الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ولذا فرّع الإمام عليه‌السلام قوله : «صم للرؤية وافطر للرؤية» على قوله : «اليقين لا يدخله الشك».

وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين

وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع.

فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

______________________________________________________

(ولذا) أي : لورود الاستصحاب على التخيير (فرّع الإمام عليه‌السلام قوله) في جواب السائل عن حكم الشك : («صم للرؤية وافطر للرؤية» على قوله : «اليقين لا يدخله الشك») فان الرواية تقول : «اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية» (١) فالجملة الاولى منها تمهيد لقاعدة الاستصحاب والجملة الثانية تفريع عليها ، وهو انه إذا شك وكان في الثلاثين من شهر شعبان فليستصحب شعبان ، وإذا كان في الثلاثين من شهر رمضان فليستصحب شهر رمضان ، فالاستصحاب مقدّم على التخيير وان تردّد الأمر بادي النظر بين المحذورين.

(وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين ، وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع) في كلماتهم ، حيث انهم تارة قدّموا هذا الاستصحاب ، وتارة قدّموا الاستصحاب الثاني عليه ، ممّا أوقعهم في التدافع بين كلامهم.

وكيف كان : (فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٤ ص ١٥٩ ب ١ ح ١٧ ، الاستبصار : ج ٢ ص ٦٤ ب ٣٣ ح ١٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٠ ص ٢٥٦ ب ٣ ح ١٣٣٥١.

١٦١

من حيث كونهما موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين ،

______________________________________________________

من حيث كونهما موضوعيّين) كاستصحاب عدم موت زيد إلى حين موت عمرو ، واستصحاب عدم موت عمرو إلى حين موت زيد ، فيما إذا اشتبه تقدّم موت أحدهما على الآخر (أو حكميّين) كاستصحاب نجاسة الثوب المغسول فيما كان نجسا سابقا ، وبقاء طهارة الماء المغسول به فيما كان طاهرا سابقا ، لأنه كان كرا مثلا ، فيشك الآن في كريّته ، فان الاستصحابين متعارضان في الظاهر ، لكن التعارض بينهما فيما نحن فيه ليس حقيقة التقابل ، ممّا يتحيّر في انه هل يؤخذ بهذا أو بذاك؟ بل مجرّد التقابل الصوري البدوي ولو بأن كان أحدهما سببيا والآخر مسبّبيا أو ما أشبه ذلك.

(أو مختلفين وجوديّين) كاستصحاب كريّة الماء فيما كان كرّا سابقا ، واستصحاب نجاسة الثوب الواقع فيه فيما كان نجسا سابقا ، فان كرّية الماء من استصحاب الموضوع ونجاسة الثوب من استصحاب الحكم ، وهما وجوديّان (أو عدميّين) كاستصحاب عدم حصول ملاقاة النجاسة مع الماء إلى زمان الكرّية ، واستصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة.

(أو مختلفين) كاستصحاب عدم التذكية عدما ، واستصحاب طهارة الجلد المطروح في الصحراء الثابتة حال الحياة وجودا.

(وكونهما في موضوع واحد) كما تقدّم من كلام النراقي في مثال : «صم يوم الخميس» حيث استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس.

(أو) في (موضوعين) كاستصحاب كرّية الماء ، واستصحاب نجاسة الثوب

١٦٢

وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج ، إلى غير ذلك.

إلّا أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلّا من جهة واحدة ، وهي أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس ، وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث ،

______________________________________________________

الواقع فيه ـ مثلا ـ.

(وكون تعارضهما بأنفسهما) أي : لا بأمر خارج عنهما ـ على ما يأتي مثال الخارج ـ وذلك كجملة من الأمثلة السابقة.

(أو بواسطة أمر خارج) عنهما كحصول العلم الاجمالي ـ بعد التوضّؤ بماء مشتبه بالنجس ـ بارتفاع أحد أمرين : إمّا ارتفاع الحدث ، أو ارتفاع طهارة البدن ، فان استصحاب طهارة البدن يعارضه استصحاب الحدث.

