المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

قول الإمام أحمد فى : «التعريف بالأمصار»

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٧٨١ ـ سئل عن التعريف فى القرى. فقال : قد فعله ابن عباس بالبصرة وفعله عمرو بن حريث (١) بالكوفة.

قال أبو عبد الله : ولم أفعله أنا قط ، وهو دعاء ، دعهم ، يكثر الناس قيل له : فترى أن ينهوا؟ قال : لا ، دعهم لا ينهون. وقال مبارك (٢) : رأيت الحسن وابن سيرين وناسا يفعلونه.

٧٨٢ ـ سألته عن : التعريف بالأمصار؟ قال : لا بأس به (٣).

وقال ابن أبى يعلى فى ترجمة : عبد الكريم بن الهيثم (٤).

٧٨٣ ـ قال : وسألت أبا عبد الله عن التعريف بهذه القرى ، مثل جرجرايا (٥) ودير العاقول (٦)؟ فقال : قد فعله ابن عباس بالبصرة ، وعمرو بن حريث بالكوفة وهو دعاء. قيل له : يكثر الناس قال وإن كثروا هو دعاء وقد

__________________

(١) هو : عمرو بن حريث بن عمرو القرشى المخزومى ، صحابى صغير ، قال الواقدى : قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعمرو بن حريث اثنا عشر سنة. توفى سنة خمس وثمانين ـ انظر : طبقات ابن سعد ٦ / ٢٣ ، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤١٧ ، تقريب ٢ / ٦٧.

(٢) لعله : مبارك بن فضالة فقد صحب الحسن البصرى وحدث عن ابن سيرين قال عنه ابن حجر : صدوق ، يدلس ، ويسوى.

انظر : سير أعلام النبلاء ٧ / ٢٨١ ، تقريب ٢ / ٢٢٧.

(٣) مسائل ابن هانئ : ١ / ٩٤.

(٤) هو : العاقولى تقدمت ترجمته ج : ٢ / ١٨ ، وشذرات الذهب ٢ / ١٧٢.

(٥) بلد من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد فى الجانب الشرقى كانت مدينة وخربت مع ما خرب من النهروانات.

معجم البلدان ٢ / ١٢٣ ، مراصد الاطلاع ١ / ٣٢٤.

(٦) بين مدائن كسرى والنعمانية بينه وبين بغداد خمسة عشر فرسخا على شاطئ دجلة.

المصدرين السابقين ٢ / ٥٢٠ ، ٥٦٧.

٢٨١

كان يفعله محمد بن واسع وابن سيرين والحسن وذكر جماعة من البصريين (١).

وقال فى ترجمة يعقوب بن إبراهيم الدورقى.

٧٨٤ ـ وقال يعقوب الدورقى : سألت أبا عبد الله عن الرجل يحضر فى المسجد يوم عرفة. قال : لا بأس أن يحضر المسجد فيحضر دعاء المسلمين قد عرّف ابن عباس بالبصرة. فلا بأس أن يأتى الرجل المسجد فيحضر دعاء المسلمين لعل الله أن يرحمه. إنما هو دعاء (٢).

التعليق :

هذه المسألة تكلم عنها ابن تيمية فقال : أما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر ، فهذا هو التعريف بالأمصار الّذي اختلف العلماء فيه ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين ، ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه ، هذا هو المشهور عنه.

وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين : كإبراهيم النخعى وأبى حنيفة ومالك وغيرهم. ومن كرهه قال : هو من البدع فيندرج فى العموم لفظا ومعنى ومن رخص فيه قال : فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلى بن أبى طالب ولم ينكر عليه ، وما يفعل فى عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة.

لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد فى المساجد بالدعاء وأنواع الخطب والأشعار الباطلة فمكروه فى هذا اليوم وفى غيره (٣). اه

قلت : وإن كان هذا قد فعله بعض الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن تركه أولى خاصة بعد انتشار البدع والتجمعات التى فيها من الانحرافات العقدية والمخالفات الشيء الكثير فأين هذا الوضع من ذلك العصر السليم.

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٢١٧.

(٢) المصدر نفسه ١ / ٤١٤.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ص : ٣١٠.

٢٨٢

قول الإمام أحمد فى قراءة القرآن بالألحان

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ.

٧٨٥ ـ سألت أبا عبد الله : أيهما أعجب أليك من القراءات. قال : قراءة نافع (١). أو كما قرأ نافع ، ثم قال : كما قرأ عاصم (٢) (٣).

٧٨٦ ـ وقال أبو عبد الله يوما وكنت أسأله ـ تدرى ما معنى «من لم يتغن بالقرآن» (٤) قلت : لا. قال : هو الرجل يرفع صوته ، هذا معناه إذا رفع صوته فقد استغنى به (٥).

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل.

٧٨٧ ـ سألت أبى عن القراءة بالألحان؟ فقال : محدث إلا أن يكون طباع ذلك يعنى الرجل طبعه كما كان أبو موسى الأشعرى (٦).

قال أبو بكر الخلال :

٧٨٨ ـ أخبرنى يوسف بن موسى أن أبا عبد الله سئل عن القراءة

__________________

(١) هو : نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم القارئ ، المدنى مولى بنى ليث أصله من أصبهان ، صدوق ثبت فى القراءة. توفى سنة تسع وستين ومائة. تقريب ٢ / ٢٩٦.

