٣٦٢

٥ ـ وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «والله ما أخاف عليكُم إلّا البرزخ». (اراد بهذا أن يشير إلى أنّ المؤمنين تشملهم شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام يوم القيامة ، لكنّ محاسبة البرزخ تختلف) (١).

٦ ـ وَرُوي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «البرزخُ القبرُ ، وهو الثواب والعقاب بين الدٌّنيا والآخرة» (٢).

٧ ـ وفي الدر المنثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «حينما تقبض روحُ المؤمن يستقبله عبادُ الله الذين شملتهم رحمتهُ ويقولون : أهلاً بك أيها الضيف الجديد ، استرح لأنك تعبت كثيراً ، ثم يسألونه عن بعض معارفهم واصدقائهم ، وحينما يلتفتون إلى أن بعضهم قد فارق الحياة قبل هذا الضيف الجديد ، يقولون (إنّالله وإنا إليه راجعون) ، لقد أخذوهُ إلى الجحيم» ، (ولذا لا أثر له هنا) (٣).

٨ ـ وهناك روايات كثيرة تشير إلى فرح أرواح المؤمنين إثر أعمال الخلف الصالحة ، ومن جملة هذه الروايات ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِنّ الميّت ليفرحُ بالترحٌّم عليه والاستغفار له كما يفرحُ الحيّ بالهدية» (٤).

وروي هذا المضمون عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : «إِنّ هدايا الأحياءِ للأمواتِ الدّعاء والاستغفار» (٥).

٩ ـ وروي في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ أَنكَرَ ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا : المعراج والمساءلة في القبر والشفاعة» (٦).

ومن الواضح هو أنّ السؤال في القبر من عالم البرزخ.

١٠ ـ ونختتم هذه الروايات بحديثٍ روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كنز العمّال ، (بالرغم من

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٥٣ ، ح ١٢٠.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٢٢.

(٣) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤٩٤ نقلاً عن الدّر المنثور (باختصار).

(٤) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٩٧.

(٥) المصدر السابق ، ص ٢٩١.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٢٣.

٣٦٣

كثرة الأحاديث وتواترها في هذا المجال) ، فقد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شهداء احد وقال : «أيٌّها الناسُ زوروهُم وأتوهم وسلِّموا عليهم ، فوالذّي نفسي بيده لا يُسلِّمُ عليهم مُسلمٌ إلى يوم القيامة إلّاردّوا عليه‌السلام» (١).

وقد تضمّن هذا الكتاب أحاديث متعددة اخرى في هذا المجال.

من هنا يتضح أيضاً مدى جهل من ينكر زيارة أهل القبور ويعدّهم جمادات لجهلهم بالاحاديث الشريفة ومدى بعدهم عن تعاليم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ جميع الروايات التي تحدثت عن سؤال وضغطة القبر ، والروايات التي تخبر الإنسان عن نتا ئج أعماله الحسنة منها والسيئة بعد الموت ، والروايات التي تتحدّث عن ارتباط الأرواح بذويهم والإطلاع على أوضاعهم ، والروايات التي تتحدّث عن ليلة المعراج ولقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسل والأنبياء ، إنّ جميع هذه الروايات تدلّ أساساً على وجود عالم البرزخ ، فإذا لم نتصّور عالماً كهذا فإنّ جميع هذه الروايات وأمثالها ستصبح مبهمة.

* * *

٢ ـ البرزخ في ميزان العقل والحس

بالإضافة إلى وضوح ما دلت عليه الآيات والروايات المذكورة على إثبات وجود عالم يتوسط الدنيا والآخرة ، فإنّ هذا الأمر يمكن إثباته عن طريق العقل والحس أيضاً ، وذلك لأنّ جميع الأدلة التي دلت على وجود الروح وخلودها مستقلة عن البدن تدلّ على وجود عالم البرزخ ، لأنّها دلت على عدم فناء الروح بموت الجسم ، وذلك لأنّها ليست من عوارض الجسم حتى تفنى بفنائه ، بل هي جوهر مستقل يمكنها الحفاظ على بقائها من دون بقاء الجسم أيضاً ، والاعتراف بهذا يساوي الاعتراف بعالم البرزخ ، وذلك لأنّ الحديث هنا هو عن أصل وجود عالم البرزخ ، لا عن كونه روحياً.

وبالإضافة إلى هذا فإنّ إحضار الروح يدلّ بوضوح على أنّ الأرواح بعد انفصالها عن

__________________

(١) كنز العمّال ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢ ، ح ٢٩٨٩٦.

٣٦٤

الأجسام تستقر في عالمٍ خاص بها ، وتحافظ على بقائها وتتصف بسعة الإدراك هناك ، حتّى أنّها تبوح بشيءٍمن علمها عن طريق اتصالها بالناس الموجودين في هذا العالم.

