الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

فلو صلّى شخص على ميّت سقط عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته ، وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده على النجاسة لا إن علم بمجرّد غسله ، فانّ الغسل من حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد.

ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج ولم يعلم قصده تحقّق هذه العبادات لم يحمل على ذلك.

______________________________________________________

وعليه : (فلو صلّى شخص على ميّت) بعنوان صلاة الميّت (سقط عنه) أي : عن الشاك الذي يشك في ان هذه الصلاة من هذا المصلّي هل كانت صحيحة أم لا؟ (ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير) الشرعي ، لا مجرّد الغسل (حكم بطهارته) ورتّب الشاك آثار الطهارة على هذا الثوب ، واستحق الغاسل الاجرة ، حتى (وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده) أي : ورود الماء (على النجاسة) فيما إذا غسله بالقليل ، وغير ذلك.

(لا إن علم بمجرّد غسله) بدون احراز عنوان التطهير من الغاسل (فانّ) ظاهر (الغسل من حيث هو) أي : بلا لحاظ عنوان التطهير (ليس فيه صحيح وفاسد) لأنه فعل تكويني خارجي وقد تحقق خارجا ، سواء قصد أم لم يقصد ، وإنّما الشيء الذي يحتاج إلى القصد هو الغسل الشرعي الذي يتعقبه الطهارة ، فانه ما لم يحرز العنوان لم يجر فيه أصالة الصحة حتى يترتب عليه الآثار.

وكذلك يكون حال الصلاة والصيام والحج عن الميت ، أو الحج عن العاجز ، أو غير ذلك من الامور القصدية (ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج) من رمي ، أو ذبح ، أو ما أشبه (ولم يعلم) هل كان (قصده تحقّق هذه العبادات) بعناوينها أم لا؟ (لم يحمل على) انه قصد (ذلك)

١٠١

نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل أو من حيثية اخرى.

وقد يشكل الفرق بين ما ذكر :

______________________________________________________

أي : قصد عنوان تحقق العبادة والعمل الشرعي.

(نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه) أي : تحقق ذلك العمل ، كما لو أخبر بأنه قصد عنوان الطهارة ، أو الصلاة ، أو نسك الحج ، أو ما أشبه ذلك (أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل) وخبر العادل حجة في ما عدا المنازعات ، حيث ان في المنازعات يحتاج الأمر إلى عادلين (أو من حيثية اخرى) كما لو كان المخبر ثقة ، فان خبر الثقة كاف لقوله عليه‌السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١) ومن المعلوم : ان خبر الثقة استبانة ، أو كان المخبر ذا يد ، وقول ذي اليد معتبر ، أو كان الأمر ممّا لا يعلم إلّا من قبله ، وقد ذكر الفقهاء : ان ما لا يعلم إلّا من قبله يكون قول الشخص فيه حجة.

(و) إن قلت : إذا كان الفعل القصدي من النائب والأجير ، لا يحمل على الصحيح ليرتب عليه آثاره ما لم يحرز انه قصد عنوانه كما ذكرتم ، فلما ذا قال الفقهاء في الواجبات الكفائية : انه ـ مثلا ـ إذا غسّل الميّت وصلّي عليه اكتفى الشاك بغسله وصلاته ، مع أنّهما عنوانان قصديّان يحتمل فيهما قصد تنظيف الميت لا غسله ، والدعاء للميت لا الصلاة عليه؟ فما هو الفرق بين الواجبات الكفائية والامور النيابية حتى استدعى التفريق بينهما؟.

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : (قد يشكل الفرق بين ما ذكر :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الأحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

١٠٢

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها ، إلّا أن يكون عادلا ، ولو فرّق بينهما بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ، لاحتمال تركه لها بالمرّة أو إتيانه بمجرّد الصورة ، لا بعنوان أنّها صلاة عنه ،

______________________________________________________

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله) أي : حمل الشاك تلك الصلاة التي هي من الواجبات الكفائية (على الصحيح ، وبين الصلاة) نيابة (عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها) أي : بهذه الصلاة التي هي من الامور النيابية (إلّا أن يكون) النائب (عادلا) ويخبر بأنه قد صلّى صلاة صحيحة عن ميتهم.

وعليه : فلما ذا هذا الفرق بين الموردين ، مع انه لا فارق بينهما؟ فاللازم امّا عدم حمل شيء من الموردين على الصحيح ، واما حملهما معا على الصحيح.

