نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

٢ ـ القدرة الإلهيّة المطلقة

تمهيد :

الطريق الآخر لإثبات امكان اعادة الخلق مرة أُخرى في يوم القيامة هو ثبوت القدرة الإلهيّة غير المحدودة.

لأنّ البحث عن المعاد يأتي بعد إثبات أصل التوحيد وقبوله والتصديق بالصفات الثبوتية والاخرى السلبية للحق تعالى ، نحن نعلم بأنّ أحد صفاته الثبوتية هي «القدرة المطلقة» وهيمنته على كل شيء ، وأنّ أفضل طريق لإثبات قدرته هي التمعن في عظمه عالم الخلق ، بالإضافة إلى أنّ واجب الوجود له وجود غير محدود فمن الطبيعي أن تكون قدرته غير محدودة أيضاً.

إنّ سعة السماواتِ وعظمة المنظومات السماوية وعظمة المجرّات وكثرة الكواكب المحورية والسيارات التي تدور حولها وتنوّع المخلوقات الحيّة من نباتات وحيوانات والأعمال الدقيقة العجيبة التي تؤدّيها الخلايا الحيّة ومكوّنات الذرّة ، كل هذه الامور دليل على القدرة اللامتناهية لله تعالى.

فعند الاعتقاد بهذه الامور وتصديقها لا يبقى مورد للشكِّ والترديد في من هو القادر على إحياء العظام الرميم؟ أو كيف يمكن للتراب المنتشر أنْ يُجمعَ ويلبس ثوب الحياة؟!

لقد كانت هذه نبذة مختصرة عن المواضيع التي سنبحثها في هذا الباب ، وقد اشير إلى هذه المواضيع في آيات متعددة من القرآن الكريم ، وقبل أن نعطي توضيحاً أكثر نتأمل أولاً في هذه الآيات خاشعين :

١ ـ (لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ). (المؤمن / ٥٧)

١٢١

٢ ـ (أَوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ قَادِرٌ عَلَى ان يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلاً لّارَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّا كُفُوراً). (الاسراء / ٩٩)

٣ ـ (اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالارْضَ وَلَم يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى ان يُحْيِىَ المَوْتَى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (الاحقاف / ٣٣)

٤ ـ (اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). (يس / ٨١)

٥ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ) (١). (العنكبوت / ٢٠)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

إنّه على كل شيءٍ قدير :

في الآية الاولى يقيس الله تعالى إحياء الموتى بخلق السموات والأرض ، قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ).

فحتماً يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً ، فهذا برهان جلي في إفادة هذا الأمر.

قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية : وكان من حقهم أن يقروا بأنّهُ القادر على خلق السماواتِ والأرض ... فقد ظهر بهذا المثال أنّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجّة ، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب (٢).

وصَرّح آخرون مثل «الطبرسي» في مجمع البيان و «القرطبي» و «روح البيان» بأنّ هذه الآية خوطب بها منكرو المعاد وهي تقول : من قدر على خلق السماوات والأرض

__________________

(١) أشير إلى هذا المعنى في آيات اخرى أيضاً مثل الآية ٩ من سورة الشورى ؛ والآية ٢ من الحديد.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٧٩.

١٢٢

واختراعهما مع عظمهما وكثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر (١).

والإتيان بجملة : (وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ) كما قال كثير من المفسّرين : ليس بمعنى أنّهم في الواقع لا يعلمون بأنّ «خلق السماواتِ بتلك الدقّة والعظمة أرقى من اعادة خلق الإنسان» ، بل قد نُزِّلوا منزلة الجاهل في هذه الامور لأنّهم غفلوا عنها ولم يفكّروا ويُمْعِنوا فيها وذلك لتعصبهم واتباعهم الهوى فضلوا في أمر المعاد (٢).

والعجيب هنا هو أنّ في تلك العصور لم تكتشف بعدُ عظمة السماواتِ كما هو الحال في عصرنا الحاضر ، والقليل من الناس كان له اطلاع آنذاك على الأسرار العظيمة التي كُشفت عن طريق التقدم العلمي في العصور الحديثة ، وكانوا لا يعلمون منها إلّاظاهرها ، لكنّ القرآن الكريم المترشح من علم الله اللامحدود رفع الحجاب عن تلك الأسرار.

وهناك ملاحظة هي : أنّ اللام في «لخلق» هي «لام الابتداء» ظاهراً وقد جاءت هنا للتأكيد.

* * *

وفي الآية الثانية وبعد أن نقل كلام المنكرين الذين انكروا إعادة خلق الإنسان بعد استحالة عظامه وصيرورتها تراباً ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).

التعبير بـ «مثل» هنا من الممكن أن يكون للدلالة على خلق البشر ثانياً ، لأنّ خلقهم يكون كالسابق ، ومن الممكن أيضاً أن يكون للدلالة على أنّ الله تعالى قادرٌ على خلق آخرين من البشر من جديد كما خلق هؤلاء ، فكأنّه يقول عندما يكون الله قادر على خلق هؤلاء فإنّه قادرٌ على خلق غيرهم.