إنّ الذين تلقّوا نداءات من الأرواح هم كثيرون ، وكذلك الذين ادّعوا بأنّهم شاهدوا الروح في «قالب مثالي» ، ونحن لا نقول : إنّ جميع هذه الادعاءات صحيحة ، وذلك لأنّ الكذابين والمحتالين المنحرفين كثيراً ما استغلوا هذه المسألة لتمرير اغراضهم ، لكن هذا لا يدعو إلى الانكار ، والشك في صحة هذا الموضوع المدعوم بالتجربة والعلم ، وذلك لكثرة ما أخبر به الثقات عن نتائج تجاربهم في هذا المجال ، ولكثرة ما كتبه العلماء الكبار والمجامع العلمية في هذا الميدان ، ممّا لا يبقي محلاً للانكار في أصل المسألة ، وقد بلغت من الكثره ما لو حاولنا ذكر زاوية منها لطال الحديث عنها كثيراً (١).

بناءً على هذا يمكننا عن هذا الطريق أيضاً ، أن نثبت وجود عالم البرزخ.

* * *

٣ ـ قبسات من عالم البرزخ

بغضّ النظر عن الاختلاف الموجود بين العلماء المسلمين في التفاصيل الجزئية لعالم البرزخ ، فإنّهم اتفقوا جميعاً على أصل وجود مثل هذا العالم سوى عدد قليل لا يعتدّ به.

والسبب في ذلك ، هو وجود الآيات القرآنية والروايات الكثيرة ، التي دلّت على ذلك ، وقد تحدثت تلك الآيات بصراحة عن وضع الإنسان بعد الموت ، والثواب والعقاب ، وارتباط أهل القبور بهذا العالم ، وأمثال ذلك (وقد ذكرنا هذا المطلب آنفاً).

بناءً على هذا فلا يوجد هناك اختلاف في أصل وجود عالم البرزخ ، والمهم هنا هو الاطلاع على صورة حياة البرزخ ، وقد طرح العلماء تصورات مختلفة في هذا الميدان أوضحها ما كان ينسجم مع ما جاء في الروايات وهو :

إنّ روح الإنسان بعد انتهاء الحياة الدنيا تحلّ في جسمٍ لطيف يفتقد الكثير من اعراض

__________________

(١) راجع كتابنا «عود أرواح وارتباط أرواح» لكسب توضيحات أكثر.

٣٦٥

الجسم المادّية ، ولكن لِشَبَهِ هذا الجسم بالمادة اطلق عليه اسم «الجسم المثالي» أو «القالب المثالي» وقيل : إنّه ليس مجرّداً بتمام الأبعاد وليس مادياً كذلك ، بل له نوع من «التجرد البرزخي». (فتأمل).

ولكن بما أنّ إدراك حقيقة حياة عالم الآخرة غير ممكن بالنسبة لنا نحن اسارى عالم المادة ، فالاطلاع الكامل على عالم البرزخ لا يكون ممكناً أيضاً ، وذلك لأنّ عالم البرزخ هو أعلى مرتبة من هذا العالم ، وبتعبير آخر : إنّ عالم البرزخ عالمٌ محيط بهذا العالم لا محاط.

ولكن ـ على حدّ قول بعض العلماء ـ : يمكننا تشبيهه بعالم الرؤيا ، فالروح الإنسانية في الأحلام الصادقة تتجوّل في نقاط مختلفة ، بواسطة القالب المثالي وتشاهد المناظر وتتلذذ بالنعم ، كما أنّها أحياناً تشاهد المشاهد المرعبة فتتضجّر بشدّة ، وتصرخ وتصحو من نومها.

وتؤكّد صحّة هذه الحقيقة قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا). (الزمر / ٤٢)

قال المرحوم العلامة المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ تشبيه عالم البرزخ بحالة النوم والرؤيا كثيراً ما ورد في الإخبار.

ثم يضيف : كما يحتمل أن يكون للنفوس القوية العالية اجسامٌ مثاليةٌ متعددة ، لذا فإنّ ما ورد من الروايات على أنّ الأئمة يحضرون عند كلّ من يحتضر من الناس ، سوف لا يحتاج إلى التأويل والتكلّف في تفسيرها». (فتأمّل) (١).

كما أنّ البعض يعتقد بأنّ القالب المثالي موجود في جسم كلّ إنسان ، لكنّه ينفصل عن الجسم بعد الموت ويبدأ حياته في البرزخ ، فالروح في عملية التنويم المغناطيسي تتجوّل وتذهب إلى مناطق مختلفة ، وتمارس كثيراً من الفعاليات ، والأكثر من ذلك أنّ بعض الأرواح القوية تتمكن من السفر إلى مناطق بعيدة في عالم اليقظة أيضاً فتطّلع على أسرار تلك المناطق ، وهذه الفعاليات تنجز بواسطة القالب المثالي أيضاً.

وقصارى القول هو أنّ الجسم المثالي يشابه هذا الجسم المادي ـ كما هو ظاهر من اسمه

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٧١.

٣٦٦

ولكنّ هذه المادة ليست مادة كثيفة ولا تتشكل من العناصر المادية ، بل هو جسم لطيف نوراني لا يحتوي على العناصر المادية المعروفة في هذا العالم المادي.

