الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-14-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين يوجب خروجهما عن مدلول «لا تنقض» لأنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشك ،

______________________________________________________

يكون المتعارضان بمنزلة الغريقين حيث يوجد في انقاذ كل منهما مصلحة ، لكن لمّا لم يتمكن المكلّف من انقاذهما معا وجب انقاذ أحدهما تخييرا ، بينما الأصل بناء على الطريقية المحضة هو : التوقف ، بمعنى : ان أحدهما فقط دليل في مؤدّاه دون الآخر ، وحيث انّه لا سبيل لمعرفته ، ولا يتمكن منهما معا يتخيّر في العمل بأحدهما.

إذن : فالحق في الاستصحابين المتعارضين ـ إذا لم يكن مرجّح لأحدهما ، أو كان ولم نرجح به ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب التعبد بالاخبار هو : التساقط ، لكن ليس لأن دليل الحجية لا يشملهما كما استدل به بعض المعاصرين (بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين) في الاستصحابين المتعارضين ، كما إذا كان هناك إناءان طاهران تنجّس أحدهما ، فإنّ الطهارة المستصحبة فيهما قد انتقضت إحداهما قطعا ، لكن اجمالا ، وهذا العلم الاجمالي (يوجب خروجهما عن مدلول «لا تنقض») اليقين بالشك» وذلك للزوم التناقض في أطراف نفس دليل «لا تنقض اليقين بالشك».

وإنّما يوجب ذلك خروج المتعارضين عن مدلول الدليل (لأنّ قوله) عليه‌السلام : («لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله» (١) يدلّ على) أمرين :

أولا : (حرمة النقض بالشك) فلا يجوز نقض اليقين السابق بسبب الشك

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

٢٢١

فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح.

______________________________________________________

اللاحق الطارئ عليه.

ثانيا : نقض اليقين السابق باليقين اللاحق الذي هو على خلاف ذلك اليقين السابق.

وعليه : فانّ صدر الدليل يقول : «لا تنقض اليقين بالشك» وذيل الدليل يقول : «انقضه بيقين آخر» (فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين) كالعلم بنجاسة أحد الإناءين الذين كانا طاهرين سابقا (فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك) وذلك (لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله).

إذن : فلو كان هناك إناءان طاهران تنجّس أحدهما ، فانّه يكون كل منهما في نفسه مشكوك الطهارة ، كما انّه يكون أحدهما المردّد معلوم النجاسة ، ومعه فلو ابقي تحت عموم دليل الاستصحاب كلّا من الإناءين ، وذلك بأن حكم في كليهما بقاعدة : «حرمة نقض اليقين بالشك» لأدّى إلى عدم العمل بقاعدة : «وجوب نقض اليقين باليقين» فيكون من التناقض في أطراف الدليل وهذا غير صحيح.

كما (ولا) يجوز أيضا (إبقاء أحدهما المعيّن) تحت عموم «لا تنقض» واخراج الآخر ، وذلك (لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول) فيكون ابقاء المعيّن واخراج الآخر ترجيحا (من غير مرجّح) فكما انّه لا يجوز ابقاء كل من الاستصحابين المتعارضين تحت عموم : «لا تنقض» لأنّه من التناقض في أطراف

٢٢٢

وأمّا أحدهما المخيّر ، فليس من أفراد العام ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا ، لم يبق شيء.

وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام» ، لا يشمل شيئا من المشتبهين.

______________________________________________________

الدليل ، فكذلك لا يجوز ابقاء أحدهما المعيّن لأنّه من الترجيح من غير مرجّح ، فلا يصحّ أن يقال بابقاء الإناءين معا ، كما لا يصح أن يقال بابقاء هذا الاناء بالخصوص دون ذاك تحت عموم : «لا تنقض اليقين بالشك».

