نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

وفي الآية الثانية اقسم تعالى بأمرين : (لَاأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ* وَلَا اقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).

يرى البعض أنّ «لا» تحمل معنى النفي في هذه الآية ، فيكون مفهومها هو أنني لا اقسم بهذين الأمرين ، والغرض من ذلك هو التأكيد ، كما لو نقل لأحد : أنا لا أقسم بحياتك من أجل بيان أنّ حياتك أرقى من أن ينالها قسمي.

لكن أكثر المفسرين يرى أنّ «لا» زائدة جاءت من أجل التأكيد ، فبناءً على هذا أقسم الله بـ «يوم القيامة» كما أنّه أقسم بـ «النفس اللوامة» أيضاً.

و «النفس اللوامة» : هي وجدان الإنسان وضميره الذي يلومه على ارتكاب الذنوب ، وكلمّا كانت الخطيئة أكبر كان توبيخ الضمير وعذاب الوجدان أشدّ ، وقد يقدم بعض الناس على الانتحار من أجل الخلاص من العذاب الحاصل من ارتكاب الذنوب العظيمة أو الجرائم البشعة ، وقد سمع أو رأى أكثرنا بهذا الأمر بالنسبة للقتلة الذين ارتكبوا جرائم عظيمة أو الذين اقترفوا ذنوباً كبيرة.

وذكر هذين الأمرين (يوم القيامة النفس اللوامة) مقترنين بعنوان موضوعين عظيمين وقيّمين يستحقان القسم بهما إنّما هو من أجل الدلالة على الرابطة الموجودة بينهما ... فيوم القيامة هو المحكمة الإلهيّة الكبرى و «النفس اللوامة» هي محكمة مصغرة وقيامة تستقر في أعماق روح كل إنسان ، أو بتعبير آخر كأنّ هذا التقارن يقول بلسان الحال كيف تشكّون في محكمة يوم القيامة وأنتم تشاهدون في أعماقكم نموذجاً مصغراً منه؟ إنّكم تلمسون ذلك كثيراً فعندما تعملون عملاً صالحاً تمتلئون نشاطاً وبهجة ، فهذه السكينة وارتياح الضمير هو ثواب تمنحه أيّاكم روحكم ، وعندما تقترفون ذنباً تألمون وتنهال عليكم سياط الضمير من أعماقكم ، فهذا العذاب هو عقاب تعيّنه لكم محكمة الضمير!.

فإن كانت هناك محكمة في أعماق كل واحد منكم فكيف لا توجد هناك محكمة الهية عظيمة على مستوى الكون العظيم؟!

وممّا يجلب الانتباه هو القسم بنفس يوم القيامة لإثبات يوم القيامة ، فكأنّه يقول : قسماً بيوم القيامة إنّ القيامة حق (١).

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ «ماجاء القسم من أجله» محذوف في الآية ، والدليل عليه في الجملة اللاحقة فيكون التقدير «لتبعثن يوم القيامة».

١٨١

وهنا يطرح السؤال الثاني نفسه وهو : إن كان هذا القسم موجّه للمؤمنين فلا داعي له هنا ، وإن كان موجه للمنكرين فكيف يقسم بما لا يؤمنون به؟!

وللتخلص من هذه المعضلة قدّر بعض المفسرين كلمة «ربّ» وقالوا إنّ التقدير هو اقسم بربّ القيامة بأنّ القيامة واقعة (١).

واحتمل أيضاً أنّ هذا القسم جاء تأكيداً للذين يؤمنون بأصل يوم القيامة إلّاأنّهم يشككون في تفاصيلها ، فالقرآن يقسم بأصل يوم القيامة لإثبات التفاصيل التي وردت بعد القسم في الآية.

وهناك تفسير آخر يحتمل أن يكون افضل من التفسيرين السابقين ، وهو : إنّ القرآن أشار بذلك إلى أنّ الاعتقاد بيوم القيامة بلغ من البداهة حداً كبيراً حتى أنّه يُقسم به في مقابل المعاندين ، وبتعبير آخر أنّه استعان بفطرتهم على دحض آرائهم.

وأمّا بالنسبة لـ «النفس اللوامة» فللمفسرين أقوال كثيرة فيها حتى نقل أحدهم ستة تفسيرات لها ، منها : إنّها للدلالة على النفس المؤمنة التي تلوم نفسها حين التقصير.

ومنها : أنّها للدلالة على النفس الكافرة التي تلوم نفسها يوم القيامة عندما تشاهد أعمالها.

ومنها : أنّها ذات مفهوم اشمل من المؤمن والكافر.

ومنها : أنّها إشارة إلى آدم عليه‌السلام بعد طرده من الجنّة.

لكنّ المناسب للمقام ووجود القسم الدال على السموّ ، والشرف للاقتران بيوم القيامة هو أنّ النفس اللوامة هي نفوس المؤمنين الذين لم يبلغوا بعد حدّ الكمال.

توضيح ذلك : إنّ النفوس الإنسانية على ثلاثة أنواع : فنوع من النفوس «مظلمة» لا ترى قيمة للقسم ولا تبدو عليها آثار السير نحو الكمال ولا التنبيه من الغفلة ولا تحمل شيئاً من آثار يوم القيامة ، فهؤلاء هم أصحاب «النفوس الأمارة» النفوس التي تأمرهم دوماً بالإساءة واقتراف الخطايا.

وهناك نفوس أخرى «نصف نورانية» تسير نحو الكمال على منهج الحق ، وهذه النفوس

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣٠ ، ص ٢١٦.

