الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

بخلاف الثاني ، وسيجيء تتمّة الكلام إنشاء الله تعالى.

بقي في المقام : إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله فرّع في تمهيده «على قضيّة أولويّة الجمع ،

______________________________________________________

الافتراق ، وفي مورد الاجتماع لو كان دليل لترجيح أحدهما على الآخر يؤخذ به ، وإن لم يكن دليل على ترجيح أحدهما على الآخر يتخير فيه أو يرجع إلى الأصل.

(بخلاف الثاني) الذي هو من قبيل المتباينين مثل : «اغتسل للجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» فإنّه حيث لا مانع من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، فلا مانع فيه من الرجوع الى أخبار العلاج (وسيجيء تتمّة الكلام إنشاء الله تعالى).

هذا ، ولكن ربّما يقال : أنّ أخبار العلاج تشمل المتعارضين من قبيل المتباينين كلا ، والعامين من وجه في مادة الاجتماع منهما ، ولا محذور ، إذ أيّ مانع من أن يتعبّدنا الشارع بالعلاج أولا ، ثم التخيير ، أو الرجوع إلى الأصل في مادة الاجتماع؟

ثم أن من الكلام في العامّين من وجه يظهر الكلام في العموم المطلق أيضا ؛ وذلك فيما إذا طرح العام في مادة الاجتماع.

(بقي في المقام) أي : في مقام البحث عن قاعدة : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» مورد آخر للجمع ، وهو (إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله فرّع في تمهيده على قضية أولويّة الجمع) من الطرح موردا ثالثا للجمع وهو الجمع العملي ، اضافة الى الموردين اللذين سبقا : من الجمع العرفي والجمع التبرعي : فإنّ الجمع على ما عرفت قد يكون دلاليا كالظاهر والأظهر والنص والظاهر وهو الجمع العرفي المقبول ، وقد يكون تبرعيّا كالجمع بما يرفع التناقض أو التضاد

٣٢١

الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أو لا يد لأحدهما ، وأقاما بيّنة»

______________________________________________________

بين الخبرين وإن لم يكن له شاهد عليه ، وهو الجمع التبرعي المردود.

مثلا : حمل العذرة في : «لا بأس ببيع العذرة» (١) على عذرة حلال اللحم ، وفي «ثمن العذرة سحت» (٢) على حرام اللحم من الجمع التبرعي ، وقد صنعه الشيخ كثيرا للردّ على من قال : إنّ في الأخبار تناقضا ، فأراد الشيخ بذلك بيان أنّه لا تناقض في كلام الحكيم ، وإنّه إذا رأينا في كلامه تهافتا ، فلا بدّ من حمله على بعض وجوه الجمع ، وعلى أن صورة التهافت حصلت لاختلاف الأسئلة ، أو اختلاف الأفهام ، أو اختلاف عرف الرواة مثل : «الكرّ ألف ومائتا رطل» لكون الراوي عراقيا ، و «ستمائة رطل» لكون الراوي حجازيا ، وإلى غير ذلك ممّا يرفع صورة التهافت من كلام الحكيم ، وذلك لأنّ مثل كلام الحكيم مثل ما إذا رأينا ساعة نعرف أن الخبير صنعها ، لكن لم نعرف فائدة بعض أجهزتها ، فإنّه يجب أن نحملها على عدم فهمنا لا على عدم الفائدة في هذا الجهاز المجهول عندنا.

وكيف كان : فهذان نوعان من الجمع بين الخبرين المتعارضين : عرفيا مقبولا ، وتبرعيا مردودا ، وقد أضاف إليهما الشهيد الثاني ثالثا : جمعا عمليا بين البيّنتين المتعارضتين : مثل (الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أو لا يد لأحدهما ، وأقاما بيّنة) أو لم يكن لأحدهما بيّنة ولكن حلفا ، أو لم يحلف أحد منهما ، فإنّ الحكم بالتنصيف بينهما فيما إذا كانا متساويين من هذه الجهات وإلّا بأن أقام أحدهما البينة فالدار له ، أو حلف أحدهما فالدار له أيضا ، إمّا اذا لم يكن

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ و ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤ ح ٢٢٢٨٥.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

٣٢٢

انتهى المحكي عنه.

ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله ،

______________________________________________________

لأحد منهما بينة ولا حلف ، أو كان لكليهما بيّنة أو حلف فالدار تنصّف بينهما ، وقد جعله الشهيد من باب الجمع العملي بين البينتين المتعارضتين (انتهى المحكي عنه) أي : عن الشهيد الثاني رحمه‌الله.

