الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

المقام الثالث :

في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة أعني : البراءة والاشتغال والتخيير.

الأوّل :

تعارض البراءة مع الاستصحاب

أمّا أصالة البراءة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلة ، سواء كان مدركه العقل أو النقل.

______________________________________________________

(المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة) فانّه قد يتعارض الاستصحاب مع استصحاب آخر ، وقد يتعارض الاستصحاب مع سائر الاصول الاخرى (أعني : البراءة والاشتغال والتخيير) وذلك بأن يكون الاستصحاب في جانب ، والبراءة في جانب آخر ، أو الاستصحاب في جانب ، وفي الجانب الآخر اشتغال أو تخيير.

(أما أصالة البراءة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول) أعني : الاحتياط والتخيير ، لأنها متباينة من حيث المورد ، فالاستصحاب وكذلك الاحتياط والتخيير كلها مقدّم على البراءة (و) هكذا (الأدلة) مقدّمة على البراءة ، فأصل البراءة لا يعارض شيئا من الاصول ولا من الأدلة (سواء كان مدركه) أي : مدرك أصل البراءة (العقل) مثل : قبح العقاب بلا بيان (أو النقل) مثل : «رفع ...

ما لا يعلمون» (١) ونحوه.

__________________

(١) ـ تحف العقول : ص ٥٠ ، الخصال : ص ٤١٧ ح ٢٧ ، الاختصاص : ص ٣١ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

١٤١

أمّا العقل ، فواضح ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا.

وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتضح

______________________________________________________

(أمّا العقل ، فواضح) في ان دليل العقل القائم على البراءة لا يتمكن من ان يعارض الاستصحاب أو سائر الاصول والأدلة ، وذلك (لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف) فإذا كان هناك دليل يدلّ على التكليف قدّم على البراءة ، سواء دلّ على التكليف (واقعا) كالخبر الدال على التكليف واقعا (أو ظاهرا) كالاستصحاب المثبت للتكليف ظاهرا ، فان الاستصحاب دليل ظاهري وهو كالدليل الواقعي يرفع موضوع البراءة ، لأن الشارع لما قال : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) كان معناه : انه حكم على طبق اليقين السابق ، وهذا هو بيان كما ان الدليل الواقعي بيان ، ومعه لا يجري «قبح العقاب بلا بيان» ، فيكون الاستصحاب كالخبر المعتبر واردا على أصل البراءة الذي مدركه العقل.

(وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل) ومشابها له ، وهو ما ينفي التكليف ، لأن العقل يحكم بنفي التكليف مع عدم البيان ، مثل قوله عليه‌السلام : «رفع ... ما لا يعلمون» (٢) و «الناس في سعة ما لا يعلموا» (٣) وما أشبههما (فقد اتضح

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٢) ـ تحف العقول : ص ٥٠ ، الخصال : ص ٤١٧ ح ٢٧ ، الاختصاص : ص ٣١ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

(٣) ـ مستدرك الوسائل : ج ١٨ ص ٢٠ ب ١٢ ح ٢١٨٨٦ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٤٢٤ ح ١٠٩ وقريب منه في الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٢٩٧ ح ٢ ، المحاسن : ص ٤٥٢ ح ٣٦٥ ، تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٩٩ ب ٤ ح ١٦٧ ، وسائل الشيعة : ج ٣ ص ٤٩٣ ب ٥٠ ح ٤٢٧٠.

١٤٢

أمره ، والاستصحاب وارد عليه ، وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» فقد يقال : إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه لورود النهي في المستصحب ، ولو بالنسبة إلى الزمان السابق.

وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

______________________________________________________

أمره ، و) ذلك لأن (الاستصحاب وارد عليه) أي : على مثل هذا الدليل الشرعي الذي أخذ الجهل فيه أيضا ، كما كان واردا على الدليل العقلي الذي أخذ عدم البيان فيه ، وذلك لأن الاستصحاب هو ممّا يعلمون ، فلا يبقى موضوع لما لا يعلمون ، ومن المعلوم : أن «العلم» هنا هو أعم من العلم الظاهري أو العلم الواقعي.

(وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١)) ممّا لم يؤخذ الجهل فيه (فقد يقال :) بورود الاستصحاب عليه أيضا ، إذ (إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه) أي : عن «كلّ شيء مطلق» وذلك (لورود النهي في المستصحب) أي : في الشيء الذي نهي عن فعله أو عن تركه (ولو) كان هذا النهي ثابتا (بالنسبة إلى الزمان السابق) كالنهي عن العصير العنبي لو غلا وذهب ثلثاه لكن لا بالنار بل بالهواء ، فكل شيء مطلق يقول بحلّية كل ما لم يرد فيه نهي ، وهذا العصير قد ورد فيه النهي سابقا ، فليس هو حينئذ بمطلق.

وعليه : فيكون معنى قول المصنّف : «فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه» هو : ان النهي السابق كاف في عدم جريان البراءة حالا ، فيكون خارجا عن «كل شيء مطلق» لكن أشكل عليه المصنّف نفسه : بأن النهي السابق لا يكفي هنا ، وإنّما اللازم وجود النهي حالا ، ولذا قال : (وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

١٤٣

حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه.

فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عن بعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده.

______________________________________________________

حرمته) الآن ، كالعصير العنبي الذي غلا ثم ذهب ثلثاه بالهواء ، فانه (لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان) اللاحق وهو زمان الشك (فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه) أي : حلالا ، وذلك لأنه مشكوك الآن في انه هل هو حرام أو حلال؟ فيشمله دليل البراءة.

وعليه : (فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه) بالنار لا شك في حليّته ، امّا إذا ذهب ثلثاه (بالهواء) فيشك في انّه حرام أو حلال وهو ممّا (لم يرد فيه نهي) بعد ذهاب ثلثيه بالهواء (وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع) أي : الحرمة (عن بعده) أي : بعد ذهب ثلثيه.

هذا (كما أنّ وروده) أي : ورود النهي وتعميمه (في مطلق العصير) وكلّيه وذلك : (باعتبار وروده في بعض أفراده) كالنهي الوارد في العصير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فإن هذا (لو كفى في الدخول) أي : في إدخال مطلق العصير الذي هو من المغيّى المشمول لجملة : «كل شيء مطلق» وحلال (فيما بعد الغاية) أي : في جملة : «حتى يرد فيه نهي» وتحريم ، حتى يكون الآن حراما ، فانه لو كفى المنع عن ذلك الفرد في المنع عن مطلق العصير (لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده) مع ان هذا ما لا يقول به أحد.

١٤٤

والفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها شطط من الكلام.

______________________________________________________

والحاصل : ان العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فرد آخر غير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فلا يسحب الحكم بالحرمة من الفرد السابق قبل ذهاب الثلثين ، إلى الفرد اللاحق بعد ذهاب الثلثين ، كما انه إذا نهي عن فرد من أفراد الكلي ، لا يتعدّى النهي من ذلك الفرد إلى كل أفراد الكلي ، لأنه من سحب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

(و) ان قلت : فرق بين فردين متغايرين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان ، كما في مورد الاستصحاب ، فإن العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه فردان متغايران بسبب تبدّل الأحوال من ذهاب الثلثين وعدمه ، والأزمان قبل الذهاب وبعده ، وفيهما تكون الحرمة السابقة كافية في الحرمة اللاحقة ، وبين فردين متغايرين بأسباب اخرى كفردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر ، وفيهما لا يسحب الحكم من المحرّم إلى المحلل ، فقولكم : «لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلي ورد المنع عن بعض أفراده» لا يكون تاما.