١٨٢

كلما ارتكبت خطيئة بمقتضى الحيثية المظلمة فإنّها تصحو من غفلتها بفعل نور الإيمان وتبدأ بلوم نفسها وتوبيخها ... ذلك اللّوم الذي يصبح سبيلاً لنيل الكمال ، وهي نفس رفيعة ونموذج مصغّر من مشاهد القيامة والتي تُدعى بـ «النفس اللوامة».

وثالثاً النفوس النورانية تماماً ، فكلها «نور وصفاء» فقد تجاوزت النفس اللّوامة إلى مرحلة الاطمئنان والسكينة فجاءها خطاب : (يَاايَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَةُ) وقد أمرت بالرجوع إلى منبع الكمال المطلق بخطاب (ارْجِعِى) فدخلت في روضة عباد الله الصالحين فهي : (رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً).

وقصارى الكلام في تفسير هذه الآية وكيفية دلالتها على المراد هو إنّ هذا التقارن بين القسمين مع الأخذ بنظر الاعتبار فصاحة القرآن وبلاغته لا يمكن أن يكون مصادفة ، بل يجب أن تكون هناك علاقة بين يوم القيامة وبين النفس اللّوامة ، وهذه النسبة هي أنّ كل إنسان (إن لم تنحرف فطرته بفعل التربية الخاطئة) له وجدانٌ يؤنبهُ عند ركوب الخطايا ويستحسن فعله للخير.

وهذا الوجدان الشخصي الذي هو عبارة عن محكمة صغيرة تستقر في روح الإنسان ، دليل على ضرورة وجود ضمير كبير لهذا العالم العظيم يحاكم ويلوم المجرمين ويعاقبهم ، وما هذا الضمير الكبير إلّايوم القيامة.

* * *

توضيح

المعاد يتجلى في الفطرة

إنَّ المسائل الفطرية وإن كانت إدراكية لا استدلالية ، واضحة ومرئية لا مسموعة ، بل يجب على كلّ شخص البحث عنها في أعماقه ليعثر عليها ، ولكن مع ذلك ومن أجل مساعدة الجميع في البحث وسماع صوت الوجدان بسهولة ، ومن أجل قراءة كتاب الفطرة بتأنّي ، وكذلك للحصول على بيان مُقنع للتحدث به أمام المعاندين فإنّ التوضيحات التالية تعتبر ضرورية :

١٨٣

١ ـ إذا كنّا خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء؟

لا يمكن لأحد أن ينكر هذه الحقيقة وهي فراره الدائم من الموت الذي يعتبره «العدم» ، وحُبه لطول العمر ، بل حبّه للخلود.

إنّ السعي من أجل البقاء والسعي من أجل الحصول على «إكسير الشباب» والسعي للحصول على «ماء الحياة» الذي ذكرت له نماذج في طيّات كتب تاريخ البشرية ومساعي العلماء وأشعار الشعراء كلها بسبب حب البقاء عند الإنسان كما أنّ حب الإنسان لأبنائه يعتبر امتداداً لحياته وهو دليل على الحب الغريزي للبقاء أيضاً.

فلو كنّا مخلوقين من أجل الفناء فإنّ وجود هذه الغريزة لدينا يكون عبثاً ، ولا يكون في الحقيقة إلّاحباً مضراً لاهدف من وجوده ، فكيف يضيف الخالق الحكيم إلى وجودنا مثل هذا الأمر المضر الزائد : (يرجى الالتفات إلى أنّ بحث المعاد يأتي بعد إثبات بحوث التوحيد والإيمان بالذات المقدّسة الإلهيّة).

في الواقع أنّ وجود الغريزة في الإنسان يدل على وجود طريق لاشباعها وتلبية متطلّباتها ، فالعطش دليل على وجود الماء ، والجوع دليل على وجود الغذاء ، وحب الجنس الآخر دليل على وجوده ، فإن يكن الأمر كذلك فهو لا يتلائم مع حكمته تعالى.

بناءً على هذا يعتبر حبّ البقاء المغروس في فطرة الإنسان دليلاً واضحاً على الحياة الخالدة.

وللعالم المعروف المرحوم الفيض الكاشاني حديث ظريف في هذا المجال ، فقد قال : «كيف تفنى الروح الإنسانية وقد اودع في طبيعتها حبّ الوجود والبقاء بمقتضى حركته كما أنّه اودع في نفس الإنسان بغض العدم والفناء؟! بينما قد ثبت استحالة البقاء والخلود في هذا العالم ، فإن لم يكن هناك عالم آخر ينتقل إليه الإنسان فإنّ هذه المسألة الغريزية الارتكازية التي اودعها الله في فطرة الإنسان ، أي حبّ البقاء الدائم والحياة الخالدة سوف تصبح عبثاً ، والخالق الحكيم قد تنزّه عن اللغو والعبث» (١).

__________________

(١) علم اليقين ، المرحوم الفيض الكاشاني ، ج ٢ ، ص ٨٣٧.

١٨٤

أو على حدّ تعبير أحد العلماء المعاصرين : إن تعطّش البشر لحياة خالدة بلغ من السعة والقوة بما لا يمكن معه القبول بأنّ مثل هذه الآمال لا تتحقق.

٢ ـ إن لم يكن المعاد أمراً فطرياً فلماذا لا يزول الاعتقاد به من نفس الإنسان على مرّ العصور؟

إنّ عادات وتقاليد الشعوب في تغيير دائم ، فالثقافة بصورة عامّة تابعة للتغيير ، فلا يبقى شيء ثابت على مرّ العصور من دون أن يتأثر بمسار الزمان إلّاامور تأصلت جذورها في أعماق الفطرة.