وهناك احتمال آخر هو أنّ الأبدان المخلوقة من جديد مهماكانت فهي ليست عينَ تلك الأبدان السابقة ، وذلك لأنّ مادّتها الاولى تعود مع كيفية وهيئة جديدة غير تلك

__________________

(١) تفسير الطبرسي ، ج ٨ ، ص ٥٢٩ ؛ وتفسير القرطبي ج ٨ ، ص ٥٧٦٩ ؛ وتفسير روح البيان ج ٨ ، ص ١٩٩.

(٢) تفاسير مجمع البيان ؛ الكشاف ؛ وروح المعاني ذيل الآية مورد البحث.

١٢٣

الصورة السابقة ، فمن أجل هذا عبّر القرآن بـ «مثل» ، ولكن روح الإنسان هي تلك الروح ، فبعد أن تتعلّقَ بالبدن تحافظ على وحدة شخصيتها السابقة واللاحقة ، بناءً على هذا فإنّ الناس بعد إعادتهم يكونون عينهم من ناحية ، ومثلهم من ناحية اخرى (فتأمّل).

ثم يجيب في ذيل الآية عن سؤال آخر للمنكرين ، فأولئكَ كانوا يقولون : إذا كانت القيامة حق فَلِمَ لا تقع ، قال تعالى في جوابهم : (وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلاً لَّارَيْبَ فِيهِ).

وبتعبير آخر إنّه تعالى مع الحفاظ على كامل قدرته عيّن وقت قيام القيامة بالدقّة حيث ستقع في ذلك الزمان المعيّن من دون أيّ تأخير.

(فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّاكُفُوراً) لأنّ هوى النفس والتعصب والعداء للحق أرخى على أفكارهم حُجبه وسدوله.

* * *

وفي الآية الثالثة ورد نفس هذا المعنى بتعبير آخر ، قال تعالى : (اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ).

عبارةُ «اوَلَمْ يروا» المراد منها المشاهدة بعين البصيرة والعقل ، لذلك فسَّرها المفسرون بمعنى أولم يعلموا ، والبعض الآخر فسّرها بمعنى العلم والاطلاع المصحوبِ بالدقّة والتمعّن.

و «يَعْيَ» : من مادة «عَيّ» بمعنى العجز وعدم القدرة على المشي عند الإنسان ، واستعملت أيضاً للدلالة على شمول العجز وعدم القدرة على إنجاز عملٍ ما ، أو العجز عن بيان أمرٍ ما عن طريق التحدّث للآخرين ، و «داءٌ عيّاء» المرض الذي لاعلاج له سُمّي بذلك لأنّه متعب ومسبب للعجز.

وفسّر بعضهم «العي» بـ «الجهل» ولكن هذا المعنى لا يناسب هذه الآية.

ومن البديهي أن يُتَصَوّرَ العجزُ وعدم القدرة في الأشخاص الذين تكون قدرتهم محدودة ، ولكن هذا غير مُتَصَوَّرٍ بالنسبة لله تعالى الذي لا حدَّ لقدرته ، فالعجز والتعب لا معنى لهما في هذا المورد.

١٢٤

وعلى أيّة حال فإنّه من الممكن أن يكون هذا التعبير بياناً لخرافاتِ اليهود الذين كانوا يقولون : إنّ الله بعد أن خلق السماواتِ والأرضَ عَييَ وتعب! فخصَّصَ يوم السبت للاستراحة ومنذُ ذلك الحين أصبح هذا الأمر سنّةً لهم.

وسخافة هذا القول من الوضوح إلى درجة أنّه لايستحقُّ أيَّ بحث.

وفي الآية الرابعة ومن خلال أجوبةٍ متعددة لمنكري المعاد وللشخص الذي جاء عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل العظم الرميم الذي قال : (مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ) ، قال تعالى : (اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العَلِيمُ).

وعندما يكون الحديث عن السماوات فَمِنَ البديهي أن يراد منها جميع ما تحتوية من سيارات ونجوم ومجرّات ، ونحن نعلم بأنّ الاكتشافات الأخيرة لعلماء الفلك تنصُّ على أنّ منظومتنا الشمسية تقع ضمن مجرّة درب التّبّانة المعروفة ، وقالوا : إنّ هذه المجرّة تحتوي على عدد من النجوم يبلغ مائة مليار نجمة! والشمس التي نراها إحدى النجوم المتوسطة الحجم لتلك المجرّة!

وقالوا أيضاً : إنّ التلسكوبات العملاقة تمكنت حتى الآن من اكتشاف مايقارب المليار مجرّة!

فلو ضربنا هذه الأعداد ببعضها لحصلنا إجمالاً على رقم هائل من تلك الأَجرام السماوية ، مع العلم أنّ هذه الارقام هي ما توصَّل إليه علم البشر لحد الآن ومن الممكن أن نكتشف في الأزمنةِ القادمة عوالم اخرى كثيرة ممّا يَجعلُ ما اكتشف الآن بالنسبة لها شيئاً قليلاً لايُعتدُّ به ، كل هذا كان بالنسبة للحديث عن السماء ، أمّا عندما يكون الحديث عن الأرض فإنّه يشمل جميع أَسرارها وعجائبها أيضاً.

