نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

الأرض الميّتة بواسطة المطر فيضيف تعالى قائلاً : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شىءٍ قَدِيرٌ).

فهو يسلّط الأضواء على البعد التوحيدي لهذه الظواهر المهمّة للوجود حيناً ، ويُسَلِّطُ الأضواء على بُعد المعاد حيناً آخر.

وفي هذه الآية توجد إشارات دقيقة ولطيفة تساعدنا على التوصّل إلى هذه الغايات وهي :

١ ـ مع أنّ منكري المعاد يقطعون بنفي المعاد إلّاأنّ القرآن يخاطبهم بالقول : (إن كنتم في ريبٍ ...) وهنا يدل على أنّه لا يوجد هناك أيّ دليل على إنكار هذه الحقيقة ، وأكثر ما هنالك هو أنّكم من الممكن أن ترتابوا في أمر المعاد ، ومن الواضح أنّ المرتاب ما عليه إلّاالفحص والتحقيق لا الانكار!.

والجدير بالذكر هنا أنّ «ريب» جاءت بصورة النكرة ، وفي هذه الموارد تأتي لبيان حقارة الأمر ، أيْ إنَّ شكّكم في هذا المجال هو شكٌّ سقيم ولايُعتدُّ به أيضاً ، لأنّ أدلةَ المعادِ نشاهدها جليّة التردّد.

٢ ـ قد يكون شروع الآية بالحديث عن خلق الإنسان من التراب إشارة إلى خلق آدم عليه‌السلام أو جميع الناس منه ، لأنّ أصل المواد التي تشكل القسم المهم من جسم الإنسان من التراب ، وعلى أيّة حال فإنّ خلق الإنسان من تراب دليل واضح على إمكان إحياء الموتى.

٣ ـ الحديث في هذه الآية كان أولاً عن خلق الإنسان من التراب ، وبعد ذلك تحدثت الآية عن مسألة «البلوغ الجسمي والروحي» ثم عن «الكهولة والمشيب» فيصبح عدد تلك المراحل المختلفة سبع مراحل ، وإنْ كان هدفنا هو المراحل الخمس الاولى التي تمثل كل واحدة منها حياة جديدة وولادة جديدة ومنظر من المعاد.

٤ ـ وجملة «لنبيّن لكم» يمكن حملها على محملين ، فمن الممكن أن يكون المراد من البيان هو بيان علم وقدرة الخالق ومسألة التوحيد ، كما أنّه من الممكن أن يكون المراد هو بيان مسألة المعاد أي الحياة بعد الموت.

١٤١

٥ ـ والظريف في الأمر هو أنّ كافة التحولات الهائلة والعجيبة التي تحدث في مرحلة الحياة الجنينية ، حيث إنّ الفترة التي تمربها النطفة ، تلك الذرة الصغيرة حتى تصل إلى مرحلة الإنسان الكامل ، تمثل فترة قصيرة تساوي التسعة أشهر ، ففي هذه الفترة تحدث أمور عجيبة وغريبة ، لو سطرناها في كتاب فإنّ الوقت اللازم لقراءة هذا الكتاب يستغرق زماناً أطول من تسعة أشهر ، فأمام هذه الآيات والعلامات الواضحة ، هل يمكن لأحد أن يفسح مجالاً للشك والريبة في مسألة إمكان المعاد؟!

* * *

وفي الآية الثانية جي بنفس هذا المعنى ولكنها أَتَتْ بنحوٍ آخر وهي في الحقيقة بيانٌ لما جاء في بداية سورة القيامة في قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أنْ لنْ نَّجمَعَ عِظَامَهُ)؟!

فإنّه تعالى يتحدّاهم ويقول لهم ماذا تظنون؟ (الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنىٍ يُمنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى). (أَلَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى).

فهو يكتفي في هذه الآية بذكر أربع مراحل لتطورات الجنين فقط : مرحلة النطفة ، فالعلقة ، فتسوية الأعضاء ، وظهور جنس الجنين ذكراً هو أم انثى.

و «النطفة» : على ماقاله بعض أصحاب اللغة هي بمعنى الماء الصافي ، ولهذا اطلقوا كلمة نَطَفَ» على اللؤلؤ (١).

لكنّ البعض فسّروها بمعنى الكميّة القليلة من ماء ، أو ما تبقّى من الماء في الأناء (٢).

وصرّح البعض الآخر أيضاً بأنّ النطفة هي بمعنى الماء الصافي ، قليلهُ أم كثيرهُ (٣).

والبعض الآخر اعتبر هذه المعاني كلّها جزءً من معاني النطفة ولكنّ الفرق هو أنّ «النُّطْفَة» بمعنى الماء الصافي أو الماء القليل و «النُّطفَة» بمعنى اللؤلؤ.

__________________

(١) مقاييس اللّغة ومفردات الراغب.

(٢) لسان العرب.

(٣) قاموس اللّغة ومجمع البحرين ولسان العرب.

١٤٢

ومن الجدير بالذكر أنّه طبقاً للتحقيقات التي اجراها مؤخراً بعض العلماء هو أنّ هذا الماء القليل الذي يسمى «بالنطفة» مركّب من مياه مختلفة تترشّح من غدد مختلفة في الجسم ، فقسمٌ منه يترشّح من البيضتين اللتين تحتويان على مادّة «الاسبرماتوزوئيد» ، وقسمٌ منه يترشّح من أكياس البَيْض التي توجد بالقرب من غدّة «البروستات» ، القسم الثالث يترشّح من نفس غدّة «البروستات» فيستمدّ شكله الظاهري ورائحته الخاصّة من تلك الغدّة والقسم الرابع يترشّح من غدد «الكوبر» وغدد «الليترة» اللتين تقعان جنب مجاري الادرار.