وبناءً على هذا التوضيح فإنّ فصل المسائل الفطرية عن الامور المعتادة أمرٌ عسير ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء يحافظ على بقائه على مرّ التأريخ (وإن اختلفت مظاهره) يمثّل بقاؤه أفضل دليل على كونه أمراً فطرياً ، وما قلناه يصدق تماماً على مسألة اهتمام الإنسان بالحياة بعد الموت (فتأمل).

يقول علماء النفس المعاصرون : إنّ العقائد الدينية ، والتي تعتبر مسألة الاعتقاد بالمعاد واحدة منها ، رافقت الإنسان على الدوام حتى في عصور ماقبل التاريخ.

وكمثال على ذلك ننقل كلام «صاموئيل كنيغ» الذي ورد ذكره في كتاب علم الاجتماع ، قال : «العقائد الدينية لا تختصّ بعالمنا المعاصر فحسب ، بل ثبت من خلال التحقيقات التاريخية الموثّقة بأنّ المجتمع البشري القديم كانت لديه نوع من العقائد الدينية ، فالأسلاف البشرية القديمة ، أو ما يسمى بانسان (النياندرتال) كان لهم دين أيضاً لأنّهم كانوا يدفنون أمواتهم تحت التراب بصورة خاصّة ، ويدفنون معهم الآلات التي كانوا يستخدمونها في أعمالهم خلال حياتهم ، وقد أثبتوا بسلوكهم هذا بأنّ هناك عالماً آخر» (١).

إنّ التجذر العميق للعقائد الدينية لدى بني الإنسان يعد بحد ذاته دليلاً على أنّ العقائد الدينية امور فطرية.

__________________

(١) جامعة شناسى «علم الاجتماع» ، ص ١٩٢.

١٨٥

٣ ـ هل يعقل أن توجد في أعماقنا محكمة صغيرة بينما لا توجد في هذا الكون الكبير محكمة عادلة؟

إنّ وجود الوجدان الأخلاقي أو بتعبير آخر وجود محكمة الضمير أمرٌ محسوس لدى الجميع ، فكل إنسان يطير فرحاً ويشعر بالرضا العميق عندما يقدم خدمةً إنسانية عظيمة وينقذ مجموعة من المظلومين والمحرومين ، وكل من يقترن بجريمة فيقع فريسة في مخالب الاضطراب ويشعر بآلام عميقة ، (إنّ الحديث هنا لايشمل المجرمين المدمنين على الاجرام الذين مسخت فطرتهم بسبب تكرار ارتكابهم للذنوب ، بل الحديث عن سائر الناس).

فيتضح حينئذٍ أنّ الاعتقاد بالمعاد يكمن في أعماق فطرة البشر من دون حاجة إلى استدلال آخر لإثباته مع توفر ما لايُحصى من الأدلة العقلية لإثباته.

* * *

١٨٦

٢ ـ برهان الحكمة

تمهيد :

لو ألقينا نظرة اجمالية على عالم الوجود لرأينا أنّ كل المخلوقات لم تخلق إلّالغرضٍ معين موافق للحكمة وخاضع لقوانين ومسارات محدّدة.

ثم لنلقي نظرة على حياة الإنسان ولنفترض بأنّ «الموت» هو نهاية كل شيء بالنسبة له ، فبقاء الإنسان لمدّة معينة مع ما يواجهه من صعوبات مع تناول مقدار من الغذاء والماء ثم يموت وينتهي كل شيء سيكون عبثاً وبلا هدف ، ومن البديهي فإنّ شيئاً كهذا لا يمكن أن يعتبر هدفاً من خلق الإنسان ، كما أنّه لا يمكن أبداً أن يتلائم أمر كهذا مع حكمة الخالق الحكيم.

وقد جاء هذا المعنى بصورة حية وملموسة في آيات القرآن المجيد فلنتفكّر فيما جاء في هذا المجال من آياتٍ قرآنية كريمة :

١ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ). (المؤمنون / ١١٥)

٢ ـ (وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ والْارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) (١). (الحجر / ٨٥)

٣ ـ (أَيَحْسَبُ الْانْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدىً ... أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى). (القيامة / ٣٦ ـ ٤٠)

* * *

__________________

(١) وهناك آيات اخرى في القرآن المجيد مثل الآية ٢٧ من سورة ص ؛ الآية ٣٨ من سورة الدخان ؛ والآية ١٩١ من سورة آل عمران حيث تحدثت أيضاً عن أهداف الخلق ، ولكن بما أنّها لم تُشر بصراحة لمسألة المعاد ومحكمة القيامة فقد اعرضنا عن ذكرها ولم نجعلها ضمن الآيات المذكورة أعلاه.

١٨٧

جمع الآيات وتفسيرها

الحياة بلا معاد لامعنى لها :

أشار القرآن المجيد إلى أوضح أدلة المعاد من خلال جملة قصيرة نافذة المعنى ، قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ).

أي : إنْ لم تكن هناك قيامة وكانت حياتكم تتلخّص في هذه الأيّام المعدودة ، لكانت حياتكم عبثاً ولم يكن لها أيّ قيمة ، والحياة الخالدة هي التي تعطي لحياتكم معنىً في هذه الدنيا وتخرجها من دائرة العبث وتجعلها متسقة مع الحكمة الإلهيّة.

ولأجل هذا ختم تعالى هذه الآية بقوله : (فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ). (طه / ١١٤)

فوجوده حقّ من جميع الجهات ، ولا يجد الباطل منفذاً إليه ، وإنَّ العبث واللاهدفية أمرٌ باطل ، والحق لايتلائم مع الباطل.

و «عبث» : على حدّ قول صاحب مقاييس اللغة وصاحب «المفردات» : في الأصل بمعنى الشوب والخلط ، ثم أطلقت على الامور غير الهادفة والتي لا تحمل أىَّ هدف صحيح.