ثم علّق عليه المصنّف بقوله : (ولو خصّ المثال بالصورة الثانية) أي : قوله : «لا يد لأحدهما» (لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله) فإن المحقق القمي أورد على ما إذا كانت الدار في يدهما : بان الحكم بالتنصيف في صورة اليد إنّما هو من باب الترجيح لبينة الداخل أو بينة الخارج ، لا من باب أولوية الجمع على الطرح الذي ادّعاه الشهيد الثاني.

توضيح الايراد : أنه إذا ادعى اثنان دارا كانت في يد أحدهما ، وأقام كل منهما بيّنة ـ مثلا ـ فإنّه ربّما يقال : بترجيح بيّنة الداخل ، وربّما يقال : بترجيح بيّنة الخارج ، فإنّ الذي حكم بترجيح بيّنته تكون كل الدار له ، وهذا هو المثال الثاني ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في المثال الأوّل وهو ما لو فرض كون الدار في يدهما بأن كانا معا في الدار ، فكلّ منهما بالنسبة إلى النصف داخل ، وبالنسبة إلى النصف الآخر خارج ، وهنا إمّا يرجّح بيّنة الداخل فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يده ، وإمّا يرجّح بيّنة الخارج فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يد الآخر وعلى التقديرين يكون التنصيف من أجل الترجيح ، لا من أجل الجمع بين البينتين ، وهذا الإيراد الخاص بالمثال الأوّل ، دون المثال الثاني ، فإنّ في المثال الثاني يمكن أن يكون حكمهم بالتنصيف لأجل الجمع بين البينتين ، لا لأجل

٣٢٣

وإن كان ذلك ـ أيضا ـ لا يخلو عن مناقشة تظهر بالتأمّل.

وكيف كان : فالأولى التمثيل بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح ، وكيف كان ، فالكلام في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

______________________________________________________

الداخل والخارج.

وهذا (وإن كان ذلك) أي : المثال الثاني (ـ أيضا ـ لا يخلو عن مناقشة تظهر بالتأمّل) فيه ، وذلك بتقريب : أن التنصيف فيما لا يد لهما عليه لم يكن من أجل الجمع ، بل من أجل تساقط البينتين ، فيكون المرجع حينئذ التنصيف لقاعدة العدل ، أو للقرعة ، إذ هي لكل أمر مشكل ، لكنّا ذكرنا : أن قاعدة العدل مقدّمة على القرعة ، لأن قاعدة العدل ترفع الاشكال فلا يتحقق موضوع القرعة.

(وكيف كان : فالأولى التمثيل بها) أي : بالصورة الثانية (وبما أشبهها مثل : حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح) فإذا قوّم الصحيح أحد المقوّمين ـ مثلا ـ بعشرة ، والمعيب بثمانية ممّا يكون معناه : لزوم إرجاع البائع دينارين إلى المشتري الذي اشتراه بعشرة بزعم الصحة ، وقوّم الصحيح المقوّم الآخر باثني عشر ، والمعيب بثمانية ، حيث اللازم ارجاعه أربعة ، فنجمع بين الاثنين والأربعة ، ونحكم بلزوم إرجاع البائع ثلاثة دنانير إلى المشتري ، والثلاثة هو نصف التقويمين.

(وكيف كان) : سواء تمّ كلام الشهيد في أنّ الدليل على الجمع في الأحكام والموضوعات هو أمر واحد ، أو لم يكن كذلك ، وإنّما الدليل في باب الأخبار هو الأخبار العلاجية ، وفي باب الموضوعات هي القاعدة العقلائية (فالكلام في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

٣٢٤

مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب.

ومثل هذا غير جار في أدلّة الأحكام الشرعيّة.

والتحقيق : إنّ العمل بالدليلين بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما غير ممكن مطلقا

______________________________________________________

مدلولهما المستلزم) هذه الكيفية من الجمع (للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين) لأنّه إذا أخذنا بنصف هذه البيّنة ، ونصف البيّنة الأخرى ، كان معنى ذلك : إنّا لم نأخذ بأيّ من البيّنتين ، بل خالفنا كل واحد منهما مخالفة قطعية.

وإنّما يستلزم هذا النحو من الجمع المخالفة القطعية للدليلين (لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب) وذلك بأن تكون البيّنة التي تقول : أن الدار ربما لزيد صادقة في نصفها وكاذبة في نصفها ، وكذلك البيّنة التي تقول : ان الدار لعمرو ، فانّ البيّنة ان كانت صادقة فهي صادقة في تمامها ، وإن كانت كاذبة فهي كاذبة في تمامها ، لكن مقتضى قاعدة العدل ما ورد في الروايات وبنى عليها العقلاء ، وليس معنى ذلك : إنّ البيّنة صادقة وكاذبة ، بل معنى ذلك أن التعارض بينهما يستلزم التنصيف.