(وأمّا) القول بابقاء (أحدهما المخيّر ، فليس) أحدهما المخيّر الذي يراد ابقاؤه تحت عموم «لا تنقض» (من أفراد العام ، إذ ليس) الفرد المردّد (فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج) فانّه على ما عرفت : ان العلم الاجمالي أوجب خروج المتعارضين من مدلول : «لا تنقض» فلا يجوز ابقاء كليهما معا ، ولا ابقاء واحد منهما معيّنا (فإذا خرجا ، لم يبق شيء) ثالث يسمّى بالفرد المخيّر حتى يبقى تحت عموم : «لا تنقض».

هذا (وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، و) قلنا هناك : (أنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام» (١) لا يشمل شيئا من المشتبهين) فان دليل أصل الحل : «كل شيء حلال» لا يشمل كليهما لأنّه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي بالحرمة ، ولا أحدهما المعيّن لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا أحدهما المخيّر ، لأن الواحد المخيّر ليس فردا ثالثا غير المشتبهين ، وإنّما هو أمر منتزع من المشتبهين الذين قد عرفت عدم شمول الدليل لهما إطلاقا ، فزيد

__________________

(١) ـ الكافي : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ (بالمعنى) وقريب منه ح ٣٩ والمحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

٢٢٣

وربّما يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ، نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر ،

______________________________________________________

في الخارج ـ مثلا ـ شيء ، وعمرو في الخارج شيء آخر ، وليس هناك شيء ثالث في الخارج يكون عبارة عن الفرد المردّد بين زيد وعمرو.

(وربّما) يقال : بأن الأصل عند التعارض وعدم التمكّن من العمل بالاستصحابين هو : التخيير ، ولذلك (يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب) الشامل لكل فرد فرد من أفراد المشكوك يكون (نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر) أي : نظيره (في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين) كما لو يتمكّن من اكرام العالمين ، أو انقاذ الغريقين ، أو العمل بالخبرين ، وإنّما يتمكن من أحدهما فقط ، فانّه (لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر).

وعليه : ففي مثال : انقاذ الغريقين ، يختار العمل بأحدهما ، فينقذ غريقا ويطرح انقاذ الغريق الآخر ، وفي مثال : اكرام العالمين ، أيضا كذلك ، فانّه يكرم أحدهما ويطرح اكرام الآخر ، وهكذا في مثال الخبرين المتعارضين مثل : «ثمن العذرة سحت» (١) و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) فانّه يأخذ بأحد الخبرين ويترك الخبر

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ وح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

٢٢٤

لأنّ هذا غاية المقدور.

ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط ، والاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما.

______________________________________________________

الآخر تخييرا ، وذلك فيما إذا لم يكن لأحدهما مرجّح ، أو كان ولكن لم نرجّح به ، لا انّه يطرحهما معا ، ويترك العمل بهما جميعا.

وإنّما يجب عليه أن يتخيّر هنا في العمل بأحدهما عند التعارض (لأنّ هذا غاية المقدور) للمكلّف (ولذا ذكرنا في باب التعارض) في الأخبار : (أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير) بين العمل بهذا الخبر أو بذاك ، لكن (بالشرط المتقدّم) وهو بناء على أنّ حجية المتعارضين من باب السببية ، لا من باب الطريقية ، فإنّ من قال بحجية الخبر من باب الطريقية ، يلزمه التوقف ، كما سيأتي تفصيله في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى ، فالأصل إذن في المتعارضين على السببية هو : التخيير (لا التساقط).

وعليه : فكما ان الحكم في عموم كل دليل قد تعارض فرداه ولم يكن مرجّح : التخيير ، فكذلك يكون الحكم في عموم الاستصحاب (و) ذلك لأن (الاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما) بسبب العلم الاجمالي بارتفاع أحدهما ، كما في الإناءين الطاهرين الذين علم بتنجّس أحدهما (وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما) معا ، فيكون حال الاستصحابين المتعارضين حينئذ حال : اكرم العلماء ، وانقذ كل غريق ، واعمل بكل خبر ، فيما لو تعارض

٢٢٥

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما ، فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه.