هذا (ولو فرّق بينهما) أي : بين الموردين : (بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة) أي : ابراء ذمة الميت ، إذ لا نعلم انه قصد بالصلاة عنوان الابراء أم لا؟ (و) لا نعلم أيضا (إتيان الصلاة على أنّها صلاة) إذ لعله قصد مجرّد الدعاء ، وإنّما لا نعلم ذلك (لاحتمال تركه لها بالمرّة) بأن لم يأت بالصلاة إطلاقا (أو إتيانه بمجرّد الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه) أي : عن الميت ، ولذا يشترط عدالته بينما الصلاة على الميت في الواجب الكفائي ليس كذلك لاحراز العنوان فيه غالبا والشك في صحته ، فلا يشترط فيه العدالة.

والحاصل : إن الفارق بين الموردين هو : ان الصلاة على الميت يكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا أحرز قصد عنوان صلاة الميت من المصلي وشك في الصحة كما هو الغالب ، حيث نرى ان بعض الناس يصلون على الأموات ،

١٠٣

اختصّ الاشكال بما إذا علم من حاله : كونه في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت ، إلّا أنّه يحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ،

______________________________________________________

لكن لا نعلم هل انهم يصلون صحيحا أم لا؟ فالحمل على الصحة يقتضي أن نحمل صلاتهم على الصحيح ، بينما الصلاة نيابة عن الميت لا يكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا لم يحرز قصد العنوان ، بل احتمل الترك رأسا ، أو الاتيان بالصورة بدون قصد الصلاة ، أو قصد النيابة ، ومن المعلوم : ان أصالة الصحة لا تنفع لاحراز قصد العنوان ، فلا بدّ من اعتبار العدالة في النائب حتى إذا أخبر بأنه صلّى عن ميّتهم يكتفى به.

ثم أشكل المصنّف على هذا الفرق : بأن الفقهاء يشترطون العدالة في النائب ، سواء علم بأنه قصد العنوان أم لا ، مع ان مقتضى ما ذكرتم من الفارق ، إنّما يوجب العدالة فيما إذا لم يعلم بأنه قصد العنوان أم لا فقط ، دون ما لو علم بأنه قصد العنوان فيبقى الاشكال عليهم مختصا بصورة ما اذا علم بأنه قصد العنوان ليقال لهم : إذا علم عنوان صلاة الميت ، وعنوان صلاة النائب ، فلما ذا تكتفون بصلاة الميت وان لم يكن المصلي عادلا ، ولا تكتفون بالصلاة عن الميت إذا لم يكن المصلي عادلا؟.

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : (اختصّ الاشكال) أي : إشكال الفرق باشتراط العدالة في النائب دون غيره (بما إذا علم من حاله : كونه) أي : النائب (في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت) في الصلاة نيابة عنه (إلّا أنّه يحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة) حتى يكون الشك لهذا الاحتمال في الصحة وعدم الصحة (كما يحتمل ذلك) أي : عدم المبالاة (في الصلاة على الميّت) أيضا ،

١٠٤

إلّا أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة.

وقد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّئ صحيحا.

ولعلّه لعدم احراز كونه في مقام إبراء ذمّة العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه.

______________________________________________________

فيكون الموردان متساويين من هذه الجهة ، فلما ذا فرّقوا بينهما من جهة الحمل على الصحة باشتراط العدالة في النائب دون غيره؟ (إلّا أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة) التي ثبت انه صلّى عن الميت لكن شك فيها لاحتمال عدم مبالاته بما يخلّ بها ، فيلتزم فيها بالصحة بلا اشتراط العدالة فيه.

(و) من ذلك الاشكال المتقدّم يظهر الاشكال فيما (قد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّئ العاجز عن الوضوء) حيث قالوا : ان فعل الموضّئ لا يحمل على الصحيح ، فان إطلاقه يشمل حتى صورة ما (إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّئ صحيحا) أي : بأن شك العاجز في صحته وفساده بعد احرازه قصد العنوان.

(ولعلّه) أي : لعلّ هذا الحكم على إطلاقه إنّما هو (لعدم احراز كونه) أي : الموضّئ (في مقام إبراء ذمّة العاجز) وقد سبق ان احرازه شرط لاجراء الصحة ، فيحمل كلام المطلقين على هذه الصورة ، لا على صورة مجرّد الشك في الصحة واللاصحة كما قال : (لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه) أيضا ، فانه في هذه الصورة ، وهي صورة احراز العاجز من الموضّى قصد العنوان ، لكن شك في صحته لمجرّد احتمال عدم مبالاة الموضّى ، فانه كالشك في صحة وضوئه لمجرّد عدم مبالاته ، هو يكون من موارد

١٠٥

ويمكن أن يقال ـ فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير ،

______________________________________________________

جريان أصالة الصحة.