وهذه المياه الخمسة تختلط مع بعضها بنسب دقيقة ومبرمجة وتشكّل مادّة الحياة ، ومكتشف هذه المعلومات عالم فرنسي شُغف بحب القرآن والإسلام وكتب كتاباً في هذا المجال ، ويعتقد هذا العالم بأنّ كلمة «امشاج» (أي مختلط) التي ورد ذكرها في القرآن كان محتواها خفياً على الناس والعلماء. أقتبست هذه العبارات من كتاب (المقايسة بين التوراة، والانجيل والقرآن والعلم) تأليف الدكتور بوكاري وترجمة المهندس ذبيح الله دبير (ص ٢٧١).

وعلى أيّة حال فإنّ اطلاق هذه العبارة على الماء الذّي يتدفّق من الرجل عند ممارسته العملية الجنسية هو من أجل التناسب الواضح الموجود بينها وبين المعنى الرئيسي.

و «مَنيّ» : من مادة «مَنْي» (على وزن مَنْعْ) وهي بمعنى تعيين العاقبة والتقدير ، لذلك أطلقُوا «المنيّة» على الموت و «الأُمنيّة» على الآمال ، والسبب في اطلاق هذه الكلمة على الماء الذي يخرج من صلب الرجل لأنّه قُدّر له أن يكون إنساناً (١).

بناءً على هذا يكون مفهوم جملة : (أَلَمَ يَكُ نُطْفَةً مِنّ مَّنىٍّ يُمْنَى) هو : ألمْ يكن الإنسان في بدايته ماءً مهيناً قُدِّر أن يُخلق الإنسانُ منه (٢)؟

إنّ كل مرحلة من المراحل الأربعِ التي بينتها هذه الآية نموذج واشعاع جديد من الحياة الدنيا والحياة بعد الموت ، ومن الممكن أن تكون كل مرحلة دليلاً واضحاً على قدرة الخالق

__________________

(١) تاجُ العروس في شرح القاموس.

(٢) لكنّ عدداً من المفسرين لم يفسروا «يُمنى» بمعنى التقدير ، بل فسّروها بمعنى تدفّق ذلك الماء في الرحم. على أيّة حال فإنّ «من» هنا بيانية لا تبعيضية.

١٤٣

من جهة ، ودليلاً على إمكان مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى ، على الخصوص في مجال تعيين جنس النطفة من ذكرٍ أو أُنثى.

إنّ المسائل المتعلّقة بعلم الجنين من أعقد وأعجب المسائل ، والقانون المهيمن على هذا العلم لم يتضح لحدّ الآن حتى لدى الحاذقين من العلماء ، وكل ما لدينا من العلم أنّ مسألة تشخيص جنس الجنين في رحم الام غير ممكن أبداً ، ولا يتميّز إلّابعد وصول الجنين إلى المراحل النهائية من الحمل ، ونحن نعلم أيضاً بوجود قوانين دقيقة تهيمن على تلك الأُمور ، هذه القوانين التي توجد التعادل والتقارب بين تعداد كلٍّ من الجنسين ، لكنّ جزئيات وتفاصيل تلك الامور ظلّت مخفية وراء حجاب الابهام.

فلو افترضنا أنّ في كل عشر ولادات تسع منها إناث وواحد منها ذكر أو بالعكس ، فسوف يحدث اختلال عجيب وفوضى مخيفة وصراع رهيب في المجتمع الإنساني!

* * *

وفي الآية الثالثة بعد أن بيّن الله تعالى قدرته ، قال : (وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى * مِنْ نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشأَةَ الْأُخْرَى).

فالقرآن وإن لم يصرّح بهذه الحقيقة وأنّه يمكن أن نتوصل إلى إثبات النشأة الآخرة عن طريق المقايسة بينها وبين تطورات الجنين ، إلّاأنّه يمكننا عن طريق ارتباط الآيات فيما بينها أن نجعل الأمر الأول دليلاً وشاهداً على الأمر الثاني كما انتبه إلى ذلك بعض المفسرين أيضاً(١).

و «النشأة الآخرة» : بمعنى «الايجاد الآخر» والمراد منه برأي الأكثرية الساحقة من المفسرين «الحياة الاخرى» لكنّ البعض أصرَّ على أنّ المراد منه مرحلة نفخ الروح في الجنين وجعلوا آية : (فَكَسَونَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ). (المؤمنون / ١٤) دليلاً على مدّعاهم الآنف.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٦٣١.

١٤٤

لكن عند مراجعة هذا التعبير : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِىءُ النَشْأَةَ الْآخِرةَ). (العنكبوت / ٢٠)

وما شابه هذا التعبير في آيات اخرى من القرآن يتضح لنا جليّاً أنّ المراد من النشأة الآخرة يوم القيامة ، حيث قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّروُنَ). (الواقعة / ٦٢)

* * *

وفي الآية الرابعة وردت هذه الحقيقة أيضاً وبشكل آخر وبصورة اجمل واوجز واوضح ، قال تعالى : (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَااكْفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَىءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إذا شَاء أَنْشَرَهُ).

أشارت هذه الآيات أولاً إلى خلق الإنسان من نطفة ، ثم أشارت إلى تكامل الجنين إشارة مبهمة ، بعد ذلك أشارت إلى مسألة الموت ، ثم إلى الحياة بعد الموت ، أمّا العلاقة والرابطة الموجودة بين هذه المسائل فهي إمكان الاستدلال بكل واحد من هذه الامور على إثبات الأمر الآخر.

وهنا توجد عدّة امور تجلب الانتباه :

١ ـ إنّ جملة «خلقهُ فقدّره» جملة عميقة المغزى ، فقد صُبّت فيها جميع مراحل تطورات الجنين في مرحلة الحمل ، فالتقدير في أصل وجوده ، وفي أعضاء بدنه ، وفي تركيب أجزائه ، وفي احتياجاته المتعددة وفي الفواصل الزمانية المختلفة التي عليه أن يقطعها للوصول إلى مراحل تكامله ، إنّ الله تعالى قدّر كل ذلك له ، ووضع له نظاماً متقناً.