(إلى غير ذلك) من التقسيمات ، مثل وجود المرجّح لأحد الاستصحابين ، وعدم وجود المرجّح للآخر ، ونحو ذلك.

(إلّا أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلّا من جهة واحدة ، وهي) أي : تلك الجهة (أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس) أي : بأن لا يكون الآخر مسبّبا عنه ، لأنّ ذلك محال كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإنّ السببية والمسبّبية لا يمكن التقابل فيهما ، بل إذا كانت هناك سببية ومسبّبية كان أحدهما سببا والآخر مسبّبا.

(وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث) كاستصحاب عدم حصول الكرية إلى زمان ملاقاة النجاسة مع الماء ، واستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمان الكرية.

١٦٣

وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول.

وما توهّم له : «من التمثيل بالعامّين من وجه وأنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشّك في أصالة العموم في الآخر مندفع : بأنّ الشّك في الأصلين مسبّب عن العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما.

وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

______________________________________________________

هذا (وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول) لوضوح : ان السبب لشيء لا يكون مسبّبا عن نفس ذلك الشيء ، إذ لا يعقل ان يكون هناك شيئان كل واحد منهما سببا للآخر ومسبّبا عنه.

(وما توهّم له : «من التمثيل بالعامّين من وجه) كما إذا قال المولى : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم الفساق ، الذي يبدو انهما متعارضان في مادّة الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، فان أحد العامين في مادة الاجتماع هذه إمّا أن يخصّص بالآخر لمرجّح ، أو يكون له حكم ثالث كالتخيير ـ مثلا ـ (و) ذلك لاحتمال السببي والمسبّبي في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر يعني : (أنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشك في أصالة العموم في الآخر») وبعبارة اخرى : ان الشك في بقاء عموم كل منهما مسبّب عن الشك في بقاء عموم الآخر.

وعلى كل حال : فإنّ هذا التوهّم (مندفع : بأنّ الشك في الأصلين مسبّب عن) شيء ثالث وهو : (العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما) بالآخر في مادة الاجتماع ، ولذا فان كان مرجّح خصّصنا به أحدهما ، وإلّا فالتخيير بينهما وهو حكم ثالث ، لا أنّ كل واحد منهما سبب للآخر ومسبّب عنه.

(وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين) كالتالي :

١٦٤

القسم الأوّل :

ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ، مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب عن الشك في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيستصحب طهارته ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب ، خلافا لجماعة.

______________________________________________________

(القسم الأوّل : ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر) كالشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاع النجاسة ، المسبّب هذا الشك عن الشك في بقاء طهارة الماء المسبوق بالكرية وارتفاعها (فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه) أي : في الشك السببي (ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر) الذي هو الشك المسبّبي.

(مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس) فيما إذا كان هناك ماء مسبوق بالكرّية ، ثم أخذ منه مقدار يشك معه بقاء كرّيته ، ثم غسل فيه ثوب نجس ، فشككنا بعده في انه هل طهر هذا الثوب أم لا؟ وهل تنجس ذلك الماء أم لا؟ (فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها) أي : ارتفاع نجاسة الثوب (مسبّب عن الشك في بقاء طهارة الماء) المسبوق بالكرية (وارتفاعها) أي : ارتفاع طهارة الماء (فيستصحب طهارته) أي : طهارة الماء ، لأنه سببي (ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب) لأنه مسبّبي ، ومعه لا يبقى مجال لاجراء استصحاب النجاسة ، وذلك (خلافا لجماعة) من الفقهاء ، حيث قالوا بالتعارض بين الاستصحابين المذكورين.

