الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لكن التحقيق : أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ، لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فانّ بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعي.

______________________________________________________

لا أصل الصحة ، ولهذا قال المصنّف : بأن في تقديمه نظر.

ثم إنّ المصنّف رجع وقال : (لكن التحقيق) أن ما ذكرناه من قولنا : «ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر» غير تام ، بل اللازم القول بتقديم أصالة الصحة على أصالة الفساد ممّا يترتب عليه صحة مثل هذا العقد ، ووجه ذلك هو : (أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد) لكن (لا من حيث الحكم شرعا) بوجود الضدّ ، يعني : الحكم (بصدور العقد من غير بالغ) فانه ليس هناك في الشريعة موضوعان : العقد الصادر عن البالغ وهو صحيح ، والعقد الصادر من غير البالغ وهو فاسد ، حتى يكون الصحة والفساد حكمين متضادّين ، بل هما حكمان متناقضان لموضوعين متناقضين ، فموضوع الصحة : صدور العقد من البالغ ، وموضوع الفساد : عدم صدوره منه ، كما قال : (بل من حيث الحكم) شرعا بنقيض : صدور العقد من البالغ وهو : الحكم (بعدم صدور عقد من بالغ) فان البلوغ شرط للمتعاقدين ، فإذا لم يكن أحد المتعاقدين بالغا لم يكن العقد مستجمعا للشرائط فلم يكن عقد من بالغ ، لا انه كان عقد من غير بالغ.

وعليه : (فانّ) الفساد الموجب (بقاء الآثار السابقة للعوضين) وذلك بأن يكون كل واحد من العوضين لمالكه السابق ، هذا الفساد (مستند إلى) نقيض السبب الشرعي يعني : (عدم السبب الشرعي) الذي هو : عدم صدور العقد من بالغ ، وليس مستندا إلى ضد السبب الشرعي الذي هو : صدور العقد من غير البالغ ، وإذا كان كذلك لم يكن الأصلان : الصحة والفساد في رتبة واحدة

١٢١

فالحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع الصادر من بالغ ، وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد.

وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة من حيث احراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب ، لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة

______________________________________________________

حتى يتساقطان ، بل أحد الأصلين وهو أصل الصحة حاكم على أصل الفساد ، لأن أصل الصحة يثبت ان هذا الموجود سبب للنقل ، بينما أصل الفساد يقول : لا سبب للنقل ، فهما من قبيل بيّنتين إحداهما تقول : لا أعلم عدالة زيد ، والاخرى تقول : أعلم عدالته ، فمدّعي العلم مقدّم على مدّعي عدم العلم بالحكومة.

إذن : (فالحمل على الصحيح) في المعاملة الخارجية المشكوك كون أحد المتعاملين فيها بالغا أم لا (يقتضي كون الواقع) في الخارج هو (البيع الصادر من بالغ) فالعقد جامع للشرائط (وهو سبب شرعي في) صحة المعاملة وإفادة (ارتفاع الحالة السابقة على العقد) من كون كل من العوضين لمالكه السابق.

ان قلت : أصالة عدم البلوغ واستصحابه يوجب الفساد ، فيعارض أصل الصحة ويتساقطان ويكون المرجع عدم البيع.

قلت : أصالة عدم البلوغ إنّما يوجب الفساد من حيث احراز نقيضه وهو : عدم صدور العقد من بالغ ، لكنك قد عرفت : ان الفساد الذي هو نقيض الصحة متأخر رتبة عن الصحة ، فيكون أصل الصحة حاكما عليه ، وأمّا أصالة عدم البلوغ الذي يحرز الضد ، فلا يوجب الفساد كما قال : (وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة) أي : لا يوجب الفساد (من حيث احراز) ضده وهو : (البيع الصادر عن غير بالغ) احرازا (بحكم الاستصحاب) وذلك (لأنّه) أي : الضد وهو صدور البيع من غير البالغ (لا يوجب) الفساد أعني : (الرجوع إلى الحالة

١٢٢

السابقة على هذا العقد ، فانّه ليس ممّا يترتب عليه ، لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السبب ، لا من آثار ضدّه.

وإن فرضنا أنّه يترتب عليه آثار أخر ، فنقول حينئذ : الأصل : عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده.

وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع

______________________________________________________

السابقة على هذا العقد) من عدم النقل والانتقال وذلك لما عرفت : من ان الصحة الفساد ليسا ضدين بل هما نقيضان ، وإذا كانا كذلك (فانّه) أي : الفساد (ليس ممّا يترتب عليه) أي : على الضد الذي هو صدور العقد من غير البالغ.