أقول : حيث ان مستند أصل الصحة بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع ، اختص بما يوجد فيه الدليل المذكور ، وهو : ما إذا تعارف الاعتماد على الغير ، سواء علم بالعمل أم لم يعلم به ، فإذا مات في جواز الانسان شخص ـ مثلا ـ حمل الجار عمل أهل الميت على الصحيح ، مع انه لا يعلم هل انهم يغسلوه ويكفّنوه ويصلون عليه ويدفنونه حسب الموازين الشرعية أم لا؟ ولا يقال لوجود الاطمئنان ، إذ أن ذلك كاف حتى في الأرياف البعيدة والقرى المنقطعة ، بينما في مسائل النيابة لا يتعارف الاعتماد على الغير إلّا على الثقة ، ولذا لا يكتفون فيها بغير الثقة ، وبعد كونه ثقة لا يحتاج إلى اخباره بأنه عمل أم لا؟.

(ويمكن أن يقال) في توجيه الفرق بين الموردين ، يعني : بين اعتمادهم على المصلّي في الصلاة على الميت وان لم يكن عادلا ، وعدم اعتمادهم على المصلي في الصلاة عن الميت إلّا إذا كان عادلا هو : ان أصل الصحة يجري في الأوّل ، دون الثاني ، وذلك لأن الثاني فيه حيثيتان : حيثية الصدور عن النائب ، وحيثية الوقوع عن المنوب عنه ، فمن حيث ان الصلاة فعل النائب يجري فيه اصل الصحة ، ومن حيث أنّها لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه ، فلا دليل على الاسقاط ، فلا يجري فيه أصالة الصحة ، ولذا لا يكتفون بأصالة الصحة في الصلاة النيابية حتى ولو أحرز فيها العنوان ، إلّا مع عدالة النائب.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : ويمكن القول (فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير) أي : عن المنوب عنه ،

١٠٦

المكلّف بالعمل أوّلا وبالذات ، كالعاجز عن الحج ـ : إنّ لفعل النائب عنوانين.

أحدهما : من حيث أنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط.

وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل : استحقاق الأجرة وجواز استيجاره ثانيا ، بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا.

والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة

______________________________________________________

وهو (المكلّف بالعمل أوّلا وبالذات ، كالعاجز عن الحج) فان التكليف أولا وبالذات متوجه إلى العاجز ، وثانيا وبالعرض إلى النائب ، فالنائب يفعل فعل العاجز ، ولهذا فقد ظهر (إنّ لفعل النائب عنوانين) كالتالي :

(أحدهما : من حيث أنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة) كل ما يلزم رعايته في فعله الشخصي من (الأجزاء والشروط) وفقد الموانع والقواطع (وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه) أي : من النائب لجريان أصالة الصحة فيه (مثل : استحقاق الاجرة وجواز استيجاره ثانيا) لحج آخر (بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا) وإلى غير ذلك من آثار صدور الفعل الصحيح منه.

(والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه) أي : المنوب عنه (بمنزلة الفاعل) فانه إذا ناب إنسان عن إنسان كان كل واحد منهما بمنزلة الآخر ، وذلك (بالتسبيب أو الآلة) فان معنى كونه بمنزلة الفاعل : انه سبب لفعل النائب

١٠٧

وكان الفعل ـ بعد قصد النيابة والبدليّة ـ قائما بالمنوب عنه.

وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والاتمام في الصلاة ، والتمتع والقران في الحج ، والترتيب بالفوائت.

والصحة من الحيثية الاولى لا يثبت الصحة من هذه الحيثية الثانية ،

______________________________________________________

كما في الحج عن العاجز ، أو انه آلة للفعل كما في الموضّئ للعاجز عن الوضوء (و) إذا كان كذلك (كان الفعل ـ بعد قصد النيابة والبدليّة ـ قائما بالمنوب عنه) لأنه لهذا الفعل يسقط التكليف عن ذمة المنوب عنه.