١٦٥

لوجوه :

أحدها : الاجماع على ذلك في موارد لا تحصى ، فانّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية ـ كالطهارة من الحدث والخبث ، وكرّية الماء وإطلاقه ، وحياة المفقود ،

______________________________________________________

وإنّما قلنا بلزوم تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي (لوجوه) أربعة ، كما في كلام المصنّف ، علما بأن المصنّف أيّد الوجه الأوّل بأمرين آخرين إضافة إلى الوجوه الأربعة ، وهما : السيرة وبناء العقلاء ، والوجوه الأربعة هي كما يلي :

(أحدها :) أي : الوجه الأوّل من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : (الاجماع على) تقديم السببي على المسبّبي ، و (ذلك في موارد لا تحصى) من الفقه (فانّه لا يحتمل الخلاف) من أحد من الفقهاء (في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية) دون الاستصحاب في لوازمها والمصنّف يشير إلى بعض من أمثلته :

(كالطهارة من الحدث والخبث) فان الانسان إذا كان طاهرا من الحدث والخبث وشرع في الصلاة ، ثم شك في انه هل بقي على طهارته أم لا؟ فانه يستصحب الملزوم وهو هنا الطهارة ويحكم بصحة الصلاة ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم صحة الصلاة.

(وكرّية الماء واطلاقه) فانه إذا شك في بقائهما يستصحبان لأنهما ملزومان ، فيحكم بطهارة الثوب النجس المغسول بهذا الماء ، ولا يستصحب نجاسة الثوب لأنه لازم.

(وحياة المفقود) فيما إذا مات أبوه ـ مثلا ـ وهو غائب ، فلم نعلم هل انه موجود حتى يرث من مورّثه الذي مات ، أو انه ميت حتى لا يرث منه؟

١٦٦

وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج ونحو ذلك ـ على استصحاب عدم لوازمها الشرعيّة ، كما لا يخفى على الفطن المتتبّع.

نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات يعارض أحدهما بالآخر ، كما سيجيء ، ويؤيده السيرة المستمرّة بين الناس على ذلك

______________________________________________________

فنستصحب الملزوم وهو هنا حياة المفقود ، فيرث من مورّثه ، ولا نستصحب اللازم وهو هنا عدم انتقال شيء من المال إليه.

(وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج) فانه إذا شك من اشتغال ذمته بدين لا يتمكن مع هذا الدين من الحج لعدم استطاعته ، فانه يستصحب الملزوم وهو هنا عدم اشتغال ذمته بالدين ، فيجب عليه الحج ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب الحج عليه.

(ونحو ذلك) كاستصحاب الزوجية فيما لو قال الزوج لزوجته : «أنت بتلة» ثم شك في بقاء الزوجيّة المستلزمة لوجوب النفقة فانه يستصحب بقاءها ، فتجب النفقة ، لا انه يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب النفقة ، فان هذا الاستصحاب وغيره من أمثاله ، الجاري في الملزومات الشرعية مقدّم (على استصحاب عدم لوازمها الشرعية) بلا إشكال من أحد (كما لا يخفى على الفطن المتتبّع) لكلمات الفقهاء.

(نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات) من الفقه (يعارض أحدهما) أي : أحد هذين الاستصحابين (بالآخر ، كما سيجيء) إن شاء الله تعالى عند ذكر الأقوال في المسألة.

(ويؤيده) أي : يؤيّد الاجماع القائم على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي (السيرة المستمرّة بين الناس على ذلك) أي : على التقديم

١٦٧

بعد الاطّلاع على حجيّة الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة.

الثاني أنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي مانع

______________________________________________________

المذكور ، لكن (بعد الاطلاع على حجيّة الاستصحاب) فان سيرة المسلمين بعد اطلاعهم على اعتبار الاستصحاب يكون بتقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

(كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة) وديدن العقلاء ، فان بناء العقلاء أيضا على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ، فإذا غاب الزوج عن زوجته طويلا ـ مثلا ـ بحيث صارت المرأة تشك في انه هل مات زوجها أم لا؟ تستصحب بقاء الزوج فلا تتزوج ، وإذا شكّوا في الموكّل هل مات حتى لا تصح أعمال الوكيل ، أو هو حي حتى تصحّ أعماله؟ يستصحبون حياته ، وإذا مات أحدهم عزلوا من تركته حصة الغائب من ورثته ، إلى غير ذلك.