وإنّما لم يترتب الفساد على الضد (لأنّ عدم المسبّب) أي عدم صحة العقد (من آثار) نقيضه وهو : (عدم السبب ، لا من آثار ضدّه) وهو : الصدور من غير البالغ ، فعدم الصحة ليس من آثار الضد حتى (وإن فرضنا أنّه يترتب عليه) أي : على الضد (آثار أخر) غير عدم الصحة ، كما لو نذر التصدق بدرهم عند وقوع العقد من غير بالغ ، فانه عند الشك فيه يستصحب عدم البلوغ ، فيثبت موضوع النذر ، فيلزمه الوفاء بنذره مع انه لم يثبت به الفساد.

وعليه : (فنقول حينئذ :) أي : حين عرفت ان الصحة والفساد متناقضان يعني : من باب الموضوع واللاموضوع ، لا من باب الموضوع والموضوع المضادّ ، نقول : ان (الأصل : عدم وجود السبب) أي : عدم وجود عقد صحيح عند الشك فيه (ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده) أي : على وجود العقد الصحيح مثل أصل الصحة وقد دلّ هنا أصل الصحة على وجود العقد الصحيح فيترتب عليه آثاره.

(وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع) من عدم النقل والانتقال

١٢٣

مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فإذا شك فيه بني على البقاء وعدم وجود السبب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين السبب وغيره ؛ هو السبب.

فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر من غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ، لأن الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي عدمه.

______________________________________________________

(مستند إلى عدم السبب الشرعي) الذي هو النقيض ، لا الضدّ كما عرفت (فإذا شك فيه) أي : في البقاء على الحالة السابقة للشك في السبب الشرعي (بني على البقاء وعدم وجود السبب) الشرعي (ما لم يدلّ دليل) مثل أصل الصحة (على كون الموجود) وهو البيع الواقع خارجا (المردّد بين السبب وغيره ، هو السبب) فإذا دلّ أصل الصحة على انه الموجود سبب انتفى الشك وتحقق البيع.

(فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على) الضد وهو : (البيع الصادر من غير بالغ) كالنذر على وقوع العقد من غير بالغ (وترتّب الآثار المترتّبة على) السبب وهو : (البيع الصادر عن بالغ) وذلك لأن أصل الصحة يفيد صدور العقد من البالغ فيترتّب عليه آثار الصحة ، واستصحاب عدم البلوغ يفيد صدور العقد من غير البالغ ، لكنه لا يوجب الفساد ، لأنه ـ كما عرفت ـ ضد وليس نقيضا ، فيترتب عليه أثر الضد وهو : وجوب الوفاء بالنذر بلا منافاة بين الحكمين.

وإنّما لا تنافي بين الحكمين (لأن الثاني) أي : الحكم بصدور البيع من البالغ لأجل أصالة الصحّة (يقتضي انتقال المال عن البائع) إلى المشتري (و) هو معنى الصحة ، بينما (الأوّل) وهو الحكم بصدور البيع من غير البالغ لأجل استصحاب عدم البلوغ (لا يقتضيه) أي : لا يقتضي الانتقال (لا أنّه يقتضي عدمه) أي :

١٢٤

بقي الكلام :

في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات

أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين : الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشك من حيث كونه مباحا أو محرّما.

ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثيّة.

______________________________________________________

عدم الانتقال حتى يحصل التعارض بينهما.

والحاصل : ان أصل الصحة يقتضي الانتقال ، وأصل عدم البلوغ لا يقتضي الانتقال ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، لا ان أصل عدم البلوغ يقتضي عدم الانتقال ، حتى يتعارض مع أصل الصحة المقتضي للانتقال.

ثم انه لما انتهى المصنّف من الكلام في أصل الصحة ، سواء في فعل النفس أم في فعل الغير قال : (بقي الكلام في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات) فإذا شككنا في ان قول زيد ـ مثلا ـ صدق وصحيح أم لا ، أو ان اعتقاده حق وصحيح أم لا ، فهل يجري فيها أصل الصحة أم لا؟.

قال المصنّف : (أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين) على ما يلي :

(الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشك) في صحتها وفسادها (من حيث كونه مباحا) فهو صحيح (أو محرّما) فهو فاسد ، وذلك كما إذا كذب زيد فشككنا في انه هل هو كذب مباح لوجود المصلحة فيه كالإصلاح بين اثنين ، أو كذب محرم لعدم وجود المصلحة فيه؟.

(ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثية) أي : من حيث كونه حركة من الحركات ، فإنّ الأدلّة العامة من الآيات والروايات والسيرة وبناء العقلاء

١٢٥

الثاني : من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلم ، والشك من هذه الحيثية يكون من وجوه :

أحدها : من جهة أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى؟.