قلت : (الفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان) كما في مورد الاستصحاب مثل تغاير العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه والقول بكفاية الحرمة السابقة فيه (دون غيرها) من الافراد التي يكون تغايرها بأسباب اخرى غير تبدّل الأحوال والأزمان ، مثل تغاير فردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر والقول بعدم سحب الحكم من فرد إلى فرد ، فان هذا الفرق (شطط من الكلام) أي : بعيد عن الحق ولا يقول به فقيه ، لوضوح : انه

١٤٥

ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.

ويتلوه في الضعف ما يقال : من أنّ النهي ـ الثابت بالاستصحاب ـ عن نقض اليقين ، نهي وارد في دفع الرخصة.

______________________________________________________

لا فرق في عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد ، سواء كان تغاير الفردين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان أم بغيره من الأسباب.

(ولهذا) أي : لما ذكرناه : من عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد سواء كانا متغايرين بتبدّل الأحوال والأزمان أم بغيرهما (لا إشكال في الرجوع إلى البراءة) في الفرد المتغيّر المشكوك (مع عدم القول باعتبار الاستصحاب) أي : مع انكاره ، فانّ المنكرين للاستصحاب يتمسّكون فيما نحن فيه من العصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء بأصالة البراءة ، لا بدليل حرمة العصير إذا غلى ، وذلك لوضوح : ان العصير قبل ذهاب الثلثين فرد ، وبعد ذهاب الثلثين فرد آخر.

(ويتلوه في الضعف) أي : يتلو ما ذكره المصنّف آنفا بقوله : «فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه» أي : عن «كل شيء مطلق» حيث كان خلاصته : ان النهي الأوّل مستمر إلى الزمان الثاني ، وخلاصة هذا القول : استصحاب النهي السابق والتعبد بالنهي في الزمان الثاني وهو (ما يقال : من أنّ النهي ـ الثابت بالاستصحاب ـ عن نقض اليقين ، نهي وارد في دفع الرخصة) المستفادة من : «كل شيء مطلق» فمورد الاستصحاب وان لم يرد فيه نهي واقعي ، حيث لم يقل الشارع : لا تشرب العصير بعد إذهاب الهواء ثلثيه بالخصوص ، إلّا انه ممّا ورد فيه

١٤٦

وجه الضعف : أنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص ، لا من حيث أنّه مشكوك الحكم ،

______________________________________________________

النهي الظاهري بالعموم حيث قال الشارع : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) والعصير الذي غلى ورد النهي فيه يقينا ، فإذا ذهب ثلثاه بالهواء نشك في خروجه عن النهي ودخوله في الرخصة «كل شيء مطلق» فاستصحاب النهي يدفع دخوله في الرخصة : «كل شيء مطلق» فلا مجال للبراءة فيه.

(وجه الضعف : أنّ الظاهر من الرواية) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) (بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص) أي : بما هو ، كالعصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه لم يرد فيه نهي بعنوانه الخاص (لا) انه لم يرد فيه نهي (من حيث) عنوانه العام أي : العصير بما (أنّه مشكوك الحكم) فالعصير المشكوك الحكم ، كالعصير الذي غلى وذهب ثلثاه لكن بالهواء ، ان جاء فيه نهي بعنوانه الخاص يعني : نهي واقعي بأن قال : لا تشرب العصير ان ذهب ثلثاه بالهواء ، دخل في المنهي عنه ، وإلّا فمجيء النهي بعنوانه العام أي : نهي ظاهري بسبب الاستصحاب ، فانه لا يخرجه عن : «كل شيء مطلق» لأن ظاهر : «كل شيء مطلق» بيان الرخصة فيما لم ينه عنه بعنوانه الخاصّ ، فيكون مشمولا للبراءة.