فهل يعجزُ ويكلُّ خالق هذا العالم العظيم العجيب الذي يحتوي على نظام دقيق أن يُعيد خلق الإنسان ثانياً؟!

والتعبير بـ «خلّاق» (اي كثير الخلق) من الممكن أن يكون للدلالة على أنَّ الله تعالى في

١٢٥

حالة إيجاد الخلق على الدوام ، وفي حالة خلق موجودات جديدة في كل يوم ، وكذلك في حالةِ إفناء وإعدام مخلوقاتٍ اخرى في كل يوم ، من أجل هذا استخدمت كلمة «خلّاق» بصيغة المبالغة.

ومن الممكن أيضاً أن يكون التعبير بـ «عليم» للدلالة على أنّ جمع ذرّات البشر الذين يموتون ويصبحون تراباً وينتشر ترابهم في كل مكان ليس بأمرٍ صعب على الله العالم المطّلع على كل شيء ، كما أنّه ليس من الصعب أيضاً محاسبتهم على أعمالهم التي ارتكبوها طيلة حياتهم (يجب الالفتات إلى أنّ «عليم» صفة مشبّهة ، وبما أنّها جاءت مقارنة لصيغة المبالغة خلّاق فإنّها هنا تفيد التأكيد).

* * *

الآية الخامسة والأخيرة في هذا المجال تضع أمام منكري المعاد دليلاً حسياً وتجريبيّاً.

قال تعالى مخاطباً الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلَ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ).

و «السير في الأرض» : يزيد الإنسان علماً بمعرفة نشأة وظهور الحياة على الكرة الأرضية ، وذلك لأنّ الموجودات الحيّة التي وجدت منذ ظهور الحياة على هذا الكوكب بقيت آثارها في طيات القشرة الأرضية ، والعلماء في هذا اليوم ـ عن طريق مطالعة تلك الآثار ـ توصَّلوا إلى كشف الكثير من أسرار خلق الموجودات الحيّة.

ومن الممكن أيضاً أن يكون الهدف من السير في الأرض كشفَ أسرار تكوّن الكرة الأرضية الذي يتم عن طريق فحصِ الطبقات المختلفة للأرض والعناصر المختلفة الموجودة فيها.

ومن الممكن كذلك أن يكون دليلاً على الخلق الذي يتكرر وقوعه في كل يوم على الكرة الأرضية ، ففي كل يوم تظهر إلى الوجود موجودات حيّة كثيرة وتغيب عن الانظار موجودات اخرى.

١٢٦

فكيف يعجز عن إحياءِ الموتى الهٌ قادر على الإتيان بخلقٍ كهذا وتطورات كهذه؟ وهكذا اعتُبرتْ قدرة الحق المطلقة دليلاً على إثبات إمكان إحياء الإنسان ثانياً.

ولكن يبقى هناك احتمال أيضاً هو أنّ الآية المذكورة دليل على النشأة الأولى للإنسان ، وقياس عقلي لإثبات الخلق المستأنف على الخلق الأول ، ففي هذه الصورة تكون الآية في عداد الآيات المذكورة سابقاً ، وعلى أيّ تقدير تكون دليلاً على نفس المدّعى.

يبقى هناك تساؤل وهو : كيف أمر القرآن الكريم البشر بالسير في الأرض لاكتشاف أسرار ظهور الحياة عليها ، مع أنّ بداية ظهور الحياة على هذه المعمورة تعود إلى مليارات خلت من السنين ولا يمكن مشاهدتها في هذا اليوم؟ والجواب عن هذا التساؤل يتضح بصورة جليّةٍ من خلال التفسير الذي ذكرناه لهذه الآية آنفاً ، فقد ذكرنا فيما سبق ثلاثة أجوبة عن هذا التساؤل «فتأمل».

والجدير بالذكر التعبير عن المعاد هنا بـ «النشأة الآخرة» و «نشأة» كما قال الراغب : هي بمعنى إيجاد وتربية الشي ، وهذا يدلّ على أنّ في يوم القيامة يوجد خلق جديد وتربية جديدة أيضاً.

* * *

ثمرة البحث :

هذا القسم من الآيات بمثابة تذكُّر لمنكري المعاد ، لعلهم يعون قدرة الله المطلقة ، فتقول لهم : فإن لم تؤمنوا فألقوا بنظرة فاحصة على عالم خلق السماوات والنجوم الثابتة والكواكب السيارة والمجرات والمنظومات السماوية ، ثم انظروا إلى الأرض ولما تحتويه من عجائب وأسرار وإلى النظام المهيمن عليهما جميعاً.

فهل في ذلك شك بعد مشاهدة كل هذه الدلائل؟ وهل يمكنكم أن تنكروا قدرة الله المطلقة؟! فإن آمنتم بقدرته المطلقة فكيف تشكّون في مسألة المعاد وإحياء الموتى وتعتبرون ذلك من الامور العجيبة التي لايمكن التصديق بها؟!

* * *

١٢٧
١٢٨

٣ ـ آيات إحياء الأرض

إشارة :

الإحياء بعد الموت الحاصل في عالم النباتات يمثل ظاهرة اخرى من ظواهر المعاد التي أشار إليها القرآن المجيد مرّات متعدّدة ، وقد رسم منها لوحة جميلة لاثبات هذا الأمر ووضعها امام أنظار الجميع.