______________________________________________________

وما أشبه ذلك ، كلها شاملة للأقوال من هذا الحيث أيضا ، ويؤيّده : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لم يحمل كلام المنافق الذي حلف أنّه لم ينمّ عليه على الكذب ، بل سكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه ، حتى قال سبحانه يمدح نبيّه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

أقول : لكن لا يبعد أن يكون هناك فرق : بين ما لم نعلم صدقه وكذبه فنحمله على الصدق ، وبين ما نعلم كذبه لكن لا نعلم هل هو صادر عن مجوّز شرعي للكذب أم لا؟ فانه لا يحمل على الصحة حتى يثبت ذلك ، وهذا كالفرق بين من نراه يشرب مائعا مردّدا بين الخمر والماء فحيث لا نعلم بأنه خمر نحمله على انه يشرب الماء ، وبين من نعلم انه يشرب الخمر لكن لا نعلم هل انه يشربه عن وجه صحيح أو فاسد؟ فانه لا يحمل على الصحيح حتى يثبت ذلك.

(الثاني : من حيث كونه) أي : الكلام (كاشفا عن مقصود المتكلّم ، و) لا يخفى : انّ هذا العنوان لا ينطبق على الوجه الثالث من وجوه هذا البحث الذي سيذكره المصنّف إن شاء الله تعالى بعد قليل ، وكيف كان : فإنّ (الشك من هذه الحيثية يكون من وجوه) تالية :

(أحدها : من جهة) القصد واللاقصد ، وهو : هل (أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى؟) أي : بأن تكلّم لغوا ، أو هزلا ، أو نحو ذلك.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

١٢٦

ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثية ، بحيث لو ادعى كون التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه.

الثاني : من جهة أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، ومعتقد لمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده؟ ، ولا إشكال في أصالة الصحة هنا.

فإذا أخبر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ، ولا يسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله.

______________________________________________________

(ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثيّة) أي : حيثية القصد واللاقصد ، فإنّه يحمل على القصد وهو معنى الصحة وذلك (بحيث لو ادعى) المتكلّم (كون التكلّم لغوا) ومن باب المزاح ـ مثلا ـ (أو غلطا) ومن باب الاشتباه والسهو ـ مثلا ـ (لم يسمع منه) في باب الاقرار ، وباب التداعي ، وما أشبههما ، وذلك لبناء العقلاء ، وإلّا لملك كل متكلّم أن لا يلتزم بلوازم كلامه ، ويدّعي الغلط والهزل ونحوهما.

(الثاني : من جهة) المطابقة وعدم المطابقة له وهو : هل (أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، و) بتعبير أدق : هل ان ارادته الجدّية تطابق ارادته الاستعمالية أم لا؟ يعني : هل هو (معتقد لمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده؟) سواء في اخباراته كما إذا قال : جاء زيد ، أم في انشاءاته كما إذا قال : انصر زيدا؟ (ولا إشكال في أصالة الصحة هنا) أي : بأن يحمل على التطابق وهو معنى الصحة ، وذلك بأن يقال : انه كان يعتقد مجيء زيد ، ويريد نصرة زيد.

وعليه : (فإذا أخبر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه) كما إذا قال ـ مثلا ـ أشهد أن محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه يجوز نسبة الإسلام إليه (ولا يسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله) فيما إذا أنكره بعد ذلك وقال :

١٢٧

وكذا إذا قال : «افعل كذا» جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة كالتوطين أو لمفسدة.

وهذان الأصلان ممّا قامت عليهما السيرة القطعيّة مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام ، لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة.

______________________________________________________

انّي قلت ذلك غير معتقد به ، إلّا إذا أسقط صحة دعواه بشواهد وقرائن عرفية.

(وكذا إذا قال : «افعل كذا» جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة) وكذلك في باب النهي ، والدعاء ، والترجي ، والتمني ، وما أشبه ذلك ، فلا يقبل منه لو ادّعى ان كلامه صوري وانه قاله (لمصلحة) فلم يطابق إرادته الاستعمالية ارادته الجدية (كالتوطين) فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : توطين المأمور نفسه على الامتثال ليؤجره عليه (أو لمفسدة) كالتشهير ، فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : تشهير المأمور باظهار ما في باطنه من المخالفة ليعاقبه عليه ، فانه لا يقبل منه.

وإنّما لا يقبل ذلك منه ، لأصالة القصد ، وأصالة المطابقة (وهذان الأصلان) أي : أصالة القصد ، وأصالة المطابقة بين الارادتين : الجدّية والاستعمالية (ممّا قامت عليهما السيرة القطعيّة) وبناء العقلاء كافة ، فإذا لم يعمل بهذين الأصلين لزم اختلال النظام وهدم الاجتماع.