وقد اشتبه الأمر على البعض هنا ، ومن المحتمل أن تكون هذه الشبهة هي السبب في انكارهم للجسم المثالي ، والشبهة التي وقعوا فيها هي اعتقادهم بأنّ وجود جسمٍ كهذا سوف يؤدّي إلى الاعتقاد بمسألة «التناسخ» ، وذلك لأنّ التناسخ ما هو إلّاعبارة عن انتقال الروح إلى أجسام متعددة.

لكننا إذا سلّمنا بوجود القالب المثالي في باطن هذا الجسم المادي ، فسوف لن نقع في محذور انتقال الروح إلى جسمٍ آخر ، وسوف لن يبقى محلٌّ لمحذور التناسخ.

هذا بالإضافة إلى ما قاله «الشيخ البهائي» إنّ «التناسخ الذي أجمع المسلمون على بطلانه هو عبارة عن انتقال الروح بعد فناء الجسم إلى أجسام اخرى في نفس هذه الدنيا ، وأمّا ما يتعلّق بحلول الأرواح في أجسام مثالية في عالم البرزخ وبقائها حتى انتهاء أمد البرزخ لتنتقل بعد ذلك إلى الأجسام الاولى يوم القيامة ، فإنّه لا يمتٌّ بأيّ صلة لمسألة التناسخ» (١).

ونقل المرحوم «الكليني» في «فروع الكافي» عدّة روايات تحدثت عن الجسم المثالي بكل وضوح ، منها : ما جاء في الصحيح عن الإمام الصادق عليه‌السلام عندما سأله أحد أصحابه قائلاً : يرى بعض الناس أنَّ أرواح المؤمنين تُجعل في حوصلة طيور خضر تحيط بالعرش!! فقال عليه‌السلام : «لا ، المؤمن أكرمُ على الله من أن يجعل رُوحهُ في حوصلة طير ، ولكن في أبدانِ كأبدانهم» (٢).

وجاء في حديث آخر عنه عليه‌السلام أيضاً : «فإذا قبضهُ اللهُ عزوجل صيّر تلك الرّوح في قالبٍ كقالبه في الدنيا» (٣).

وجاء في حديث آخر عن الصادق عليه‌السلام : عندما سُئل عن أرواح المؤمنين ، أجاب : «في

__________________

(١) نقل هذا الكلام العلامة المجلسي عن المرحوم الشيخ البهائي في بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٧٧.

(٢) فروع الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ (باب آخر في أرواح المؤمنين) ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، ح ٦.

٣٦٧

حُجُراتٍ في الجنّة يأكلونَ من طعامها ويشربون من شرابها ، ويقولون رَبّنا أقِم الساعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا» (١).

ومن الواضح هو أنّ المراد من الجنّة هنا هي جنّة البرزخ التي هي أدنى بكثير من جنّة القيامة ، لذا يتمنى المؤمن قيام القيامة ، هذا بالإضافة إلى أنّ وجودهم في البرزخ المكاني يدل على حلول أرواحهم في القالب المثالي ، وذلك لأنّها فارقت أجسامَ هذه الدنيا.

* * *

٤ ـ خصوصيات عالم البرزخ

إنّ القرآن المجيد لم يتعرّض كثيراً لذكر هذه الخصوصيات ، وكلّ ما تعرّض له هو : أَنّ هناك برزخاً وأنّ فيه فريقاً يتنعّم بنعم الله وفريقاً آخر في العذاب ، ولكن ماهي التفاصيل؟ فإنّها لم تبيّن ، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو أنّ سيرة القرآن هي بيان الاصول العامة وترك التفاصيل للسنّة.

أمّا ما بينته السنّة في هذا المجال فهو ما يلي :

أ) سؤال القبر

دلّت روايات عديدة على أنّ الإنسان عندما يوضع في القبر يأتي إليه اثنان من ملائكة الله ، فيسألانه عن اصول دينه ، التوحيد والنبوة والإمامة ، كما أنّ بعض الروايات أشارت إلى أنّه يُسأل حتى عن كيفية قضاء عمره من جوانب عدّة ، كالسؤال عن سُبل كسبه للمال وانفاقه إيّاه ، فإنْ كان من المؤمنين الصادقين فإنّه سوف يجيب عمّا سُئل بسهولة ، وتغمره الرحمة الإلهيّة واللطف ، وإن لم يكن كذلك فإنّه سوف يفشل في الإجابة ويغرق في عذاب البرزخ الأليم.

وقد اطلِق على هذين الملكين في بعض الروايات اسم «ناكر» و «نكير» وفي بعضها

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ (باب آخر في أرواح المؤمنين) ، ح ٤.

٣٦٨

الآخر اسم «منكر» و «نكير» (١).

روي عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه كان يعظ الناس في كلّ جمعة في مسجد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الموعظة : «أيٌّها الناسُ اتقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون ...» ، حتّى حفظ الناس ذلك ودوّنوه.