(الثاني) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : ان الدليل الشرعي الدال على حجية الاستصحاب ، إنّما يختصّ بالأصل السببي فقط ، ولا يشمل الأصل المسبّبي لما قال : (أنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» (١)) عام يشمل بلا إشكال ولا خلاف الشك السببي ، وذلك (باعتبار) دلالة : «لا تنقض اليقين بالشك» عليه ، فان (دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي) لأنه فرد من أفراد هذا العام (مانع) للعام :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

١٦٨

عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي.

يعني : أنّ نقض اليقين يصير نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في «لا تنقض».

واللازم من شمول «لا تنقض» للشك المسبّبي نقض اليقين في مورد الشك السببي ، لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ،

______________________________________________________

«لا تنقض» (عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي).

مثلا : إذا شك في طهارة الماء الذي كان مسبوقا بالكرية والاطلاق ، بعد غسل ثوب نجس فيه ، فانه يستصحب الكرّية والاطلاق ويحكم بطهارته ، فيزول شكه في نجاسة الثوب المغسول به ، فلا يبقى معه مجال لاستصحاب نجاسة الثوب.

وبعبارة اخرى : (يعني : أنّ نقض اليقين) بنجاسة الثوب حيث يحكم بطهارته بعد غسله بذلك الماء المستصحب الكرية والاطلاق (يصير نقضا بالدليل لا بالشك) وإذا كان نقضا بالدليل (فلا يشمله النهي في «لا تنقض») حتى يقال : بأن نجاسة الثوب كانت متيقّنة ، فشككنا في طهارته بعد غسله بهذا الماء فنستصحب نجاسته؟.

هذا (و) لا يمكن العكس ، بأن نستصحب نجاسة الثوب ، ونخرج استصحاب كرّية الماء وإطلاقه من دليل لا تنقض ، لأن (اللازم من شمول «لا تنقض» للشك المسبّبي) الذي هو نجاسة الثوب (نقض اليقين في مورد الشك السببي) الذي هو كرية الماء وإطلاقه وذلك (لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه) أي : في مورد الشك السببي ، والقول بلا دليل تحكّم.

والحاصل : انّ الشك السببي فرد للعام : «لا تنقض» فإذا شمله العام خرج الشك المسبّبي عن كونه فردا له ، لانتفاء موضوع الشك في المسبّبي ، امّا إذا قلنا

١٦٩

فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي طرح عموم : «لا تنقض» من غير مخصّص ، وهو باطل.

واللازم من اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر.

وتبيان ذلك أنّ معنى عدم نقض اليقين رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ،

______________________________________________________

بشمول العام للمسبّبي ، فبما ذا يخرج الشك السببي عن كونه فردا للعام؟.

وبعبارة اخرى : (فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي) واجراء الاستصحاب في الشك المسبّبي (طرح عموم : «لا تنقض») بالنسبة إلى الشك السببي (من غير مخصّص ، وهو باطل) لأن العام إنّما يخصّص لو كان هناك دليل مخصّص (و) هنا لا مخصّص للشك السببي.

بينما (اللازم من) اجراء الاستصحاب في الشك السببي ، و (اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم) أي : عموم «لا تنقض» (لشمول المورد) أي : مورد الشك المسبّبي (وهو غير منكر) عند أهل اللسان ، لأنه من باب الحكومة ، كما بيّنا ذلك سابقا ، فاستصحاب الشك السببي حاكم على استصحاب الشك المسبّبي.

(و) أمّا (تبيان ذلك) أي : بيان وجه تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي فهو : (أنّ معنى عدم نقض اليقين) الوارد في الرواية هو : (رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن) فالشارع منع عن رفع اليد حيث قال : «لا تنقض» فمعنى استصحاب إطلاق الماء وكريّته بمقتضى : «لا تنقض اليقين بالشك» هو : رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء.

١٧٠

فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلّا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ، إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة ، وهو طرح لعموم : «لا تنقض» من غير مخصّص.