وفي ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد العلم الاجمالي لا يكون المقتضي

______________________________________________________

فردان منها وتعذر العمل بكليهما ، فانّه يجب أن يعمل بأحدهما ، ومعه كيف تقولون : بأنه يجب طرحهما معا لا العمل بأحدهما؟.

(ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة) للمكلّف (على ذلك) أي : على العمل بكلا الفردين ، وذلك (مع قيام المقتضي للعمل فيهما) كالغريقين ، حيث ان المقتضي لإنقاذ كل منهما موجود ، وإنّما المكلّف لا يتمكّن من إنقاذهما معا (فالخارج) من عموم الدليل (هو غير المقدور ، وهو) أي : غير المقدور (العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر) فان المكلّف لا يتمكن من انقاذ زيد الغريق مجامعا مع انقاذ عمرو الغريق (وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور) للمكلف ، إذ المفروض انّه يتمكّن من انقاذ أحد الغريقين (فلا يجوز تركه) أي : ترك المقدور مخيّرا بينهما.

هذا (و) لكن (في ما نحن فيه) من تعارض الاستصحابين (ليس) الأمر (كذلك) أي : ليس المانع فيهما هو : عدم قدرة المكلّف على العمل بهما مع وجود المقتضي والملاك للعمل في كليهما ، لا وإنّما لا وجود للمقتضي فيهما رأسا.

وإنّما لم يكن الأمر فيما نحن فيه ـ من تعارض الاستصحابين ـ كذلك (إذ بعد العلم الاجمالي) بارتفاع أحد الاستصحابين (لا يكون المقتضي) والملاك

٢٢٦

لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

نعم ، مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما.

وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض

______________________________________________________

(لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا) حينئذ حتى يكون قد (منع عنهما) أي : عن كليهما معا (عدم القدرة) من المكلّف على العمل بهما ، بل انّه لا مقتضي في البين رأسا ، بعدم العلم الاجمالي بتنجّس أحد الإناءين.

(نعم ، مثال هذا) الذي يكون المقتضي والملاك للعمل بهما موجودا في الفردين ، لكن المكلّف لا قدرة له على العمل بكليهما فيما نحن فيه ، أي : (في الاستصحاب) هو : (أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين) أي : بلا وجود علم اجمالي في البين مخالف لأحد الاستصحابين ، ولكن مع ذلك قد (امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع) أي : بأن لا يكون كما في مثال اليقين بتنجّس أحد الإناءين الطاهرين (فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر) كما كان يجب في مثال : اكرام العالمين ، وانقاذ الغريقين ، والأخذ بالخبرين ، حيث يعمل حينئذ بأحد الاستصحابين تخييرا (فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما) فقط دون الآخر.

(وإنّما لم نذكر هذا القسم) الأخير قسما خامسا (في أقسام تعارض

٢٢٧

الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت : أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم : «لا تنقض» عنوان

______________________________________________________

الاستصحابين) الأربعة السابقة (لعدم العثور على مصداق) خارجي (له) أي : لهذا القسم الأخير من التعارض بين الاستصحابين (فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين) ولذا لا يمكن فيهما جريان الاستصحابين معا ، أو لا جريان أحدهما منفردا.

هذا (وقد عرفت : أنّ عدم العمل) بعموم : «انقذ كل غريق» ـ مثلا ـ في انقاذ الغريقين مخالفة لدليل : «انقذ كل غريق» الشامل لهما ، لكن سوّغ هذه المخالفة عجز المكلّف عن انقاذهما معا فينقذ أحدهما ، بينما عدم العمل (بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها) أي : سوّغ تلك المخالفة (العجز) عن العمل بهما معا حتى يختار العمل بأحدهما كما في انقاذ الغريقين ، بل عدم العمل بهما هو امتثال لدليل الاستصحاب ، حيث قال في ذيله : «ولكن انقضه بيقين آخر» (١) فانّه لمّا علم بارتفاع أحد اليقينين علما اجماليا ، لزم منه عدم العمل بالاستصحابين السابقين ، وذلك (لأنّه نقض اليقين باليقين) الآخر وهو هنا العلم الاجمالي المخالف للاستصحابين السابقين.