بناءً على هذا جيء بجملة «خلقه» للدلالة على المرحلة الاولى لخلق الإنسان من النطفة وبجملة «قدّرهُ» للدلالة على جميع المراحل التي تلي فيما بعد.

٢ ـ وجملة «ثُمَّ السَبِيلَ يَسّرَهُ» أيضاً من الجمل العميقة المغزى ومن الجمل الجذّابة التي يمكن أن تكون دليلاً على الامور الآتية :

تسهيل طريقِ الولادة أمامه بعد خوض مراحل التكامل ، فالجنين الذي يكون رأسه إلى

١٤٥

الأعلى في حالته الطبيعية يتغيّر وضعه فجأة ويتدلّى رأسه إلى الأسفل ، وذلك لإعداده للولادة الطبيعية وفي نفس الوقت ترتخي عضلات الأُمِّ الموجودة في طريق الولادة وتتهيأ لوضع هذا المولود ، ثم يحصل ضغط على الجنين من جميع أنحاء الرحم كي يتيسّر عليه طريق الخروج من الرحم ، بعد ذلك يتمزّقُ فجأة الكيس المملوء بالماء الذي كان يسبح فيه الجنين أيّام الحمل العاديّة فيترطّب مسير الخروج المعدّ للمولود ، وخلاصة الكلام إنّ جميع الأمور تُعدّ وتتيسرُ له من أجل دخوله إلى دنيا جديدة.

ومن جهة اخرى أودعه الله العقل وأنواع الغرائز ، وكلّ واحد من هذه الامور يفتح أمامه طريق الحياة.

ومن ناحية اخرى أرسل إليه الرسل والكتب السماوية كي يتيسر له سبيل الطاعة وعبادة الله وطريق سعادته.

إضافة إلى ذلك دلّ هذا التعبير على أنّ الإنسان خُلِقَ مريداً ومختاراً في تصرفه ، لأنّه تعالى لم يقل وسلكناه السبيل بل قال يّسرنا له السبيل ، فهو مختارٌ في سلوكه.

* * *

وفي الآية الخامسة والأخيرة إشارة إلى مراحل تكامل الجنين أيضاً بصورٍ مفصّله ، بل جاء هنا بتفاصيل أكثر ممّا جاء في جميع الآيات التي تحدثت عن ذلك ، فتعرضت هذه المرّة إلى جزئيات دقيقة ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاه نُطفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ) (الرحم) (ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَهً) (دم متخثر) (فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً) (تَشْبَهُ اللحم الممضوغ) (فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحْماً).

وبعد أن بيّن المراحل الخمس (النطفة والعَلَقةَ والمضغة والعظام واللحم) أشارَ إلى امرٍ آخر والذي يعتبر من أهمّ المراحل وهو مرحلة نفخ الروح الإنسانية ، فقال تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (فَتَبَارَكَ اللهُ احْسَنُ الْخَالِقِينَ).

وجملة «فكسونا العظام لحماً» لم تُذكر ضمن مراحل تكامل الجنين إلّافي هذه الآية

١٤٦

التي كشفت الستار عن أهميّة خلق العظام.

ولقد ثبت حديثاً بأنّ العظام لا تكون هيكلاً لحفظ استقامة البدن وحفظ أعضاء الإنسان فحسب ، بل إنّ في عهدتها أَهمَّ الوظائفِ الحياتية والبايلوجية للبدن.

فالعظام تحتوي على جميع ما يحتاجه الجسم من قبيل الفسفور والكالسيوم والاملاح الاخرى التي تنظم الأعمال الحياتية لجسم الإنسان وضربات القلب وتقويم حركة العضلات ، والأهمُّ من ذلك أنّ العظام تُقدِّم للجسم ما يحتاجه من كريات الدّم الحمر والبيض طيلة عمر الإنسان! ويكفينا أن نعلم بأنّ في الدقيقة الواحدة تموت مايقارب ١٨٠ مليون كرية حمراء وأنّ العظام تملأ الفراغ الحاصل من موت هذه الكريات بواسطة كريات جديدة ونشطة! (١).

والجدير بالذكر أنّ بعض المفسرين قالوا : ثبت حديثاً أنَّ أوّل ما يظهر في الجنين هي خلايا العظام ، ثم خلايا اللحم ، وهذه الحقيقة رفع القرآن الستار عنها قبل أربعة عشر قرناً عندما لم يكن لأحد علم بها (٢).

والتعبير بـ «الكسوة» عن اللحم هو تعبير جميل وجذّاب ، فالملابس تُجمِّل جسم الإنسان وفي نفس الوقت تحفظه من اضرار مختلفة ، والعضلات كذلك فلو عُدِمَت وبقيت العظام لوحدها فما أقبح منظرها! ومن ناحية اخرى إنّ العظام تتأثّر بأدنى ضغط يرد عليها من أىّ جانب وتصاب بعطبٍ كبير جرّاءَ ذلك ، والذي يحفظ العظام تلك الكسوة التي هي العضلات.

وهذا التعبير : (ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) الذي ورد ذكره بعد مرحلة تكامل الجنين لم يأتِ إلّا في هذه الآية من القرآن ، وهذا البيان العجيب وإن كان قد ذُكِرَ سابقاً إلّاأنّه يختلف كثيراً عن ذلك ، ذلك لأنّه سمّي هنا «خلقاً آخر» ، حيثُ يرى أكثر المفسرين أنّ هذه الجملة جاءت للدلالة على خلق الروح ، لأنّنا نعلم بأنّ الجنين من يومه الأول وحتى يبلغ ما يقارب

__________________

(١) قرآن برفراز اعصار ، ص ١٨٧.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ١٦.