هذا (مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام) أيضا ، وذلك لأن القول اللغو والقول الكذب قبيح ، والمسلم منزّه عن فعل القبيح (لكنّ المستند) الآن (فيه) أي : في تنزيه فعل المسلم من القبح المستلزم من مخالفة الأصلين المذكورين (ليس تلك الأدلّة) السابقة ، بل مستنده

١٢٨

الثالث : من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا ، وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجيّة خبره : صدقه.

والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى.

والظاهر : عدم الخلاف في ذلك إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه حتى ترتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل.

______________________________________________________

في المقام السيرة القطعية واختلال النظام الناتج من مخالفة الأصلين.

(الثالث : من جهة) المطابقة للواقع وعدم المطابقة له ، أي : في (كونه صادقا في الواقع أو كاذبا) يعني : صدقا أو كذبا خبريا لا مخبريا ، وبعبارة أدق : هل انّ خبره حجة ومطابق للواقع أم لا؟ (وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره) إذ الغير إنّما يهمّه مطابقة الخبر وعدم مطابقته للواقع (فمعنى حجّية خبره : صدقه) صدقا مطابقا للواقع ، وهذه المطابقة غير المطابقة للاعتقاد ، إذ ربما يقول الشخص ما يطابق اعتقاده ، لكن لا يطابق الواقع ، والناس يريدون مطابقة الخبر للواقع بعد مطابقته لاعتقاد المخبر ، لا مطابقته لاعتقاد المخبر وعدم مطابقته للواقع.

(والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح. بهذا المعنى) الأخير ، إذ ليس معنى : «احمل فعل أخيك على أحسنه» انه مطابق للواقع.

(و) كذا (الظاهر : عدم الخلاف في ذلك) أي : انهم اتفقوا على انه لا دليل يوجب حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع (إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه) أي : وليس هناك دليل عام يشمل هذا المعنى (حتى ترتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل) تحت العموم ، يعني : انه لا عموم حتى يدّعي أحد وجود الدليل العام على حجية خبر المسلم

١٢٩

وربما يتوهّم وجود الدليل العام من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما ، وخصوص قوله عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» ، وغير ذلك ممّا ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها.

______________________________________________________

ومطابقته للواقع ، ثم يدّعي خروج مثل الأخبار الحدسية والشهادات والروايات من عموم ذلك الدليل ، فيقول ـ مثلا ـ بخروج باب الشهادات لاحتياجها إلى نفرين ، وخروج باب الروايات لاحتياجها إلى عدالة الراوي ، وخروج الحدسيات الاجتهادية لاحتياجها إلى الفقاهة والعدالة ، وهكذا.

(وربما يتوهّم وجود الدليل العام) الدال على حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع (من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه) (١) وذلك بتقريب أنّ الأمر أعمّ من القول والفعل (و) كذا مثل (ما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما) (٢) أي : لا في قوله ولا في فعله معا.

(و) مثل (خصوص قوله عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» (٣) وغير ذلك ممّا ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا) هناك (عدم دلالتها)

__________________

(١) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦٢ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٢ ص ١٠.

(٢) ـ كرواية محمد بن الفضيل انظر الكافي (روضة) : ج ٨ ص ١٤٧ ح ١٢٥ ، ثواب الاعمال : ص ٥٩٥ ح ١ ، أعلام الدين : ص ٤٠٥ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٢٩٥ ب ١٥٧ ح ٨٦٣٤٣ ، بحار الانوار : ج ٧٥ ص ٢١٤ ب ٦٥ ح ١١ وص ٢٥٥ ب ٦٦ ح ٤٠ ، وكرواية عمر اليماني انظر الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٦١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٠٢ ب ١٦١ ح ١٦٣٥٩ ، مشكاة الانوار : ص ٣١٩.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٩ ح ١.

١٣٠

مع أنّه لو فرض دليل عام على حجيّة خبر كل مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل ، لقيام الاجماع على عدم اعتباره في الشهادات ، ولا في الروايات إلا مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلّا في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها.

نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية لجملة مما ذكرناه في أخبار الآحاد وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع.

______________________________________________________

على حجيّة خبر المسلم ولا مطابقتها للواقع ، وإنّما غاية دلالتهم من الأمر بحمل فعل المسلم وقوله على الصحيح هو : انه مطابق لاعتقاده لا انه حجة ومطابق للواقع.

هذا (مع أنّه لو فرض دليل عام على حجيّة خبر كل مسلم) ومطابقته للواقع ، أوجب تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، إذ حينئذ (كان الخارج منه أكثر من الداخل) الباقي تحت العام ، وذلك (لقيام الاجماع على عدم اعتباره) أي : خبر المسلم (في الشهادات ، ولا في الروايات إلّا مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلّا في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها) أي : شبه الفتوى كخبر المقوّمين الذين يخبرون عن حدس ونظرية ، وإذا كان الخارج من العام أكثر من الداخل تحته لزم منه إضافة إلى الاستهجان ، سقوط الظهور حتى لا يمكن أن يتمسّك بالعام.

(نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية) والمطابقة للواقع (لجملة مما ذكرناه في أخبار الآحاد) كآية النبأ ، وآية النفر ، وآية الأذن ، وغيرها من الآيات والروايات (و) لكن (ذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع) بحث الظن لترى ما تقدّم من المصنّف هناك ، فانه قال ـ مثلا ـ في تحقيق آية النبأ

١٣١

أمّا الاعتقادات ، فنقول :

إذا كان الشك في أنّ اعتقاده ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ، فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح لظاهر بعض ما مرّ

______________________________________________________

ما حاصله : ان الآية إنّما تنفي من العادل احتمال تعمّده الكذب والوضع ، وأمّا احتمال نسيانه وخطأه وما أشبه ذلك فلا تنفيه الآية ، فيكون الفرق بين خبر العادل وخبر الفاسق هو : ان العادل ينفى عن خبره تعمّد الكذب ، بينما الفاسق لا ينفى عن خبره ذلك ، وأين هذا المعنى من أصالة حجيّة خبر العدل حتى يقال بدلالة الأدلة عليه إلّا ما خرج بالدليل؟.

هذا تمام الكلام في أصالة الصحة في الأقوال ، واما الكلام فيها بالنسبة إلى الاعتقادات فهو كما قال : (أمّا الاعتقادات) وذلك كما إذا اعتقد ـ مثلا ـ بأن قوله سبحانه : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) (١) يراد به الكثرة ، لأن سبعة تستعمل للكثرة كالسبعين ، وليس من باب الدقة والتحديد ، فهنا إضافة إلى السؤال عن انه هل يلزم أن يقال : ان مدرك اعتقاده هذا صحيح لا تقصير منه في مقدماته؟ هل يلزم أيضا ان يقال : انه حجة ومطابق للواقع أم لا؟ جريان أصل الصحة في الاعتقادات يلزم القول بالأول وهو ان مدرك اعتقاده صحيح : بلا تقصير منه في المقدمات ، دون الثاني.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (فنقول : إذا كان الشك في أنّ اعتقاده) هذا هل هو (ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته) أي : في مقدّمات ذلك المدرك لذلك المعتقد؟ (فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح) وذلك (لظاهر بعض ما مرّ

__________________

(١) ـ سورة الحجر : الآية ٤٤.

١٣٢

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحسن دون القبيح.

وأمّا إذا شك في صحّته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ، لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر.

______________________________________________________

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحسن دون القبيح) ومن المعلوم : ان التقصير في المقدمات ، أو الاعتقاد من دون مدرك صحيح ، قبيح يلزم تنزيه المسلم عنه ، وعلى هذا فلا يجوز رميه بانه تعمّد اعتقادا باطلا أو قصّر في تحصيل مقدّماته.

(وأمّا إذا شك في صحته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك) أي : على الصحة بمعنى : المطابقة للواقع (ولو ثبت ذلك) أي : ثبت وجوب الحمل على مطابقة اعتقاده للواقع (أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم) ، وذلك (لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر) فلذا كان اعتقاد المخبر حجة ومطابقا للواقع ، كان قوله أيضا حجة ومطابقا للواقع ، لكنك قد عرفت ممّا مضى : انه لا دليل على حجية خبر المسلم ومطابقته للواقع ، فلا يكون اعتقاده أيضا مطابقا للواقع.

والحاصل : انّه ان قلنا بحجية اعتقاد المسلم كان لازمه حجيّة خبره أيضا ، لأن الأصل ـ كما مرّ ـ في الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ، فإذا كان الأصل أيضا مطابقة اعتقاد المخبر للواقع ، تشكّل قياس منطقي من صغرى وهي : الأصل ان الخبر مطابق لاعتقاد المخبر ، وكبرى وهي : والأصل ان كل مطابق لاعتقاد المخبر مطابق للواقع ، والنتيجة : فالخبر مطابق للواقع.

مع انّه قد مضى : ان هذه النتيجة وهي حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع

١٣٣

أمّا لو ثبت حجّية خبره ، فقد يعلم أنّ العبرة باعتقاده بالمخبر به ، كما في المفتي ، وغيره ممّن يعتبر نظره في المطلب ، فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها ، وقد يعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : «اعتقد بكذا» ،

______________________________________________________

لا دليل عليه إضافة إلى انه يستلزم التنافي في الواقع لوضوح كثرة التخالف في الاعتقادات ، بينما ليس كذلك في عكسه ، فلو قلنا بحجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع ـ فرضا ـ لم يكن تلازم بينه وبين حجيّة اعتقاده.