وعليه : فالنهي لا يشمل كلا العنوانين : النهي الخاص والعام أي : النهي الواقعي الحاصل من الدليل المعتبر كالخبر ، والنهي الظاهري الحاصل من الأصل العملي

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦٠ وص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

١٤٧

وإلّا فيمكن العكس ، بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة

______________________________________________________

كالاستصحاب ، حتى يكون الاستصحاب واردا على «كل شيء مطلق» (وإلّا فيمكن العكس) بأن يكون : «كل شيء مطلق» واردا على الاستصحاب ، وذلك بأن يشمل اليقين على خلاف الحالة السابقة كلا العنوانين أيضا : اليقين الخاص والعام أي : اليقين الواقعي الحاصل من : يجوز شرب العصير ان ذهب ثلثاه ولو بالهواء ـ على فرض وجوده ـ والظاهري الحاصل من : «كل شيء مطلق» فانه يقين ظاهري على خلاف الحالة السابقة للعصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء ، فيخرجه من : «لا تنقض اليقين بالشك» ويدخله في : «بل انقضه بيقين آخر» (١) فيكون «كل شيء مطلق» واردا على الاستصحاب.

هذا ان لم نقل بالتعارض والتساقط فيها ، وذلك لأن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء مشمول من جهة للحرمة المستصحبة المتيقنة سابقا ، ومن جهة للرخصة الظاهرة من «كل شيء مطلق» لأنه لم يرد فيه نهي خاص ، فيتعارضان ويتساقطان ويكون العصير مجرى للبراءة العقلية.

وكيف كان : فان من يقول : بأن «لا تنقض اليقين بالشك» محكّم في المقام فيقتضي الحرمة ، قيل له : «ان كل شيء مطلق» محكّم في المقام ممّا يوجب الحلية.

هذا ، وقد بيّن المصنّف العكس بقوله : (بأن يقال : إنّ النهي عن النقض) الذي هو مقتضى الاستصحاب إنّما يكون (في مورد عدم ثبوت الرخصة) في الشيء لكن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه قد ثبت فيه الرخصة ولو (بأصالة

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

١٤٨

الاباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق.

فقوله : «لا تنقض اليقين بالشك» يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من ابقائه ، وفرض عمومه للزمان اللاحق ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي أيضا.

______________________________________________________

الاباحة) التي هي مفاد «كل شيء مطلق» فيكون واردا على الاستصحاب ، وحينئذ (فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة) التي هي مفاد «كل شيء مطلق».

وعليه : فحين سقط الجوابان السابقان اللذان ذكرهما المصنّف بقوله : «فقد يقال : أنّ مورد الاستصحاب خارج عنه» وبقوله : «ويتلوه في الضعف» (فالأولى في الجواب) الموجب للقول بحرمة العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء (أن يقال :) بالحكومة لا بالورود ، وهو : (إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق) أي : قبل ذهاب الثلثين في المثال تعميما (بالنسبة إلى الزمان اللاحق) أي : بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، فالعصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه بالهواء كان محرّما ، والآن بعد الذهاب بالهواء يقول الاستصحاب ببقاء هذا التحريم.

وكيف كان : (فقوله : «لا تنقض اليقين بالشك» يدلّ على أنّ النهي الوارد) سابقا عن شرب العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه (لا بدّ من ابقائه) أي : ابقاء ذلك النهي (و) كذا لا بدّ من (فرض عمومه) أي : عموم النهي السابق قبل ذهاب الثلثين (للزمان اللاحق ، و) هو بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، بمعنى : (فرض الشيء في الزمان اللاحق مما ورد فيه النهي أيضا) لأنّ ذلك النهي عام شامل

١٤٩

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» ، وكلّ نهي ورد في شيء ، فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغيّا بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لو لا النهي ،

______________________________________________________

للزمان اللاحق.

إذن : (فمجموع الرواية المذكورة) الدالة على الرخصة : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) (ودليل الاستصحاب) : «لا تنقض اليقين بالشك» منضما أحدهما إلى الآخر يكونان (بمنزلة أن يقول : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي») هذا من جهة الرواية (وكلّ نهي ورد في شيء ، فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله) أي : احتمال النهي وابقائه إلى الزمان الثاني ، وهذا من جهة دليل الاستصحاب (فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه) أي : «كل شيء مطلق» و «كل شيء مرخّص فيه» (مغيّا بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام) لأن النهي بمقتضى الاستصحاب دائم إلى الحالة الثانية (و) ب (عموم الأزمان) الشامل للزمان الثاني أيضا.