ثم يشير في قسم آخر من كلماته الشريفة والنافذة إلى الأعماق ، إلى حضور الملكين (منكر ونكير) للسؤال في القبور فيقول عليه‌السلام : «أَلا وأنّ أوَّل ما يسألانك عن ربّك الذّي كنت تعبُدهُ وعن نبيّك الذّي ارسل اليك وعن دينك الذي كنت تُدينُ به وعن كتابك الذي كُنت تتلوه وعن إمامك الذي كنت تتولّاه ، ثم عن عُمرك فيما أفنيته ومالك من اين اكتسبته وفيما أتلفته ، فخُذ حذرك وانظُرْ لنفسك واعِدَّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار ، فإن تكُ مؤمناً تقياً عارفاً بدينك متبعاً للصادقين ، موالياً لأولياء الله لقاك الله حُجّتك وانطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب فبُشِّرتَ بالجنّة والرضوان من الله ، والخيرات الحسان ، واستقبلتك الملائكة بالرَّوح والرَّيحان ، وإن لمْ تكُن كذلك تلَجْلَجَ لسانُك ودحضَتْ حُجّتك ، وعميت عن الجواب ، وبُشِّرتَ بالنار واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم» (٢)! ...

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : هل يتوجّه السؤال هناك إلى الروح التي هي في القالب المثالي والبرزخي أم إلى نفس الجسم المادّي على نحوٍ تعود الروح إلى الجسم المادي بصورة مؤقتة (ومن البديهي أننا لا نقصد عودة الروح بصورة تامة ، بل على قدر ما يمكنه من الاجابة) فتوجّه إليه الأسئلة؟ وَما يستفاد من مضمون بعض الروايات هو ، أنّ الروح ترتبط وتتعلق بنفس هذا الجسم المادّي بنوعٍ من التعلّق على قدر ما يتمكن الميت من فهم الاسئلة ، والإجابة عليها (٣).

__________________

(١) ورد ذكر الاسم الأول في كتاب اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٣٣ ، ح ٢٦ (باب النوادر) والاسم الثاني في كتاب بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٢٢ و ٢٢٣ ح ٢٢ و ٢٤.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٢٣ ، ح ٢٤. وهناك روايات عديدة في هذا المجال فإن أردت كسب معلومات أكثر عليك بمراجعة نفس الجزء من بحار الأنوار وكذلك مراجعة تفسير البرهان ، ج ٢ ، من ص ٣١٢ ، فما فوق (في تفسير ذيل الآية ٢٧ من سورة إبراهيم) والمحجّه البيضاء ، ج ٨ ، ص ٣٠٩ فما فوق.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٣١٤ ، ح ٩ ، في ذيل الآية ٢٧ من سورة إبراهيم.

٣٦٩

لكنّ المرحوم العلّامة المجلسي في تحقيقه حول أحاديث هذا الباب ، قال في إحدى عباراته : «فالمراد بالقبر في أكثر الإخبار ما يكونُ الروحُ فيه في عالم البرزخ» (١).

وهناك مسألة اخرى يجدر الالتفات إليها وهي طبقاً لما جاء من قرائن في الروايات يتضح أنّ أسئلة وأجوبة القبر هي ليست اسئلة وأجوبة عادية يتمكن الإنسان من الإجابة عليها بما يحلو له ، بل هي أسئلة تنبع اجاباتها من أعماق روح الإنسان ، ومن صحيح معتقداته ، ولا يؤثر تلقين الأموات إلّافي إثارتها لا أنّه يؤثّر في الإجابة بصورة مستقلة ، فالجواب كأنّه ينبع من عمق التكوين والحقيقة الكامنة في الباطن.

ب) ضغطة القبر

هذه المسألة هي من المسائل التي ورد ذكرها في أحاديث كثيرة أيضاً ، كما يستفاد من الروايات أيضاً ؛ أنّ ضغطة القبر تشمل الجميع بدون استثناء ، كلّ ما هنالك أنّها تكون شديدة على البعض وتكون من عقوبات الأعمال ، وتكون أقّل شدّة على البعض الآخر وتعتبر كفّارة للذنوب؟

جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند دفن الصحابي المعروف (سعد بن معاذ) أنّه قال : «إنّه ليس من مؤمنٍ إلّاوله ضمّةٌ» (٢).

وفي رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ضغطة القبر للمؤمن كفارةٌ لما كان منه من تضييع النّعم» (٣).

لكن يستفاد من رواية اخرى أنّ المؤمنين لا تمسّهم ضغطة القبر أبداً ، وأنّ ضغطة القبر التي حلت بسعد بن معاذ هي من أجل سوء خلقه مع اهله ، جاء في هذه الرواية : «إِنّهُ كانَ في خُلُقِهِ معَ أَهْلِهِ سوءٌ» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٧١.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٦ و ١٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق ، ح ١٤.

٣٧٠

لذا جاء في بعض الأخبار أَنّ الذين يمارسون بعض الأعمال الصالحة (مثل حج بيت الله عدّة مرات ، أو المواظبة على قراءة بعض سور القرآن ، أو بعض الأذكار) ينجون من ضغطة القبر (١).