(و) لكن (مثل هذا) الجمع العملي بين البينتين (غير جار في أدلّة الأحكام الشرعيّة) فلا يصحّ الأخذ بنصف هذا الدليل ونصف ذاك الدليل ، بل اللازم إعمال المرجّحات أوّلا ، فاذا لم تكن مرجّحات فالتخيير ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل.

هذا (والتحقيق) أنّ دليل الجمع في الموضوعات ، غير دليل الجمع في الأحكام ، واللازم أن نبيّن ذلك أوّلا ، فنقول (إنّ العمل بالدليلين بمعنى : الحركة والسكون على طبق مدلولهما) معا ، وهو (غير ممكن مطلقا) لا في أدلة

٣٢٥

فلا بدّ ـ على القول بعموم القضيّة المشهورة ـ من العمل على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة ، وإن كان طرحا من جهة اخرى في مقابل طرح أحدهما رأسا ، والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما ، وإن كان فيه طرح لهما

______________________________________________________

الموضوعات ، ولا في أدلة الأحكام ، لأنّ المفروض : وجود التعارض بينهما ، فكيف يمكن أن يعمل ـ مثلا ـ ببيّنة زيد كاملا ، وببيّنة عمرو كاملا ، أو يعمل ـ مثلا ـ بقوله : «اغتسل للجمعة» وقوله : «ينبغي غسل الجمعة»؟ وإلى غير ذلك ممّا بينهما تباين أو عموم من وجه.

وعليه : (فلا بدّ ـ على القول بعموم القضيّة المشهورة ـ من) أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح (العمل على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة ، وإن كان طرحا من جهة أخرى) لفرض انّنا نعمل بكل بيّنة من البيّنتين في نصف مدّعاها ، وذلك (في مقابل طرح أحدهما رأسا) أي : بأن نطرح بيّنة زيد ـ مثلا ـ ونأخذ ببيّنة عمرو ، أو العكس.

إذن : فالجمع في أدلة الموضوعات إنّما كان بالتبعيض في العمل لا التصرّف في الدلالة ، بينما الجمع في أدلة الأحكام يكون بالتصرف في الدلالة لا التبعيض في العمل كما قال : (والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما) أي : بالدليلين (من حيث الحكم بصدقهما) معا من حيث السند ، فنقول : أن سند كل من «ثمن العذرة سحت» (١) و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) صادق (وإن كان فيه طرح لهما

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ و ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤ ح ٢٢٢٨٥.

٣٢٦

من حيث ظاهرهما ، وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يكن ذلك ، لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به.

فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

______________________________________________________

من حيث ظاهرهما) بالتصرّف في دلالتهما ، حيث أنّا لم نأخذ بظاهر الروايتين في كل مفادهما ، بل نحمل «لا بأس ببيع العذرة» على عذرة حلال اللحم «وثمن العذرة سحت» على عذرة حرام اللحم ـ مثلا ـ وهو أخذ ببعض مفاد الروايتين على ما عرفت.

هذا (وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك) أي : التصرّف الدلالي فيهما (لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود) لوضوح : أنّ الشهود يشهدون بالصراحة : بأنّ الدار لزيد ، وأن الدار لعمرو ، فلا يأتي التأويل في كلماتهما.

وحينئذ : (فهي) أي : البيّنات (بمنزلة النصّين المتعارضين) حيث لا يمكن الجمع الدلالي بينهما فيما لو كانا متباينين صريحا ، وإذا كان كذلك (انحصر وجه الجمع) بين البيّنتين المتعارضتين (في التبعيض فيهما من حيث التصديق) وذلك (بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به) ، ولا يصدّق في البعض الآخر.

وعليه : (فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

٣٢٧

بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحا كذا ومعيبا كذا ، نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه منضمّا إلى نصفه الآخر نصف القيمة ، وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني : صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه‌السلام غير قابل للتبعيض.

______________________________________________________

بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحا كذا ومعيبا كذا ، نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه) أي : من هذا الشيء (منضمّا إلى نصفه الآخر نصف القيمة) وذلك على ما عرفت في مثال تقويم الصحيح والمعيب بعشرة وثمانية ، واثني عشر وثمانية.