أمّا الحكم بزوال النجاسة ، فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلّا بحكم

______________________________________________________

وعليه : (فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلّا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب) المغسول بهذا الماء ، وإلّا فأيّ معنى لاستصحاب طهارة الماء؟ (إذ الحكم بنجاسته) أي : نجاسة الثوب بعد غسله بهذا الماء المستصحب الطهارة (نقض لليقين بالطهارة المذكورة) للماء ، وذلك (بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة) في الثوب ، لأن الشارع إذا حكم بنجاسة الثوب ، فامّا أن يحكم بالنجاسة السابقة (وهو) نقض لطهارة الماء بلا دليل ، وامّا أن يحكم بالنجاسة لأجل نجاسة جديدة بعد غسله بهذا الماء ، ومعلوم : انه لم يحكم الشارع بطروّ نجاسة على هذا الثوب.

إذن : فالحكم ببقاء نجاسة الثوب (طرح لعموم : «لا تنقض») اليقين بالشك (من غير مخصّص) وذلك لأنّا إذا لم نحكم بطهارة الماء الثابتة بالاستصحاب كنّا قد خصّصنا لا تنقض بلا مخصّص ، بينما إذا لم نحكم بنجاسة الثوب كنا قد خصّصنا لا تنقض بسبب مخصّص ، والمخصّص هو : خروج هذا الفرد المستصحب النجاسة عن عموم : «لا تنقض» خروجا بسبب بقاء طهارة الماء تحت عموم : «لا تنقض».

ولذا قال المصنّف : (أمّا الحكم بزوال النجاسة) عن الثوب المغسول بهذا الماء المستصحب الطهارة (فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلّا بحكم

١٧١

الشارع بطروّ الطهارة على الثوب.

والحاصل : أنّ مقتضى عموم : «لا تنقض» للشك السببي نقض الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي.

ودعوى «أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء» ، مدفوعة :

أولا : بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة

______________________________________________________

الشارع) الذي حكم (بطروّ الطهارة على الثوب) بسبب ان الماء طاهر ، فحكومة طهارة الماء على نجاسة الثوب حكومة شرعية.

(والحاصل : أنّ مقتضى عموم : «لا تنقض» للشك السببي) حيث إنّ : «لا تنقض» يشمل الشك السببي (نقض الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي) لأنه بعد جريان «لا تنقض» في الشك السببي لا يبقى مورد للشك المسبّبي.

هذا (ودعوى) انه لا فرق بين الفردين السببي والمسبّبي في الدخول تحت العام ، فما وجه اخراج أحدهما دون الآخر؟ فإنّه كما قال : («أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ) الذي هو «لا تنقض» (فلا وجه لطرحه) أي : طرح هذا الفرد (وإدخال اليقين بطهارة الماء») وهو الفرد الآخر في عموم «لا تنقض».

هذه الدعوى (مدفوعة :) بما عرفت : من حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، دون العكس ، فليس الأصل المسببي حاكما على الأصل السببي حتى يكون المسبّبي مخرجا للسببي ، فالدعوى إذن مدفوعة بذلك حلا ، وبغيره نقضا كما قال المصنّف :

(أولا :) نقضا (بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة) في الثوب هو

١٧٢

أيضا : رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور إلّا أن نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده.

وثانيا : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر ،

______________________________________________________

(أيضا : رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه) أي : ملاقي هذا الثوب (وغيرها) أي : غير الطهارة من الآثار الاخرى (فيعود المحذور) الذي هو : تقديم الشك السببي على المسبّبي ، يعني :

انّه إذا قلتم ببقاء نجاسة الثوب ، ثم لاقى الثوب ماء قليلا ، فانكم تقولون بنجاسة هذا الماء الملاقي للثوب ، مع انه من الأصل السببي والمسبّبي ، فيستشكل : بأنّه لما ذا قلتم بنجاسة هذا الماء القليل ، الملاقي للثوب المستصحب النجاسة ، ولم تقولوا بجريان استصحاب الطهارة فيه ، مع انكم أجريتم استصحاب النجاسة في نفس الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة؟ فالفرق لما ذا مع انه لا فرق بينهما؟.