فهذه الظاهرة يتكرر حدوثها في كل عام أمام الملأ ، ونحن نشاهد ذلك مراراً بعدد السنين التي نعيشها في هذه الدنيا.

القانون السائد بالنسبة للحياة والموت هو نظام موحد في كل زمان ومكان ، فإن كان احياء الإنسان بعد موته وتحوله إلى تراب من المستحيلات فكيف يَتُمُ إحياء النباتات التي تموت وتتفسّخ مرّة اخرى؟!

وما بال هذه الأرض الميتة تهتز وتربو بعد نزول المطر وتلبس ثوب الحياة وتخرج النباتات من أعماقها وتنمو وتُظِهرُ ازهارها وتبتسم ورودها؟ إن كل مشاهد الحياة تدل على أنَّ هناك حشراً وحياةً جديدة.

إنّ القرآن الكريم لَفتَ أنظار جميع البشر لهذا الأمر ، والآيات الآتية من أهم النماذج لذلك ، فلنمعن فيها خاشعين :

١ ـ (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَانبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ* وَالنَّخلَ بَاسِقاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزقاً لِّلْعِبَادِ وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ). (ق / ٩ ـ ١١)

٢ ـ (يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَيُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَكَذَلِكَ تُخرَجُونَ). (الروم / ١٩)

١٢٩

٣ ـ (فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيفَ يُحىِ الارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ الْمَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ). (الروم / ٥٠)

٤ ـ (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِانَّ اللهَ هُوَ الحَقٌّ وَأَنَّهُ يُحْىِ المَوْتَى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (الحج / ٥ ـ ٦)

٥ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْارْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحىِ المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىٍء قَدِيرٌ). (فصلت / ٣٩)

٦ ـ (وَاللهُ الَّذِى أَرسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الَارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ). (فاطر / ٩)

٧ ـ (وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحمَتِهِ حَتَّى إِذَا اقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (الاعراف / ٥٧)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

هل رأيتم كيف تحيى الأرضُ الميتةُ؟ فهكذا النشور!

لقد اهتم القرآن الكريم في الآية الاولى من هذا البحث بشرحِ جذورِ الحياةِ الرئيسيةِ أيْ قطراتِ المطر ، قال تعالى : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مَّبَارَكاً فَانْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ).

أشار القرآن الكريم بهذه الآية إلى جميع بساتين الفواكه ومزارع الغلّات والبقول (١).

ثم أشارَ إلى النخيل الباسقات التي تحمل ثمراً كثيراً وهذا النوع من النخيل يعتبر من أرقى واكمل أنواع النخيل ، فأضاف تعالى : (وَالنَّخْلَ بَاسِقاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) (٢).

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ المراد من «حب الحصيد» الحبوب القابلة للحصد (و «حصيد» بمعنى «محصود»).

(٢) «باسقات» جمع «باسق» أي المرتفع.

١٣٠

والجدير بالذكر أنّه ذكر النخيل الباسقات من جهة أنّها خُلقتْ ونشأتْ من تلك الأرض الميتة ، وتلك البذور الصغيرة التي نمت وأصبحت بهذه الهيئة العجيبة.

ومن ناحية اخرى أشار إلى ثمارها المتراصة التي تحملها في ارتفاع شاهق ، تلك الثمار اللذيذة المغذية «الحيوية» ، تحتوي على أنواع من المواد الضرورية التي يحتاج إليها جسم الإنسان (١).

وأخيراً نصل إلى هذه النتيجة وهي : ، إنّ الهدف من هذا أنّ الله سبحانه يهب (رزقاً للعباد) ، (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيِتاً) (٢) (كذلك الخروج).

إنّ هذه الآية تكشف عن حقيقة وهي أنَّ خروج الإنسان يوم القيامة تابع لتلك القوانين المهيمنة على النباتات والبذور والأشجار بفواكهها المتنوعة ، ذلك الأمر الذي نشاهده كل عام بأعيننا ، ولكن بما أننا اعتدنا على ذلك فإننا نعتبره أمراً عادياً ، وبما أننا لم نشاهد عودة البشر إلى الحياة بأعيننا فإنّ البعض يعتقد بأنّ ذلك امر غير معقول وأحياناً يعتقد بأنّه من المحالات ، مع أنّ النظام المهيمن على الأمرين واحد.

* * *

وفي الآية الثانية طُرحت نفس المسألة ولكنْ بتعبيرٍ آخر ، قال تعالى : (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحَىِّ).

إنّ الفاصلة الزمانية التي ترونها بين الحياة والموت لا تكون امراً يُعتنى به بالنسبة للذات المقدّسة الإلهيّة ، فهو على الدوام يُخرجُ الحىَّ من الميّت وبالعكس ، (يجب الانتباه إلى أن «يخرج» فعل مضارع وهو يدل على الاستمرارية ، أي أنّ هذا العمل مستمر ودائم) على هذا فإنّ منظر نهاية هذا العالم الذي هو عبارة عن خروج الموت من باطن الحياة ، وكذلك منظر

__________________

(١) «الطلع» هو اسم ثمار النخيل في بدء ظهورها ، و «نضيد» بمعنى متراكم ، ومن الغرائب هو أنّ الأشجار نادراً ما تحتوي على فواكه عنقودية الشكل والأكثر غرابه من ذلك أنّ عناقيد ثمار النخيل ثقيلة.