ثم إنّ المصنّف قال : (أمّا لو ثبت حجّية خبره) أي : حجيّة خبر المسلم ، فمناط حجيّته يمكن أن يكون أحد امور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : (فقد يعلم أنّ العبرة باعتقاده) أي : بسبب اعتقاد المخبر (بالمخبر به ، كما في المفتي ، وغيره) أي : غير المفتي (ممن يعتبر نظره في المطلب) كأهل الخبرة والمقوّمين ، فان اعتقادهم المستند إلى حدسهم حجة ، ويكون خبرهم كاشفا عن اعتقادهم الحجة ، فالحجة هي نفس اعتقاد المفتي أو الخبير والمقوّم بمطلب ، بأي طريق بكشف ، سواء انكشف بالإخبار أم بالكتابة أم بالاشارة أم بالظهور من قسمات الوجه ، كما ورد ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يظهر على قسمات وجهه الكراهة من المحرّمات ، وإذا كان اعتقاده هو الحجة (فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها) فإذا قال المفتي ـ مثلا ـ : الماء القليل يتنجّس بملاقاة النجاسة كشف ذلك عن اعتقاده به واعتقاده حجة ، فخبره إذن بما هو خبر ليس بحجة ، وإنّما حجيّته من جهة كشفه عن اعتقاده.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : (وقد يعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : «اعتقد بكذا») كما في باب الروايات المروية

١٣٤

وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واخرى بالإخبار بعلمه به ، والمتّبع في كلّ مورد ، ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل.

ويترتّب على ما ذكرنا قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، وصحة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين.

______________________________________________________

عن الأئمة عليهم‌السلام ، فإذا قال أحد الرواة الثقات ـ مثلا ـ : قال الصادق عليه‌السلام كذا ، كان حجة ، امّا إذا قال وهو يخبر عما في نفيه : اعتقد كذا ، فليس بحجة.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : (وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واخرى بالإخبار بعلمه به) أي : بالواقع فان الشاهد كل من قوله واعتقاده حجّة ، فلا فرق بين ان يقول : ان هذه المرأة زوجة زيد ، أو يقول : اني أعلم بأن هذه المرأة زوجة زيد.

هذا (والمتّبع في كلّ مورد) من هذه الموارد الثلاثة هو : (ما دلّ عليه الدليل ، و) حينئذ فيجب مراجعة الدليل في كل من الموارد الثلاثة ليعلم هل انه يدلّ على حجيّة الاعتقاد ، أو الخبر ، أو أيّ منهما ، أم لا يدل؟ وذلك لانه (قد يشتبه مقدار دلالة الدليل) فلا يعلم ان الحجة هل هو اعتقاد الشخص أو إخباره ، كما في باب الجرح والتعديل بالنسبة إلى علم الرجال ، فان في المعدّل أو الجارح لا يعلم هل يكفي في حجيته لنا اعتقاده بالجرح أو التعديل بأي طريق انكشف لنا ولو بالكتابة ، أو لا بدّ من اخباره بهما؟.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (ويترتّب على ما ذكرنا) أخيرا (قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، و) جرحهم ، وكذلك (صحة التعويل في العدالة) بالنسبة إلى امام الجماعة (على اقتداء العدلين) به ، وغير ذلك.

١٣٥

المقام الثاني :

في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة.

وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ،

______________________________________________________

قال الآشتياني : ويفرّع على كفاية مجرّد الاعتقاد : الحكم بعدالة الإمام بواسطة اقتداء العدلين ، والحكم بدخول الوقت من جهة صلاة عدلين معتقدين بدخول الوقت ، والحكم باعتبار تعديلات أهل الرجال في مكتوباتهم كالكشي والنجاشي والشيخ قدس سرّهم ، ثم قال : وقد يدّعى الاجماع على اعتبار هذه التعديلات من دون حاجة إلى ثبوت ان الأصل اعتبار الاعتقاد في مورد ثبوت اعتبار الخبر.

(المقام الثاني : في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة) كما إذا قال زيد :

هذه الدار ملكي ، وقال عمرو بل هي ملكي ، وكان كلاهما خارجا أو داخلا ، وكان مع زيد الاستصحاب لأنها كانت ملكه سابقا ، وأقرعنا فخرجت القرعة باسم عمرو ، فهل يقدّم الاستصحاب على القرعة على الاستصحاب؟.

قال المصنّف : (وتفصيل القول فيها) أي : في القرعة (يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت) لأن مسألة القرعة مسألة فقهية ، ونحن بصدد المبحث الاصولي.