(وبهذا الاعتبار) المذكور يلزم على النائب ان (يراعى فيه) أي : في العمل النيابي تكليف المنوب عنه من (القصر والاتمام في الصلاة) النيابية ، فلو كان النائب حاضرا فعليه أن يصلّي قصرا عن الميت الذي فاتته صلاة القصر ، وبالعكس (و) كذلك على النائب ان يراعي تكليف المنوب عنه من (التمتع والقران في الحج) النيابي ، فإذا كان تكليف النائب نفسه القران ، لكنه حج عمّن كان تكليفه التمتع فعليه أن يأتي بالتمتع ، وبالعكس (والترتيب بالفوائت) النيابية ، فان النائب إذا لم ير الترتيب في الفوائت ، لكنه ناب عمّن يرى الترتيب فيها ، لزم عليه مراعاة الترتيب.

والحاصل : ان على النائب ان يأتي بتكليف المنوب عنه لا بتكليف نفسه ، ممّا يدلّ على ان لفعل النائب حيثيتين : صدورية ووقوعية ، وأصالة الصحة إنّما تجري فيما يأتي به النائب من حيث انه فعل النائب ، وهي الحيثية الصدورية ، لا من حيث انه فعل المنوب عنه التي هي الحيثية الوقوعية (والصحة من الحيثية الاولى) أي : من حيث الصدور وكونه فعل النائب (لا يثبت الصحة من هذه الحيثية الثانية) أي : من حيث الوقوع وكونه فعل المنوب عنه.

١٠٨

بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.

وبعبارة اخرى : إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث انّه فعل الغير ، كفت أصالة الصحة في السقوط ، كما في الصلاة على الميت.

______________________________________________________

(بل لا بدّ من) ان يكون النائب عادلا ، حتى إذا أخبر بأنه أتى بالعمل النيابي صحيحا يكون قوله حجة ، فيوجب قوله ذلك (إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب) كما في مثال الحج عن العاجز ، وعن الميّت ، أو على وجه الآلية ، كما في مثال العاجز الذي يستعين بمن يوضّئه.

وعلى هذا : فما يأتي به النائب من فعل ، فمن حيث انه فعله وصادر عنه يحمل على الصحة ، ومن حيث وقوعه عن المنوب عنه أو عمن اتخذه آلة ، ليسقط ما في ذمتهما من التكليف فلا يجري فيه الصحة ، ولذا يلزم من هذه الحيثية أن يكون النائب عادلا حتى يكون خبره حجّة يعتمد عليه لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه من التكليف.

هذا ، ولا يخفى وجه النظر في هذا الكلام ، وذلك لأن التلازم بين اتيان النائب بالعمل صحيحا ، وبين كون عمله هذا مسقطا لما في ذمة المنوب عنه من التكليف ، هو ما يفهمه العرف ، فإذا كان أصل الصحة يدل على الأوّل فانه يدلّ على الثاني أيضا.

ثم إنّ المصنّف لخّص هنا توجيه الفرق بين الموردين بقوله : (وبعبارة اخرى :) انّ الفرق بين الصلاة على الميت ، حيث تجري فيها الصحة ، وبين الصلاة عن الميت حيث لا تجري فيه الصحة ، هو : (إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه) أي : عن الآخر (من حيث انّه فعل الغير) أي : بلا قصد نيابة عن الآخر (كفت أصالة الصحة في السقوط) عن الآخر (كما في الصلاة على الميت)

١٠٩

وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب ـ كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه وببدن غيره ، كما في استنابة العاجز للحج ـ لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ، فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة

______________________________________________________

فان المصلّي على الميت يؤدّي تكليف نفسه ، لكن اسقاط التكليف عن نفسه يوجب سقوط تكليف الباقين أيضا لفرض كون الواجب كفائيا ، ففي هذا الفرض يجري أصل الصحة.

(وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه) أي : عن الآخر (من حيث اعتبار كونه فعلا له) أي : فعلا للآخر (ولو على وجه التسبيب) أي : لا على وجه المباشرة ، فان المباشر هو النائب لكن الآخر هو السبب لفعل النائب ، وذلك (كما إذا كلّف) الآخر (بتحصيل فعل) كالحج ـ مثلا ـ (بنفسه) لو كان متمكنا منه (وببدن غيره) أي : ببدن النائب لو كان عاجزا عنه (كما في) مثال (استنابة العاجز للحج) فان التكليف أولا وبالذات متوجّه إلى الآخر ، لكنه لعجزه لزم عليه أن يأتي به ببدن الغير ، فحج الغير يسقط التكليف عن الآخر من حيث انه حج الآخر لكن مع الاحراز ، لا مع الشك ، فلو شك (لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه) أي : سقوط التكليف عن الآخر ، لعدم الدليل على هذا السقوط حتى وان نفع أصل الصحة من حيث انه فعل الغير.

(بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين) : حيثيّة الصدور من الغير وهو النائب ، وحيثية الوقوع عن الآخر وهو المنوب عنه (فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة) من حيث الصدور ، لجريان أصل الصحة فيه وان لم يكن عادلا

١١٠

وعدم براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل ، وكما في استئجار الوليّ للعمل عن الميت.

لكن يبقى الاشكال في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ وبراءة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله ، لا من حيث اعتباره فعلا للوليّ.

______________________________________________________

(وعدم براءة ذمة المنوب عنه من الفعل) من حيث الوقوع ان لم يكن النائب عادلا ، لعدم جريان أصل الصحة فيه.

(وكما في) مثال (استئجار الوليّ) أي : ولي الميت نائبا (للعمل عن الميت) فانه إذا استأجر ولي الميت من يصلّي أو يصوم أو يحج عن الميت ، فيلزم على الولي اعطاء الأجير والنائب الأجرة ، لكن إنّما يسقط التكليف من مثل الصوم والصلاة والحج وما أشبه عن ميته إذا كان ذلك الأجير والنائب عادلا ، وذلك على ما عرفت.

(لكن يبقى الاشكال) هنا يعني : (في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ) فيه حيث واحد لا حيثيتان ، لانه يكفي فيه مجرد قصد اتيان ما على الميت ، و (لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ) وذلك لأن المقصود منه ابراء ذمة الميّت عمّا عليه من التكليف (وبراءة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله) أي فعل الغير فقط (لا من حيث اعتباره فعلا للوليّ) أي : للآخر أيضا ، فالنيابة عن الميت لها حيثية واحدة لا حيثيتان ، وإذا كان كذلك فالتوجيه الذي ذكر لعدم اسقاط فعل النائب ، الحج عن ذمة العاجز الحي ، لا يأتي هنا في مسألة الاستنابة والاستيجار للعمل عن الميت.

١١١

فلا بدّ من أن يكتفي باحراز اتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة الميت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الأخر.

ولا بدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التامّ في كلمات الأعلام.

______________________________________________________

وعليه : فإذا كان في الاستيجار للعمل عن الميت حيث واحد (فلا بدّ من أن يكتفي باحراز اتيان) النائب والأجير (صورة الفعل بقصد ابراء ذمّة الميت) فقط وليس أكثر ، يعني : لا بدّ فيه من احراز حيث الصدور ، فإذا احرز ، فلا يشك فيه من حيث الوقوع عن الميت واسقاط ما في ذمته ، إلّا من جهة احتمالات اخرى : ككون النائب غير مبال بالاجزاء والشرائط ـ مثلا ـ فلا يعتنى به (ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الأخر) وذلك لجريان أصالة الصحة فيها.

أقول : لكن يمكن فرض الحيثيتين هنا أيضا ، لأن اسقاط النائب تكليف الوصي أو الولي باستيجاره للعمل عن ميته ، لا دليل عليه ، فلا تجري أصالة الصحة في عمل النائب والأجير من حيث الوقوع عن الميت حتى يسقط ما في ذمة الميّت ، وحينئذ فلا فرق بين استيجار الحي للعمل عن العاجز ، وبين استيجار الولي أو الوصي للعمل عن الميت من هذا الحيث.

هذا (ولا بدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التام في كلمات الأعلام) لكن قد عرفت سابقا : إنّ الأصح هو : جريان أصالة الصحة في الحيثيتين للتلازم بينهما.

١١٢

الخامس :

إنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح.

إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه ، فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ، كالخمر والخنزير ، أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين

______________________________________________________

(الخامس) : إذا أجرى زيد بيعا ـ مثلا ـ فلم نعلم هل انه باع خنزيره أو شاته؟ فهل أصل الصحة يثبت انه باع شاته ـ الذي هو من الامور الخارجة عن حقيقة البيع الصحيح وليس من آثاره بل من لوازمه ـ حتى يكون معناه : انه إذا مات زيد كان وارثه مكلّفا باعطاء شاة زيد للمشتري ، أو ان اصل الصحة لا يثبت الّا ما هو من آثار العقد الصحيح ، وهذا ليس من آثاره؟.