(٢) جاء هنا بالصفة «ميتاً» بصيغة المذكر مع أنّ الموصوف «بلدة» مؤنث والسر في ذلك هو أن «بلدة» هنا جاءت بمعنى المكان.

١٣١

المعاد الذي هو عبارة عن خروج الحياة من باطن الموت امرٌ مستمر ويتكرر وقوعُه أمام أعيننا دائماً ولو على مستوىً محدود ، فما المانع من أن تموت جميع الموجودات الحيّة مرّةً واحدة ويُعاد البشر إلى حياة جديدة في يوم الحشر؟ أيْ أنْ يتحقّقَ قانونُ تبديل الموت بالحياة والحياة بالموت بصورة أوسع وأشمل ممّا عليه حالياً.

وأمّا بالنسبة لعروض الموت على الحياة فإنّه أمرٌ بديهي وواضح لدى الجميع ، ولكن بما أنّ عروض الحياة بعد الموت يخفى على البعض ويحتاج إلى شيء من التأمل فقد قال تعالى في ذيل الآية : (وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

وجملة «كذلك تُخرجون» تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة وهي أنّه لا يوجد هناك ايّ تفاوت بين القيامة الصغيرة التي تحدث في عالم النباتات والأرض الميتة وبين تلك القيامة الكبرى الشاملة.

وبمجرّد أن يتأمل الإنسان قليلاً في هذا الموضوع فإنّه سوف تزول عنه كل ظنونه الخاطئة والوساوس الشيطانية التي تنتابه في أمر المعاد.

* * *

إنّ في كل لحظة تمرُّ على هذا العالم الوسيع تنفلق فيها الآلافُ المؤلفة من البذور وتخرج منها براعم جديدة للحياة ، وفي كل لحظة تبدأ أرض واسعةٌ بالحياة بعد أن كانت ميتة ، إنّها سُنّة الله السرمدية والتي تُوحي بها الآية الثالثة وبعد بيان كيفية تكوّن الأمطار بعد تسيير الرياح وتراكم الغمام على بعضها ، قال تعالى : (فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا) ، (إِنَّ ذَلِكَ لُمحىِ الْمَوتَى) ، نعم إنّه : (عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ).

و «آثار» : جمع «أَثَر» ، قال في «مقاييس اللغة» : إن الأَثَرَ له ثلاثةُ معانٍ ، الشي الذي له سابق ، والذكر الباقي بعد الموت ، وما بقي من رسم الشي ، لكن بعض علماء اللغة حَصَروا معنى الأثر في المعنى الثالث ، وذلك لأنّ المعنيين الأولين ناتجان عن الآثار الباقية من أجل الفضيلة وعوامل علوّ الشأن.

١٣٢

والمراد من «رحمة الله» هنا هو المطر الواهب للحياة الذي يعتبر نموذجاً حياً وبيِّناً للرحمة الإلهيّة التي تتجلّى آثارها في كل مكان ، فهو يحيي الأرض الميتة ويفيض بالحياة على القلوب الميّتة ويهب النشاط والحياة للهواء الملوّث الميِّت وأخيراً يجود بنور الحياة على جسم الإنسان.

واستعمال كلمة «ذلك» في الآية للإشارة إلى الله تعالى في حين أنّه يستعمل للإشارة إلى البعيد للدلالة على عظمة مقامه وعلى أنّه لا تدركه العقول والأبصار.

والإِتيانُ بـ «أنّ» التي تفيد التوكيد و «اللام» في «لَمُحيي» الذي يفيد التوكيد أيضاً بالإضافة إلى «الجملة الإسمية» التي تفيد التوكيد كذلك ، كل هذا من أجل إثبات حقيقة إنّ الذي يحيي الأرض الميتة عن طريق إنزال مطرِ رحمتِهِ باستمرار بإمكانه أن يُحييَ أمواتَ البشر وبعيدَ لهم الحياة من جديد.

واستعمال كلمة «انظر» تجلب الانتباه من جهة أنّها تشير إلى أنّ مسألة المعاد أمرٌ حسيّ مشاهد ، ظاهرٌ للعيان دائماً ، فكيف تُنكرون ذلك أو تتخذونه سخريّاً؟!

* * *

وفي الآية الرابعة بعد أنْ ذكر المراحل التكاملية للنطفة في الرحم وبعد ذِكْرِ تطوراتِ الجنين بانّها دليل واضح على مسألة إمكان المعاد ، ينتقل إلى الحديث عن بذورِ النباتات التي تنمو في أعماق الأرض ، قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) (١).

(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الَماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ).