١٤٧

الشهر الرابع من الحمل أكثر ما يشبه النبات ، فهو ينمو بسرعة من غير أن يمتلك أيّ حسٍ أو حركة ، ثم تبدأ الأعضاء المُعَدّة لإدراك الحقائق بالظهور تدريجاً وهذا التحول المفاجي (الذي يشبه الطفرة) ظلّ مبهماً على جميع العلماء ولا يعلم مايطرأ على الجنين حينما ينتقل من مرحلة إلى اخرى إلّاالله العالم القادر.

على أيّة حال فإنّ اجتياز هذه المراحل خلال هذه المدّة الوجيزة دليل على عظمة مُبدئ عالم الوجود الذي هو الله احسن الخالقين ، وفي نفس الوقت دليل على إثبات وقوع الحياة بعد الموت التي اشير إليها في ذيل تلك الآيات.

* * *

ثمرة البحث :

من خلال الآيات المذكورة التي صورت مراحل تكامل الجنين ووضعتها أمام انظار الإنسان الذي من طبيعته أن يكون باحثاً عن الحقيقة ، أجيب منكري المعاد بوضوح ، وهذه المراحل في الواقع تُعْتَبَرُ كل واحدة منها حياةً جديدة ومظهراً من مظاهر المعاد ، ويكفي التمعّن في مرحلة واحدة من هذه المراحل في إثبات هذه الحقيقة.

* * *

١٤٨

٥ ـ المعاد في عالم الطاقة

تمهيد :

عندما تموت الكائنات الحية في هذا العالم المترامي الاطراف تُخَلِّف وراءها دائماً بقايا وآثاراً ، لكن بالنسبة لتبدد الطاقة فالأمرُ عجيب ، لأنّها في الظاهر عندما تتلاشى تفنى كلياً فلا يبقى لها أيّ اثر ، فلو لاحظنا الشمس كمثال لكلامنا هذا لوجدنا ضوءها وحرارتها هما عبارة عن طاقة تبعثها نحو كرتنا الأرضية والسيارات الاخرى التابعة للمنظومة الشمسية ، وبعد انحسار الإشعاع تفنى تلك الطاقة ولايبقى لها ايّ أثر ، وإذا لم يستمر مصدر الإشعاع أي الشمس على إرسال الأشعة ، فإنّه سوف لن يبقى أثر للنور والضوء وتفنى الحرارة.

لكنّ العلم الحديث أثبت بأنّ الطاقة أيضاً لا تفنى بالكامل ، بل تَكمُن وتتحوّل من حالة إلى اخرى ، وعندما تتوفر الظروف المناسبة فإنّها تعود ثانياً وتُبعث من جديد بصورة عظيمة.

المثير للدّهشه هو أنّ القرآن المجيد من أجل إثبات مسألة إمكان المعاد يعتمد على هذه المسألة ، ويتخذ من تحوُّل الطاقة الضوئيِة والحرارية في هذا العالم دليلاً على القيامة العظمى الحاصلة للبشر في العالم الآخر.

وبعد هذه الإشارة الوجيزة نذهب إلى آيات القرآن ونتأمل فيها خاشعين كي تتّضحَ لنا تلك الحقيقة :

١ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِى جَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ). (يس / ٧٩ ـ ٨٠)

٢ ـ (افَرَأَيتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ*ءَأَنتُم أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا امْ نَحْنُ المُنشِئُونَ* نَحنُ جَعَلنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلمُقوِينَ). (الواقعة / ٧١ ـ ٧٣)

١٤٩

جمع الآيات وتفسيرها

استئناف عَوْدِ الطاقة يتجدد امام انظارنا!

في آواخر سورة «يس» هناك بحوث جامعة ومتنوّعة وعميقة في مجال المعاد ، واحد هذه البحوث الحبث عن معاد الطاقة.

لقد أجاب القرآن على شبهة من كانوا يتعجّبون من إمكان اعادة العظم الرميم إلى الحياة بِعِدّة أجوبة، فقال تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنَشَأَهَا اوَّل مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

وهذا القسم من الأجوبةِ يتعلّق بمقايسة المعاد بالنشأة الاولى التي بحثناها سابقاً.

ثم يضيف تعالى بعد ذلك : (الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ).

ومن البديهيِّ أن يكون هذا البيان دليلاً على مسألة المعاد وأن يكون جواباً آخر لمنكري المعاد.

ولكن كيف يكون ذلك ، وبأيّ بيانٍ يتمّ؟

للمفسرين عدّة آراء في هذا المجال هي :

١ ـ الكثير من المفسرين اعتبروا هذه الآية إشارة إلى الشجرتين المشهورتين لدى العرب وهما «مَرْخ» و «عَفار» وكان العرب يستخدِمونهما لإيقاد النار بدلاً من الكبريت المستخدم في عصرنا الحاضر ، فكانوا يضربون الخَشَبَتينِ ببعضهما بشدّة ليحصلوا منها على قدحة أو شرارة ليتمكّنوا بواسطتها من ايقاد النار ، وفي الحقيقة كانوا يستخدمون ذلك بدلاً عن حجر القدحة الذي كان يُستخدم في العصور الغابرة.

فالقرآن يقول : إنّ الذي يقدر على أن يُخرج النار من تلك الخشبتين الخضراوينِ بإمكانه أن يحيي الموتى ، فمن يتمكّن من جمع النار مع الماء كيف لا يتمكّن من خلق الحياة بعد الموت؟ ألا يشبه التضادُّ بين «الحياة» و «الموت» التضادَّ بين الماء والنار؟

٢ ـ وتَجَاوزَ آخرون هذا الحدَّ فقالوا : إنّ خاصيّة ايقاد النار لا تنحصر بخشب تلك الشجرتين (مَرْخ وعفار) ، بل تعمّ جميع أشجار العالم ، ولكنّها تشتدُّ في أخشاب تلك

١٥٠

الشجرتين ، لذا جاء في المثل العربى : «في كُلِّ شجرٍ نار»!