إذن : (فلم يخرج) بنقض اليقين باليقين (عن عموم : «لا تنقض» عنوان

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

٢٢٨

ينطبق على الواحد التخييري.

وأيضا فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر غير المعيّن باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ،

______________________________________________________

ينطبق على الواحد التخييري) كما كان يخرج ـ مثلا ـ عن عموم : «انقذ كل غريق» حيث ان عمومه يشمل انقاذ الغريقين معا ، لكن عجز المكلّف أوجب مخالفته ، فخرج عن عمومه عنوان ينطبق ذلك العنوان على ما يكون معناه : وجوب العمل بانقاذ أحد الغريقين تخييرا ، فيختار أحدهما ، بينما ما نحن فيه ليس كذلك.

(و) هنا توهم ثان وهو : انّه يوجد في مورد تعارض الاستصحابين قبل طروّ العلم الاجمالي استصحابين ، لكن بعد طروّ العلم الاجمالي يزول أحدهما ويبقى الآخر المعيّن في الواقع المجهول عندنا ، فيكون من الدوران بين المحذورين : حرمة نقض أحد الاستصحابين للنهي : «لا تنقض» ووجوب نقض الآخر للرأي : «بل انقضه بيقين آخر» وحكمه التخيير ، فيعمل بأحد الاستصحابين تخييرا ، فانّ هذا الكلام الجديد غير تام (أيضا) كما لم يتم الكلام السابق.

وإنّما لم يتم هذا أيضا ، لأنّه كما قال : (فليس المقام) أي : مقام تعارض الاستصحابين (من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر) المعيّن في الواقع (غير المعيّن) عندنا (باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا) معيّن في الواقع ، وذلك كما لو قال بعد قوله «اكرم العلماء» : لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد

٢٢٩

فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ، لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى.

نعم ، نظيره في الاستصحاب ما

______________________________________________________

بين فردين : زيد بن بكر ، وزيد بن خالد (ف) انّه يدور الامر حينئذ بين محذورين : وجوب اكرام أحدهما لعموم : «اكرم العلماء» وحرمة اكرام الآخر لخصوص : «لا تكرم زيدا» فيتخيّر ، لكن ليس ما نحن فيه وهو تعارض الاستصحابين من قبيل هذا المثال حتى (يمكن هنا أيضا) كما كان يمكن في المثال المذكور (الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد).

وإنّما لم يمكن هنا في تعارض الاستصحابين الحكم بالتخيير كما كان يمكن هناك في المثال المذكور آنفا (إذ لا استصحاب في الواقع) في مقام تعارض الاستصحابين (حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر) كي يكون من قبيل العام وخروج زيد المردّد بين فردين ، الدائر بين محذورين وذلك (لأنّ الواقع) هنا لم يكن إلّا (بقاء إحدى الحالتين وارتفاع) الحالة (الاخرى) واقعا لا ظاهرا وبالاستصحاب ، فانّه إذا علم بتنجّس أحد الإناءين ، لم يكن في الواقع إناءان طاهران ، بل اناء طاهر واقعا ، والاناء الآخر ليس بطاهر واقعا ، فلا مجال هنا للاستصحاب رأسا ، ومعه لا يكون تعارض الاستصحابين نظير العام الذي خرج منه فرد غير معيّن وبقي الآخر حتى يحكم بالتخيير.

(نعم ، نظيره في الاستصحاب ما) ذكره المصنّف قبل قليل بقوله : «نعم ، مثال هذا في الاستصحاب ان يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين» وذلك

٢٣٠

لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به.

ومعلوم : أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ المعلوم اجمالا فيما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد

______________________________________________________

كما (لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين) اللذين كانا بشكّين مستقلين (ووجوب طرح الآخر) يعني : (بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به) فيكون من الدوران بين المحذورين ، فيجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، كما كان يجب في مثال : «اكرم العلماء» الذي أخرج الدليل منه فردا غير معيّن بقوله : «لا تكرم زيدا» وبقي الآخر ، لتردّد زيد بين زيدين.