وقال في «لسان العرب» : هي بمعنى اللعب ، وإن عدّوا الخلط من معانيها ، واطلقت اجمالاً على الأعمال غير الهادفة والباطلة والخالية من الأغراض العقلائية ، ولاشيء من هذه المعاني يصدق على خلق الإنسان.

* * *

وقد ورد نفس هذا المعنى في الآية الثانية وبقالب آخر ، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ والَارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الّا بِالْحَقِّ) ، ثم أضاف على الفور : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ).

من المحتمل أن يكون ذكره لهاتين العبارتين مقترنتين دليلاً على هذا الأمر فإن كان الهدف من خلق هذا العالم العظيم مع كل ما فيه من العجائب والبركات والنعم وكل هذه الأسرار الخفية من أجل عدّة أيّام من الحياة المادية الدنيويّة فحسب ، فهو أمرٌ باطل ولا يتلائم مع الحق إذن ، فالحياة الاخرى تعطي معنى وحقانية لهذه الحياة.

١٨٨

ففي الآية السابقة كان الحديث يدور حول «سلب العبث» من خلق الإنسان ، وفي هذه الآية يدور الحديث حول «حقّانية» خلق كلّ العالم ، وكلاهما يرميان نحو هدف واحد ، وهو إنّ الحياة الدنيا إذا ماجردت عن الحياة الآخرة فإنّها سوف تكون أمراً باطلاً لاغرض منه وخالياً من كل معنى ، وهذا ممّا لا يصدر عن الحكيم أبداً.

وجاء في تفسير الميزان : إنّ المراد من الحق في هذه الآية هو ما قابل اللعب والباطل ، والدليل على ذلك هو جملة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، وتفسير «الحق» بمعنى «العدل والانصاف» غير صحيح (١).

والجدير بالالتفات هو أنّ الله تعالى أمر رسوله بالعفو والصفح ... ذلك الصفح الجميل الخالص الذي لا يشوبه حتى اللوم والعتاب ، قال تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميِلَ). (الحجر / ٨٥)

ومن المحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذا المعنى وهو : يا أيّها النبي بما أنّ الهدف من الخلق هو تربية البشر وإعدادهم لمرحلة الآخرة ، فعليك أن تراعي جميع اسس التربية التي يعتبر الصفح والعفو والرأفة واللين من ضمنها ، وبالأخص مراعاة ذلك مع الجهلة والمتعصبين.

ومن الجدير بالذكر أيضاً أنّ مفهوم الآية الاولى هو إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق الإنسان يكون «من العبث» ، ومفهوم الآية ، الثانية (طبقاً للتفسير المذكور أعلاه) هو : إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق كل العالم يكون باطلاً وعبثاً ، فمن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو بيان سمو ثمرة الخلق وهي الإنسان وسمو شجرة الخلق وهي العالم ، فإن لم تكن هناك حياة خالدة تتمثل في الآخرة فسوف يكون خلق «الثمرة» و «الشجرة» كلاهما أمراً عبثاً وغير هادف.

والمراد من تعبير «ما بينهما» شمول جميع أصناف الملائكة وكذلك النور والحرارة والسحاب والهواء وأنواع الغازات ، بل تشمل في أحد أبعادها اصناف الموجودات التي تعيش على وجه الأرض من البشر وجميع أنواع الحيوانات الاخرى والنباتات.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٩٩.

١٨٩

وفي الآية الثالثة والأخيرة أشار تعالى إلى الهدف من خلق الإنسان ، وأوضح العلاقة التي تربطه بالمعاد ، قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْانْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدىً) ، ثم أشار إلى خلق الإنسان من ماءٍ مهين (النطفة) وأشار إلى مراحل تكامله في الرحم فأضاف : (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى).

وبهذا يتّضح أنّ الهدف من خلق الإنسان لا يحصل إذا جُرد من الحياة الآخرة.

فإنَّ فعل الخالق الحكيم لا يخلو من الهدف وهذا أمرٌ بديهي ، ومن البديهي أيضاً أنّ النفع الحاصل من أفعاله لايعود إليه بفائدة ، وذلك لأنّه غير محدود وغني بالذات من جميع الجهات ، إذن فلا يعود النفع إلّالعباده ، ولكن هل من الممكن أن تكون هذه الحياة القصيرة المشوبة بأنواع المصائب هي الهدف من هذا الخلق العظيم؟ كلّا طبعاً.

لذا لا يبقى أمامنا طريق إلّاالقبول بثبوت الآخرة واعتبارها هي الهدف من هذا المسير التكاملي للإنسان.

و «سُدىً» : على وزن «هُدى» ـ نقلاً عن كتاب «التحقيق» : في الأصل بمعنى التحرك العبثي الخالي عن الفكر والتدبير والبرمجة الصحيحة ، من أجل هذا اطلقوا على الجِمال التي تجول في الصحراء من دون راع «إبل سُدى» ، وقيل : إنّ «سَدى» على وزن «وَفا» وقد اطلقت على قطرات الندى التي تتساقط ليلاً ، لأنّها لا تتساقط بنظم معيّن ، واطلقوا «سدى» على ما مُدّ من خيوط القماش قبل أن تُحاك بالكامل ، لأنّه قبل الحياكة يكون مهملاً وغير مفيد.

وقصارى القول هو : إنّ الآية تقول ـ من خلال استفهام إنكاري ـ أيمكن أن يترك الإنسان مع كل هذه الاستعدادات والطاقات الفكرية والجسمية والإمكانات المختلفة بدون أن يوضع له برنامجٌ معينٌ؟ ثم تستنتج من كل ذلك مسألة حتمية التكاليف والمسؤولية ثم حتمية وجود المعاد.

