الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

المسألة الثالثة :

في أصالة الصحّة في فعل الغير

وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد.

إلّا أنّ معرفة مواردها ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول

______________________________________________________

(المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل الغير) سواء كان عملا من الاعمال أم قولا من الاقوال (وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين) بل وبين غيرهم ، كما ان الامر كذلك اذا كان احد الطرفين مسلما والطرف الآخر غير مسلم ، وقول المصنّف : «في الجملة» اشارة الى بعض الصور التي سيأتي الكلام حولها ان شاء الله تعالى.

وعليه : (فلا عبرة في موردها) اي : في كل مورد جرت أصالة الصحة فيه لا عبرة (بأصالة الفساد) في ذلك المورد ، لان الاستصحاب الموجود في مورد أصالة الصحة وان اقتضى عدم انعقاد المعاملة وفسادها ، لكن أصالة الصحة حاكمة على أصالة الفساد.

(إلّا أنّ معرفة مواردها) اي : موارد أصالة الصحة ، وهذا اشارة الى ما ذكره المصنّف قبل سطر بقوله : «في الجملة» (ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار) كما سيأتي الكلام حوله ان شاء الله تعالى في الأمر الخامس من المسألة الثالثة التي نحن فيها (ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول) مثل : أصالة عدم البلوغ فيما لو شك في بلوغ البائع أو المشتري أو الراهن أو المرتهن

٤١

يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة.

ولا بدّ من تقديم ما فيه اشارة الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب :

فمنه آيات :

منها : قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)

______________________________________________________

أو ما أشبه ، فان معرفة كل ذلك (يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة) ليعرف ان اصل الصحة في ايّ مورد يجري حتى يسقط في ذلك المورد الاستصحاب ، لان هذا البحث هو بحث التعارض بين الاستصحاب وبين أصل الصحة.

(ولا بدّ من تقديم ما فيه اشارة الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة) وقوله هنا : «في الجملة» اشارة الى ما سيأتي قريبا ان شاء الله تعالى : من ان مفاد الكتاب والسنة هو : حرمة سوء الظن بالمؤمن ، بمعنى : حرمة حمل فعله وقوله على الحرام وترتيب الاثر عليه ، لا وجوب حمل ما صدر منه من قول أو فعل على الحسن بمعنى : وجوب ترتيب آثار الصحة عليه ، حتى اذا شك في انه سلّم أو شتم وجب عليه أن يرد السلام ، الى غير ذلك ممّا سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

(أمّا الكتاب : فمنه آيات ، منها : قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (١)) والقول الحسن الذي امر به تعالى هنا ، له معنيان : معنى الكلمة والكلام الحسن ، ومعنى الظن والاعتقاد الحسن ، وهنا بناء على المعنى الثاني كالأول ، وذلك

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٨٣.

٤٢

بناء على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه‌السلام : «لا تقولوا إلّا خيرا حتى تعلموا ما هو» ، ولعلّ مبناه على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول.

ومنها : قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ،) فانّ ظنّ السوء إثم ،

______________________________________________________

ـ كما قال ـ فان هذه الآية إنّما تكون دليلا على أصالة الصحة في فعل الغير (بناء على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه‌السلام : «لا تقولوا) اي : لا تظنوا باحد (إلّا خيرا حتى تعلموا ما هو» (١)) فيكون معنى الآية : انه اذا رأى الانسان من احد عملا ، أو سمع منه قولا لا يعلم انه خير أو شر ، حمله على الخير لا على الشر ، فاذا رآه يشرب مائعا مشبوها ولم يعلم هل انه يشرب الماء أو يشرب الخمر؟ حمله على انه يشرب الماء ، وكذا اذا سمعه يقول له شيئا ولم يعلم هل انه يسبّه أو يسلّم عليه؟ حمله على الصحيح الحسن.

والى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : (ولعلّ مبناه) اي : مبنى هذا التفسير (على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول) وذلك بان يظن بالناس خيرا ، فالقول على ذلك يكون مرادا به خصوص الامر القلبي ، لكن الظاهر ـ وحسب بعض التفاسير ـ ان قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٢) يعني : عاملوهم بخلق جميل ، فيكون المراد بالقول الأعم من القول والفعل.

(ومنها : قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (٣) فانّ ظنّ السوء إثم) واذا كان ظن السوء اثما ، فالعمل بذلك الظن وترتيب الاثر عليه يكون إثما بطريق أولى ، وقد ذكرنا سابقا : ان هذه الآية تدل على وجوب الاجتناب

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ١٦٤ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ٣٤١ ب ٢١ ح ٢١٧١٠.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٨٣.