قال المصنّف : (إنّ الثابت من القاعدة المذكورة) أي : أصالة الصحة هو : (الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح) كالنقل والانتقال في البيع والاجرة في الاجارة ، وما أشبه ذلك (إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة) الفعل (الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه) أي : لا دليل على ترتب ما يلازم الصحة على العمل المشكوك الذي أجري فيه الصحة.

وعليه : (فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير) كزيد الذي قد مات ، هل (كان بما لا يملك كالخمر والخنزير) حتى تفسد المعاملة (أو بعين من أعيان ماله) الذي يصح اجراء المعاملة عليه كالماء والشاة حتى تصح المعاملة؟ (فلا يحكم بخروج تلك العين) المعيّنة بجريان أصالة الصحة في المعاملة

١١٣

من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأصالة عدمه.

وهذا نظير ما ذكرنا سابقا من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ، أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ،

______________________________________________________

(من تركته) أي : من تركة زيد على ما في المثال (بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته) أي : تركة زيد (إلى البائع ، لأصالة عدمه) أي : عدم الانتقال.

وإنّما يحكم هنا بالصحة ، وعدم الانتقال : لأن أصالة الصحة في العقود تقول بصحة المعاملة ، وأصالة عدم انتقال الشاة عند الشك في الانتقال وعدمه تقول بعدم انتقال الشاة ، وحينئذ فلا بدّ من الصلح ، أو اقامة البينة ، أو ما أشبه ذلك من الامور التي هي المرجع في أمثال هذه المنازعات ، أو اجراء قاعدة العدل بتنصيف ما لكل من الوارث والبائع بينهما ، وذلك لأن البائع امّا له الشاة أو الثمن ، وكذلك الوارث امّا له هذا أو هذه ، فيعطى كل واحد منهما نصف الشاة ونصف الثمن لقاعدة العدل ، أو تجري قاعدة القرعة ، لكنّا ذكرنا في مباحث مفصّلة في الفقه وغيره : إنّ قاعدة القرعة لا تجري مع جريان قاعدة العدل.

(وهذا) الذي ذكرناه من الحكم بشيء لجهة أصالة الصحة وعدم الحكم بلازمه هو (نظير ما ذكرنا سابقا) في قاعدة التجاوز : (من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا) وهو في وسط الصلاة؟ فان للظهر حيثيتين : حيثيّة نفسية لوجوبها النفسي ، وحيثيّة مقدّميّة ليصح بعدها العصر ، قلنا : (أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر) أي : من حيثيّته المقدّميّة ، فيكون الدخول في العصر موردا لأصالة الصحة ، بينما

١١٤

لا فعل الظهر من حيث هو ، حتى لا يجب اتيانه ثانيا ، إلّا أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه.

قال العلّامة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : «لو قال آجرتك كلّ شهر بدرهم ، فقال بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ،

______________________________________________________

(لا) يحكم بلازمه وهو : (فعل الظهر من حيث هو) أي : من حيثيّته النفسية لأن أصالة الصحة لا تثبت أكثر من صحة الدخول في العصر ، اما الظهر من حيث هو واجب نفسي فلا تثبت فعله (حتى لا يجب اتيانه ثانيا) بل عليه إذا أتمّ العصر أن يأتي بالظهر أيضا (إلّا أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه) وحينئذ فلا يجب إتيان الظهر ثانيا ، وذلك لأن الدخول في العصر يعدّ تجاوزا عن الظهر ، فيشمل الظهر قاعدة التجاوز القائلة بعدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه ، وحينئذ فإذا أتم العصر لا يلزمه الاتيان بالظهر ثانيا أيضا.

وهذا أيضا نظير ما ذكره العلّامة في قواعده (قال العلّامة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : «لو قال) الموجر : (آجرتك كلّ شهر بدرهم) فان مقتضى القاعدة بطلان هذه المعاملة ، لأنها غرريّة حيث لم يعيّن فيها عدد الأشهر ـ على ما هو المشهور ـ وان كنا نستظهر عدم البطلان ، حيث انه ليس بغرر ، ولا دليل خاص على بطلان مثله ، ولكن بناء على المشهور ، لو قال الموجر ذلك لتكون المعاملة باطلة (فقال) المستأجر : (بل سنة بدينار) لتكون المعاملة صحيحة لانتفاء الغرر حينئذ بتعيّن المدة (ففي تقديم قول المستأجر) تمسّكا بأصالة الصحة (نظر) لأن أصالة الصحة تفيد ترتيب آثار العقد ، وليس اجارة سنة بدينار من آثار العقد ، بل هو لازم عقلي لتعيّن المدّة ، ولازم الشيء لا يثبت بأصالة الصحة ، فيقدّم قول مدّعي الفساد.