ثم أنه لا يخفى : أنّ الكلام ليس خاصا بالقولين كالبينتين والمقوّمين ، بل يأتي في الأقوال المتعدّدة أيضا ، وذلك كما إذا قالت بينة : بان الدار لزيد ، وأخرى : بأنّها لعمرو ، وثالثة : بأنّها لبكر ، فإنّ الدار تثلّث بينهم ، وهكذا في باب التقويم ، فإنّه إذا قال مقوّم : بأنّ قيمة دار اليتيم التي يراد بيعها ألف ، وقال مقوّم ثان : بأن قيمتها ألفان ، وقال مقوّم ثالث : بأنّ قيمتها ثلاثة آلاف ، ونحن نريد أن نشتريها أو نبيعها ، فاللازم هو : الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة ، فيكون المجموع ستة ثم نقسّمه بعدد الأقوال وهي هنا ثلاثة ، فثلّثه ونشتري الدار أو نبيعها بألفين ، وهكذا بالنسبة إلى الأقوال المتعدّدة في قيمة الصحيح والمعيب.

(و) لكن (هذا النحو) من الجمع العملي في الموضوعات القابلة للتبعيض (غير ممكن في الأخبار ، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني : صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه‌السلام غير قابل للتبعيض) فلا يمكن أن يؤخذ ببعض قوله دون بعض قوله الآخر ، لأنّ الراوي إن كان صادقا لزم الأخذ بكل قوله ، وإن كان كاذبا لزم ترك كل قوله.

٣٢٨

بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب.

نعم ، قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّا ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم ، فيما إذا ورد : «أكرم العلماء» وورد أيضا : «أهن العلماء» سواء كانا نصّين بحيث لا يمكن التجوّز في أحدهما ،

______________________________________________________

(بل هو) أي : مضمون خبر العادل (نظير تعارض البيّنات في) موضوع لا يمكن تبعيضه مثل : (الزوجيّة) إذا ادّعاها اثنان ، فإنّه لا يمكن تنصيف الزوجة نصفها لهذا ونصفها لذاك (أو النسب) كما إذا ادّعى الولد اثنان : زيد وعمرو ، فلا يمكن أن يكون نصف الولد لزيد ونصفه لعمرو ، وكذلك إذا نذر ـ مثلا ـ أن يذبح شاة في مشهد معيّن من المشاهد المشرّفة ، ثم نسى أنّ نذره كان لمشهد النجف الأشرف ، أو لمشهد كربلاء المقدسة ، فإنّه لا يمكن أن يذبح الشاة نصفها في النجف الاشرف ونصفها في كربلاء المقدسة ، والى غير ذلك ممّا لا يمكن التبعيض العملي فيهما إذا لوحظت حيثية الصدور.

(نعم ، قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّا ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله) أي : قوله العادل (في بعضها) أي : في بعض تلك الآثار (وبقول الآخر في بعضها) الآخر (فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم ، فيما اذا ورد : «أكرم العلماء» وورد أيضا : «أهن العلماء») إذ من الممكن أن يهين خمسة ويكرم خمسة.

وعليه : فإنّ التبعيض العملي في الدليلين المذكورين ممكن إذا لوحظت حيثيّة ترتّب الآثار ، بلا فرق بين كونها نصين أو ظاهرين كما قال : (سواء كانا) أي : الدليلان (نصّين بحيث لا يمكن التجوّز في أحدهما) كما إذا قال : إذا اكرمت

٣٢٩

أو ظاهرين ، فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض.

إلّا أنّ المخالفة القطعيّة في الأحكام الشرعيّة ، لا يرتكب في واقعة واحدة ،

______________________________________________________

العلماء عاقبتك عقابا شديدا ، وقال أيضا : إذا أهنت العلماء عاقبتك عقابا شديدا (أو ظاهرين) كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضا : لا تكرم العلماء ، حيث أن الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في التحريم ، لا إنهما نصّان في الوجوب والتحريم (فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز) جمعا دلاليا (و) ذلك بأن يحمل كل منهما على المجازية ، لا على الحقيقة حتى يتعارضان ، كما ويمكن الجمع بينهما (على طريق التبعيض) جمعا عمليا أيضا ، وذلك وعلى ما عرفت.