(٣) ـ سورة الحجرات : الآية ١٢.

٤٣

وإلّا لم يكن شيء من الظنّ اثما.

ومنها : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بناء على أنّ الخارج من عمومه ليس إلّا ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن.

وكذا قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ.)

______________________________________________________

عن اطراف العلم الاجمالي ، فانه لمّا كان بعض الظن اثما حرّم الشارع كثيرا من الظن ، والمراد بالكثير في مقابل الظن القليل الذي يعلم بانه ليس باثم.

هذا ، ولا يخفى ان المراد من النهي عن ظن السوء هو النهي عن تحصيل مقدمات مثل هذا الظن وتنميته في النفس حتى يكون الشيء اختباريا للانسان ، فيترتب التكليف عليه ، وذلك لأنّ نفس الظن أمر قهري ولا يترتب عليه التكليف.

(وإلّا) بان لم يكن المراد من الظن المنهي عنه ظن السوء الذي هو اقبح الظنون (لم يكن شيء من الظنّ اثما) اي : لم يبق هناك مورد يكون مصداقا للظن الاثم حتى يتعلق به الأمر بالاجتناب عنه.

(ومنها : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) بناء على أنّ الخارج من عمومه ليس إلّا ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن) اي : ان المتيقن الفساد هو الذي يكون خارجا قطعا من عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، واما مشكوك الفساد ، فيحمل على الصحة ولا يكون خارجا من عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فالآية إذن تدل على لزوم الوفاء بالعقد اذا علم بصحته ، بل وحتى اذا شك في صحته وفساده ، فيكون معنى لزوم الوفاء بالعقد عند الشك في الصحة حمله على الصحيح.

(وكذا قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٢)) وذلك بتقريب : ان المتيقن خروجه من الآية المباركة هو معلوم البطلان باحراز الكرة وعدم الرضا

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ١.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٢٩.

٤٤

والاستدلال به يظهر من المحقق الثاني ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا بسبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق ؛ إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد.

لكن لا يخفى ما فيه من الضعف.

وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاولتين.

______________________________________________________

فيه ، اما مشكوكه فيحمل على الرضا والصحة ولا يكون خارجا من عموم : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) فالآية تدل إذن على الحمل على الصحة بالتقريب المتقدّم في الآية السابقة.

هذا (والاستدلال به) اي : بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) على أصالة الصحة (يظهر من المحقق الثاني) صاحب جامع المقاصد ايضا (حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن) العين المرهونة (مدّعيا) ذلك الراهن (بسبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق) قائلا : باني لم آذن لك في البيع قال المحقق (إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد) فمع ان الاستصحاب مع المرتهن حكم للراهن لأن أصل الصحة مع الراهن.

(لكن لا يخفى ما فيه) اي : في هذا الاستدلال (من الضعف) لان اثبات صحة هذا البيع بعموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) مع الشك في انه من مصاديق الخارج من تحت العام ، أو الباقي تحته؟ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد ثبت في الاصول عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، مثل التمسك بعموم النهي عن الخمر في وجوب الاجتناب عن مشكوك المائية والخمرية.

(وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاولتين) يعني قوله تعالى :

٤٥

وأمّا السنّة :

فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلّبك عنه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وانت تجد لها في الخير سبيلا».

ومنها : قول الصادق عليه‌السلام لمحمّد بن الفضل : «يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ،

______________________________________________________

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (١) و (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) (٢) على اصالة الصحة ، وذلك لان غاية مدلولهما حرمة سوء الظن بالناس ممّا يظهر أثره العملي على لسانهم وفعلهم ، وهذا لا يثبت دلالة الآيتين على أصالة الصحة المبحوث عنها حتى نرتّب على هذه الأصالة أثرها.

(وأمّا السنّة : فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلّبك عنه) يعني؟ يقلبك الى اليقين بالقبح ، ومن هذا المعنى يظهر ان المراد بالأحسن هنا هو : الحسن مثل قوله سبحانه : (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٣) وقوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) (٤) ومنه ايضا يعلم معنى تتمة الحديث (ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وانت تجد لها في الخير سبيلا» (٥)) فاللازم الحمل على الخير ، الّا اذا تعذّر.

(ومنها : قول الصادق عليه‌السلام لمحمّد بن الفضل : «يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك) اي : خطّئهما فيما سمعا أو رأيا منه من سوء ، وقل :

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٨٣.