لكن (ومعلوم : أنّ ما نحن فيه) من تعارض الاستصحابين الناتج من العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، كما في الإناءين الذين تنجّس أحدهما (ليس كذلك) أي : ليس كما في مثال : «اكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا» الذي تردّد فيه زيد بين فردين ، حتى يحكم فيه بالتخيير.

وإنّما لم يكن ما نحن فيه كذلك (لأنّ المعلوم اجمالا فيما نحن فيه) من تعارض الاستصحابين هو : (بقاء أحد المستصحبين) طاهرا ـ في مثال الإناءين ـ واقعا ، أي : (لا بوصف زائد) على الواقع ، الذي هو الاستصحاب ، علما بأن الاستصحاب حكم ظاهري ، إذ لا معنى للاستصحاب والحكم ببقاء الطهارة ظاهرا فيما هو طاهر واقعا.

إذن : فمراد المصنّف من قوله : «لا بوصف زائد» هو : الاستصحاب ، فيكون حاصل كلامه : ان أحد المستصحبين معلوم الطهارة من جهة الواقع ، لا من جهة

٢٣١

وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر.

فتبيّن أنّ الخارج من عموم : «لا تنقض» ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيّرا ،

______________________________________________________

الاستصحاب ، إذ بعد العلم بنجاسة أحد الإناءين ، يعلم طهارة أحدهما واقعا (وارتفاع الآخر) عن طهارته بسبب تنجّسه واقعا.

وعليه : فالمعلوم اجمالا في تعارض الاستصحابين هو : بقاء أحد المستصحبين واقعا ، وارتفاع الآخر واقعا ، يعني : بأن لا يكون المقام موردا لجريان شيء من الاستصحابين رأسا (لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر) يعني : بأن يكون الاستصحابان جاريين في المقام ، لكن الشارع ألغى استصحابا وأبقى استصحابا.

إذن : (فتبيّن) خروج الاستصحابين المتعارضين معا عن مدلول : «لا تنقض» ومعه ظهر (أنّ الخارج من عموم : «لا تنقض» ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا) عندنا معيّنا عند الشارع ، حتى يكون من قبيل : «اكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا» حيث تردّد زيد الخارج من عموم : «الاكرام» بين زيدين ، فان عموم «الاكرام» كان يشملهما معا لو لا اخراج أحدهما المعيّن عند الله المردّد عندنا.

(ولا) كون الخارج من عموم : «لا تنقض» واحدا (مخيّرا) كما في انقاذ الغريقين ، فان عموم دليل الاستصحاب ليس من قبيل عموم : «انقذ كل غريق» حتى إذا غرق اثنان وعجز المكلّف من انقاذهما وجب عليه انقاذ أحدهما تخييرا.

والحاصل : ان الاستصحابين المتعارضين خرجا جميعا بسبب التعارض عن مدلول : «لا تنقض» بينما لم يخرج من عموم دليل : «اكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا» إلّا واحدا من الزيدين لا معيّنا ، كما لم يخرج من عموم : «انقذ كل غريق»

٢٣٢

بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد أخر ، غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة.

______________________________________________________

إلّا واحدا من الغريقين مخيّرا ، وان كان خروج أحد الزيدين بسبب العلم بعدم شمول العام له ، وخروج أحد الغريقين بسبب العجز عن امتثاله.

وعليه : فقد ظهر خروج الاستصحابين المتعارضين معا من عموم : «لا تنقض» لا خروج أحدهما لا معيّنا ، ولا أحدهما مخيّرا (بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين) بحكم أخبار الاستصحاب ، المذيّلة بقوله : «بل انقضه بيقين آخر» (وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي) فالذي هو طاهر من الإناءين واقعا يترتب عليه آثار الطهارة ، والذي هو نجس من بين الإناءين واقعا يترتب عليه آثار النجاسة ، ولا يبقى مجال للاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما مجاله في الظاهر ، والطهارة والنجاسة هنا واقعيان لا ظاهريان كما قال : (من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما) أي : في المتعارضين ، فلا يكون شيء منهما موردا للاستصحاب : لا استصحاب النجاسة ، ولا استصحاب الطهارة.