والحاصل : إنّ متعلّق خبر العادل وهو صدور القول الخاص عن الإمام عليه‌السلام لا يقبل التبعيض من حيث الصدور ، فهو إمّا صادر أو ليس بصادر ، وإمّا من حيث الأثر المترتّب على تصديق خبره ، فربما يمكن فيه التبعيض ، وذلك بأن يكرم عالما ويهين عالما كما قد تقدّم ، غير أنّ هناك فرقا بين ورود الدليلين القائلين أكرم العلماء ، وأهن العلماء ، وبين قيام البينتين القائلتين : أن الدار لزيد ولعمرو ، فإن الحق في الدليلين الواردين من الشارع لله وحده ، فلا يبعّضان بإكرام عالم واهانة عالم في واقعة وإن جاز ذلك بنظر ـ المصنّف ـ في وقائع متدرّجة ، بل يؤخذ فيهما أوّلا بالمرجّحات ومع عدمها بالتخيير ، وإمّا الحق في البينتين القائمتين في الموضوعات فهو للناس ، فيلزم فيهما التبعيض ، حيث أنه حقان فيعطى لكل واحد منهما نصف الحق ـ مثلا ـ.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله (إلّا أنّ المخالفة القطعيّة) لمقتضى الدليلين الواردين (في الأحكام الشرعيّة ، لا يرتكب في واقعة واحدة) أي :

٣٣٠

لأنّ الحقّ فيها للشارع ، ولا يرضى بالمعصية القطعيّة مقدّمة للعلم بالاطاعة ، فيجب اختيار أحدهما وطرح الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإنّ الحقّ فيها لمتعدّد ، فالعمل بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ،

______________________________________________________

لا تجوز المخالفة القطعية لإكرام العلماء وأهن العلماء ـ مثلا ـ دفعة ، وإن جازت بنظر المصنّف تدريجا بأن يكرم يوما ويهين يوما.

وإنّما لا يجوز ارتكاب ذلك دفعة (لأنّ الحقّ فيها) أي : في الواقعة الشرعية الواحدة (للشارع ، ولا يرضى بالمعصية القطعيّة) دفعة (مقدّمة للعلم بالاطاعة) لما يقتضيه الدليلان ، وذلك لأنّه إذا اكرم عالما وأهان عالما ، فإنّه خالف قطعا كما أنه وافق قطعا ، لكن المخالفة والموافقة القطعيتين حصلتا في كل من الدليلين الشرعيين دفعة ، وحيث انّ الشارع لا يرضى بذلك (فيجب اختيار أحدهما) أي : أحد الدليلين (وطرح الآخر) فيما إذا كان هناك مرجّح وإلّا فالتخيير.

هذا كله في الجمع الحكمي (بخلاف حقوق الناس) الذي هو جمع موضوعي (فإنّ الحقّ فيها) أي : في حقوق الناس (لمتعدّد) من الأشخاص (فالعمل بالبعض في كلّ منهما) أي : في كل من البينتين إنّما هو (جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة) علما بأن الدواعي النفسانية هناك تخالف العدالة ، وذلك لأنّ العادل إذا كان من حقه أن يعطي لهذا ، أو يعطي لذاك ، فقدّم أحدهما على الآخر لقرابة أو صداقة أو ما أشبه ذلك لم يسقط عن عدالته.

٣٣١

فهو أولى من الاهمال الكلّي لأحدهما ، وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد.

ولأجل هذا يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّد به في بعض النصوص أيضا ، فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

______________________________________________________

وكيف كان : (فهو) أي : الجمع العملي بين الحقين هنا (أولى من الاهمال الكليّ لأحدهما ، و) ذلك بأن يعطي الحق كله لأحدهما ويحرم الآخر منه رأسا ، كما أن الجمع هنا أولى من (تفويض تعيين ذلك) أي : ترجيح أحدهما (إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد) المختلفة فإنّه من المعلوم : إنّ الدواعي النفسانية لا تكون منضبطة لوضوح ؛ أنّه قد يرجّح أحدهما على الآخر لقرابة ، أو صداقة ، أو جوار ، أو طمع في مستقبل ، أو ما أشبه ذلك ممّا هو كثير.

(و) عليه : فقال تبيّن أنه (لأجل هذا) الذي ذكره المصنّف : من أن الحق في حقوق الناس لمتعدّد ، فاللازم التنصيف بينهما ـ مثلا ـ (يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف ، و) هذا هو مقتضى قاعدة العدل أيضا ، حيث ينصّف الحق الذي يقبل التبعيض في المدعيين ، ويثلث في الثلاثة ، وهكذا ، إضافة إلى أنه (قد وقع التعبّد به) أي : بالتبعيض (في بعض النصوص أيضا) وهي نصوص متعدّدة ذكر المصنّف واحدة منها فقط ، وذكرنا ما بجملتها في موارد متعدّدة من «الفقه».