(٢) ـ سورة الحجرات : الآية ١٢.

(٣) ـ سورة الزمر : الآية ٥٥.

(٤) ـ سورة الاعراف : الآية ١٤٥.

(٥) ـ الكافي (الاصول) : ج ٢ ص ٣٦٢ ح ٣ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٢ ص ١٠.

٤٦

فان شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال ، وقال : لم أقل فصدّقه وكذّبهم».

ومنها : ما ورد مستفيضا : «إنّ المؤمن لا يتّهم أخاه ، وأنّه إذا اتّهم أخاه

______________________________________________________

انه لم يقل ولم يعمل سوءا (فان شهد عندك خمسون قسامة) بفتح القاف والمراد منه : خمسون شخصا يحلفون على (أنّه قال) قولا سيئا أو فعل فعلا سيئا (و) لكنه (قال : لم أقل) أو لم افعل سوءا (فصدّقه وكذّبهم» (١)) اي : لا ترتب اثرا على ما قالوا في اخيك من سوء ، وهذا من آداب الاسلام الاجتماعية ، واخلاق المعاشرة مع الناس ، حيث ان له تاثيرا كبيرا في نشر الثقة وحفظ الالفة والمحبة بين افراد المجتمع ، وهو ما يحثّ الاسلام عليه بقوله : «هل الدين الّا الحبّ» (٢) وغير ذلك.

ومعلوم ان هذا في غير مسئلة الدعاوي والمخاصمات ، كما انه ليس في مسئلة أخذ الحذر ممّن تناله الألسن بالسوء ، فان اخذ الحذر لازم كما في قصة اسماعيل بن الإمام الصادق عليه‌السلام ومضاربته مع من نالته الالسن بانه يشرب الخمر (٣) ، وذلك لان اخذ الحذر مسئلة غير مسئلة حسن المعاشرة مع الناس ، وهو واضح.

(ومنها : ما ورد مستفيضا : «إنّ المؤمن لا يتّهم أخاه ، وأنّه إذا اتّهم أخاه

__________________

(١) ـ الكافي (روضة) : ج ٨ ص ١٤٧ ح ١٢٥ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ص ٢٩٥ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٢٩٥ ب ١٥٧ ح ١٦٣٤٣ ، أعلام الدين : ص ٤٠٥ ، بحار الانوار : ج ٧٥ ص ٢١٤ ب ٦٥ ح ١١ وص ٢٥٥ ب ٦٦ ح ٤٠.

(٢) ـ الكافي (روضة) : ج ٨ ص ٧٩ ح ٣٥ ، الخصال : ص ٢١ ، دعائم الاسلام : ج ١ ص ٧١ و ٧٢ ، اعلام الدين : ص ٤٤٩ ، تفسير العياشي : ج ١ ص ١٦٧ ح ٢٧ ، المحاسن : ص ٢٦٢ ح ٣٢٧ ، مشكاة الانوار : ص ١٢٠.

(٣) ـ انظر الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٩ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٨٣ ب ٦ ح ٢٤٢٠٧.

٤٧

انماث الايمان في قلبه ، كانمياث الملح في الماء ، وأنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ، وأنّ من اتّهم أخاه فهو ملعون ملعون» ، إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين أو ما يقرب منها.

______________________________________________________

انماث) اي : ذاب (الايمان في قلبه كانمياث الملح في الماء) (١) ومعنى ذلك : لزوم اجتناب تهمة الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح.

(و) منها : ما ورد من (أنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما) (٢) لانه بادر الى نقض حرمة اخيه باتهامه له ، ومعنى ذلك : لزوم الاجتناب عن اتهام الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح.

(و) منها : ما ورد من (أنّ من اتّهم أخاه فهو ملعون ملعون» (٣)) فاستحقاقه اللعنة إنّما هو لأجل الاتهام ، فيلزم عليه اجتنابا من اللعنة ان يحمل قول اخيه وفعله على الصحيح.

(إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين) مثل : تحريم إضمار السوء على الأخ المسلم ، فان حمل قول الاخ وفعله على الفاسد هو نوع من اضمار السوء له.

(أو ما يقرب منها) اي : من هذه المضامين ، مثل مضمون قوله عليه‌السلام : «المؤمن وحده جماعة» (٤) وكما ان خبر الجماعة يحمل على الصدق ، فكذلك خبر

__________________

(١) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٥٩ ، مشكاة الانوار : ص ٣١٩.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦٠ ، كشف الريبة : ص ٢١.