هذا ، وحيث انّه قد خرج المتعارضان من دليل الاستصحاب ، وكان الباقي على طهارته واقعا ، وكذا المرتفع عن طهارته واقعا ، هو غير معيّن عندنا معيّن عند الله سبحانه وتعالى (فيرجع إلى قواعد أخر ، غير الاستصحاب) مثل : قاعدة الاحتياط ـ مثلا ـ ويحكم فيهما طبق قاعدة الاحتياط (كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة) رأسا.

٢٣٣

ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى الاحتياط فيهما ،

______________________________________________________

مثلا : إذا كان عندنا إناءان قد طرأ على كل واحد منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لا نعلم الحالة السابقة لهذا الاناء ، ولا الحالة السابقة لذلك الاناء ، فانّه لا يجري استصحاب الطهارة ولا استصحاب النجاسة في أحدهما ، بل اللازم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة ، وكذا ما نحن فيه ، فانّه لمّا كان عندنا إناءان طاهران ، وتنجس أحدهما غير المعيّن ، لم يجر شيء من الاستصحاب فيهما ، أو في أحدهما ، بل يلزم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة.

(ولذا) الذي ذكرناه : من انّه لا تلاحظ الحالة السابقة للمتعارضين في مورد العلم الاجمالي حتى تستصحب تلك الحالة (لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة) بأن كان إناءان طاهران ثم تنجّس أحدهما (أو النجاسة) بأن كان إناءان نجسان ثم تطهّر أحدهما (وبين عدم حالة سابقة معلومة) كما مثّلنا له بإناءين طرأ على كل منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لم نعلم الحالة السابقة لهما.

وعليه : (فإنّ) هذه الصور الثلاث كلها ليست مجرى الاستصحاب ، بل (مقتضى) القاعدة بالنسبة للمتعارضين فيها (الاحتياط فيهما) أي : في المتعارضين منها ، وذلك لمكان العلم الاجمالي المانع من جريان الاستصحاب فيها ـ على ما عرفت ـ والمانع من قاعدة الطهارة أيضا ، إذ لا مجال لقاعدة الطهارة مع العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

٢٣٤

وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا.

ومما ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد.

فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد

______________________________________________________

هذا (و) لكن مقتضى القاعدة (فيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا) كما لو كان نصف كرّ طاهرا ونصف كرّ نجسا ، ثم اتصل أحدهما بالآخر ولم نعلم هل انّه تطهر كل الماء أو تنجس كل الماء بعد علمنا بأن الماء الواحد لا يكون له حكمان؟ هو : (الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا) ففي كل مقام كان من قبيل الإنائين ، فالقاعدة : الاحتياط ، وفي كل مقام كان من قبيل نصفي الكرّ فالأصل الطهارة.

(وممّا ذكرنا) في مثال الإناءين الذين علم اجمالا بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما حيث قلنا بتساقط الاستصحابين فيهما (يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد) كما مثّلنا له بالإناءين (وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد) كما إذا كان عندنا إناءان : أحدهما طاهر قطعا ، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، ثم علم اجمالا بتنجّس أحدهما ، فهنا يكون في الإناء الأوّل أصلان : أصل الطهارة والاستصحاب ، بينما لا يكون في الإناء الثاني إلّا أصل الطهارة فقط : ففي هذا المثال أيضا كالمثال الأوّل يتساقط الأصلان المتعارضان ، ومع التساقط لا يبقى مجال للترجيح بالأصل الزائد.