فخلاصة الكلام أنّ أخشابَ الأشجار عندما تصطدم ببعضها بقوّة تخرج منها شرارة من النار ، وهذا الأمر يصدق حتى في أخشاب الأشجار الطريّة! وبسبب هذه الظاهرة تَحدُثُ حرائقُ هائلة ومرعبة في الغابات من دون أن يكون للإنسان ايُّ تدخّل فيها.

وهذه الحرائق تحدث بفعل الرياح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة فَتَسْقُطُ شراراتُها أحياناً على أوراق الشجر الجافّة فتحرقها ، ثم تتسع بعد ذلك رقعةُ النار بسبب هبوب الرياح ، فنرى فجأةً التهام النار لمناطق شاسعة من الغابات.

وأمّا تفسير هذه الظاهرة من وجهة نظر العلم الحديث فهي جليّة وواضحة ، لأننا نعلم بأنّ الأشجار ليست الوحيدة التي تولّد شرارة من النارعند ارتطامها ببعضها بقوّة بل تتولّدُ شرارة كهربائية من ارتطام كل جسمين ببعضهما ، وهذه النار موجودةٌ في جميع ذَرّاتِ العالم المادّي حتى في باطن الأشجار الخضراء.

إنّه أمرٌ عجيبٌ حقّاً ، فما القدرة التي تخلط النار في الماء؟ ومن أصلح فيما بين هذين العدوّين اللّدودين اللّذينِ عرّفهما القدماء بأنّ طبع أحدهما بارد رطب والآخر حارٌ جاف؟ فهل يكون الإصلاح بين الموت والحياة أمرٌ عسير على هذه القدرة؟ أو هل يصعب على القدرة أن تجعل أحدهما في مكان الآخر؟!

وبتعبير آخر : هل يمكن لأحد أن يجمع النار والماء في مكان واحد بحيث لا يُطفي الماءُ النارَ ولا تُحرقُ النارُ الشجرَ ، وهل يكون إحياء الشجر اليابس مرّة اخرى أمراً عسيراً؟!

٣ ـ وهناك تفسير آخر لهذه الآية قد خفي على المفسّرين السابقين ، لكنّه أصبح واضحاً لنا بعد تطور العلم الحديث ، ومن المحتمل أن يكون أنسب التفاسير ، وهو : إنّ الأشجار خلال فترة حياتها تمتصُّ ضوءَ وحرارة الشمس باستمرار وتَدَّخِرُهُما في باطنها ، وعندما نُحرِق الخشب الجافَّ تنبعث الحرارة والضوءُ اللتان امتصّتهما الشجرة في مدّة طويلة وتنفدُ في مدّة وجيزة ونستفيد نحن منهما ، أي أنّ الطاقة الخاملة تعودُ في هذه القيامةِ وتُظهِرُ وجودها ، فبناءً على ذلك نحن نرى منظر المعاد أمام أعيننا إذا أجّجْنا ناراً!

١٥١

وتوضيح ذلك : إنّ «السليلوز» يشكّل المادّة الرئيسية للأشجار ، وهو مركب من «الكاربون» و «الاوكسجين» و «الهيدروجين».

فالنباتات تحصل على الاوكسجين والهيدروجين من الماء ، وتحصل على الكاربون من الهواء ، أي أنّها تأخذ ثاني أو كسيد الكاربون الذي هو عبارة عن تركيب من الاوكسجين والكاربون وتحلل ذلك المركب فتحتفظ بالكاربون وتُطِلق الاوكسجين ، ثم تصنع الخشب بواسطة تركيب الكاربون مع الماء.

ومن الجدير بالذكر هنا بناءً على القواعد المتّبعة في علم الكيمياء إنّ الكثير من التركيبات الكيميائية لا تتمّ إلّاعند توفر نوع من أنواع الطاقة ، والأشجار أيضاً تّتبع هذا القانون وتستخدم ضوءَ وحرارة الشمس في انجاز التركيبات الكيميائية (فتأمّل).

على هذا فالأشجار عندما تنمو وتكبر وتقوى سيقانها يوماً بعد يوم فإنّها تدّخر كميّة كبيرة من الطاقة الشمسية في داخلها ، تلك هي الضوءُ والحرارة التي تظهر عند احتراق الخشب ، فنفس تلك الطاقة المدّخرة التي قد كَمُنت في الظاهر تعودُ مّرة اخرى من خلال معادٍ موزون ودقيق.

والدليل الذي يؤيد هذا التفسير هو التعبير الوارد في القرآن لبيان هذه الامور وهو جملة : «فإذا أنتم منه توقدون».

ولنرَ ما المراد من كلمة «وقود» لغوياً؟

بناءً على تصريح أكثر كتب اللغة أنّ «الوقود» بمعنى الحطب أو الشي المحترق (١).

بينما اطلقوا على الأشياء التي تُوجِدُ القدحةَ اسم «الزَنْد» أو «الزناد» ، قال في المقاييس : «الزند» في الأصل بمعنى زند اليد ، وأُطلِق على القدحة أو الشرارة للملازمة الموجودة سابقاً بين زند اليد والآلات التي كانت تستخدم قديماً في اشعال النار.

و «القَدْح» : استُعمل أيضاً في هذا المجال ، لكنّ الأمر المهمّ تأكيد القرآن على ذكر الوقود لا «الزند» أو القَدْح ، بينما فات القدماء الانتباه إلى هذه المسألة ، وفسّروا الآية على أنّ المراد

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ ولسان العرب ؛ ومقاييس اللّغة.

١٥٢

منها هو القدْح ، لكنَّ ماجاء في تفسيرنا الثالث ينطبقُ تماماً مع التعبير بـ «الوقود» (فتأمّل).

والسؤال الوحيد الذي لم يُجَبْ عنه إنّ الخشب الذي يستخدم في الحرق يكون جافاً ، بينما عبّر عنه القرآن بـ «الشجر الاخضر».

هناك جوابان لهذا السؤال : الأول إنّ الخشب الاخضر قابل للاحتراق أيضاً وإنَّ إحراقه أصعب من إحراق الخشب الجاف ، جاء في المثل المشهور : إذا اشتعلت النار فسوف تحرق الأخضر واليابس معاً للإشارة إلى هذا الأمر.