إذن : (فظهر ممّا ذكرنا : أن الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

٣٣٢

كليهما لا أولويّة له أصلا على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس ؛ وأمّا الجمع بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة ، لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرق في مخالفتهما بين الأخذ لا بكلّ منهما ، بل بأحدهما

______________________________________________________

كليهما) أي : كلا الظاهرين المتنافيين ، كما في «لا بأس ببيع العذرة» (١) و «ثمن العذرة سحت» (٢) ـ مثلا ـ وذلك تبعا لقاعدة : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» (لا أولويّة له أصلا على طرح أحدهما والأخذ بالآخر) أي : لا أولوية للجمع الدلالي في الأحكام إذا كان مستلزما لتأويل كلا الظاهرين معا على الطرح ، كما أن الجمع العملي في الأحكام فيما يمكن التبعيض فيه ، كما في مثال «أكرم العلماء» و «أهن العلماء» لا أولوية له على الطرح أيضا لعدم رضا الشارع به (بل الأمر بالعكس) أي : بأن اللازم الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وذلك لأنّ هذا هو مقتضى روايات العلاج.

(وإمّا الجمع بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولوية فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة) وإنّما لا أولوية للجمع فيه (لأنّها) أي : أدلة حجيّة البيّنة (تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما) أي : بكل من البيّنتين (في تمام مضمونه) وإذا كان الواجب ذلك (فلا فرق في مخالفتهما) أي : في حصول المخالفة للبيّنتين في الجملة (بين الأخذ لا بكلّ منهما ، بل بأحدهما) فقط

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ و ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

٣٣٣

أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه.

إلّا أنّ ما ذكره من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحا للثاني على الأوّل.

ويؤيّده ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها ، في من أودعه رجل درهمين وآخر درهما ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما.

______________________________________________________

(أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه) أي : في بعض مضمونه ، فإنّه سواء عملنا بإحدى البيّنتين وطرحنا الأخرى ، أم عملنا ببعض مضمون كل منهما ، فقد خالفنا دليل حجيّة البيّنة (إلّا أنّ ما ذكره من الاعتبار) العرفي في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنتين ، وذلك حسب قاعدة العدل (لعلّه يكون مرجّحا للثاني) أي : للأخذ بكل منهما لا في تمام مضمونه بل في بعض مضمونه (على الأوّل) أي : على طرح إحدى البيّنتين والأخذ بالأخرى.

(ويؤيّده) أي : يؤيد هذا النحو من الجمع بين البيّنتين (ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو) المذكور من التنصيف ـ مثلا ـ لقاعدة العدل (في رواية السكوني (١) المعمول بها ، فيمن أودعه رجل درهمين وآخر درهما ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما) أي : أحد الدراهم الثلاثة ، حيث أنه ـ بحسب الرواية ـ يلزم إعطاء صاحب الدرهمين درهما وتنصيف الدرهم الآخر بينهما ، مع أن الدرهم الآخر إمّا لهذا وإمّا لذاك ، وهكذا حكم الإمام بتنصيف الناقة التي تداعاها اثنان ، وكان لكل منهما بيّنة ، وإلى غير ذلك من الموارد الواردة في الفقه حسب مقتضى قاعدة العدل.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٨١ ب ٢٢ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٧ ب ٢ ح ٣٢٧٨.

٣٣٤

هذا ، ولكنّ الانصاف : إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة.

نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين.

______________________________________________________

(هذا) هو غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنات وشبه البيّنات ممّا هي في الموضوعات (ولكنّ الإنصاف) عند المصنّف (إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها) أي : شبه البيّنات كتعارض أقوال المقومين ـ مثلا ـ (هي القرعة) فيقرع بينهما ويعطى الكل لمن خرجت القرعة باسمه ، وذلك لما ورد من قوله عليه‌السلام : «القرعة لكلّ أمر مشكل» (١) لكن قد عرفت : أن قاعدة العدل هي التي وردت بها روايات متعدّدة ، وقد عمل بها الفقهاء في غير مورد من الفقه ، وهي مقدّمة على قاعدة القرعة ـ وذلك على ما تقدّم ـ فلا تصل النوبة إلى قاعدة القرعة خصوصا وقد قالوا : «إنّ القرعة تحتاج إلى العمل وإلّا لزم تأسيس فقه جديد».

(نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها) يعني : إذا كانت هنالك بيّنتان متعارضتان وأقرعنا ، فخرجت القرعة مطابقة لإحداهما ، فهل تكون القرعة مرجّحة : (أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين) بالتعارض وعدّهما كأن لم يكن عندنا بيّنة أصلا؟ فإنّ هناك من يقول : بأنّ القرعة مرجح هنا لاستفادة الملاك في الترجيح بكل مرجّح عقلائي من النصوص ، وعدم التوقف على المرجحات المنصوصة ، وهناك من يقول : بأنّ القرعة لا تصلح مرجّحا ، لأن افق القرعة

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٥٨ ب ٤ ح ١٣ ، فتح الابواب : ص ٢٩٢ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٢ وص ٢٨٥ وج ٣ ص ٥١٢ ، بحار الانوار : ج ٩١ ص ٢٣٤ ب ٢ ح ٧.