إذن : (فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها) أي اعتبار : الاصول (من باب التعبّد) أي : من باب ان حجيّة الاستصحاب من جهة الاخبار والروايات الشرعية ، لا من جهة الظن النوعي العقلائي أو الشخصي ، فانّه بناء عليه

٢٣٥

لا وجه له ، لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول عن مدلول : «لا تنقض» على ما عرفت.

نعم ، يتّجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثالثة :

وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين ، فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه

______________________________________________________

(لا وجه له) أي : للترجيح بكثرة الاصول.

وإنّما لا وجه له (لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول) أي : جميع أطراف العلم الاجمالي (عن مدلول : «لا تنقض» على ما عرفت) آنفا : من انّه لا يجوز ابقاؤهما جميعا ، لأنّه يوجب التناقض في أطراف دليل : «لا تنقض» ولا إبقاء أحدهما معيّنا لأنّه ترجيح بلا مرجح ، ولا ابقاء أحدهما مخيّرا لأنّه لا خارجية له.

(نعم ، يتّجه الترجيح) بكثرة الاصول (بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعي) العقلائي ، فانّه على ذلك يصبح دليل الاستصحاب مثل دليل الخبر ، فكما ان دليل حجية الخبر يشمل الخبرين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلّا بأحدهما للتعارض ، فكذلك دليل حجية الاستصحاب الذي هو الظن النوعي يشمل الاستصحابين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلّا بأحدهما من باب التعارض ، وذلك على ما تقدّم بيانه.

(وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما) أي : المورد الذي (يعمل فيه بالاستصحابين) معا (فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه) أي : في ذلك

٢٣٦

غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا يوجب مخالفته عملية لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فانّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما.

وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ، إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه مانعا

______________________________________________________

المورد (غير مؤثّر شيئا) لعدم تنجّز خطاب تكليفي على المكلّف (فمخالفته لا يوجب مخالفة عملية) قطعية (لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فانّه) حينئذ (يحكم ببقاء الحدث) فلا وضوء له (وطهارة الأعضاء) فلم تتنجّس أعضاؤه.

وإنّما قال المصنّف : «ولو توضأ اشتباها» ليشير إلى انّه لو توضأ بذلك عمدا ، فانّه لا يصح وضوءه ، لعدم تمشّي قصد القربة منه ، ولو فرض تمشّي قصد القربة منه كان الأمر موكولا إلى الواقع في عالم الثبوت ، فان كان ماء كان متوضّئا ، وإلّا فلا ، وتظهر الثمرة فيما إذا انكشف كونه ماء ـ مثلا ـ وحينئذ فقول بعض المحشّين : فلو وقع عمدا كان بقاء الحدث مقطوعا به لا مشكوكا فيه وخرج عن تعارض الاستصحابين ، محل نظر.

وكيف كان : فان المتوضئ بالمائع المردّد اشتباها يحكم ببقاء حدثه ، وطهارة أعضائه ، وذلك (استصحابا لهما) أي : للحدث والطهارة (وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك) أي : من جريان الاستصحابين (إذ الواحد المردّد) الذي زال ولم نعلمه بعينه ، فانّه لتردّده (بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه) أي : ترتيب ذلك الحكم الشرعي (مانعا

٢٣٧

عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا.

نعم ، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية ،

______________________________________________________

عن العمل بالاستصحابين) بخلاف ما إذا كان هناك إناءان طاهران فتنجّس أحدهما ، وتردّد النجس بين مستصحبي الطهارة ، فانّه يترتّب عليه حكم شرعي وهو : وجود الاجتناب عنه ، فيكون مانعا عن العمل بالاستصحابين ، إذ يلزم من العمل بهما مخالفة عملية قطعية.

هذا (و) من الواضح : انّه (لا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا) أي : كما انّه لم يكن العلم الاجمالي هنا بالزائل المردّد بين كونه الحدث أو الطهارة مانعا ، لأنّ لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فكذلك لم يكن الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غسل الأعضاء مانعا ، لأنّه لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فانّه لو لم يغسل أعضائه لا يقطع بالمخالفة ، كما انّه لو توضأ لا يقطع بالمخالفة إلّا المخالفة الالتزامية المجرّدة ، وقد سبق من المصنّف انّه لا دليل على حرمة المخالفة الالتزامية مجرّدة.