إنّ القرآن المجيد كتاب عجيب حقاً ، فإنّه عندما يريد أن يؤكّد على احدى الحقائق ويرسخها في الأذهان ويكرر ذكرها يصورها بألوان مختلفة ، فيشعر الإنسان عند سماع تلك

__________________

(١) «هامدة» من مادة «همود» قال الراغب في المفردات : الهمود في الأصل بمعنى انطفاء النار (وذهاب حرارتها ونورها) ، لكنّ عدداً من أصحاب اللغة والمفسرين ذكروا لها معاني اخرى أيضاً ، ومن جملة معانيها : الجفاف ، والسكوت ، والموت ، وصيرورة الشي بالياً عتيقاً ، وهذه المعاني جميعها يمكن أن تنطبق على هذه الآية ، فالأرض تموت وتخمد وتطفأ في فصل الشتاء ، بينما تدبّ الروح فيها وتأخذ بالحركة في فصل الربيع وكأنّها تصرخ!

١٣٣

الحقيقة كأنّه يواجِهُ حقيقةً غيرَ التي سمعها سابقاً ويجد نفسه أمام صورة جديدة من صور تلك الحقيقة ، فلا يصبح تكرارها مملًّا أو غير نافعٍ له ، فالإنسان يتلقّى دروساً جديدة باستمرار ، ونحن نشاهد في مسألة احياء الأرض الميتة في الآيات المعنيّة بالبحث نموذجاً لذلك.

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم في هذه الآية التي عطفها على مسألة التطورات الجنينية يؤكد على أنّ حياة الإنسان والحيوان والنبات تقع جميعها تحت مقولة واحدة ، وكل نموذج نراه ونلمسه في هذه الثلاثة ، يكون دليلاً على إمكان المعاد لغيرها من المخلوقات ، فالتعبيرُ ب «ترى» كالتعبير بـ «انظر» في الآية السابقة وكلاهما للتأكيدِ على أنّ قيامة النباتات أمرٌ محسوس ومشاهد.

و «اهتزّت» : من مادة «اهتزاز» المشتقّة من «هزّ» بمعنى الحركة الشديدة ، وفسّرها البعض بمعنى الحركة الجميلة الجذّابة ، وقد جاءت هنا للدّلالِة على التغيرات الجميلة والحركات المختلفة التي تحصل بفعل نمو أنواع النباتات التي تظهر على سطح التربة.

و «رَبَتْ» : من مادة «ربوّ» وجاءت هنا بمعنى نموّ الأرض لا نمو النباتات ، والمراد من نمو الأرض هنا هو بروز اجزاء من التربة بفعل خروج النباتات وتوغّل الجذور وظهور سيقان النباتات ، أمّا الذين فسّروا هذه الجملة بأنّها تدلّ على نموّ النباتات فإنّهم في الحقيقة غفلوا عن مفاد الجملة المتأخرة عنها ، لأنّه تعالى يقول : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ).

* * *

وتحمل الآية الخامسة في طيّاتها نفس محتويات الآية السابقة ولكنّها تختلف عنها بعدّة أمور : أولاً أنّها اعتبرت احياء الأرض الميتة دليلاً على أصل التوحيد بالإضافة إلى دلالتها على المعاد ، قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). (إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحْىِ الْمَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شىٍء قَدِيرٌ).

وثانياً عبّرت عن الأرض الميتة ب «الخاشعة» ، قال في «الميزان» هي الأرض القاحلة ،

١٣٤

وقد شبّهها هنا بالفقير الذليل المسكين الذي لا يمتلك شيئاً ، ثم شبّهها بعد نزول المطر بالذي أُوتيَ مالاً كثيراً ولبس أفضل الثياب ، حيثُ يمشي بنشاط مرتفعَ الرأس مستقيماً تبدو آثار النعمة على وجهه (١).

وهناك أمرٌ آخر يمكن أن نستخلصه من هذا التعبير وهو درس من دروس الأخلاق ، فكما أنّ الأرض الخاشعة الخاضعة تشملها رحمةُ الله فتحصل على كل آثار البركات والنمو والنشاط ، فإنّ عباد الله الخاشعين والخاضعين تنالهم رحمة الله الواسعة أيضاً ، وتنمو في نفوسهم براعم العلم والإيمان والتقوى.

* * *

ووردت هذه المسألة في الآية السادسة بتعبير جديد من خلال بيان كيفية نزول المطرِ ، قال تعالى : (وَاللهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الْارضَ بَعْدَ مَوتِهَا) ، (كَذَلِكَ النُّشُورُ).

وهذِهِ الآية في الحقيقة من أدلة إثبات المُبدئ تعالى أيضاً ، أي إثبات الذات الإلهيّة المقدّسة ، وفي نفس الوقت تستعمل دليلاً على المعاد ، فهو يشير في البداية إلى الآيات والبراهين الدالة على وجوده تعالى عن طريق بيان النظام الدقيق المهيمن على حركة الرياح والسحاب وسقي الأرض الميتة وإحيائها ، وأخيراً يشير إلى دليلٍ حيّ وعميق المعنى لإثبات المعاد.

وجملةُ «كذلك النشور» بالإضافة إلى أنّها تشبّه إحياء الإنسان بإحياء الأرض الميّتة ، إلّا أنّها من الممكن أن تكون دليلاً على سوق الأرواح إلى الأبدان في يوم القيامة ويساق التراب المنتشر فيُجمع وتحلّ فيه الروح ، كما هو الحال في سوق الرياح للسُحُبِ وجمعها إلى بعضها كي تتلاقح وتهطل ثمارها التي هي عبارة عن قطرات المطر.