ولو تجاوزنا هذا ، فهنالك مسألة مهمّة هي إنّ الأشجار الخضراء هي الوحيدة التي يمكنها أن تجذب وتدّخِر ضوءَ وحرارة الشمس ، ويحتمل أن يكون القرآن في صدد بيان هذه المسألة العلمية الدقيقة ، لأنّ الأشجار عندما تجفّ تتوقف فيها عملية جذب الكاربون نهائياً ، ولا تدّخر الطاقة الشمسية بأي نحوٍ كان.

على أيّة حال فإنّ الآية المذكورة تعتبر من الآيات الرائعة في مجال إثبات المعاد ، وإنّ كلّ واحد من هذه التفسيرات الثلاثة يجسِّم منظر المعاد أمام الانظار ، ولايوجد أيّ مانع في أن تكون هذه التفسيرات الثلاثة مجموعة في مفهوم هذه الآية ، فهذه التفسيرات منها ما يختصّ بالعوامّ من الناس ، ومنها مايختصّ بالخواصّ منهم ، ومنها مايختصّ بخواصّ الخواصّ ، وبعضها يختصّ بالناس الذين عاشوا في العصور الغابرة ، وبعضها يختصّ بالناس المعاصرين ، ومن المحتمل أن تكون هنالك تفسيرات أعمق وأدقّ لعلماء المستقبل في هذه الآية.

* * *

والآية الثانية من آيات سورة الواقعة ، والتي يختصّ قسم كبير من آياتها بأدلّة المعاد والقيامة ، على الأخصّ ماجاء في الآية ٥٧ فيما بعد في جوابِ منكري المعاد (المسائل السبع) الذين ذُكرتْ ادّعاءاتُهم في نفس هذه السورة في الآية ٤٧ حيث كان كلّ واحد من تلك الأجوبة دليلاً على مسألة المعاد بنفسه (١).

__________________

(١) ذكرت هذه الأدلة السبعة في تفسير الامثل ، ذيل الآية ٥٧ من سورة الواقعة.

١٥٣

والآية التي يدور بحثنا حولها تعتبر في الواقع الدليل السابع والأخير ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ (١) *ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ) (٢). (الواقعة / ٧٣ ـ ٧١)

وفي تفسير معنى المراد من شجرة النار هنا ، يوجد تفسيران رئيسيّان :

الأول : إنّ المراد من شجرة النار الشجرتان المعروفتان «مَرْخ» و «عَفار» اللتان كانتا تُستخدمان لدى العرب في ايجاد القدحة ، حيث كانتا تُستخدمان بدلاً عن «الكبريت» لإشعال النار.

والثاني : إنّ المراد منها جميع الأشجار لأنّها لها قابلية توفير الحطب والوقود (٣).

وللمفسِّرين آراء في معنى المراد من «تذكرة» ، فعدد منهم يرى أنَّ المراد منها التذكّر بنار جهنم عند رؤية نار الدنيا ، ففي هذه الصورة تصلح هذه الآية لأنّ تكون دليلاً لإثبات المعاد.

والرأي الثاني هو أنّ المراد منها التذكير بأمر المعاد ، وذلك لأنّ الذي يقدر على أن يودع النار المحرقة في قلب الشجر الأخضر فإنّه لا يعجز عن ارجاع الحرارة الغريزية لبدن الأموات ، والذي يقدر على جمع الضِّدَّينِ كالماء والنار فإنّه بطريق أولى يمكنه أن يجمع بين الموت والحياة على التوالي ، أي إيجادهما الواحد بعد الآخر.

أو بتعبير آخر كيف لايتمكّن مَن يُعيد الطاقة الكامنة والضوءَ والحرارة مِن أن يهب حياة جديدة للأموات من بني الإنسان؟

والتفسير الأخير هو أكثر تناسباً مع آيات هذه السورة التي تتصدى للاجابة عن شبهات منكري المعاد طبعاً ، كما إنَّ الجمع بين هذه التفاسير ممكن أيضاً.

__________________

(١) «تورون» من مادة «ايراء» بمعنى اشعال النار ، قال الراغب في المفردات : ايراء في الأصل بمعنى الستر والتغشية ، لذا اطلق على ما في الخلف «وراء» وبما أنّ النار تكمن في الحطب أو في القدحة اطلق العرب كلمة «ورى» أو «ايراء» على اخراجها من مخبئها.

(٢) «المقوين» من مادّة «قِواء» (على وزن كِتاب) بمعنى الصحراء القاحلة ، وتطلق على المسافرين الذين يقطعون الصحارى من دون متاع أيضاً.

(٣) ورد هذان التفسيران في تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٩ ؛ وفي تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٨٤ في ذيل الآيات مورد البحث.

١٥٤

والتعبير ب «متاعاً للمقوين» هو تلميح لفوائد وأهميّة النار في حياة الإنسان ذلك لأنّ المفسرين وأصحاب اللغة ذكروا معانيَ متعددة ل «المقوين» هي :

أولاً : ماذكرناه آنفاً أنّها من مادة «قواء» على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء القاحلة ، بناءً على هذا يصبح مصداق «المقوين» هم الذين يقتحمون الصحارى القاحلة ، وهؤلاء يحتاجون بشدّة إلى الحطب والخشب الجاف لإيقاد النار ، أمّا احتياجهم لخشب القدْح فلا يخفى على أحد.

ومن البديهي أنّ الإنسان يحتاج إلى ذلك في المدن أيضاً ، ولكن بما أنّ إيقاد النار في المدن أمرٌ يسير ، لأنّ الذي يريد أن يوقد ناراً يمكنه أن يستفيد في ذلك من نار الآخرين ، بالإضافة إلى ذلك لايشكّل عدم وجود النار في المدينة خطراً جسيماً على الإنسان ، بينما تعدّ النار بالنسبة لقاطعي الصحراء أمراً مصيرياً بسبب الحاجة إلى إعداد الطعام ودفع البرد والاستنارة.