(نعم ، ربما يشكل ذلك) أي : العمل بالاستصحابين للزوم المخالفة العملية القطعية منه (في الشبهة الحكمية) التي تكون الوقائع فيها متعدّدة فتؤدّي إلى المخالفة العملية تدريجا ، وذلك كما إذا شك في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة ، فأجرى استصحاب عدم الوجوب مرّة فتركها ، ثم أجرى استصحاب عدم الحرمة اخرى ، فأتى بها ، فانّه يعلم حينئذ بأنّه خالف عملا ، لأنّ صلاة الجمعة ان كانت واجبة فقد تركها ، وان كانت محرمة فقد فعلها ، وحينئذ يقطع

٢٣٨

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم.

وأمّا الصورة الرابعة :

وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين ، وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما مما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر ، بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه.

______________________________________________________

بالمخالفة العملية (وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة) أي : في حكم هذه المسألة التي توجب تدريجا العلم بالمخالفة العملية وذلك (في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم) أوّل الكتاب فراجع هناك.

(وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين) أي : بأن يكون أحدهما فقط حجة ، دون الآخر (وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما مما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر) أي : أنّ الآخر لم يكن محل ابتلائه ، فإنّه لا يجري في هذا الآخر الاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما هو للعمل ، والمفروض انّه لم يكن محل الابتلاء ليعمل به ، ومعه يجري الاستصحاب في المبتلى به بلا معارض ، وذلك لأنّه لم يتوجه إلى المكلّف تكليف منجّز على أحد التقديرين ، وقد سبق أن قلنا : انّه إنّما لا يجري شيء من الاستصحابات في مورد العلم الاجمالي اذا كان التكليف فيه منجزا على كل تقدير ، لا على تقدير دون تقدير كما نحن فيه الذي هو (بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه) أي : على التقدير الآخر.

٢٣٩

وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ قوله : «لا تنقض اليقين» لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي ، بحيث لا تعلّق له به أصلا.

كما إذا علم اجمالا بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك.

______________________________________________________

(و) عليه : فقد اتضح انّه (في الحقيقة هذا) التصوير الذي صوّره المصنّف في الصورة الرابعة (خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ) الاستصحاب فيه يكون في طرف واحد لا في الطرفين ، فيخرج عن التعارض لأن (قوله :

«لا تنقض اليقين) بالشك» (لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه) أي : على ذلك اليقين (في حقّ المكلّف أثر شرعي) وذلك (بحيث لا تعلّق له) أي : لذلك الأثر الشرعي (به) أي : بالمكلف (أصلا) لخروجه عن محل ابتلائه ، فيكون عدّ المصنّف هذه الصورة من موارد تعارض الاستصحابين إنّما هو لوجود العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، لكن حيث ان هذا العلم ليس له أثر لخروج أحد طرفيه عن ابتلاء المكلّف ، فيجري الاستصحاب فيما هو محل ابتلائه بلا معارض.

وأمّا مثال ذلك فهو : (كما إذا علم اجمالا بطروّ الجنابة) إما (عليه) حتى يتنجز عليه وجوب الغسل (أو على غيره) حتى لا يكون عليه شيء من التكليف (وقد تقدّم) في مبحث البراءة في تنبيهات الشبهة المحصورة (أمثلة ذلك) ممّا يكون أحد طرفي العلم غير منجّز ، لخروجه عن محل الابتلاء ، أو للاضطرار إليه ، أو لأنّه كان مكلّفا به سابقا ، كما إذا كان أحد الإناءين المعيّن نجسا والآخر طاهرا ، فوقعت قطرة دم في أحدهما ولم يعرف هل أنّها وقعت في الطاهر أو في النجس؟ وإلى غير ذلك.

٢٤٠