(٣) ـ وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٢٣١ ب ١٣ ح ١٦١٦٥.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٧١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٩٧ ب ٤ ح ١٠٧١٠ ، الخصال : ص ٥٨٤ ح ١٠ وفيه (عن الرسول) ، دعائم الاسلام : ج ١ ص ١٥٤.

٤٨

هذا ، ولكنّ الانصاف : عدم دلالة هذه الأخبار إلّا على أنّه لا بدّ من أن يحمل ما يصدر من الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل ولا يحمل على الوجه القبيح عنده.

وهذا غير ما نحن بصدده ، فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح ،

______________________________________________________

المؤمن الواحد ، فمضمون هذه الاخبار ايجابا وسلبا يدل على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح.

(هذا) غاية ما يستدل به من السنة على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح (ولكنّ الانصاف) بنظر المصنّف (عدم دلالة هذه الأخبار إلّا على) الحسن الفاعلي ، بمعنى : (أنّه لا بد من أن يحمل ما يصدر من الفاعل) قولا وفعلا (على الوجه الحسن عند الفاعل) وان كان ذلك القول أو الفعل الصادر غير حسن في نفسه (ولا يحمل على الوجه القبيح عنده) اي : عند الفاعل لقبح الصادر من قول أو فعل منه (وهذا) المعنى (غير ما نحن بصدده) من حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح شرعا ، وترتيب الأثر عليه.

وإنّما كان هذا المعنى غير ما نحن بصدده لانه كما قال المصنّف (فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه) اي : من المسلم (بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح) فان بين الفساد والقبح عموما من وجه ، اذ قد يكون الشيء فاسدا ، لكنه لا يكون قبيحا ، والروايات المتقدّمة تقول : لا تحمل فعل اخيك المسلم وقوله على القبيح ، ولا تقول : احمله على الصحيح ، فمن اين يستفاد من هذه الروايات حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح مع ان بينهما عموما من وجه؟.

٤٩

بل فرضنا الأمرين في حقّه مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن واقعا أو قبله ، فانّ الحكم بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع ـ مثلا ـ لا يوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ، خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما هو الفاسد عند الحامل.

______________________________________________________

(بل) لو (فرضنا الأمرين) اي : فرضنا كلا من الصحيح والفاسد (في حقّه) اي : في حق الفاعل كان (مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن) وهو لا يعلم برجوعه ، فيكون البيع فاسدا (واقعا ، أو قبله) اي : قبل رجوعه ، حتى يكون البيع صحيحا واقعا ، لكن في الصورتين لا قبح ، لان بيعه كان مباحا (فانّ الحكم) في هذا البيع المباح بالفساد ، اي : (بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع ـ مثلا ـ لا يوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام) لان البيع المذكور وان كان فاسدا واقعا الّا انه مباح وحسن.

أقول : لكن الظاهر العرفي هو : التلازم بين الحسن والصحيح ، لأنّ المنصرف منهما الواقعيان ، لا عند الفاعل ـ كما قاله المصنّف ـ ولذا فهم المشهور من تلك الاحاديث الحمل على الصحة.

وكيف كان : فانه لا يلزم من الحكم بالفساد مخالفة للروايات المتقدمة ـ على ما عرفت ـ (خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن) لانه ليس بأخ واقعا وان كان أخا ظاهرا ، والمنصرف من الأخ هو الأخ الواقعي (أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما) يقوله ويفعله هو اجتهادا أو تقليدا ، لكن كان (هو الفاسد عند الحامل) اجتهادا أو تقليدا ، فالحكم بالفساد الذي هو عدم ترتيب الاثر في الصورتين الاخيرتين أوضح من غيرهما في عدم استلزامه مخالفة الروايات المتقدّمة.

٥٠

ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحسن ترتيب الآثار ومن القبيح عدم الترتيب ، كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها ، لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار الحكم بترتّب الآثار ، لأنّ مفادها الحكم بصفة

______________________________________________________

لكن الظاهر عدم تمامية هذا الوجه الذي ذكره المصنّف بقوله : «خصوصا اذا كان المشكوك فعل غير المؤمن» لانه ، كما قد تقدّم : ان الحمل على الصحيح لا فرق فيه بين الاخوّة الاسلامية والاخوّة الايمانية ، بل يحمل فعل الكافر على الصحيح ايضا ، وذلك امّا باعتبار كونه أخا نوعيا ، كما قال عليه‌السلام : «أو نظير لك في الخلق» (١) واما باعتبار كونه اخا اجتماعيا ، كما قال سبحانه : (وَإِخْوانُ لُوطٍ) (٢) وقال سبحانه : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (٣) وامّا باعتبار السيرة القائمة من زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى هذا اليوم من التعامل مع الكفار.

(ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحسن) الشرعي الذي جاء في قوله عليه‌السلام : «ضع أمر أخيك على احسنه» (٤) (ترتيب الآثار) الشرعية على الاقوال والافعال (ومن القبيح) الذي هو خلاف الحسن (عدم الترتيب) للآثار الشرعية عليها (كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها) فانه (لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار) المتقدّمة (الحكم بترتّب الآثار).

وإنّما لم يلزم منه ذلك ، لانه لا تلازم بين الحسن والصحة ـ على ما عرفت ـ وذلك (لأنّ مفادها) اي : مفاد تلك الأخبار (الحكم بصفة

__________________

(١) ـ تحف العقول : ص ١٢٧ ، بحار الانوار : ج ٣٣ ص ٦٠٠ ب ٣٠ ح ٧٤٤ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٧ ص ٣٢ ح ٥٣.

(٢) ـ سورة ق : الآية ١٣.

(٣) ـ سورة الاعراف : الآية ٧٣ ، سورة هود : الآية ٦١ ، سورة النمل : الآية ٤٥.

(٤) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦٢ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ص ١٠.

٥١

الحسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحسن.

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيد سلاما أو تحيّة أو شتما ، لم يلزم من الحمل على الحسن وجوب ردّ السلام.

ومما يؤيّد ما ذكرنا جمع الإمام عليه‌السلام ، في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

______________________________________________________

الحسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح) اي : عدم الطعن (في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحسن) عليه ، اذ ليس كل شيء حسن صحيح أيضا.

(ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيد سلاما) حتى يجب جوابه (أو تحيّة) وثناء حتى يستحب جوابه (أو شتما) وسبّا حتى يكون لا جواب له (لم يلزم من الحمل على الحسن وجوب ردّ السلام) وكذلك لا يستحب ايضا لعدم ثبوت الموضوع فيه ، لكن لا يخفى : ان المنصرف من الحسن عرفا هو الصحيح شرعا ، فاذا شك في كونه سلّم أو شتم ، لزم حمله على السلام ، فيلزم جوابه ، فهو كما اذا لم يعلم المشتري بأن هذا البائع ، هل يبيع عليه بضاعة مغصوبة كان قد سرقها ، أو بضاعته التي امتلكها ملكا صحيحا؟ فانه يلزم عليه اعطاؤه الثمن ـ لا انه يكون من مجهول المالك ـ وذلك لان معنى الصحة : ترتيب الآثار عرفا.

(ومما يؤيّد ما ذكرنا) من ان مراد الروايات المتقدّمة ـ بنظر المصنّف ـ هو حمل فعل الاخ وقوله على الحسن صورة ، لا الحسن الواقعي حتى يرتّب عليه آثاره (جمع الإمام عليه‌السلام في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

٥٢

قسامة ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن فانّه مما لا يمكن إلّا بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع ، المستلزم لتكذيب القسامة ، بمعنى : المخالفة للواقع مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ، لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد.

فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبهما فيما يفهمان

______________________________________________________

قسامة (١) ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن) فيما اذا قال هو : ما قلت ، وقالوا : قال ، أو قال هو : ما فعلت ، وقالوا : فعل (فانّه) اي : الجمع المذكور (مما لا يمكن إلّا بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة) كلامه صورة مع (الواقع ، المستلزم) هذا التصديق الصوري (لتكذيب القسامة ، بمعنى : المخالفة) اي : مخالفة كلامهم (للواقع) وعدم ترتيب الاثر عليه ، لكن (مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم) وإنّما نحكم بصدقهم في اعتقادهم (لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد).

ومن المعلوم : ان في هذا الكلام من رواية الفضل حكمة رفيعة ، فان الغالب على المجتمعات البشرية هو : ان الناس فيها ـ ما لم يهذّبوا انفسهم ـ يلمز بعضهم البعض وينبزه ، وينتقص بعضهم بعضا ويتّهمه ، فلو أخذنا بذلك ورتّبنا عليه اثره ، لزم تفكّك الاجتماع وتفسّخه ، ووقاية لسلامة المجتمع أمرتنا الرواية بتصديق الاخ ما لم تتم موازين الشهادة ، فاذا تمت موازين الشهادة لزم اجراء الحدود درءا للفساد وقمعا للمفسدين.