وعليه : (فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر) الذي هو البراءة (في مورد الشك) أي : بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فيما نحن فيه (لو لا النهي) أي : انه لو لا النهي كان اللازم الأخذ بالأصل الآخر الذي هو البراءة ، لكن لما ورد النهي واستصحبناه إلى الحالة الثانية ، كان اللازم أن نقول بالتحريم ،

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦٠ وص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

١٥٠

وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والموضوعية ، بل الآمر في الشبهة الموضوعية أوضح ، لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة.

مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

______________________________________________________

فإنّ استصحاب الحرمة يفيد : أن هذا الشك ليس بشك ، وان قوله : «كل شيء مطلق» لا يعم هذا المورد ، فيكون الاستصحاب حاكما على البراءة (وهذا) هو (معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض) إن شاء الله تعالى : من ان الحكومة هي : كون دليل موسّعا لدليل أو مضيّقا له.

هذا (ولا فرق فيما ذكرنا) من حكومة الاستصحاب (بين الشبهة الحكميّة) كما تقدّم في مثال : الشكّ في حصول الطهارة والحلية بذهاب الثلثين بالهواء ، أو البقاء على الحرمة والنجاسة (و) بين الشبهة (الموضوعية) كما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدم ذهابهما ، وذلك فيما إذا كان الموضوع العرفي باقيا ، فانه يستصحب عدم ذهاب الثلثين.

(بل الآمر) أي : الحكومة (في الشبهة الموضوعية أوضح) من الشبهة الحكمية (لأنّ الاستصحاب الجاري فيها) أي : في الشبهة الموضوعية (جار في الموضوع) فيستصحب بقاء الموضوع السابق (فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة) وإذا دخل فيه ، فلا يبقى شك في الحكم حتى يقال : بجريان أصل الحل أو أصل البراءة.

(مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

١٥١

الشك في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلة ، فيخرج عن قوله «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام».

نعم ، هنا إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ،

______________________________________________________

الشك في الذهاب) أي : في ذهاب الثلثين (يدخله) أي يدخل هذا العصير المشكوك (في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته) أي : حرمة هذا العصير (بالأدلة) الدالة على ان كل عصير غلى ولم يذهب ثلثاه فهو حرام (فيخرج عن قوله) عليه‌السلام : («كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» (١)) الدال على البراءة ، لوضوح : ان جريان الأصل في الموضوع حاكم على جريان الأصل في الحكم ، فيقدّم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، كما ألمعنا إليه سابقا.

(نعم ، هنا) في حكومة الاستصحاب الموضوعي السببي على الأصل الحكمي المسبّبي (إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية) والاشكال هو ان الظاهر : كون الحلّية في الأمثلة المذكورة في هذا البعض من أخبار البراءة مستندة إلى الكلية المذكورة في صدرها ، وهي : «كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام» مع ان هذه الأمثلة معارضة باستصحاب الحرمة فيها ، ممّا يظهر من الرواية حكومة البراءة على الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، لا حكومة الاستصحاب على البراءة ، لكن بعض العلماء حاول حلّ الاشكال المذكور ودفعه عن ظاهر الموثقة بجعل الأمثلة المذكورة في الرواية لمجرد الحلية المستندة إلى غير الكلية المذكورة ، كالاستناد إلى أصالة الصحة في الشراء

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ج ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

١٥٢

وهو قوله عليه‌السلام من الموثّقة : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ، ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غيره أو يقوم به البيّنة».

______________________________________________________

من ذي اليد ، وعدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة وغير ذلك.