(إلّا أن) يقول المدّعي : (نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة) الماء القليل (الملاقي) للثوب المستصحب النجاسة ، وذلك بأن يقول : أي : المدّعي ـ إنّا كما نقول ببقاء نجاسة الثوب هناك وان غسل بذلك الماء المستصحب الطهارة ، فكذلك نقول هنا ببقاء طهارة هذا الماء القليل وان لاقاه الثوب المستصحب النجاسة (و) لكن (سيجيء فساده) أي : فساد هذا الالتزام فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(وثانيا :) حلا بالحكومة ، وهو : (أنّ نقض يقين النجاسة) في الثوب إنّما هو (بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر)

١٧٣

وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة.

بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة كنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعي على نجاسته ، لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ، بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل

______________________________________________________

هذه هي الكبرى ، وقد ثبتت بالدليل ، والصغرى وهي : ان هذا الماء طاهر يثبت بالأصل كما قال : (وفائدة استصحاب الطهارة) في الماء هو : (إثبات كون الماء طاهرا به) أي : بالأصل وهو الاستصحاب ، فإذا تشكلت صغرى تقول : هذا الماء طاهر ، وكبرى تقول : الماء الطاهر يطهّر كل نجس يغسل به مثل الثوب وغيره ، أنتج : هذا الثوب المغسول بهذا الماء قد طهر.

وإنّما نحكم بدخول هذا الفرد وهو الماء في المثال في دليل الاستصحاب ، دون الفرد الآخر وهو الثوب ، للحكومة ، فيكون التخصيص بدليل (بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة) أي : بخلاف ما إذا قلنا بأن الماء ليس بطاهر لأن الثوب نجس ، فانه لم يكن هناك دليل على عدم طهارة الماء ، فيكون التخصيص بلا دليل.

(بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة) في الثوب (كنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء) الذي غسل به هذا الثوب (من غير ورود دليل شرعي على نجاسته) أي : نجاسة الماء ، وذلك (لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء) المستصحب كرّيته كما هو واضح (بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانه يوجب زوال نجاسة الثوب) زوالا (بالدليل

١٧٤

الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بالنجاسة لقيام الدليل على طهارته.

هذا ، وقد يشكل بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدّ سواء ،

______________________________________________________

الشرعي ، وهو) أي : ذلك الدليل الشرعي : (ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر) طهارة واقعية ، أو طهارة استصحابية (يطهر).

إذن : (فطرح اليقين بالنجاسة) في الثوب إنّما هو (لقيام الدليل على طهارته) أي : طهارة هذا الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة دون العكس.

(هذا) هو جواب اشكال المدّعي الذي ذكره المصنّف بقوله : «ودعوى إنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العام ...».

(وقد يشكل) باشكال ثان غير اشكال الدعوى ، وهو : انا نسلّم بأن اجراء الأصل في الشك السببي موجب لارتفاع الشك المسبّبي ، الباعث على أن يكون الشك السببي حاكما على الشك المسبّبي ، إلّا انه لا وجه لاعتبار الاستصحاب أولا في جانب السبب حتى يكون حاكما على المسبّب ، بل ينبغي اعتبار الاستصحابين : السببي والمسبّبي في عرض واحد دفعة واحدة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويكون المرجع شيء ثالث ، لا تقديم السببي.

إذن : فالاشكال يقول : (بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به) أي : بذلك الماء (كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته) أي : نسبة هذا الحكم (إليهما) أي : إلى اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب (على حدّ سواء) فلا يكون أحدهما مقدّما

١٧٥

لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أولا حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه.

والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ، كما فيما نحن فيه ، فاسد بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.

ويدفع

______________________________________________________

على الآخر (لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على) حد (سواء ، فكيف يلاحظ) كما تذكرون أنتم (ثبوت هذا الحكم) الاستصحابي (لليقين بالطهارة أولا) ليكون حاكما على اليقين بنجاسة الثوب (حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة) بسبب محكوميّته ، وذلك (لأنّه) أي : نقض اليقين بالنجاسة (مدلوله) أي : مدلول استصحاب طهارة الماء (ومقتضاه) حينئذ؟.

(والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ) «لا تنقض» (لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم) ويسمّى تخصيصا ، وذلك كما إذا كان السببي والمسبّبي بين حكمين (أو) سببا لخروج بعض الأفراد (عن الموضوع) ويسمّى تخصّصا ، وذلك (كما فيما نحن فيه) أي : بأن كان السببي والمسبّبي بين موضوعين (فاسد بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة) لذلك العام : «لا تنقض» فلا وجه لتقديم أحد الفردين على الفرد الآخر ، وذلك طبعا (مع قطع النظر عن ثبوت الحكم) وهو حرمة النقض لبعض الافراد الموجب لتخصيص الآخر ، أو تحصّصه.

(ويدفع) هذا الاشكال بوجهين على النحو التالي :

١٧٦

بأنّ فرديّة أحد الشيئين إذا توقف على خروج الآخر المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ولم يجز رفع اليد عن العموم ، لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقّف على شمول العامّ لذلك الشيء المفروض توقف فرديّته على رفع اليد عن العموم ، وهو دور محال.

______________________________________________________

الوجه الأوّل : (بأنّ فرديّة أحد الشيئين) للعام كالمسبّبي (إذا توقف على خروج) الفرد السببي ، وهو الفرد (الآخر المفروض الفرديّة) خروجا له (عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته) أي : فرديّة المسبّبي (ولم يجز رفع اليد عن العموم) في السببي.

وبعبارة اخرى : إن فردية الشك المسبّبي لعموم «لا تنقض» يتوقف على خروج الشك السببي عن الفردية ، لأن مقتضى فردية الشك السببي لعموم «لا تنقض» وجريان الاستصحاب فيه هو : انتفاء الشك في جانب المسبّب ، فينتفي فردية المسبّبي ، وإذا كان الأمر كذلك لزم الحكم من الأوّل بعدم فردية الشك المسبّبي ، لا خروج الشك السببي عن الفردية ، إذ خروج الشك السببي عن الفردية بالاضافة إلى انه يكون بلا دليل مستلزم للدور كما يلي :

قال : وإنّما لم يجز رفع اليد في الشك السببي عن عموم : «لا تنقض» (لأنّ رفع اليد حينئذ) أي : حين توقف فردية الشك المسبّبي على خروج فردية الشك السببي (عنه) أي : عن عموم : «لا تنقض» مع فرض انه شامل له (يتوقّف على شمول العامّ) «لا تنقض» (لذلك الشيء) الذي هو الشك المسبّبي (المفروض توقف فرديّته) أي : الشك المسبّبي (على رفع اليد عن العموم) في الشك السببي (وهو دور محال) لأن دخول هذا متوقف على خروج ذاك ، وخروج ذاك متوقف على دخول هذا.

١٧٧

وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ من قبيل لازم الوجود للشك السببي ، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلّا محكوما.

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : انّ فردية الشك المسببي لعموم «لا تنقض» موقوف على عدم شمول هذا العموم للشك السببي ، وعدم شمول العموم للشك السببي موقوف على فردية الشك المسبّبي لهذا العموم ، وهو دور صريح ، لأن حاصله : انّ فردية الشك المسبّبي موقوف على فردية الشك المسبّبي.