وعليه : (فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبهما فيما يفهمان

__________________

(١) ـ انظر الكافي (روضة) : ج ٨ ص ١٤٧ ح ١٢٥ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٢٩٥ ب ١٥٧ ح ١٦٣٤٣ ، بحار الانوار : ج ٧٥ ص ٢١٤ ب ٦٥ ح ١١ ، ثواب الاعمال : ص ٢٩٥ ح ١ ، اعلام الدين : ص ٤٠٥.

٥٣

من ظواهر بعض الافعال من القبح ، كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب.

وكيف كان : فعدم وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن يحتاج الى البيان حتى المرسل الأوّل ، بقرينة ذكر الأخ وقوله : «ولا تظنّنّ ، الخبر».

______________________________________________________

من ظواهر بعض الافعال من القبح) اي : تخطئتهما فيما سمعاه وما رأياه ، وذلك (كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب) ما يظن انه (الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب) فتكذب بصرك عنه وتقول : انه يشرب السكنجبين لا الخمر ، وكذلك اذا سمعت شخصا يتكلم في مجلس يظن انه يغتاب فتكذّب سمعك عنه وتقول : انه لا يغتاب وإنّما ينقل القصة.

(وكيف كان : فعدم وفاء) دلالة (الأخبار بما نحن بصدده) من اثبات الملازمة بين الحسن وبين ترتيب الآثار الشرعية (أوضح من أن يحتاج الى البيان) عند المصنّف ، لظهورها بنظره في اكرام المؤمن وعدم اتهامه (حتى المرسل الأوّل) وهو : «ضع أمر أخيك على أحسنه» (١) لانه ـ بنظره ـ ليس بلازم وضعه على الأحسن ، حتى يقال : إنّ الأحسن هو : ما ترتّب عليه الاثر ، بل يكفي فيه عدم اتهامه ، وذلك (بقرينة ذكر الأخ) فان ذكره قرينة على ان الرواية تريد عدم اتّهامه حتى لا تنقطع الاخوّة بينهما (و) بقرينة (قوله : «ولا تظنّنّ) بكلمة خرجت من أخيك سوءا ...» (٢) الى آخر (الخبر») فانه صريح بنظر المصنّف في نفي ظن السوء عن الاخ وليس اكثر من ذلك.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦٢ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٢ ص ١٠.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦٢ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٢ ص ١٠.

٥٤

وممّا يؤيد ما ذكرنا أيضا ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق :

مثل : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تثقنّ بأخيك كلّ الثّقة ، فانّ صرعة الاسترسال لا تستقال».

______________________________________________________

أقول : لكن لا يخفى : ان امثال هذه الشواهد لا تضر بدلالة الروايات على التلازم الذي فهمه المشهور منها.

(وممّا يؤيد ما ذكرنا أيضا) من انه لا دلالة في هذه الروايات بنظر المصنّف على التلازم المذكور (ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق) والاعتماد عليه كل الاعتماد ، بل يلزم على الانسان ان يكون حذرا تجاهه ويعمل متوسطا معه ، حتى اذا ظهر الخلاف بينهما لا يكون قد سقط في مشكلة لا خلاص له منها.

(مثل : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تثقنّ بأخيك كلّ الثّقة ، فانّ صرعة الاسترسال لا تستقال» (١)) والاسترسال : هو الاستيناس والطمأنينة الى الانسان والثقة به فيما يحدّثه ، يعني : ان من يسترسل الى اخيه ويحدثه بكل اسراره وثوقا به ، قد يصرع احيانا ـ عند ظهور خلاف بينهما ـ صرعة لا يستطيع النهوض منها ، وذلك لان الصرعة ـ يعني : السقوط والهلاك ـ الناشئة من الاسترسال لا تتدارك.

أقول : لا يخفى ان حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح غير الاسترسال اليه والثقة به كل الثقة ، وذلك لأن الاسترسال هو : ان يطمئن اليه ويحدثه بنقاط ضعفه

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ١٤٧ ب ١٠٢ ح ١٥٨٩٨ ، أمالي الصدوق : ص ٦٦٩ ، مصادقة الاخوان : ص ٨٢ ح ٦.

٥٥

وممّا في نهج البلاغة عنه عليه‌السلام : «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر».

وفي معناه : قول أبي الحسن عليه‌السلام في رواية محمّد بن هارون الجلّاب : «إذا كان الجور أغلب من الحق ، لا يحلّ لاحد أن يظنّ بأحد خيرا ، حتى يعرف ذلك

______________________________________________________

وموارد اتهامه ، بحيث لو ظهر بينهما خلاف عرف الطرف بانه من اين يوجّه الضربة اليه ، وهذا المعنى لا ينافي حمل فعله على الصحيح ، فلا تعارض إذن بين هذه الرواية والروايات السابقة.