(و) هذا البعض من الأخبار (هو قوله عليه‌السلام من الموثّقة : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقة) قد باعه السارق أو أهداه إليك وأنت لا تعلم انه سرقة (والمملوك عندك ، ولعلّه حرّ قد باع نفسه) حيث كان المسيحيون يبيعون أنفسهم ويهدون أثمانهم لدينهم ، وكذلك كان يفعل بعض الفقراء ، حيث كانوا يبيعون أنفسهم حتى يستريحوا عن كدّ المعاش ويكون معاشهم على مواليهم (أو قهر فبيع) أي : هدّده الغاصبون بالقتل إذا لم يعترف بأنه عبد ثم باعوه (أو خدع فبيع) وذلك بأن أوقعوا في ذهنه انه عبد فتصور صحة كونه عبدا (أو امرأة تحتك وهي أختك) من النسب (أو رضيعتك) أو أم زوجتك أو ما أشبه ذلك.

ثم أعطى عليه‌السلام قاعدة كلية فقال : (والأشياء كلّها على هذا) أي : على الحلية (حتى يستبين لك غيره) أي : غير الحلّ بسبب العلم والاطمينان وما أشبه ذلك (أو يقوم به البيّنة» (١)) الشرعية كشاهدين عادلين ـ مثلا ـ على غير ذلك.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

١٥٣

فانّه قد استدلّ بها جماعة ـ كالعلامة في التذكرة ، وغيره ـ على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب ، والحريّة في المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة.

ولو اريد من الحلّية في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة

______________________________________________________

وكيف كان : (فانّه قد استدلّ بها) أي : بهذه الرواية (جماعة ـ كالعلامة في التذكرة ، وغيره ـ على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة) التي هي أصل حكمي مسبّبي (هنا) في الأمثلة المذكورة (معارضة باستصحاب) موضوعي سببي وهو استصحاب موضوع (حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية) وذلك (كأصالة عدم التملّك في الثوب ، و) أصالة (الحرّية في المملوك ، و) أصالة (عدم تأثير العقد في الامرأة).

هذا ان أريد بأصل الحلّ البراءة (ولو اريد من الحلّية في الرواية ما) ما ذكرناه : من الحل الذي (يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب) وقد تقدّم سابقا : ان أصالة الصحة مقدّمة على الاستصحاب (و) كذا أصالة الصحة في شراء (المملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة) التي هي زوجته ، وذلك بمعنى : انه لم يحكم بحلّية هذه الأشياء لأصل البراءة ، بل لاصول موضوعيّة اخرى حاكمة على الاستصحاب الموضوعي الجاري في هذه الأمثلة ، فان الاستصحابين إذا تعارضا فقد يحكّم بعضهما على بعض ، وذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٥٤

كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية.

وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، والله الهادي ، هذا كلّه قاعدة البراءة.

وأمّا استصحابها ،

______________________________________________________

وعليه : فانه وان كان الحكم لذلك صحيحا ، لكنه (كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية) فان الاباحة الثابتة بالاصول الموضوعية ، كأصالة الصحة ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع ، غير الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، بينما ظاهر الرواية هو : ان الإمام استند إلى أصالة الاباحة ، لأنه قال عليه‌السلام في صدر هذه الرواية : «كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام» وقال في ذيلها : «والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة» فيلزم من الرواية : امّا حكومة البراءة على الاستصحاب ، وامّا عدم انطباق الأمثلة على الكلية التي ذكرها الإمام عليه‌السلام ، وكلاهما خلاف الموازين الأوّلية.

هذا (وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع) هناك حتى يتبيّن لك امكان عدم الالتزام بأحد المحذورين (والله الهادي) إلى سواء السبيل.

كان (هذا كلّه) حال (قاعدة البراءة) المختصة بالشك في التكليف فيما لو تعارضت مع الاستصحاب ، وقد عرفت : حكومة الاستصحاب عليها.

(وأمّا استصحابها) أي : استصحاب البراءة ـ المختص بالشك في بقاء البراءة الثابتة سابقا ـ على فرض جريانه في البراءة ، فانّا قد قلنا سابقا : ان استصحاب البراءة لا يجري بعد كون الأثر للشك لا للمشكوك ، كما إذا استصحبنا البراءة السابقة حال الصغر أو حال الجنون أو ما أشبه ، وذلك بأن نقول : إنّ التتن

١٥٥

فهو لا يجامع استصحاب التكليف ، لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : «صم يوم الخميس».