* * *

١٩٠

توضيح

هل يمكن للعاقل أن يعتبر الأيّام المعدودة من هذه الحياة هي الهدف من الخلق؟

إنّ ممّا لا ريب فيه أنّ العالم الذي نعيش فيه عظيم جدّاً ودقيق ومنظم ، فالكرة الأرضية هي إحدى كواكب المنظومة الشمسية ، ثم المنظومة الشمسية بدورها تعتبر أحد اجزاء المجرّة ، ومجرّتنا أيضاً واحدة من المجرّات اللامتناهية في العدد الموجودة في هذا العالم.

جاء في كتاب (جولة في أعماق العالم) لمؤلفه البروفسور «كارل فليسيس» الذي يسافر إلى أطراف هذا الكون الفسيح عبر أجنحة الخيال :

«إنّ هذه المجموعات الضخمة التي تدور حول محورها تسبح في الفضاء بفواصل عظيمة جدّاً ممّا يجعل تصورها أمراً عسيراً.

فكل واحدة من هذه المجرّات تتألف من عدّة ملياردات من النجوم ، والمسافة الفاصلة بين هذه النجوم تبلغ من العظمة حداً ، أحياناً يحتاج النور (مع مالديه من سرعة هائلة) لاجتياز هذه الفواصل الموجودة بين نجمتين متقابلتين واقعتين في محيط تلك المجرّة إلى مئات السنين من الزمان» (١).

وإذا أضفنا لهذا الكلام هذه الجملة وهي : إنّ علماء الفلك المعاصرين توصلوا من خلال تحقيقاتهم إلى أنّ ما تحتويه مجرّتنا من النجوم يقارب مائة مليارد نجمة على الأقل ، وما توصل إليه العلم الحديث هو اكتشاف ألف مليون مجرّة في هذا العالم ، ـ هذا من ناحية العظمة ـ.

وأمّا من ناحية الدقّة الموجودة في كل جزء من أجزاء هذا العالم فإننا إذا قارنّا الدقّة الموجودة في خلية واحدة بالدقّة الموجودة في مدينة صناعية كبيرة بجميع ما تحتويه من مصانع فسوف يمكننا حينذاك تصور هذه الدقّة.

ومن بين المخلوقات يعتبر الإنسان أكمل الموجودات التي نعرفها على أقل تقدير ، لما فيه من نظام خاص للروح وللجسم ، ولاحتوائه على العجائب والدقة والظرافة ، فإذا كانت

__________________

(١) جولة في أعماق العالم ، ص ٨.

١٩١

جوهرة عالم الخلق (أي الإنسان) هي عبارة عن عيشه لأيامٍ معدودة في هذا العالم لقضاء حياته في دور الطفولة والضعف حيناً وفي دور الشيخوخة والعجز حيناً آخر وتتأرجح به أمواج الشباب مدّة وفي مدّة اخرى يكون سالماً وأخرى مريضاً ويقضي أكثر مدّة حياته في توفير متطلباته الحياتية التي تتلخص في «الغذاء والنوم» ثم في نهاية المطاف يموت ويفنى ، فياله من أمر قبيح وبعيد عن الحكمة ، فإننا عندما نقول : إنّ الله حكيم فهذا يعني أنّ جميع أفعاله مطابقة للحكمة ، أوَ ليس من الحكمة أن تكون جميع أفعاله ذات أهداف واضحة ومبرمجة؟ وهل يجوز أن يكون هدفه جلب النفع لنفسه مع أنّه غني من جميع الجهات ولديه جميع الكمالات من غير أن تكون محدودة بحد ، فإن كان النفع من أفعاله لا يعود على العباد فمن البديهي أن لا تكون تلك الحياة الماديّة المحدودة في هذه الدنيا هي الهدف الرئيسي من هذا الخلق العظيم ، تلك الحياة التي ينطفىء بصيصها في طرفة عين.

أليس مثل هذا كمثل المهندس الذي يصنع محركاً صناعياً عظيماً ودقيقاً خلال سنين متمادية فيحطمه فور تشغيله والانتهاء منه؟ فهل هذا من الحكمة؟

ألا يشبه هذا الأمر أن نقوم بتربية طفلٍ في رحمٍ صناعي وبذل جهود مضنية في سبيل ذلك حتى يوشك على الاكتمال ويستعد للحياة فنعمد إلى قتله!

إنّ الماديين الذين لا يؤمنون بالله والمعاد ، يرون أنّ الحياة غير هادفة وأنّها خالية من أيّ مفهوم ، وهم محقيّن في ذلك بهذه النظرة! لأنّ الحياة عند تجريدها عن المعاد تصبح غير هادفة وعديمة المعنى.

لذا فإنّ من آمن بالله وحكمته ليس له إلّاالإقرار بأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت ، وإنّ هذا العالم يشبه رحم الأم الذي يحمل الإنسان ويُعده للخروج إلى عالم آخر ، ومن البديهي أنّ الحياة داخل رحم الأم لا تُعتبر الهدف النهائي ، بل تُعتبر مقدمة لحياة اخرى أوسع.

* * *

١٩٢

٣ ـ برهان العدالة

تمهيد :

إنّنا نعلم بأنّ «العدل» أحد صفات الباري تعالى ، تلك العدالة التي يدل عليها كل جزء من أجزاء عالم الوجود كالسماء والأرض ، ووجود الإنسان وضربات قلبه وجريان دمه في عروقه ... إلخ ، وذلك لأنّه : «بِالعَدْلِ قَامَتِ السَّمواتُ وَاْلَارْضُ» (١).