وفي الحديث الشريف أنّ أحد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأله قائلاً : كيف يحيي اللهُ

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ٤١٩.

١٣٥

الموتى وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمَا مَرَرْتَ بوادِيْ أهلِكَ مُمْحِلاً ثمَّ مَرَرْتَ بهِ يهتزُّ خَضِراً؟» (١) فقال الصحابي : بلى يارسول الله : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فكذلك يُحيي اللهُ الموتى وتلك آيتُهُ في خلقه» (٢).

* * *

وفي الآية السابعة والأخيرة تحدّث سبحانه أيضاً عن إرسال الرياح واعتبرها تُبشِّر عن نزول مطر رحمته ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَانْزَلْنَا بِهِ المَاءَ) (٣).

وبعد ذلك مباشرةً قال تعالى : (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرون).

وجملةُ «لعلّكم تذكّرون» جاءت للدلالة على أنّ الله يريكم هذه المشاهد في هذه الدنيا كي يثبت لكم وجوده تعالى من ناحية ، ومن ناحية اخرى يُثبتَ لكم أنّ هناك معاداً وقيامة في العالم الآخر.

والعجيب ما جاء في الحديث المنقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال : «ثمَّ يُرسلُ اللهُ مَطَراً كأنّهُ الطَّلٌّ فتنبُتُ مِنهُ أجسادُ الناس ، ثم يُقال : يا أيٌّها الناسُ هَلُمُّوا إلى ربِّكُمْ ، وقفوهُم إنّهم مسئولون» (٤).

ويُستفاد من أقوال بعض المفّسرين إنّ ذلك المطر ليس كالمطر المعتاد ، بل له شبه بماء النطفة التي يتكوّنُ الإنسان منها! ويستمرّ هطول هذا المطر مدّة أربعين يوماً ، فيؤثّر في أجزاء الإنسان الميّتة بشكل عجيب وينفخُ فيها الروح.

__________________

(١) «ممحل» من مادة «مَحل» على وزن «نخل» ويعني سَنة الجفاف وانقطاع الأمطار ، وموت النباتات ، مجمع البحرين ، مادة (محل).

(٢) تفسير القرطبي وتفسير روح البيان في ذيل الآية مورد البحث.

(٣) يجب الانتباه إلى أنّ «سحاب» تفيد الجمع من جهة المفهوم لذلك جاءت الصفة «ثقال» بصيغة الجمع ، لكنّها من جهة اللفظ مفردة لذلك جاء الضمير في «سقناه» مفرداً.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٦٦٧.

١٣٦

جواب عن سؤال :

أَعطى القرآن المجيد في الآيات المذكورة آنفاً جواباً قاطعاً لمنكري المعاد وذلك عن طريق مثال حسيّ واضح ، وجعل «الشاهد» دليلاً على «الغائب» و «اليوم» دليلاً على «الغد».

وذلك لأنّ الأرض الميّتة تحيى في كل عام مرّة أو مرّتين أو أكثر بفعل هطول مطر الرحمة الإلهيّة ، بل يمكن القول بأنّ هذا الأمر يتكرر وقوعه في كلّ يوم في العالم ، فينبت في كل يوم نبتٌ جديد في الأرض الميتة ، وتظهر في كل يوم ظاهرة المعاد أمام نظر الإنسان.

ومن هنا يُطرح هذا السؤال : إنّ العلماء المعاصرين اتفقوا على أنّ جميع التجارب أعطت نتيجة واحدة هي أنّ الموجودات الحيّة لا تولد إلّامن موجودات حية اخرى ، فإن لم توجدْ في الأرض بذور نباتية فسوف لن يكون نزول المطر مؤثراً أبداً.

ومن ناحية اخرى ، إنّ البذور تتكوّن من قسمين ، وأحد هذين القسمين والذي يعتبر القسم الأكبر من البذرة يشكّل المادّة الغذائية فيها ، والقسم الآخر أي القسم الأصغر من البذرة عبارة عن خليّة حيّة ، وهذه الخلية إذا توفرت لها الظروف المساعدة (على الأخص الماء) فإنّها سوف تنمو وتترعرع بواسطة التغذّي على المادة الغذائية الموجودة في البذرة والموادّ الموجودة في التربة ، فإذا ماعُدمت هذه الخلية الحية فإنّه من المستحيل أن تحيى الأرضُ الميّتة.

وجوابنا عن ذلك هو : إنّ هذا ممّا لا شكّ فيه ، وهو كما تقولون وإنّ تلك الخليّة الحيّة الصغيرة تتغذى على الأجزاء الميّتة التي تمتصها من التربة وتحولها إلى جسم حيّ وموجود حيّ (فتأمل).