الوجه الثاني : (وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ) في «لا تنقض» وهو : حرمة النقض لازم لموضوع العام الذي هو العموم ، فيكون الحكم متأخرا عن العام ، لأن المحمول متأخر عن الموضوع طبعا ، والشك المسبّبي أيضا لازم للشك السببي ، فيكون متأخرا عن الشك السببي ، فالشك السببي إذن ملزوم له لازمان ، وإذا كان كذلك ، كان اللازمان : الشك المسبّبي ، وحكم العام ، كلاهما في مرتبة واحدة متقارنين وحينئذ لا يمكن أن يكون حكم العام حكما للشك المسبّبي ، لأن الشيء الذي في مرتبة شيء آخر لا يكون حكما لذلك الشيء الآخر ، إذ مرتبة الحكم متأخرة ، ومرتبة الشيء المقارن مقارنة ، ولا يمكن أن يكون المقارن مؤخّرا.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ان حكم العام الذي هو حرمة النقض (من قبيل لازم الوجود للشك السببي) وذلك لأنّ فردية الشك السببي للعام : «لا تنقض» لا يتوقف على شيء آخر (كما) لا تتوقف الزوجية اللازمة الوجود للأربعة على شيء آخر ، وهذا التلازم (هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه) أي : موضوع الحكم الشرعي ، فإن الحكم دائما يكون متأخرا عن موضوعه ولازما له ، فإذا قلنا ـ مثلا ـ : الماء مباح ، كانت الاباحة حكما للماء ولازما له ، وحينئذ (فلا يوجد) الشك السببي (في الخارج إلّا محكوما) بحرمة النقض.

١٧٨

والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ، فيكون حكم العامّ وهذا الشكّ لازمان لملزوم ثالث في مرتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر ، لتقدّم الموضوع طبعا.

الثالث :

______________________________________________________

هذا (والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك) السببي ، وذلك لأنه لو لم يكن شك في طهارة الماء لم يكن شك في بقاء نجاسة الثوب (فيكون حكم العامّ) الذي هو حرمة النقض (وهذا الشكّ) المسبّبي (لازمان لملزوم ثالث) وهو العام ، فيكونان (في مرتبة واحدة) لأنهما لازمان ، واللازمان مرتبتهما واحدة مثل : ضوء الشمس وحرارتها ، حيث ان الضوء والحرارة في مرتبة واحدة (فلا يجوز أن يكون أحدهما) الذي هو الشك المسبّبي (موضوعا للآخر) يعني : لحرمة النقض حتى يكون الشك المسبّبي محرّم النقض ، كما لا يجوز أن يكون النور أو الحرارة أحدهما موضوعا للآخر (لتقدّم الموضوع طبعا).

والحاصل : ان الشك المسبّبي في مرتبة الحكم للعام ، فكيف يكون الشك المسبّبي موضوعا لحكم العام؟.

(الثالث :) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : إدخال افراد أكثر في الاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية :

الأوّل : الاستصحاب الحكمي ، وهو أن نستصحب حكما تكليفيا ، مثل استصحاب وجوب الصوم في يوم الشك من آخر شهر رمضان.

الثاني : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، وهو

١٧٩

أنّه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشك السببي كان الاستصحاب قليل

______________________________________________________

ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي ثابت سابقا ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر ، ممّا يكون استصحاب الموضوع موافقا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل : استصحاب حياة الزوج الموافق لاستصحاب وجوب نفقة زوجته.

الثالث : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي المخالف ، وهو ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي حادث مسبوق بالعدم ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر الحادث ، ممّا يكون استصحاب الموضوع معارضا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل استصحاب طهارة الماء لترتيب طهارة الثوب المغسول به ، المعارض لاستصحاب نجاسة الثوب ، وتعارضهما على نحو السببي والمسبّبي.

وعلى هذا : فان قلنا بتقديم السببي على المسبّبي ، كان للاستصحاب فردان : القسم الأوّل ، والقسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني وهو الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، فهو مستغني عنه ، لأنّ استصحاب الحكم فيه يغني عن استصحاب الموضوع ، فيكون من القسم الأوّل.

هذا لو قلنا بتقديم السببي ، لكن لو قلنا بتعارض السببي والمسبّبي فانه لم يبق للاستصحاب إلّا فرد واحد فقط وهو الاستصحاب الحكمي ، فلا يجري حينئذ الاستصحاب الموضوعي أصلا ، ويكون الاستصحاب قليل الفائدة ، فحمل «لا تنقض» على ما تقل فائدته غير تامّ ، بعد امكان حمله على ما تكثر فائدته.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : (أنّه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشك السببي) على الاستصحاب في الشك المسبّبي (كان الاستصحاب قليل

١٨٠