فهل يمكن أن يُستثنى الإنسان من هذا العالم الواسع؟ ولا تشمله العدالة المهيمنة على هذا العالم؟

ومن ناحية اخرى : إنّ التأريخ البشري والأحداث المعاصرة أثبتت بوضوح أنّ إحقاق حق المظلومين ومعاقبة الظالمين لا يتمّ بصورة كاملة في هذا العالم وليس بالإمكان حتّى مشاهدة ذلك إلا بنحو «القضية الجزئية» إذن بمقتضى العدالة الحاكمة على هذا العالم والتي تعتبر جزءاً من عدالة الله تعالى يجب أن يكون هناك يوم لمحاسبة أعمال جميع البشر بدّقة متناهية ومن دون أي استثناء ، وذلك اليوم هو الذي نطلق عليه اسم (القيامة).

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن المجيد لنتأمل خاشعين في الآيات الشريفة التالية:

١ ـ (افَنَجْعَلُ الْمُسْلِميْنَ كَالُمجْرِمِيْنَ* مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (القلم / ٣٥ ـ ٣٦)

٢ ـ (امْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِديِنَ فِي الارْضِ امْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ). (ص / ٢٨)

٣ ـ (امْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ انْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِاْلحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ) (٢). (الجاثية / ٢١ ـ ٢٢)

__________________

(١) تفسير الصافي ، ذيل الآية ٧ من سورة الرحمن.

(٢) وقد استدلوا في هذا المجال بآيات اخرى أيضاً مثل : سورة يس ، ٥٩ ؛ الزلزال ، ٧ و ٨ ؛ الانبياء ، ٤٧ ، ولكن بما أنّ دلالاتها غامضة فقد أعرضنا عن ذكرها.

١٩٣

جمع الآيات وتفسيرها

العدالة لا تتحقق بدون القيامة :

قال تعالى في الآية الاولى بعد أن أشار إلى ثواب المتقين العظيم في سورة القلم : (افَنَجْعَلُ الْمُسْلِميْنَ كَالُمجْرِمِيْنَ).

فهل من الصحيح المساواة بين هذين الفريقين؟ وهل تقتضيى العدالة ذلك؟ ثم أضاف وقال : (مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

لا يمكن للعاقل القبول بأنّ عاقبة المسلم والمجرم ، والمطيع والعاصي ، والعادل والظالم تكون واحدة ، أو أن ينسب هذا الأمر إلى الله الذي راعى الدقة والعدالة في جميع افعاله.

وهناك احتمالان للمفسّرين في تفسير هذه الآية :

الاحتمال الأول : إنّ هذه الآية تشير إلى مسألة المعاد ، لأننا نرى المسلم والمجرم متساويين غالباً في هذه الدنيا ، بل قد يحصل المجرم على امتيازات لا مشروعة في هذه الدنيا أكثر ممّا يحصل عليه المسلم ، إذن يجب أن يتفوق «المسلم» على «المجرم» في الآخرة ، لأنّها من مقتضيات العدالة.

الاحتمال الثاني : إنّ هذه الآية أتت جواباً لقوم مشركين كانوا يقولون : لو كانت هناك قيامة فإنّنا سوف نتمتع بظروف حسنة كما نحن عليه في هذه الدنيا كما يقال : (السَنَة الجيدة تعرف من ربيعِها) فأجابهم القرآن : هل من الممكن أن يساوي الله العادل بين المسلمين والمجرمين؟

ولا يوجد هناك منافاة بين هذين التفسيرين على الظاهر ، بل يمكن حمل مفهوم الآية كلا المعنيين ، وتبقى هناك ملاحظة وهي أنّ هذه الآية الشريفة تثبت حكم العقل بالحسن والقبح والإدراكات العقلية الاخرى بقطع النظر عن تأييد الشرع لذلك ، (فتأمل).

والملفت للنظر أنّ الفخر الرازي في بداية حديثه عدّ هذه الآية من أدلة ما نقل عن مذاهب أهل السنّة أنّه يجوز لله أن يُدخل العاصين الجنّة وأن يُدخل المطيعين النار ، «الحسن والقبح العقليين» قال : ويقبح بحكم العقل طبقاً للآية ولكن بما أنّ الرازي من

١٩٤

الأشاعرة ومن منكري الحسن والقبح العقليين فقد أجاب : إنّ إنكار هذه المساواة من باب الفضل والاحسان الإلهي لا من باب أنّ لأحدٍ حقّاً عليه تعالى (١).

إنّ ضعف هذا الرأي لايحتاج إلى دليل فقد أمرهم القرآن بصراحة بأن يُحكِّموا العقل في هذه الموارد ثم خاطبهم بخطاب مقرون باللوم والتوبيخ في قوله : (مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟

أي أنّ هذا الرأي لا يليق بالإنسان العادل ، وهذا دليل واضح على إثبات حاكمية العقل والمنطق في مثل هذه الامور.

* * *

وفي الآية الثانية تابع القرآن الكريم هذا المعنى بصراحة أكثر وبصورة أوسع ، قال تعالى : (امْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ).

والملاحظة النظرية هنا هو أنّ الآية السابقة لهذه الآية وضّحت الهدف من خلق السماء والأرض وما بينهما في قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً). (ص / ٢٧)

إنّ خلق السماء والأرض بالحق من ناحية وعدم المساواة بين المؤمنين الصالحين والمفسدين الفجّار من ناحية اخرى يقتضي أن تكون هناك قيامة ومحكمة عادلة ، وبهذا اندمج «برهان الحكمة» وبرهان العدالة في هاتين الآيتين.