وعلى أيّة حال فإنّ ضغطة القبر هي اوّل العقوبات في عالم البرزخ ، ولكن هل تنزل ضغطة القبر على هذا الجسم المادي ثم تنتقل منه إلى الروح (سبب العلاقة الموجودة بين هذا الجسم والروح على أيّة حال) ، أم تنزل على ذلك الجسم المثالي؟ للإجابة عن هذا السؤال يأتي نفس الرأيين السابقين أيضاً ، ولكن بما أنّ الدخول في التفاصيل الجزئية لا ثمرة منه ، لذا نمّر عليها مرّ الكرام ، ونقتصر في القول على أنّ أصل وجود ضغطة القبر هي من المسلّمات ، وذلك طبقاً لمفاد كثير من الروايات (٢) ، وقد جاء في إحداها عند الجواب عن سؤالهم : إنّ من علّق بخشبة الصَلب عدّة أيّام كيف تناله ضغطة القبر؟ ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ ربّ الأرض هو ربُّ الهواء فيوحي الله عزوجل إلى الهواء فيضغطه ضغطةً اشدّ من ضغطة القبر» (٣).

ج) عن أيّ الامور يُسأل؟

تدل الأخبار الكثيرة الواردة في موضوع سؤال القبر ، على أنّ أسئلة القبر توجّه إلى فريقين هما : الفريق الذّي محّضَ الإيمان محضاً ، والفريق الذّي محّض الكفر محضاً ، أمّا المستضعفون الذين هم لا لهؤلاء ولا لهؤلاء فإنّ السؤال منهم يُرجأ إلى يوم القيامة.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا يُسألُ في القبر إلّامن محضَ الإيمان محضاً أو محضَ الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم» (٤).

__________________

(١) لكسب معلومات أكثر راجع سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٦٧ مادة (قبر).

(٢) كالروايات القائلة : إنّ «القبر إما روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» التي أشرنا إليها سابقاً ، فإنّها يحتمل أن تكون دليلاً على أنّ ضغطة القبر تنزل على القالب المثالي والروح وذلك لأنّ القبر المادي لا يتحول إلى جنّة أو حفرة من النار.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٦٦ ، ح ١١٢.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٦٠ ؛ اصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٣٥ (باب المسألة في القبر ، ح ١).

٣٧١

وجاء نفس هذا المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام عندما سأله أحد أصحابه : مَن المسؤولون في قبورهم؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : «مَنْ محّضَ الإيمان ومن محّضَ الكفر».

فسأله الراوي : وما حال بقيّة الناس؟

فأجابه الإمام عليه‌السلام «يُلهى عنهم».

فسأله الراوي : وعن أيّ شيء يُسأَلون؟

فقال الإمام عليه‌السلام : «عن الحُجّة القائمة بين أظهركم» (١).

يظن البعض بأنّ السؤال لا يكون إلّاعن العقيدة لا عن الأعمال ، واعتبروا جملة «من محضَ الكفر ومن محضَ الإيمان» (جاراً ومجروراً» لا «صلةً وموصولاً» فيكون مفهومها في هذه الحالة : «لا يُسألُ إلّاعن الإيمان الخالص والكفر الخالص».

ولكن نظراً إلى أنّ الروايتين المذكورتين تحدثت عن الأفراد بوضوح «لا عن الأعمال» إذن لا يكون التفسير الثانى مناسباً ، هذا بالإضافة إلى ما جاء في رواية علي بن الحسين عليه‌السلام التي ورد ذكرها سابقاً وهو أنّ السؤال هناك يشمل ساعات العمر وسبل كسب المال أيضاً.

د) ارتباط الروح بهذا العالم

يوجد في هذا المجال روايات متعددة أيضاً تشير إلى أنّ الروح عندما تنتقل إلى عالم البرزخ لا تنفصل عن الدنيا بالمرّة ، بل تطلّ عليها بين الحين والآخر.

وفي المجلد الثالث من كتاب الكافي يوجد هناك باب تحت عنوان «إنّ الميّت يزور أهله» ، قد ذكر فيه خمس روايات تدلّ على أنّ المؤمنين ، وغير المؤمنين أيضاً يزورون أهلهم بين الحين والآخر ، قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ المؤمن ليزورُ أهلَهُ فيرى ما يحبُّ ويُسترُ عنه ما يكره ، وإنّ الكافر ليزورُ أهلَهُ فيرى ما يكرهُ ويُستَرُ عنه ما يحبُّ» (٢).

وقال العلماء الذين تمكنوا من الاتصال بالأرواح بالطرق العلمية الخاضعة للتجربة : إن

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٣٣٧ ، ح ٨.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٣٠ ، ح ١.

٣٧٢

أرواح البشر بعد موتهم لا تنفصل عن هذا العالم كلياً ، بل لديهم معلومات معيّنة عن هذا العالم ، كما أنّ الاتصال بهم ممكن أيضاً (ويوجد في هذا المجال تجارب وقصص كثيرة ، يخرجنا ذكرها عن صلب الموضوع).

ه) انتفاع الأرواح بأعمال الآخرين الصالحة

وهناك أمرٌ آخر تجدر الإشارة إليه وهو وجود روايات كثيرة وردت في مصادر إسلامية مختلفة ، دلّت على أنّ عمل الخيرات لأرواح الأموات تصل إليهم على شكل هدايا ، وهذا الأمر يدل من أحد جهاته على وجود عالم البرزخ ، ومن جهة اخرى على ارتباط الأرواح بهذا العالم.

جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «ما من عبدٍ زار قبر مؤمنٍ فقرأَ عليه انّا انزلناه في ليلة القدر سبع مرّات إلّاغفرَ الله له ولصاحب القبر» (١).

بل يستفاد من بعض الروايات : «أنّ المسيح عليه‌السلام مرّ على أحد القبور فوجد صاحبه في العذاب ، وعندما مرّ في العام المقبل عليه وجده في النعيم ، فعندما سأل من الله عن ذلك خوطب بأنّ السبب في هذا هو فعل خيرٍ ادّاه ابنٌ مؤمن له ، وهو اصلاحه لاحد الطرق وإيواؤهُ يتيماً» (٢).

كما يستفاد من روايات متعددة أيضاً أنّ من سنَّ سنّة حسنة ، أو سنّة سيئة فله ثوابها أو عليه وزرها ، كما أنّ الحسنات الجارية تصل بركاتها إليه على الدوام (٣).

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ستٌّ خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته : ولدٌ صالح يستغفر له ، ومصحفٌ يقرأُ فيه ، وقليب يحفره ، وغرسٌ يغرسه ، وصدقة ماءٍ يُجريه ، وسُنّةٌ حسنةٌ يؤخذ بها بعده» (٤).

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٩٠.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٢٠ ، ح ١٥.

(٣) راجع ما جاء في الروايات المتعلقة بالسنّة الحسنه والسنّة السيئة في بحار الأنوار ، ج ٦٨ (طبعة الوفاء ـ بيروت) ص ٢٥٧ باب ٧٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٩٣ ، باب ١٠ ، ح ١.

٣٧٣

٥ ـ هل يمرّ الجميع في مرحلة البرزخ؟

هل يعلم جميع من يفارق الدنيا وينتقل إلى عالم البرزخ بما يدور حولهم؟ أم أَنَّ فريقاً منهم يقضون حياتهم في البرزخ ، وهم لا يعلمون بما يدور من حولهم فهم كالنيام ، فينهضون من نومهم يوم القيامة ، فيتصورون مرور ألف عام عليهم وكأنّه ساعة؟

يستفاد المعنى الثاني من قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ). (الروم / ٥٥)

وهذا يتمّ طبعاً في حالة تفسيرنا للآية على أنّ عالم الدنيا أو عالم البرزخ لا يعدّ شيئاً في مقابل القيامة ، (فتأمّل).

ولكن بعض الآيات التي تحدثت عن البرزخ ظاهرها الاطلاق والعموم ، مثل الآية التي في شأن الكفّار ظاهراً ، قال تعالى : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (المؤمنون / ١٠٠) (إلّا إذا قيل : إنّ الآية السابقة خاصة ، وهذه عامّة فتقيد الأخيرة بها).

كما تكرر ذكر هذا المعنى في الروايات أيضاً وهو أنّ سؤال القبر يختص بفريقين فقط : «وهم من محّض الإيمان محضاً أو محّض الكفر محضاً ، أمّا الباقون فيلهى عنهم».

وقد ورد ذكر هذه الروايات في البحث السابق ، ولمزيدٍ من الاطلاع على هذه الروايات راجع المجلد السادس من بحار الأنوار الصفحة ٢٦٠ ، الأحاديث رقم ٩٧ ـ ١٠٠.

أمّا بالنسبة لعبارة «يُلهى عنهم» فليس مفهومها عدم شمول البرزخ لهم ، بل تدل على عدم توجّه الأسئلة لهم في القبر ، على عكس ما جاء في روايات ضغطة القبر فهي تشمل الجميع باستثناء بعض أولياء الله (وقد مرّ ذكر الروايات المتعلقة بهذا البحث).

* * *

٦ ـ الغاية من وجود البرزخ

اتّضحت بجلاء الغاية من الحياة الدنيا ، وهي كونها محل ابتلاء وتعليم وتربية وكسب الكمالات العلمية والعملية للإعداد للآخرة ، فالدنيا في نظر الروايات وبعض الآيات القرآنية

٣٧٤

هي مزرعة ومكسب ومدرسة وهي ساحة إعداد ، أو بتعبير آخر هي بمنزلة «عالم الجنين» بالنسبة لعالم الآخرة.

والآخرة هي منبع الأنوار الإلهيّة ومحكمة الحق الكبرى ، ومحل حساب الأعمال ومنزل القرب والرحمة الإلهيّة.

ويبقى هنا سؤال يجب الإجابة عنه وهو : ما هي الغاية من وجود «البرزخ»؟

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن أن يقال : إنّ الغاية من توسط البرزخ بين الدنيا والآخرة ، هي نفس الغاية المتوخاة من كل مرحلة متوسطة اخرى ، وذلك لأنّ الانتقال من محيطٍ إلى محيطٍ آخر يختلفان تمام الاختلاف مع بعضهما ، وسوف لن يَتَحَمّل إلّابوجود مرحلة متوسطة تحمل بعض خصوصيات المرحلة الاولى ، مع بعض خصوصيات المرحلة الثانية معاً.