(وممّا في نهج البلاغة عنه عليه‌السلام : «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية) اي : قبيح (فقد ظلم) فاللازم ان يحسن الانسان الظن بالناس حتى لا يكون ظالما (واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» (١)) اي : صار مغرورا ، ولعل الفرق بين الزمان وأهله هو : ان الزمان قد يكون زمان رخاء ، فلا داعي للناس في السرقة ـ مثلا ـ وقد يكون زمان قحط ، لكن أهل ذلك الزمان متخلّقون بالاخلاق الاسلامية فلا يسرقون ، وهذا الحديث ايضا لا ينافي الحمل على الصحة ، اذ حسن الظن شيء ، والحمل على الصحيح شيء آخر ، وإن كانا قد يتصادقان.

(وفي معناه : قول أبي الحسن عليه‌السلام في رواية محمّد بن هارون الجلّاب : «إذا كان الجور أغلب من الحق ، لا يحلّ لاحد أن يظنّ بأحد خيرا حتى يعرف ذلك)

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ١١٤.

٥٦

منه» ، الى غير ذلك ممّا يجده المتتبّع ، فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة يحصل : بأن يراد من الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، والتوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار.

______________________________________________________

الخير (منه» (١)) أي : من ذلك الذي يراد به ظن الخير (الى غير ذلك ممّا يجده المتتبّع) في الروايات الواردة في هذا المجال.

وأمّا وجه التأييد : (فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة) الآمرة بحمل فعل الغير على الحسن (يحصل : بأن يراد من) مجموع هذه (الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، و) معنى مجرّد الحسن المستفاد ـ بنظر المصنّف ـ من الجمع بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار هو : (التوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار) فلا يرتب الأثر الشرعي عليه ، كوجوب ردّ السلام فيما لو شك في انه سلّم أو سبّ ، وإنّما لا يتهمه بالشتم ليترتب عليه الفسق ، وسقوط العدالة ، وما أشبه ذلك.

أقول : الظاهر : ان وجه الجمع العرفي بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار ـ على ما مرّ منّا ـ هو : حمل فعل الاخ وقوله على الحسن الملازم لحمله على الصحيح وترتيب الآثار الشرعية عليه ، وذلك في غير مجال الدعاوي والخصومات ، وفي غير مجال اخذ الحذر ممن تناله الالسن بسوء ، فان ترك الحذر منه والاعتماد عليه ويوقع الانسان في ندم ، وذلك كما لو اعطى ابنته بمجرد حسن الظن لخاطب تناله الالسن بانه خمّار ، أو اعطى سلعته نسيئة بلا استشهاد

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٨ ح ٢ ، اعلام الدين : ص ٣١٢ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٨٧ ب ٩ ح ٢٤٢١٦.

٥٧

ويشهد له ما ورد من : «أنّ المؤمن لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة ، فاذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيّرت فامض».

الثالث : الاجماع القولي والعملي

أمّا القولي : فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ،

______________________________________________________

ـ مثلا ـ لشخص تناله الالسن بانه متقلّب ، أو غير ذلك من اشباههما.

(ويشهد له) اي : لهذا الجمع الذي ذكره المصنّف : (ما ورد من : «أنّ المؤمن لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة) ومن الواضح ان لفظ : «المؤمن» باعتبار انه هو محل الكلام ، والّا فكل انسان الّا ما ندر لا يخلو عن هذه الثلاثة (فاذا حسدت فلا تبغ) والبغي هو الظلم يعني : لا تظلم من حسدته باظهار أثره بيد أو لسان (وإذا ظننت فلا تحقّق) يعني : لا تحسبه حقيقة حتى ترتب عليه اثر ، بل كذّب ظنك وخطّئه (وإذا تطيّرت فامض» (١)) ولا تلتفت اليه حتى ترتّب عليه اثره وتتوقف عن العمل ، والشاهد في هذا الحديث هو : الردع عن ترتيب الاثر على هذه الامور الثلاثة ، فيكون مؤيدا لجمع المصنّف بحسب نظره ، وقد ورد : ان «التوكل يذهب الطيرة» (٢) ، كما في جملة من الأخبار ، وقد ذكرناها في كتاب الآداب والسنن (٣) من الفقه.