______________________________________________________

حال الصغر وحال الجنون كان جلالا ، لرفع القلم حالهما ، فإذا شككنا في حرمته بعد البلوغ والافاقة نستصحب حلّيته.

وكيف كان : فانه على فرض جريانه (فهو لا يجامع استصحاب التكليف) إذ ليس هناك مورد يتعارض فيه استصحاب التكليف مع استصحاب البراءة حتى يبحث عن تقدّم هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا.

وإنّما لا يجامع استصحاب البراءة استصحاب التكليف (لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف) كما تقدّم من مثال الشك في حصول الحلّية بذهاب الثلثين بالهواء ، فإنّه يستصحب الحرمة ، لا البراءة (أو عدمه) أي : عدم وجود التكليف سابقا ، كالشك في حرمة التتن مع عدم التكليف ، فانه على كلا التقديرين لا اجماع للاستصحابين.

إذن : فاستصحاب البراءة لا يجتمع مع استصحاب التكليف حتى يتعارضان (إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين) وهو النراقي (إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : «صم يوم الخميس») فان في يوم الجمعة استصحابين : استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس ، لكنّا ذكرنا سابقا : عدم صحة مثل هذا الاستصحاب وقلنا :

١٥٦

الثاني :

تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب

ولا اشكال بعد التأمّل في ورود الاستصحاب عليها ، لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشك في براءة الذمّة بدون الاحتياط.

فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب ، فلا مورد للقاعدة ،

______________________________________________________

ان الزمان لو كان مفرّدا كان الحكم بعد يوم الخميس عدم الوجوب ، وان كان الزمان ظرفا كان الحكم بعد يوم الخميس الوجوب ، لما كان في يوم الخميس من الصوم في المثال المذكور.

(الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب) كما إذا سافر إلى محل يشك في انه هل هو ثمانية فراسخ أم لا؟ فان الاستصحاب يقول بعدم كونه ثمانية فراسخ فيجب عليه التمام ، والاشتغال يقول بانه مكلّف باحدى صلاتين : القصر أو التمام ولا يعلم أيّهما فيجب عليه الجمع بينهما ، فيتعارض الاستصحاب مع الاشتغال.

هذا (ولا اشكال بعد التأمّل في) هذين القاعدتين من (ورود الاستصحاب عليها) أي : على قاعدة الاشتغال ، وذلك (لأنّ المأخوذ في موردها) أي : في مورد قاعدة الاشتغال (بحكم العقل) هو (الشك في براءة الذمّة بدون الاحتياط) أي : انه إذا لم يحتط لم يقطع ببراءة ذمته ، فيحتاط بالجمع كما في المثال لإبراء ذمته عن التكليف الموجّه إليه (فإذا قطع بها) أي : بالبراءة (بحكم الاستصحاب) حيث يستصحب وجوب التمام ، أو يستصحب عدم الوصول إلى ثمانية فراسخ (فلا مورد للقاعدة) أي : لقاعدة الاشتغال ، فلا تعارض.

١٥٧

كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط : الجمع فيها بين القصر والتمام ، فانّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرئ قطعي لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجود ، هذا حال القاعدة.

وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة

______________________________________________________

وأمّا مثاله : فهو (كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد ، التي يقتضي الاحتياط : الجمع فيها) أي : في تلك الموارد (بين القصر والتمام) كالمثال الذي ذكرناه آنفا (فانّ استصحاب وجوب أحدهما) كالتمام في مثالنا (وعدم وجوب الآخر) كالقصر ، لأنه لم يكن سابقا يجب عليه القصر ، فإذا شك في انه وجب عليه القصر أم لا؟ استصحب عدم وجوب القصر (مبرئ قطعي لذمة المكلّف عند الاقتصار على) امتثال (مستصحب الوجود) أي : الذي كان سابقا موجودا موضوعا أو حكما.