هذا بالإضافة إلى أنّ يوم القيامة بالنسبة لجميع البشر يتحقق في يوم واحد ، وذلك لوجوب تبدّل الأرض والسماء لإيجاد عالم جديد ، وحياة جديدة للبشر في ذلك العالم الجديد ، لذا فإنّه لا يوجد أيّ سبيل آخر لتحقق ذلك إلّابتوسط البرزخ بين الدنيا والآخرة ، وانتقال الأرواح بعد انفصالها من الجسم المادي إلى البرزخ لتبقى هناك حتّى انتهاء الدنيا ، وبعد انتهاء الدنيا وقيام القيامة يحشر الجميع معاً ، وذلك لعدم إمكان تخصيص قيامة مستقلّة لكل إنسان ، وذلك لأنّ القيامة لا تتحقق إلّابعد فناء الدنيا وتبدّل الأرض بغير الأرض والسماء بغير السماء.

بالإضافة إلى ذلك فقد دلّت بعض الروايات على إصلاح بعض النواقص العلمية والتربوية للمؤمنين في البرزخ ، وعلى الرغم من أنّ البرزخ لم يُعدّ لعمل الصالحات ، لكن ما المانع من أن يكون هناك مَوضعٌ لا رتقاء المعرفة والعلم؟

جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : «مَن ماتَ من أوليائنا وشيعتنا ولم يُحسن القَرآن عُلِّم في قبره ليرفع الله به من درجته ، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن ، يقال له اقرأ وارق ، فيقرأ ثمَّ يرقى» (١).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٦ ، باب فضل حامل القرآن ، ح ١٠.

٣٧٥

ملاحظة :

كنّا نود أن نجمع كل مباحث «المعاد في القرآن» في مجلد واحد كي يسهل تناولها ، لكننا عند العمل وجدنا أنّ البحوث بلغت من السعة ما يقارب التسعمائة إلى الالف صفحة (مع الاختصار!) وأنّ جمعها في مجلد واحد أمر عسير ، لذا لم نرَبداً من وضع البحوث المتعلقة بكليات «المعاد» في مجلد والبحوث المتعلقة «بخصوصيات المعاد» في مجلد آخر ، على أمل أداء حق جميع البحوث على قدر الإمكان.

اللهم! إننا نعلم بأنّ أمامنا سفراً طويلاً ومليئاً بالمخاطر وبأننا لم نعدّ أنفسنا له ، فوفقنا لاعداد أنفسنا إعداداً أكمل وأسرع.

ياربّ! إنّ عبدك المخلص علي عليه‌السلام كان يذرف الدموع ويقول : آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر ، فكيف بنا وقد خلت أيدينا من الزاد ، فإننا لا نرجو إلّالطفك الدائم.

لكننا نعلم ياربّ بأنّ كل ما لدينا من العلم هو أنّ هناك عالماً أسمى وأرقى وراء هذا العالم المحدود الضيّق المظلم .. عالماً تشع عليه أنوارك على الدوام ، وأنّ آثار قدرتك وعظمتك فيه أكثر وضوحاً واشعاعاً ، وهو يبشّرنا بلقائك المعنوي الذي حرمنا منه في هذه الدنيا ، ويدعونا إلى المأدبة الكبرى ويبشّرنا بالجلوس على خوان «مالا عين رأت ولا اذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، فلا تحرمنا من ذلك يا عظيم!

انتهى المجلد الخامس

من التفسير الموضوعي «نفحات القرآن» في

١٣ / ١٠ / ١٣٦٩ ه‍. ش

١٦ / ج ٢ / ١٤١١ ه‍. ق

٣٧٦

الفهرس

أهميّة بحث المعاد.............................................................. ٥

أهميّة بحث المعاد في المنظور القرآني............................................... ٧

جمع الآیات وتفسیرها.......................................................... ٩

التأكيد على المعاد............................................................. ٩

إنكار المعاد هو عين الضّلال.................................................. ١٣

نتيجة البحث............................................................... ١٧

أسماء المعاد في القرآن الكريم................................................ ١٩

أسماء المعاد في القرآن الکریم................................................... ٢١

جمع الآیات وتفسيرها........................................................ ٢٢

١ ـ القيامة.................................................................. ٢٢

٢ ـ احياء الموتى.............................................................. ٢٣

٣ ـ البعث.................................................................. ٢٤

٤ ـ الحَشر.................................................................. ٢٦

٥ ـ النشر................................................................... ٢٧

٦ ـ المعاد................................................................... ٢٨

٧ ـ لقاء الله................................................................. ٣٠

٨ ـ الرجوع إلى الله........................................................... ٣٢

النتيجة..................................................................... ٣٤

٣٧٧

للقیامة سبعون عنواناً في القرآن................................................. ٣٥

للقیامة سبعون عنواناً في القرآن................................................. ٣٧

القسم الأول................................................................ ٣٨

١ ـ یوم القیامة............................................................... ٣٨