وبتعبير آخر : إنّ النخلة التي يصل وزنها أحياناً إلى طن واحد كانت في البداية خليّة صغيرة تأخذ مكانها في النواة ، ووزنها لا يتعدّى المليغرام الواحد ، ثم بعد ذلك امتصّت ما يقارب الطنّ الواحد من الموادّ الميّتة الموجودة في التربة والماء والهواء التي تعتبر جميعها موجودات غير حيّة ، فأعطت الحياة لجميع هذه الموجودات ، وهذا في الواقع هو معنى

١٣٧

تبديل الأرض الميّتة إلى موجودات حيّة.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يقول : تُحيى الأرض الميّتة (ولا يقول تُحيى الأشجار والبذور الميّتة ، لأنّ هذه لم تمُت بالكامل) أي أنّ هذه الأرض الميّتة أصبحت جزءاً من بدن النباتات والشجر ثم تبدّلت إلى خلايا حيّة.

ومن البديهي إنّنا لو امعَنّا النظر في ظهور الحياة على الكرة الأرضية لصار الأمر أكثر وضوحاً ، لأنّ الأرض بعد انفصالها عن الشمس كانت كتلة من النار ولم يوجد أيّ موجود حي في ذلك الحين طبعاً ، ولكن بعد أن بردت الأرض وأصبحت مستعدة لاستقبال الموجودات الحيّة وهطلت الأمطار بغزارة عليها فبردت الأرض بفعل هطول المطر أكثر وأعدّها ذلك المطر لاستقبال الحياة فظهرتْ آنذاك أول براعم الحياة النباتية التي لم يكتشف لحدّ الآن سرّ ظهورها ، وبقي هذا السرّ مخفياً عن العلماء وكأنّ ظهورها من تلك الموادّ الميّتة التي تحتوي عليها التربة ، وبهذا النحوِ غمرت الحياة تلك الموجودات الميّتة (فتأمل جيّداً).

* * *

١٣٨

٤ ـ التطورات الجنينية

تمهيد :

الطريقة الاخرى التي اتبعها القرآن في إثبات إمكان المعاد بالاستفادة من آيات متعددة هي طريقة التغييرات التي تطرأ على «النطفة» مند استقرارها في عالم «الرحم» العجيب والغامض حتى مرحلة الولادة ، وكل مرحلة من هذه المراحل في الحقيقة هي حياة جديدة ونموذج من نماذج المعاد! فالمراحل الكيفية لهذه التطورات كثيرة جدّاً ، ممّا تثيرُ مطالعتها ومشاهدتها تعجّبَ الإنسان وتجعله يغرق في التمعّن في كيفية هذا التحول العجيب الذي يطرأ على النطفة الحقيرة في هذه المدّة الوجيزة.

من هنا تعتبر هذه التحولات العجيبة التي لا تتوقف في أي وقت دليلاً على وجود باري هذا العالم القادر ، الذي أوجد جميع هذه العجائب في ظلمات الرحم الثالث ، ومن ناحية اخرى فإنّ هذه التحولات لها شَبَهٌ كبير بمسألة الحياة بعد الموت ، والقرآن المجيد في كلا الأمرين (التوحيد والمعاد) يعتمد على هذه الآيات والدلالات ، وحقاً إنّ مثل هذه الظاهرة تستحق أن يُعتمدَ عليها بهذا الشكل.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن المجيد ونمعن خاشعين في الآيات التي وردت في هذا المجال :

١ ـ (يَا ايٌّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّنَ البَعْثِ فَانَّا خَلَقنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرٌّ فِي الْارْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى اجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخرِجُكُمْ طِفْلاً ...* ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقٌّ وَانَّهُ يُحىِ المَوْتى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ). (الحج / ٥ ـ ٦)

١٣٩

٢ ـ (الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالانثَى * الَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى). (القيامة / ٣٧ ـ ٤٠)

٣ ـ (وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى). (النجم / ٤٥ ـ ٤٧)

٤ ـ (قُتِلَ الْانسَانُ مَا اكفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ* مِن نُطفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ انْشَرَهُ). (عبس / ١٧ ـ ٢٢)

٥ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحمَاً ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ احْسَنُ الخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعدَ ذَلِكَ لَمَيِّتونَ* ثُمَّ إِنَّكُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبعَثُونَ). (المؤمنون / ١٢ ـ ١٦)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

إن شككتم بأمر القيامة فانظروا إلى الجنين!

فالآية الاولى في هذا الباب هي نداء لجميع البشر ، البشر الذين لا يحدّهم زمان ولا مكان ، قال تعالى : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثَ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبيِّن لَكُمْ).

فهو يشير إلى أربع مراحل من خلق الإنسان (وهي مرحلة التراب ، ثم النطفة ، ومن بعدها العلقة ، ثم المضغة ، وكل مرحلة هي بنفسها تعتبر عالماً عجيباً وصعب المنال).

ثم يواصل البيان فيقول تعالى : (وَنُقِرٌّ فِي الْأَرْحَامِ مَانَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَّمىً) ، وأخيراً وبعد سلوك هذا الطريق الوعر (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

بعد ذلك يبيّن المراحل المختلفة لحياة الإنسان في هذه الدنيا ، ثم يلتفت إلى عالم النبات ويأتي بمثال آخر من امثلة استقرار البذور النباتية في باطن الأرض ويشير إلى إحياء

١٤٠