والرأي الآخر أنّ المراد من «المقوين» هم الفقراء ، وعُدّ هذا من أحد معانيها في اللغة ، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك أنّ سُكّانَ الصحراء فقراء في الغالب ، وقد ذكرنا أنَّ «قواء» بمعنى الصحراء القاحلة ، وأنّ احتياج الجميع للنار امر بديهي إلّاأنّ احتياج الفقراء لها اشدّ من غيرهم ، ذلك لأنّ النار تأخذ مكان الملابس أحياناً بالنسبة لهم.

وقال البعض أيضاً : إنّ «المقوين» بمعنى «الاقوياء»! لأنّ الكلمة المذكورة من الكلمات التي لها معانٍ متضادّة ، فيحتمل أن تكون من مادّة القوة والقدرة.

ففي هذه الحالة تكون للدلالة على استخدام الاغنياء للنار بكثرة ، على الأخص في دنيانا هذا اليوم ، فإنّ الحرارة والنار كلٌّ منهما المحور الرئيسي الذي تدور عليه عجلات الصناعة والمحركات ، فإذا ما نَفَدَ الوقود الذي تعتبر الأشجار والنباتات المنبع الرئيسي له (سواء كان بصورة مباشرة كالخشب والفحم الحجري أو غير مباشرة كالبترول) فإنّ عجلات الحضارة البشريّة سوف تتوقف عن الحركة ، وتذهب الثروات أدراج الرياح ، فلا تطفأ شعلة الحضارة فحسب بل سوف تطفأ شعلة حياة جميع البشر.

* * *

١٥٥
١٥٦

النماذج التاريخية الحيّة للمعاد

تمهيد :

بالإضافة إلى ما ذُكر في البحوث السابقة حول أدلّة إمكان المعاد فإنّ القرآن المجيد يشير إلى عدد من النماذج التأريخية الحيّة للمعاد من خلال آيات مُتَعَدّدة ، وكلّ هذه النماذج مصاديق واقعيّة للحياة بعد الموت ، ويمكن الاستعانة بها على إثبات إمكانية المعاد ، والنماذجُ عبارة عن :

١ ـ قصة النبي عُزير عليه‌السلام الذي وُهِبَ الحياة بعد موته بمائة عام.

٢ ـ قصة إبراهيم عليه‌السلام واحياء الطيور الأربعة.

٣ ـ قصة أصحاب الكهف.

٤ ـ قصة قتيل بني اسرائيل وقصة البقرة.

من البديهي إن الاستدلال بهذه الحوادث التاريخية يتوقف على الاطمئنان بصحة وقوعها ، وبما أنّ منكري المعاد يعتقدون بصحة وقوع أغلب هذه الحوادث أو على الأقل كانت مدوّنة في كتبهم التاريخية وكانت مشهورة بين الناس ، فإنّ القرآن المجيد يستدلّ بها.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن ونمعن خاشعين في القسم الأول من هذه الآيات المتعلّقة بقصة عُزير عليه‌السلام

١ ـ قصة حياة عُزير عليه‌السلام بعد موته

تحدّث القرآن الكريم عن هذه القصّة العجيبة في أواخر سورة البقرة من خلال آية واحدة تعتبر في الواقع دليلاً تاريخياً لدحض ادّعاءات منكري المعاد ، قال تعالى :

١٥٧

(أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شىءٍ قَدِيرٌ) (١). (البقرة / ٢٥٩)

وتوجد هنا عدّة امور تحتاج إلى الدقّة والتّأَمُّلِ :

١ ـ من كان هذا الرجُل؟ وأين تقع هذه القرية؟ (يجب الالتفات إلى أنّ المراد من القرية هنا التجمّع السكاني سواء أكان قرية أو مدينة).

فالقرآن لم يوضح ذلك ، والمستفاد من سياقِ الآية أنّه رجلٌ أُوحيَ إليه ، أيْ كان من أحد انبياء الله لكنّ المفسّرين وبالاستناد إلى الروايات الواردة في هذا المجال يذكرون اسمه بالتعيين ، ففى كثير من الروايات وعبارات المفسرين ذُكر أن اسمه «عُزير» نبيّ بني اسرائيل المعروف ، وذكر آخرون بأنّ اسمه «الخضر» وآخرون ، قالوا إن اسمه «اشْعيا» (٢).

وأياً كان فانّه لايؤثر على معنى ومحتوى الآية ، أمّا ما احتمله البعض من أنّه كان رجلاً غير مؤمن وقد شك في أمر المعاد فإنّ هذا كلام مردود ، لأنّ الآية تدلّ بجلاء على أنّ الوحي نزل على هذا الرجل.

أمّا «القرية» فهي «بيت المقدس» طبقاً لما جاء في الروايات ، وهذه الحادثة التي وقعت بعد هدم بيت المقدس على يد «نبو خذ نصّر».

٢ ـ هل أنّ هذا الرجل المؤمن (أياً كان) قد مات حقاً أم ذهب في سباتٍ عميق؟ ظاهر الآية يدلّ على أنّه مات حقاً وعاد إلى الحياة مرّة اخرى بإذن الله بعد أن مضى على موته مائة عام ، وأكثر المفسرين يعتقدون بهذا الرأي ، والبعضُ منهم فَسَّرَ «الموتَ» في هذه الآية

__________________

(١) جملة (أو كالّذي مَرّ ...) طبقاً لتصريح كثير من المفسرين هي عطف على الآية التي قبلها (الم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم ...) بناءً على هذا يكون معنى هذه الجملة كالتالي «الَم ترَ إلى الذي مَرّ على قريةٍ ...».

(٢) تفاسير البرهان ؛ نور الثقلين ؛ مجمع البيان ؛ روح المعاني ؛ روح البيان ؛ والكبير والقرطبي في ذيل الآية مورد البحث.