أجل إنّ من ينكر المعاد هو الذي يشك في حكمة الله وعدالته معاً ، لأنّه لا يبقى في هذه الحالة هدف يليق بخلق الدنيا ولا يبقى هناك ما يميز المطيعين من الفاسقين.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ «المفسدين» في هذه الآية يقابلهم «المؤمنون الصالحون» وإن «الفجار» يقابلهم «المتّقون» وهذه المقابلة إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان إذا فقد الإيمان والعمل الصالح فإنّه سوف يكون في زمرة المفسدين شاء ذلك أم أبى ، وإذا ما فقد التقوى أي القوة الرادعة عن ارتكاب الذنوب فسيقع في زمرة الفجار.

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣٠ ، ص ٩٢.

١٩٥

و «الفجّار» : من مادة «فجر» بمعنى الشق الوسيع ، وكأنّ الفجور شق لحجاب الدين والطاعة.

وقد تحدثت هذه الآية بوضوح عن حاكمية العقل وحجيّة الإدراكات العقلية في مجال الحسن والقبح ، وهي دليل واضح لإثبات أنّ العقل يدرك بعض الحسن وبعض القبح قبل أن يصل إليه حكم الشرع ، والعجيب هو أنّ الفخر الرازي ـ في هذه الآية ـ سلم بهذا الأمر ضمنياً ، بينما أنكره في الآية السابقة! (١).

وهذا يعني أنّ الإنسان إذا راجع وجدانه فسوف ترتقع عنه حجب التعصب ويعترف في قرارة نفسه بهذا الواقع.

* * *

وفي الآية الثالثة ورد نفس هذا المعنى ولكن في قالب آخر ، قال تعالى : (امْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ انْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيْاهُمْ وَمَماتُهُمْ).

إنّ هذا لا يمت إلى عدالة الله بصلة ، وصدور أمر كهذا عنه قبيح وهو محال : (سَاءَ مَا يَحْكُموُنَ) ، فهل يمكن أن يتساوى الحسن والقبح أو الطهارة والرجس أو الصالح والطالح أو المؤمن والفاسق أو الظلمات والنور ... إنّ هذا لأمر محال.

أمّا في ما هو المراد من (سواء محياهم مماتهم)؟ فقد احتمل المفسرون في تفسيرها عدّة احتمالات!

فقالوا تارة : إنّ المراد من الحياة والموت في هذه الآية هو الحياة والموت في دار الدنيا ، وذلك لأنّ الإيمان والعمل الصالح له آثار إيجابية على كيان الإنسان فهو ينير القلب وينير الفكر مضافاً إلى أنّ المؤمن ينال هداية الله ونصره وحمايته ، بينما لا يكون الأمر كذلك في حالة الكفر والعصيان ، فإنّ الكفر يخيم بظلامه على القلب والروح ويحرم الإنسان من المدد الإلهي.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٦ ، ص ٢٠١.

١٩٦

وقالوا تارةً اخرى : إنّ هذه الآية تشير إلى الموت في هذه الدنيا للانتقال إلى الآخرة ، أي ان الفريق الأول يعتبر مصداقاً لهذه الآية : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِيْنَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ). (النحل / ٣٢)

بينما يعتبر المذنبون مصداقاً لهذه الآية : (فَكَيْفَ اذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوْهَهُمْ وَادْبَارَهُمْ). (محمد / ٢٧)

وهناك احتمالات اخرى لا تستحق الذكر في تفسير هذه الآية ، لكن الجمع بين التفسيرين المذكورين سهل ، وإن كانت الآية التالية لها تتناسب مع التفسير الثاني ، لأنّه تعالى قال : (وَخَلَقَ اللهُ السَّموَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ). (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ) (١).

وبما أنّ الحديث عن العدالة الإلهيّة وحقانية خلق السموات والأرض وعن ثواب وعقاب كل إنسان على قدر عمله من ناحية ، ومن ناحية اخرى ـ وكما قلنا سابقاً ـ إنّ هذا الأمر لا يتمّ في الدنيا بصورة شاملة ، إذن يجب أن تكون هناك حياة اخرى بعد الموت لإقامة العدالة وإحقاق الحق.

توضيح

العدل هو النظام الحاكم على الخلق :

إنّ كل من لديه إلمامٌ بسيط بالعلوم الطبيعية بإمكانه أن يلاحظ أنّ جميع الكائنات في هذا العالم تخضع لنظم وقوانين معيّنة ، ودقّة هذه القوانين جعلت علماء الطبيعة يدوّنون فيها الكتب طبقاً لهذه المعادلات الدقيقة ، ففي مجال الرحلات الفضائية مثلا نجد العلماء قد نظموا جميع برامجهم العلمية الدقيقة بالاعتماد على هذه القوانين الطبيعية.

__________________

(١) قال الزمخشري في تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٢٩٠» : جملة «ولتجزى» معطوفه على قوله «بالحق» ، لأنّها تحمل معنى التعليل (بناءً على هذا يكون مفهوم الآية بهذا النحو : خلق الله السموات والأرض ليحق الحق ولتجزى ...) ثم قال ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة محذوفة فيكون التقدير : خلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بها على قدرته وتجزى كل نفسٍ.

١٩٧

وبتعبير آخر : إنّ كل ما تقع عليه أنظارنا يخضع للنظم والعدالة ، وقد شملت هذه القوانين كل شيء ابتداءً بالمنظومات الشمسية وانتهاءً بأصغر ذرة.