١١٥

فان قدّمنا قول المالك ، فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل.

وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى» ، انتهى.

______________________________________________________

ثم قال العلّامة : (فان قدّمنا قول المالك) وهو الموجر الذي قال : «آجرتك كل شهر بدرهم» المدّعي لفساد المعاملة (فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل) فقط ، لأنه متفق عليه بينهما ، وإنّما المجهول ما زاد على الشهر ، فتكون الاجارة فاسدة بالنسبة إلى الأكثر من الشهر.

ثم أضاف العلامة بعد ذلك قائلا : (وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة) لتكون المعاملة صحيحة ، كسنة ـ مثلا ـ بعد اتفاقهما على مقدار الاجرة (أو عوضا معيّنا) كدينار ـ مثلا ـ لتكون المعاملة صحيحة بعد اتفاقهما على مقدار المدة (وأنكر المالك التعيين فيهما) أي : في المدة بالنسبة للشق الأوّل ، والعوض بالنسبة للشق الثاني لتكون المعاملة باطلة ، فهل يؤخذ بأصل الصحة الذي هو مقتضى كلام المستأجر أم بأصل الفساد الذي هو كلام المالك؟.

قال العلامة : (والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى» (١)) أي : يقدّم قول مدّعي الصحة ما لم يتضمن دعواه إدّعاء شيء زائد على الصحة ، لازم له ، فان أصل الصحة ـ كما عرفت ـ إنّما يثبت ما هو أثر العقد ، ولا يثبت ما هو خارج عن حقيقة العقد وان كان لازما له ، كما في المثال الاول للعلامة ، فان المستأجر يقدّم قوله في الشهر الأوّل فقط ، لأنه لا يدعي زيادة على الصحة شيئا ، ولا يقدّم قوله في لازمه وهو : اجارة سنة بدينار ، لأنه يتضمن دعوى شيء زائد على الصحة (انتهى) كلام العلامة.

__________________

(١) ـ قواعد الأحكام : ص ٢٣٦.

١١٦

السادس :

في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب.

فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد وما في معناه فواضح ، لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة على الفعل المشكوك وارتفاعها ناش عن الشك في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك الشك ،

______________________________________________________

(السادس : في بيان ورود هذا الأصل) أي : أصل الصحة (على الاستصحاب) بقسميه : الحكمي وهو ما ذكره بقوله : «فنقول : إمّا تقديمه» والموضوعي وهو ما ذكره بعد أسطر بقوله : «وإمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية». فان أصل الصحة لا شك حاكم على الاستصحاب بقسميه ، لكن قد يخفى كيفية حكومته ، فيحتاج إلى بيان (فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد) المفيد لعدم النقل والانتقال في المعاملات.

(وما في معناه) أي : ما في معنى استصحاب الفساد مثل : أصالة عدم وجوب اعطاء كل من المتعاملين ما عنده للآخر (فواضح).

وإنّما يكون هذا التقديم واضحا (لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة) كعدم النقل ، المتقدّمة (على الفعل المشكوك) من البيع ـ مثلا ـ (وارتفاعها) أي : ارتفاع تلك الحالة السابقة المتقدمة على البيع (ناش عن الشك في سببيّة هذا الفعل) وهو البيع في المثال (وتأثيره) من حيث حصول النقل والانتقال ، فان الشك في ذلك مسبّب عن الشك في ان البيع ـ مثلا ـ هل هو جامع لشرائط الصحة أم لا؟ (فإذا حكم بتأثيره) أي : بتأثير هذا البيع لأصالة الصحة (فلا حكم لذلك الشك) لأنه إذا جرى الأصل السببي ، لا يبقى مجال لجريان الأصل المسبّبي ،

١١٧

خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ، فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا الحاكم على أصالة بقاء الطهارة.

______________________________________________________

فان أصل الصحة القائل بأن البيع جامع للشرائط ، يكون حاكما على الأصل المسبّبي القائل بعدم تحقق البيع.

(خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل) أي : أصل الصحة (من الظواهر المعتبرة) أي : جعلنا حجيته من جهة الظهور النوعي بأن يكون أمارة عقلائية ، لا من جهة كونه أصلا عمليا ، وذلك لما تقدّم : من احتمال ان يكون أصل الصحة مستندا إلى ظاهر حال المسلم ، أو غلبة الصحة في أفعال المسلمين ، وهذا الظهور العرفي حاكم على الأصل الذي هو الفساد.