ثم انه لا يخفى : ان القرعة ممّا دلت عليه الأدلّة الأربعة : فمن الكتاب مثل قوله سبحانه : (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (١) وقوله سبحانه : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (٢) ومن السنّة مثل قوله عليه‌السلام : «القرعة لكل أمر مشكل» (٣) وقول الصادق عليه‌السلام : «أيّ فقيه أعدل من القرعة إذا فوّض أمره إلى الله تعالى؟ أليس الله

__________________

(١) ـ سورة آل عمران : الآية ٤٤.

(٢) ـ سورة الصافات : الآية ١٤١.

(٣) ـ فتح الأبواب : ص ٢٩٢ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٢ وص ٢٨٥ وج ٣ ص ٥١٢ ، بحار الانوار : ج ٩١ ص ٢٣٤ ب ٢ ح ٧ ، تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٥٨ ب ٤ ح ١٣.

١٣٦

ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ، فلا بدّ من تخصيصها بها ، فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب.

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير

______________________________________________________

يقول : (فَساهَمَ) (١)؟» (٢) والاجماع قطعي فيها بين المسلمين كافة ، والعقل يدل عليها ، بل القرعة جارية إلى اليوم في المحافل الدولية والعالمية.

هذا (ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها) أي : أخبار القرعة (أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب) فتكون أدلة الاستصحاب أخص من أدلة القرعة ، وإذا كانت أخص (فلا بدّ من تخصيصها) أي : تخصيص أدلة القرعة (بها) أي : بأخبار الاستصحاب ، إذ الأخص دائما يقدّم على الأعم (فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب).

مثلا ، قوله عليه‌السلام : «القرعة لكل أمر مشكل» (٣) يبيّن انه : إذا كان الموضوع مشكلا فالمجال للقرعة ، والاستصحاب يبيّن عدم مشكلية الموضوع ، وذلك لأن الشارع جعل له حلا بالاستصحاب ، وكما لا مجال للقرعة مع وجود الخبر أو البينة أو السوق أو اليد أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، فكذلك لا مجال للقرعة مع وجود الاستصحاب.

(نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير) وذلك لأن التخيير إنّما يكون

__________________

(١) ـ سورة الصافات : الآية ١٤١.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٩٢ ب ٢ ح ٣٣٩٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٦١ ب ١٣ ح ٣٣٧٢٢ ، بحار الانوار : ج ١٠٤ ص ٣٢٥ ب ٦ ح ٥.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٢ وص ٢٨٥ وج ٣ ص ٥١٢ ، فتح الابواب : ص ٢٩٢ ، بحار الانوار : ج ٩١ ص ٢٣٤ ب ٢ ح ٧.

١٣٧

وأصالتي : الاباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما ،

______________________________________________________

مع التحيّر ، والقرعة تزيل التحيّر ، فإذا حلف ـ مثلا ـ على شيء ثم شك في انه هل كان حلفه على أن يذبح الشاة في النجف الأشرف أو في كربلاء المقدسة ، فحيث التحيّر لزمت القرعة ، فإذا أقرع وخرج أحدهما فلا تحيّر حتى يكون تخيير.

(و) كذا القرعة واردة على (أصالتي : الاباحة والاحتياط) فإذا شك ـ مثلا ـ في انه هل هذا المائع هو خلّ أو خمر؟ أو شك في انه هل هذا الاناء الأبيض نجس أو ذاك الاناء الأحمر؟ فحيث ان الأصل في الأوّل الاباحة ، وفي الثاني الاحتياط ، تكون القرعة واردة عليهما ، وذلك لأنّا إذا أقرعنا وخرج ان المائع خمر ، أو ان الاناء الأبيض نجس ، فلا مجال لاجراء أصل الاباحة في المائع ، كما لا مجال لاجراء أصل الاحتياط بين الاناء الأبيض والأحمر ، وذلك فيما (إذا كان مدركهما) أي مدرك الاباحة والاحتياط هو (العقل).

وإنّما تكون القرعة واردة على أصالة الاباحة العقلية وعلى أصالة الاحتياط العقلي ، لأن موضوع الاباحة العقلية هو : عدم البيان والقرعة بيان ، كما ان موضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب ، والقرعة تعيّن المكلّف به ، فلا يحتمل العقاب في الطرف الآخر ، حتى يجب الاجتناب عنه ، فالقرعة واردة عليهما ، وقد تقدّم سابقا : انّ معنى الورود هو : رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر ، والقرعة في مقامنا يرفع موضوع أصل التخيير ، وأصل الاباحة وأصل الاحتياط على ما عرفت ، فيما إذا كان مدرك الأصلين الأخيرين العقل.

(وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما) أي : بأن جعلنا حجيّتهما لا للدليل العقلي ، بل للدليل الشرعي ، وذلك لأن الشارع قال : «كل شيء مطلق

١٣٨

فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

حتى يرد فيه نهي» (١) وقال : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٢) (فدليل القرعة) لا يكون واردا عليهما ، بل هو حينئذ (حاكم عليهما ، كما لا يخفى) والحكومة على ما تقدّم : عبارة عن تفسير أحد الدليلين للدليل الآخر بالتوسعة أو بالتضييق.

أمّا مثال التضييق فكما في رواية : «لا شك لكثير الشك» (٣) ورواية : «إذا شككت فابن على الأكثر» (٤) فان «لا شك لكثير الشك» يضيّق دائرة «ابن على الأكثر» ويقول : ان البناء على الأكثر إنّما يكون فيما إذا لم يكن كثير الشك.

وأمّا مثال التوسعة فكما في رواية : «لا صلاة إلّا بطهور» (٥) ورواية : «الطواف بالبيت صلاة» (٦) حيث ان «الطواف بالبيت صلاة» يوسّع دائرة «لا صلاة إلّا بطهور» يعني : ان الطواف أيضا محتاج إلى الطهور ، لأنه نوع من الصلاة.

وأمّا بيان انه لما ذا يكون دليل القرعة حاكما على أصالتي : الاباحة والاحتياط الشرعيين ، فلأن موضوع الاباحة الشرعية هو : الشك في الحلّية ، وموضوع

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦٠ وص ٤٦٢ ح ١.

(٢) ـ الامالي للمفيد : ص ٣٨٣ المجلس الثالث والثلاثون ، الامالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

(٣) ـ من القواعد الفقهيّة المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥٨ ح ٢ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٤ ب ٢١٧ ح ٥ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٢٨ ب ١٦ ح ١٠٤٩٦ و ١٠٤٩٧ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٥٣ وص ٣٤٣ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٢٤.

(٤) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣٤٠ ح ٩٩٢ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٢ ب ٨ ح ١٠٤٥١ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ٥ ص ٦٠١ ح ٢.

(٥) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣٣ ح ٦٧ وص ٥٨ ح ١٢٩ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤٩ ب ٣ ح ٨٣ وص ٢٠٩ ب ٩ ح ٨ وج ٢ ص ١٤٠ ب ٢٣ ح ٣ و ٤ ، الاستبصار : ج ١ ص ٥٥ ب ٣١ ح ١٥ و ١٦ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٨ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣١٥ ب ٩ ح ٨٢٩ ، مفتاح الفلاح : ص ٢٠٢.

(٦) ـ نهج الحق : ص ٤٧٢ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢١٤ وج ٢ ص ١٦٧ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٣٧٦ ب ٣٨ ح ١٧٩٩٧ ، مستدرك الوسائل : ج ٩ ص ٤١٠ ب ٣٨ ح ١١٢٠٣.

١٣٩

لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، والله العالم.

______________________________________________________

الاحتياط الشرعي هو : الشك في المكلّف به ، والشك في كل منهما وإن كان لا يزول بالقرعة وجدانا ، إلّا ان دليل القرعة ناظر إليهما ومفسر لدليلهما ، بحيث لا يبقى معه شك فيهما تعبدا ، فيكون المراد من الشك غير الشك الموجود مع القرعة ، لأن الشك الموجود مع القرعة ليس بشك تعبدا.

ثم قال المصنّف بعد كلّ ذلك (لكن ذكر في محلّه) من الكتب الفقهية : (أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو) على الأقل بعمل (جماعة منهم) أي : من الأصحاب ، فان كل ما ذكره المصنّف : من كون القرعة واردة على الاصول الثلاثة : الاستصحاب ، والاباحة ، والاحتياط ، أو حاكمة عليها ، إنّما هو مع غض النظر عن عروض الوهن ودخول الضعف على عمومات القرعة بسبب كثرة التخصيص الداخلة عليها ، واما مع النظر إلى وهن عمومها فلا يصح العمل بها إلّا في مورد انجبر وهن عمومها بعمل الأصحاب ، ولذا نراهم لا يعملون بها في موارد العلم الاجمالي الكثيرة المذكورة في الفقه والاصول ، وفي كل مورد لم يعمل الأصحاب فيه بالقرعة ، سواء كان في المنازعات أم في غيرها ، يكون المرجع الاصول العملية ، لأن الاصول العملية سالمة حينئذ عن الوارد والحاكم بعد عدم العمل بالقرعة ، وعدم الحجيّة لها في هذه الموارد.

(والله العالم) فان مبحث القرعة من المباحث المشكلة ، حيث نراهم تارة يعملون بها من دون عمل الأصحاب ، واخرى لا يعملون بها بدليل ان الأصحاب لم يعملوا بها في المسألة الفلانية ـ مثلا ـ.

١٤٠