(الثالث : الاجماع القولي والعملي) من الفقهاء على حمل فعل المسلم على الصحيح.

(أمّا القولي : فهو مستفاد من تتّبع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة) خصوصا

__________________

(١) ـ مجموعة ورام : ج ١ ص ١٢٧ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٥٨ ص ٣٢٠ ب ١١ ح ٩ (بالمعنى) ، النهاية لابن الاثير : ج ٣ ص ١٥٣.

(٢) ـ فقد ورد في الكافي (روضة) : ج ٨ ص ١٩٨ ب ٨ ح ٢٣٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٢ ص ٤٠٤ ب ٣٥ ، بحار الانوار : ج ٥٥ ص ٣٢٢ (كفارة الطيرة التوكّل).

(٣) ـ راجع موسوعة الفقه ج ٩٤ ـ ٩٧ كتاب الآداب والسنن للشارح.

٥٨

فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابق للاصل وإن اختلفوا في ترجيحه على سائر الاصول كما ستعرف.

وأمّا العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلّا مكابرة.

______________________________________________________

في مسألة التداعي من كتاب القضاء (فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابق للاصل) اي : ان الاصل مع مدعي الصحة فهو الذي يلزم قبول قوله ، أمّا مدعي الفساد ، فاللازم عليه ان يأتي بالدليل ، سواء في البيع أو الرهن أو الاجارة أو النكاح أو غيرها.

وإنّما قال المصنّف : «في الجملة» ولم يقل : مطلقا ، لانه اراد ان يشير بذلك الى ما اختلف فيه هنا بقوله : (وإن اختلفوا في ترجيحه) اي : ترجيح أصل الصحة (على سائر الاصول) اي : انهم وان لم يختلفوا في تقديم أصالة الصحة على أصل الفساد ، لكنهم اختلفوا في ان أصل الصحة هل يقدّم على سائر الاصول ايضا عند التعارض ام لا؟ كأصل البراءة فيما لو قال زيد : وهبني عمرو دينارا وانا قبضت منه الدينار ، وقال عمرو : لم أهبه حين وهبته وانا جامع للشرائط ، فان مع عمرو أصل البراءة ، ومع زيد أصل الصحة ، فهل يقدّم على البراءة ايضا أم لا؟ ، (كما ستعرف) ذلك عن قريب ان شاء الله تعالى.

(وأمّا) الاجماع (العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار) والأمصار (على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم) الأعم من مثل الايقاعات كالطلاق والعتق وما اشبه ذلك (ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلّا مكابرة) بل قد عرفت سابقا : إنّ الحمل

٥٩

الرابع :

العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يبن على هذا الاصل لزم اختلال نظام المعاد والمعاش ،

______________________________________________________

على الصحيح جار بين الكفار بعضهم مع بعض ، وبين المسلمين والكفار بعضهم مع بعض ، فهو أصل عقلائي يلتزم به الكل ، الّا في مورد علم الخلاف أو قيام دليل عليه.

(الرابع : العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يبن على هذا الاصل لزم) ما يلي :

أوّلا : (اختلال نظام المعاد) وقال : «المستقل» لأنّ بعض أحكام العقل يتمّ بانضمام الحكم الشرعي ، بينما بعض احكام العقل يكون مستقلا سواء كان شرعا أو لم يكن ، فأصالة الصحة إذن من المستقلات العقلية.

وقال : «اختلال نظام المعاد» لانه لو لا اصل الصحة لم يتمكن احد من الصلاة في ثوب اشتراه من الغير ، لاحتمال كونه سرقة ، ولا في ثوب طهّره الغير ، لاحتمال كونه نجسا ، كما لم يتمكن احد من الاكتفاء باعمال الغير في الواجبات الكفائية ، لاحتمال عدم القيام بها صحيحا ، ولا أن يأخذ نائبا في قضاء العبادات عن ميّته ، ولا عن نفسه فيما يجوز له ذلك ، كاستنابته لرمي الجمار ، أو للذبح ، أو للطواف عنه ، أو ما أشبه ذلك اذا كان هو غير قادر عليها ، لاحتمال عدم اتيان النائب بها ، وهكذا.

ثانيا : (والمعاش) اي : يلزم من عدم البناء على الصحة اختلال نظام المعاش ايضا لأنه اذا لم نحمل فعل الغير على الصحيح ، يلزم ان لا نتمكن من المعاملة مع أكثر الناس ، للشك في صحة معاملاتهم ، فلعل ما يبيعونه سرقة أو غصب أو ما أشبه ذلك.

٦٠