وعليه : (فيكون) أصل الصحة (نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا) وناقضا للطهارة ، فانه مع ان مقتضى الاستصحاب هو بقاء الطهارة ، لكن يحكم بأن الخارج منه محدث للدليل (الحاكم) وهو حكم الشارع عليه بكونه بولا ، فإنّه حاكم (على أصالة بقاء الطهارة) إذ حكم الشارع هذا ظاهر ، واستصحاب بقاء الطهارة أصل ، والظاهر مقدّم على الأصل.

والحاصل : إنّ من توضّأ بعد أن بال ولم يستبرئ ، ثم خرج منه بلل مشتبه يحتمل كونه بولا ، ويحتمل كونه من الحبائل ، فإذا كان بولا وجب عليه الوضوء ، وإذا كان من الحبائل لم يجب عليه الوضوء ، فان مقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، لكن حكم الشارع بوجوب الوضوء بعد خروج البلل المشتبه يكشف عن ان الشارع قدّم هنا الظاهر على الأصل ، إذ الظاهر كون الرطوبة الخارجة قبل الاستبراء من بقايا البول التي بقيت في المجرى ، وحينئذ فلا مجال لاستصحاب الطهارة ، وكذا الحال لو قلنا بأن الشارع قدّم ظاهر حال المسلم المسمّى بأصل

١١٨

وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو الكيل أو الوزن ، فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه.

والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ، كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر فلا إشكال في تقديمه على ذلك الاستصحاب ،

______________________________________________________

الصحة على استصحاب عدم النقل في المعاملات ، فإنّه حينئذ لا مجال لأصل الفساد فيها.

هذا في تقديم أصل الصحة على الاستصحاب الحكمي (وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية) إذا كانت مخالفة لأصل الصحة (المترتب عليها) أي : على تلك الاستصحابات الموضوعية (الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو) عدم ضبطه بسبب (الكيل أو الوزن) أو عدم العقل فيما إذا كان أحد المتعاملين مجنونا ثم عقل ، أو غير ذلك من الاستصحابات الموضوعية المتعارض معها أصل الصحة (فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه) فتارة قدّموا الاستصحاب ، واخرى قدّموا أصل الصحة.

(والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل) أي : أصل الصحة (من الظواهر) بأن كان أمارة عقلائية (كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر) وانّه ليس أصلا عمليا (فلا إشكال في تقديمه) أي : تقديم أصل الصحة (على ذلك الاستصحاب) الموضوعي المقتضي للفساد ، وذلك لما عرفته سابقا : من حكومة الأمارة على الاصول ، إذ مع وجود الأمارة يرتفع الشك الذي هو موضوع الأصل ، فلا موضوع للأصل رأسا.

١١٩

وإن جعلناه من الأصول ، ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع يثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة ، وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحة ، فيتعارضان.

______________________________________________________

(وإن جعلناه) أي : أصل الصحة (من الاصول ، ففي تقديمه) أي : تقديم أصل الصحة (على الاستصحاب الموضوعي نظر) ناشئ (من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع) أو المشتري ـ مثلا ـ (يثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ) وإذا ثبت ذلك بالاستصحاب (فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة) فان موضوع الفساد هنا هو : البيع الصادر عن غير البالغ ، فالبيع الصادر موضوع وجودي قد قيّد بقيد عدمي هو : عن غير البالغ ، والقيد العدمي المشكوك يحرز بالاستصحاب فيتمّ الموضوع ، ويلزمه الحكم بالفساد.

لكن لا يخفى : ان العدم لا يمكن أن يكون قيدا ، كما سبق الالماع إليه في بعض المباحث السابقة ، فهو إذن نوع تسامح.

هذا هو وجه الفساد الذي قد يقال بحكومته على أصل الصحة ، وأمّا وجه الصحة فهو ما أشار إليه بقوله : (وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع) في الخارج (بيعا صادرا عن بالغ) لأن البيع لا يكون صحيحا إلّا إذا كان صادرا عن البالغ (فيترتّب عليه الصحة) ومع ترتّبه والقول بعدم حكومة الفساد عليه ـ كما هو المشهور ـ يجتمع أصلان : أصل الفساد كما مرّ ، وأصل الصحة كما ذكر هنا (فيتعارضان) حينئذ ويتساقطان ، ويكون المرجع أصل عدم البيع وفساده ،

١٢٠