١٥٨

بالنوم العميق المشابه للموت ، كما هوَ الحال في نوم بعض الحيوانات التي تغط في سبات عميق في فصل الشتاء وتخرج من سباتها في فصل الربيع فتبدأ بالحركة.

وفي مثل هذا النوم تكون النشاطات الحيوية بطيئة إلى حَدٍّ ما ويقلّ ماتحتاجه من طاقة بكثير عمّا كان عليه في حالاتها العادية ، لكنّه لايُطْفِيءُ البصيصَ من الحياة على أيّة حال.

وقد رجّح هذا الاحتمال (اي احتمال السبات) صاحب «المنار» و «المراغي» وصاحب «أعلام القرآن» حتى أنّه ذكر في أعلام القرآن أنَّ المراد من «مائة عام» ليس من الضروري أن يكون مائة سنة! بل من المحتمل أن يراد منها مائة يوم أو مائة ساعة!!

إنّ بعض المثقفين الذين يصعب عليهم تصديق هذه الامور الخارقة للعادة ، فإنّهم كلّما شاهدوا شيئاً من هذا القبيل سعوا للإتيان بالتبريرات والمغالطات بينما لا توجد أي ضرورة لهذا التكلّف أبداً.

إنّ القرآن المجيد والروايات الصحيحة وباختصار كل محتويات المذاهب السماوية مليئة بهذه الامور الخارقة للنواميس الطبيعية التي لايمكن إنكارها ولا السعي في تبريرها ، فإننا لو آمنّا بقدرة الله تعالى على الإتيان بمثل هذه الخوارق لكان التصديق بمثل هذه الأمور أمراً يسيراً ، وكل ما في الأمر أنْ نبتعد عن المبالغة ، وعن تجاوز الحدود ، وأَلّا ننسب كل امر إلى الاعجاز أو خرق النواميس الطبيعية.

وحتّى بالنسبة للعلماء الماديين ، هُناك امور خارقة لا يمكن تفسيرها بالأساليب العلمية المعروفة فما هو الداعي لتحريف أيّة ظاهرة خارقة للعادة بمجرّد العجز عن كشف سرّها.

والقضية المذكورة ، وبغض النظر عن الرجل المؤمن المذكور فيها والذي مات وبُعث من جديد وبغض النظر عن الهدف منها وهو الرغبة في تقديم مثال لاحياء الموتى يوم القيامة ، تشير إلى حماره أيضاً ، وقد أخبر القرآن بأنّه قد مات وتلاشت عظامه ، لأنّ الآية صريحة في جمع العظام بإذن الله وتغطيتها باللحم ثم نفخ الحياة فيها ، فهل يجب تعليل كلّ ذلك؟

٣ ـ وأمّا ما يتعلق بالمدينة التي وقعت فيها تلك القصة فإنّ أغلب المفسرين يعتقدون بأنّها وقعت في بيت المقدس بعد أن هُدمت على يد «نبو خذنصّر» وخُربت عن آخرها وقد عبّر عنها القرآن بـ (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي بعد تهديم سقوفها وتخريب جدرانها

١٥٩

ومساواتها بالأرض؟ وقيل هي قرية مجاورة لبيت المقدس.

أمّا ما يتعلق بحديث ذلك الرجل المؤمن مع نفسه فانّه لم يكن بسبب الإنكار ولا التعّجب والشك بل أراد أن يشاهد احياء الموتى بأم عينيه كي يطمئن قلبه كما أراد إبراهيم عليه‌السلام ذلك في القصة التي سوف نذكرها عمّا قريب.

ومن الممكن أيضاً أن يكون طلبه هذا من أجل أن يقدم دليلاً مقنعاً للمنكرين والمشككين ، لأنّه في بعض الأحيان لا تكفي الاستدلالات العقلية ولا حتى نداء الفطرة والوجدان في اقناع بعض الناس ، فهم يصّرون على مشاهدة النماذج الحيّة لكي يأخذ الاستدلال طابع الحس وتزول جميع الوساوس عن قلوبهم ونفوسهم.

٤ ـ وأمّا ما يتعلق بنوع طعامه وشرابه فإنّ القرآن لم يصِّرح بشيء عنه ، ولكن يظهر من جملة : «لَمْ يَتَسَنَّهْ» التي هي من مادّة «سَنَه» والتي يفهم منها عدم فساد الطعام والشراب على الرغم من مرور سنين طويلة انّهما كانا من الأغذية والأشربة التي لا تفسد بمرور الزمان ، وقيل بأنّ الطعام الذي كان يحمله هو «التين» و «العنب» والشراب هو «عصير الفواكه» أو «الحليب».

والملاحظ هنا أنّ الله تعالى ومن أجل اظهار قدرته ، حفظ المواد السريعة الفساد من التلف ، بينما ترك حماره الذي يقاوم الفساد عادةً عرضةً للفساد ، وبهذا أصبح دليلاً على المكوث مائة سنة ودليلاً آخر على إمكان الحياة بعد الموت ، وذلك من أجل أن يشاهد الرجل المؤمن تلك الحقيقة بامِّ عينيه في كلا الأمرين (وجود نفسه ووجود حماره بعد الموت).

٥ ـ عبارة : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ) تدلّ على أنّ الفائدة المرجوّة من هذه الحادثة لا تختص بذلك الرجل المؤمن لوحده ، بل لتكون عبرة نافعة لجميع الناس ، لأنّ الناس قد عرفوا «عُزير عليه‌السلام» بالقرائن المختلفة ، وتيقنوا من أنّه قد مات وبُعث ثانية بعد مرور مائة عام على موته ، فإن كان الجيل المعاصر لحياة عزير قد مات وفنى فإنَّ الجيل الجديد عرفوا حقيقة الأمر بواسطة المعلومات التي حصلوا عليها من آبائهم.

* * *

١٦٠