٣٣٥

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين.

وللكلام مورد آخر ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير

______________________________________________________

غير افق البيّنة ، فإنّ البيّنة أمارة ظنّية والقرعة أمر تعبّدي ، فلا يصلح أحدهما أن يكون مرجّحا للآخر ، كما تقدّم في مثل الأصل والأمارة حيث قلنا : أنه لا يمكن أن يكون أحدهما مرجّحا للآخر.

(وكذا) أي : يبقى أيضا (الكلام في عموم موارد القرعة) أي : هل أنها عامة لكل مورد حتى فيما كان هناك أصل عملي أم لا؟ كما قال : (أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين) فإذا قامت بيّنتان على طهارة شيء ونجاسته ـ مثلا ـ فإنّ الأصل العملي هنا على الطهارة ، فلا يكون معه مجال للقرعة ، لأن الشارع عيّن كونه ظاهرا ، فليس بمشكل حتى يدخل في عموم : «القرعة لكل أمر مشكل» (١).

هذا (وللكلام) في خصوصيّات القرعة (مورد آخر) من الفقه ... ، وأما الآن هنا (فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع) في أدلة الأحكام بين المتعارضين عدا ما يراه العرف من الجمع بين النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، فالجمع غير مقدّم إذن (على الترجيح) فيما إذا كان هناك لأحد الخبرين مرجّح (ولا على التخيير) فيما إذا تشابه الخبران ولم يكن هناك لأحدهما مرجّح على الآخر ، ممّا يكون حاصله : إنّه لا مجال للجمع إطلاقا ، لأنّه إذا كان ترجيح ،

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٥٨ ب ٤ ح ١٣ ، فتح الابواب : ص ٢٩٢ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٢ وص ٢٨٥ وج ٣ ص ٥١٢ ، بحار الانوار : ج ٩١ ص ٢٣٤ ب ٢ ح ٧.

٣٣٦

فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول :

المقام الأوّل

في المتكافئين

والكلام فيه :

أوّلا : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا أوّلا ، ثمّ اللّازم ـ بعد عدم التساقط ـ الاحتياط

______________________________________________________

فالعمل على المرجّح ، وإذا لم يكن ترجيح ، فالعمل على التخيير ومعه (فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول) في بيانهما ما يلي :

(المقام الأوّل في المتكافئين) من الأخبار وسائر الأدلة (والكلام فيه) يكون على النحو التالي :

(أوّلا : في أنّ الأصل) الأوّلي (في المتكافئين) ما هو؟ هل هو (التساقط وفرضهما كأن لم يكونا) وذلك لأنّ دليل الحجيّة لا يشمل المتعارضين ، سواء كان الأصل موافقا لأحدهما ، أم مخالفا لهما (أوّلا) بأن لم يكن الأصل الاوّلي فيهما هو التساقط؟ (ثمّ) أنّه على عدم التساقط ما هو اللازم تجاههما؟ هل (اللّازم ـ بعد عدم التساقط ـ) إن قلنا به هو (الاحتياط) وذلك من جهة أدلة الاحتياط ، والتي منها : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١) وما أشبه ذلك؟.

__________________

(١) ـ الامالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، الامالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

٣٣٧

أو التخيير ، أو التوقّف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما دون المخالف لهما ، لأنّه معنى تساقطهما ، فنقول وبالله المستعان.

قد يقال ، بل قيل :

______________________________________________________

(أو التخيير) لأن أدلة الحجيّة تشمل كلا المتعارضين ، وحيث لا يمكن العمل بهما معا ، فلا بد من العلم بأحدهما ، أخذا بالقدر الممكن ، فيكون ما نحن فيه من قبيل الغريقين الذين لا نتمكن من انقاذهما معا؟.

(أو التوقّف) كما عليه المصنّف ، ومعنى التوقف هو : تساقط المتعارضين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، وإمّا بالنسبة إلى نفي الثالث فهما حجّة ، وذلك كما إذا دلّ أحدهما على وجوب صلاة الجمعة ، والآخر على حرمة صلاة الجمعة ، فإنهما يتساقطان من حيث الوجوب والحرمة ، ويثبتان من حيث نفي كون صلاة الجمعة مستحبة ـ مثلا ـ فإذا قلنا بالتوقف كالمصنّف ، فالتوقف (والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما) فيما إذا كان هناك أصل مطابق لأحدهما (دون المخالف لهما ، لأنّه) أي : الرجوع إلى الأصل المخالف هو (معنى تساقطهما)؟.