ومن ناحية اخرى لا يمكن استثناء الإنسان من قانون العدالة السائد بمشيئة الله على جميع عالم الوجود ، ولا يتسنى له عدم الانسجام مع أجزاء الكون الاخرى لأنّ هذا الاستثناء إن وجد يكون من دون مرجح ، وبهذا ستوقِن من وجود محكمة أُعُدّت للإنسان أيضاً يحضر فيها جميع البشر ليتقاسموا حصصهم من العدالة الشاملة لكل عالم الوجود.

كان علماء العقائد في السابق يستدلون بهذا الدليل لإثبات مسألة المعاد ، وكانوا يحتجّون بأمثلة من مظالم البشر التي انتهت في هذه الدنيا من دون تحكيم العدالة فيها ، فالتاريخ يحفل بكثير من الظلمة الذين عاشوا مرفهين طيلة حياتهم حتى غادروا الدنيا ، ومظلومين ظلّوا يعانون الظلم والعذاب حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة.

فهل من الممكن أن يرضى الله العادل بهذه الامور؟ ألا تتنافى هذه المشاهد وعدالته؟

وهكذا يصل العلماء إلى هذه النتيجة بسهولة وهي ضرورة وجود عالم آخر لتطبيق العدالة الإلهيّة في خصوص البشر ، وفي إطار مبدأ الآية القرآنية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ). (الزلزلة / ٧ ـ ٨)

وبناء على هذا فإنّ القيامة تعتبر الموضع الذي يتجلّى فيه العدل الإلهي ، وهناك يجاب عن جميع هذه الاستفهامات.

* * *

١٩٨

٤ ـ برهان الغاية والحركة

تمهيد :

ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان قد خلق لهدفٍ معين ، خلافاً لما يتصوره الماديون أنَّ خلق العالم ليس له هدف ولا غاية ، فالرؤية الكونية للإلهيين ترى وجود هدف من خلق الإنسان وأنّه خلال سعيه وحركته التكاملية يسير نحو هذا الهدف.

فإن كانت الحياة تنتهي بالموت فمن البديهي أن لا يصل الإنسان إلى هذا الهدف ، أو بتعبير آخر : إنّ حياة الإنسان يجب أن تستمر وتمتد إلى ما بعد الموت كي يصل الإنسان إلى التكامل اللائق به وليحصد هناك ما زرعه في هذه المزرعة.

وقصارى القول : إنّ قبول وجود هدفٍ من الخلق لا يجتمع وإنكار المعاد ، فإنّنا لو جرّدنا ارتباط حياة الإنسان عن عالم ما بعد الموت فإنّ كل الامور تأخذ طابع الابهام وترتدي لباس الغموض.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (يَا أَيُّهَا الانْسَانُ إِنِّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيْهِ). (الانشقاق / ٦)

٢ ـ (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ). (فاطر / ١٨)

٣ ـ (إِنا لِلَّهِ وَانَّا الَيْهِ رَاجِعُونَ). (البقرة / ١٥٦)

٤ ـ (الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ). (القيامة / ١٢)

٥ ـ (الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (١). (القيامة / ٣٠)

__________________

(١) هناك آيات اخرى متعددة في القرآن تتناسب مع الآيات المذكورة أعلاه ترى أنّ الكل يرجع إلى الله مثل : العلق ، ٨ ؛ المؤمنون ، ١٠٨ ؛ الانعام ، ١٠٨ ، الأنبياء ، ٩٣ ؛ الجاثية ، ١٥.

١٩٩

جمع الآيات وتفسيرها

الجميع يسير نحو الله :

وجّه تعالى خطابه في الآية الاولى إلى جميع البشر فقال : (يَا أَيُّهَا الانْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ الى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيْهِ).

و «كدح» : على وزن (مَدْح) ـ على حدّ قول عدد من المفسرين ـ وهو في الأصل بمعنى الخدش الوارد على الجلد ، لذا اطلقت هذه الكلمة على السعي وبذل الجهد لأنّه يؤثر على الروح والبدن (١).

وجاء في مفردات الراغب : إنّ الكدح بمعنى السعي المشوب بالمعاناة والتعب.

ولكن جاء في الميزان : بما أنّ «كدح» تعدت بـ «إلى» فهي تعني السير والحركة (ولا تضاد طبعاً بين هذين المعنيين) (٢).

ومن مجموع ما تقدم نستنتج أنّ القرآن المجيد شبَّه البشر بقافلة بدأت مسيرها من نقطة العدم فوضعت أقدامها في أقليم الوجود ، ثم اتّجهت من هناك نحو الربّ كي تصل إلى لقائه ، ويشير إلى هذا المعنى التعبير بـ (وَإِنَّ الَى رَبَّكَ الْمُنتَهى). (النجم / ٤٢)

من الممكن أن ينحرف فريق عن هذا المسير ولا ينالوا لقاء الله أبداً ، لكن الأساس في خلق الإنسان هو الوصول إلى هذا الهدف.

و «لقاء الله» : ـ كما أشرنا سابقاً ـ يعني مشاهدة الرّب مشاهدة قلبية والوصول إلى مقام الشهود القلبي الذي يصل إليه الإنسان عن طريق سيره التكاملي ، وهو من أهم مقامات القرب إلى الله.

وفي الآية الثانية تحدث سبحانه عن الطهارة والتقوى وتزكية البشر التي يعود نفعها عليهم جميعاً ، قال تعالى : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ). ثم يضيف : (وَالَى اللهِ الْمَصيرُ).

والجملة الأخيرة جاءت للدلالة على أنّ الصالحين والطاهرين إن لم يدركوا كل

__________________

(١) تفاسير الكشاف ؛ وروح المعاني ؛ والكبير ، في تعليقهم على الآية مورد البحث.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٦٠.

٢٠٠