نعم ، إذا كان استصحاب الموضوع ممكنا لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم ، لأنهما من قبيل الاستصحاب السببي والمسبّبي ، وقد سبق ان قلنا : انه ما دام يجري الاستصحاب السببي لا مجال للاستصحاب المسبّبي.

(هذا حال القاعدة) أي : قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب.

(وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة) أي : في مورد قاعدة الاشتغال ، فقد ذكرنا : انه لا فائدة فيه ، لأنه تحصيل للحاصل ، إذ مورد جريان قاعدة الاشتغال هو : الشك في المكلّف به ، كما في مثال القصر والتمام ، فانه قبل الاتيان بأحدهما ، وكذا بعد الاتيان بأحدهما ، مجرى لقاعدة الاشتغال ، ومع جريان قاعدة الاشتغال نستغني عن استصحاب الاشتغال.

١٥٨

على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه غير مجد في مورد القاعدة لاثبات ما يثبته القاعدة ، فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين.

وحاصله : أنّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكم على استصحابه.

______________________________________________________

لكن (على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه) أي : استصحاب الاشتغال (غير مجد) أي : غير مفيد (في مورد القاعدة) وإنّما لم يكن مفيدا في مورد تجري فيه قاعدة الاشتغال (لاثبات ما يثبته القاعدة) أي : لأن استصحاب الاشتغال لا يثبت شيئا سوى ما تثبته قاعدة الاشتغال ، فيكون مع جريانها مستغنى عن جريانه ، لأنه تحصيل للحاصل.

وكيف كان : فإنّه على تقدير وجود فائدة لاستصحاب الاشتغال في مورد جريان قاعدة الاشتغال ، والاغماض عما ذكرناه سابقا من عدم الفائدة فيه (فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين) عن قريب إن شاء الله تعالى.

(وحاصله : انّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال) قبل أن يأتي المكلّف بأحد المحتملين كالتمام في المثال (حاكم على استصحابه) أي : استصحاب الاشتغال بعد أن يأتي بأحدهما ، وذلك لوضوح ان الشك في بقاء الاشتغال مسبّب عن الشك في كون المكلّف به هو ما أتى به من التمام أو غيره من القصر في المثال ، فإذا جرى الأصل في الشك السببي وقال : انّ التكليف هو التمام للاستصحاب ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال حتى يعارض استصحاب التمام.

١٥٩

الثالث :

التخيير

ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ، إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ، فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال مع استصحاب عدم الهلال.

______________________________________________________

(الثالث) : تعارض الاستصحاب مع (التخيير) كما إذا تردّد اليوم الثلاثون من شهر رمضان بين انه آخر شهر رمضان حتى يجب صومه ، أو أول شهر شوال حتى يحرم صومه ، فإنّه لا تعارض هنا بين الاستصحاب والتخيير ، لأنا إذا استصحبنا بقاء شهر رمضان ، كان الحكم : وجوب صيامه ، فلا تخيير في البين حتى يتعارض التخيير مع الاستصحاب ، وذلك لورود الاستصحاب على التخيير كما قال : (ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه) أي : على التخيير.

وإنّما يكون واردا عليه (إذ) باستصحاب وجوب الصوم ، أو استصحاب كونه من شهر رمضان (لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير) فان التخيير حكم المتحيّر ، ومع قول الشارع : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) لا يبقى تحيّر.

وعليه : (فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال) أي : في اليوم الثلاثين من شهر رمضان ، المحتمل لأن يكون أول شوال فيحرم صومه ، أو آخر شهر رمضان فيجب صومه ، فانه لا يحكم فيه بالتخيير (مع استصحاب عدم الهلال) فانه كان سابقا شهر رمضان ، ولم نعلم بانه هل دخل شهر شوال أو لم يدخل؟ فنستصحب بقاء شهر رمضان فيجب صومه.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

١٦٠