٢ ـ اليوم الآخر.............................................................. ٣٩

٣ ـ يوم الحساب............................................................. ٤٠

٤ ـ يوم الدين............................................................... ٤٢

٥ ـ يوم الجمع............................................................... ٤٢

٦ ـ يوم الفصل.............................................................. ٤٢

٧ ـ يوم الخروج............................................................... ٤٣

٨ ـ اليوم الموعود............................................................. ٤٤

٩ ـ يوم الخلود............................................................... ٤٤

١٠ ـ يوم عظيم.............................................................. ٤٥

١١ ـ يوم الحسرة............................................................. ٤٦

١٢ ـ يوم التغابن............................................................. ٤٧

١٣ ـ يوم التناد.............................................................. ٤٨

١٤ ـ يوم التلاقي............................................................ ٤٩

١٥ ـ يوم ثقيل............................................................... ٥٠

١٦ ـ يوم الآزفة.............................................................. ٥٠

١٧ ـ يوم عسير.............................................................. ٥١

١٨ ـ يوم اليم............................................................... ٥٢

١٩ ـ يوم الوعيد............................................................. ٥٣

٢٠ ـ اليوم الحق.............................................................. ٥٤

٢١ ـ يوم مشهود............................................................ ٥٤

٣٧٨

٢٢ ـ يوم معلوم.............................................................. ٥٥

٢٣ ـ يوماً عبوساً قمطريراً..................................................... ٥٦

٢٤ ـ يوم البعث............................................................. ٥٧

القسم الثاني................................................................. ٥٨

٢٥ ـ يوم نطوي السماء كطي السَّجل للكتب................................... ٥٨

٢٦ ـ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات................................... ٥٩

٢٧ ـ يوم تمور السماء موراً..................................................... ٦٠

٢٨ ـ يوم تشقق السماء بالغمام................................................ ٦١

٢٩ ـ يوم تشققُ الأرض عنهم سراعاً............................................ ٦١

٣٠ ـ يوم تكون السماء كالمهل................................................. ٦٢

٣١ ـ يوم ترجف الأرض والجبال................................................ ٦٣

٣٢ ـ يوم يسمعون الصيحة بالحق.............................................. ٦٤

٣٣ ـ يومهم الذي فيه يصعقون................................................ ٦٤

٣٤ ـ يوم يُنفخ في الصور...................................................... ٦٥

٣٥ ـ يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ......................................... ٦٧

القسم الثالث............................................................... ٦٨

٣٦ ـ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.......................................... ٦٨

٣٧ ـ يوم تبلى السرائر........................................................ ٧٠

٣٨ ـ يوم هم بارزون......................................................... ٧٠

٣٩ ـ يوم ينظُر المرهُ ما قدَّمت يداه.............................................. ٧١

٤٠ ـ يوم تجدُ كلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً................................ ٧١

٤١ ـ يوماً تتقلَّبُ فيه القلوب والأبصار......................................... ٧٣

٤٢ ـ يوم تشخصُ فيه الأبصار................................................ ٧٣

٤٣ ـ يوم يتذكَّر الإنسان ما سعى.............................................. ٧٥

٤٤ ـ يوم تأتي كُلُّ نفسٍ تُجادلُ عن نفسها....................................... ٧٥

٣٧٩

٤٥ ـ يوم يقوم الناس لربَّ العالمين.............................................. ٧٦

٤٦ ـ يوم يقوم الاشهاد....................................................... ٧٧

٤٧ ـ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً............................................. ٧٧

٤٨ ـ يوم لا ينفع مال ولا بنون................................................ ٧٩

٤٩ ـ يوم لا بيع فيه ولا خلال................................................. ٧٩

٥٠ ـ يوماً لا تجزي نفس عن نفسِ شيئاً......................................... ٨٠

٥١ ـ يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً............................................. ٨٠

٥٢ ـ يوم لا يجزى والد عن ولده............................................... ٨٠

٥٣ ـ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه............................................. ٨١

٥٤ ـ ويخافون يوماً كان شره مسطيراً............................................ ٨٣

٥٥ ـ يوم يفر المرءُ من أخيه.................................................... ٨٣

٥٦ ـ يوماً يجعل الولدان شيباً.................................................. ٨٥

٥٧ ـ هذا يوم لا ينطقون...................................................... ٨٦

٥٨ ـ يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون................... ٨٦

٥٩ ـ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم............................................. ٨٧

٦٠ ـ يوم يعض الظالم على يديه............................................... ٨٨

٦١ ـ يوم يعرض الذين كفروا على النار......................................... ٨٩

٦٢ ـ يوم تقلب وجوههم في النار.............................................. ٨٩

٦٤ ـ يوم دعون إلى نارجهنم دعا.............................................. ٩٠

٦٥ ـ يوم نبطش البطشة الكبرى............................................... ٩١

٦٦ ـ يوم لا مرد له من الله.................................................... ٩١

٦٧ ـ يوم يسحبون في النار على وجوههم....................................... ٩٣

٦٨ ـ يوم تقول لجهنم هل امتلأت.............................................. ٩٣

٦٩ ـ يوم يقول المنافقون والمنافقات............................................. ٩٥

٣٨٠