وعلى هذا : فالفرق بين التساقط والتوقّف هو : أن التساقط عبارة عن فرض الدليلين كأن لم يكونا ، فيرجع إلى الأصل سواء وافق أحدهما أو خالفهما ، وذلك لأنّ الأصل هو المرجع حيث لم يكن دليل ، والمفروض : أنه بالتساقط لم يبق في المقام دليل بينما التوقف عبارة عن تساقط الدليلين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، لا بالنسبة الى نفي الثالث ، فيرجع الى الأصل إن كان هناك أصل يوافق أحدهما ، وإلّا فإلى التخيير بين الاحتمالين.

إذا عرفت ذلك (فنقول وبالله المستعان : قد يقال) أي : يمكن لقائل أن يقول ، ثم أضرب المصنّف عنه وقال : (بل قيل) أي : أنه ليس مجرّد احتمال

٣٣٨

إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجيّة أحدهما ، لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض.

أمّا إذا كان إجماعا ، فلاختصاصه بغير المتعارضين وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم.

وأمّا إذا كان لفظا ، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

______________________________________________________

القول ، بل هناك بعض من قال : (إنّ الأصل) الأوّلي مع غض النظر عن ملاحظة أخبار العلاج (في المتعارضين) هو : (عدم حجيّة أحدهما) فاللازم إسقاطهما وفرضهما كأن لم يكونا أصلا : وذلك (لأنّ دليل الحجيّة مختص بغير صورة التعارض) وأما صورة التعارض فلا يشملها أخبار الحجيّة ، فإذا قال المولى لعبده ـ مثلا ـ اسأل أهل الخبرة عن طريق كربلاء ، فاختلفت أقوالهم ، فقال أحدهم : إنها باتجاه الشمال ، وقال ثان : إنها باتجاه الجنوب ، لم يشمل دليل الرجوع الى أهل الخبرة قول هذين بل يتساقطان.

وإنّما يختص دليل الحجية بغير صورة التعارض ، لأنّ الدليل إما لفظي أو لبّي ، وكلاهما لا يشملان صورة التعارض ، أما اللبّي فلعدم وجود المقتضي ، وأما اللفظي فلوجود المانع كما قال (أمّا إذا كان) دليل الحجية (إجماعا ، فلاختصاصه بغير المتعارضين) لأنّ المتيقن من الاجماع هو ما لم يكن هناك تعارض في البين ، فإنّ الاجماع دليل لبّي (و) لا مقتضى له لشمول المتعارضين ، إذ (ليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم) بحيث يشمل المتعارضين أيضا.

هذا ، إذا كان دليل الحجيّة إجماعا (وأمّا إذا كان) دليل الحجية (لفظا) كآية النبأ وآية الأذن ، وغيرهما من الآيات والأخبار (فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

٣٣٩

من عموم ذلك اللفظ ، لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر ـ مثلا ـ.

ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعمل بكلّ منهما تخييرا فلا يدلّ الكلام عليه ، إذ لا يجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد.

______________________________________________________

من عموم ذلك اللفظ) لوجود المانع ، وقد بيّن المصنّف المانع بقوله : (لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر ـ مثلا ـ) فإن ظاهر قوله : «صدّق العادل» هو : أنه يجب العمل بعين كلّما أخبر به العادل : أي حتى وإن كانا متعارضين ، لكن المتعارضين بأنفسهما ممتنعان عن العمل بهما عينا ، كما قال : (ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع) فلا يمكن إرادته لاستحالة الجمع بينهما ، سواء كانا نقيضين أم ضدّين.

إن قلت : في المتعارضين يكون العمل بكل منهما تخييرا كما أن في غير المتعارضين يكون العمل عينا.

قلت : (والعمل بكلّ منهما تخييرا) بأن ينصبّ الوجوب على المصداق مخيّرا (فلا يدّل الكلام عليه) لأن ظاهر : «صدّق العادل» ليس ذلك ، إضافة إلى أنه مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى كما قال : (إذ لا يجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة الى المتعارضين من لفظ واحد) فإنّه إذا قال المولى : أكرم زيدا وعمروا ، فلا يمكن أن يقال : أن المولى : يريد إكرامهما مع الامكان ، والتخيير بين إكرام هذا أو ذاك مع عدم إمكان الجمع ، لأنّه يكون من استعمال اللفظ في معنيين ، وذلك : إما محال كما قاله بعض ، أو محتاج إلى قرينة ـ ولا قرينة ـ كما قاله بعض آخر.

٣٤٠