(٢) هو : عاصم بن بهدلة ابن أبى النجود ، الأسدى ، مولاهم ، المقرئ صدوق له أوهام حجة فى القراءة وحديثه فى الصحيحين مقرون. توفى سنة ثمان وعشرين ومائة. تقريب ١ / ٣٨٣.

(٣) مسائل ابن هانئ ١ / ١٠٢.

(٤) روى أحمد ١ / ١٧٢ والدارمى فى السنن ٢ / ٤٧١ عن سعد بن أبى وقاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وعند أبى داود ٢ / ١٥٦ عن سعد بن أبى وقاص أو عن سعيد بن أبى سعيد.

(٥) مسائل ابن هانئ : ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٦) مسائل عبد الله ص : ٤٤. وأخرجها الخلال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ١٠٨.

٢٨٣

بالألحان ، فقال : لا يعجبنى ، إلا أن يكون جرمه (١) قيل له : فيقرأ بحزن يتكلف ذلك؟ قال : لا يتعلمه إلا أن يكون جرمه.

٧٨٩ ـ وأخبرنى محمد بن على السمسار أن يعقوب بن بختان حدثهم أنه قال لأبى عبد الله : فالقرآن بالألحان؟ فقال : لا ، إلا أن يكون جرمه ـ أو قال : صوته مثل صوت أبى موسى ، أما أن يتعلمه فلا.

٧٩٠ ـ وأخبرنى محمد بن الحسن أن الفضل حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله سئل عن الألحان ، فكرهه وقال : يحسنه بصوته من غير تكلف.

٧٩١ ـ وأخبرنى محمد بن على ، حدثنا صالح أنه قال لأبيه : «زينوا القرآن بأصواتكم» (٢) ما معناه؟ قال : التزيين : أن يحسنه.

٧٩٢ ـ أخبرنى محمد بن على قال : حدثنا صالح ، أنه سأل أباه عن الرجل يتغنى بالقرآن ، ما تفسيره؟ قال : أما سفيان بن عيينة فكان يفسره قال : يستغنى به (٣) وبعض الناس يقولون : إذا رفع صوته فهو يتغنى به (٤).

٧٩٣ ـ أخبرنى منصور بن الوليد قال : حدثنا على بن سعيد قال : سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال : ما يعجبنى ، هو محدث (٥).

٧٩٤ ـ أخبرنى الحسين بن الحسن قال : حدثنا إبراهيم بن الحارث قال : سئل أبو عبد الله عن القراءة بالألحان / وأنا محمد بن على قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان ، فقال : كل شيء محدث فإنه لا يعجبنى ، إلا أن يكون صوت الرجل ، لا يتكلفه. قلت : ما لم يكن شيئا بعينه لا يعدوه؟ قال : نعم.

__________________

(١) الجرم : الصوت. انظر : النهاية ١ / ٢٦٣.

(٢) روى أحمد ٤ / ٢٨٣. والدارمى فى السنن ٢ / ٤٧٤ وابن ماجة ١ / ٢٤٦ عن البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «زينوا القرآن بأصواتكم».

(٣) انظر : سنن الدارمى ٢ / ٤٧١.

(٤) الروايتان فى مسائل صالح ص : ٣٥.

(٥) ذكرها ابن أبى يعلى فى ترجمة على بن سعيد. طبقات الحنابلة : ١ / ٢٢٤.

٢٨٤

٧٩٥ ـ أخبرنى محمد بن جعفر ، أن أبا الحارث حدثهم أن أبا عبد الله قيل له : القراءة بالألحان والترنم عليه؟ قال : بدعة. قيل له : إنهم يجتمعون عليه ويسمعونه. قال : الله المستعان (١).

٧٩٦ ـ وأنا أبو بكر المروزي قال : سئل أبو عبد الله عن القراءة بالألحان؟ فقال : بدعة لا يسمع (٢).

٧٩٧ ـ أخبرنى الحسن بن صالح العطار قال : حدثنا يعقوب الهاشمى قال : سمعت أبى سأل أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال : هو بدعة ومحدث. قلت : تكرهه يا أبا عبد الله؟ قال : نعم ، إلا ما كان من طبع ، كما كان أبو موسى الأشعرى ، أما من يتعلمه بالألحان فمكروه قلت : إن محمد بن سعيد الترمذي (٣) ذكر أنه قرأ ليحيى بن سعيد (٤). فقال : صدقت ، كان قرأ له ، وقال : قراءة القرآن بالألحان مكروهة (٥).

٧٩٨ ـ أخبرنى محمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : يعجبنى من قراءة القرآن السهلة ، فأما هذه الألحان فلا تعجبنى.

٧٩٩ ـ وأخبرنى أبو بكر المروزي قال : قلت لأبى عبد الله : إنهم قالوا عنك : إنك كنت عند وهب بن جرير (٦) ، فسألت ابن سعيد (٧) أن يقرأ ، فقال : ما سمعت منها شيئا قط (٨) ، وقال : لا يعجبنى إلا أن يكون جرم الرجل

__________________

(١) ذكرها ابن أبى يعلى فى ترجمة أبى الحارث بلفظ مقارب. طبقات الحنابلة ١ / ٧٤.

(٢) ذكرها ابن أبى يعلى فى ترجمة أبى بكر المروزي. طبقات الحنابلة ١ / ٥٧.

(٣) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من المصادر.

(٤) لعله : ابن فروخ القطان. ثقة متقن حافظ. إمام قدوة. تقريب ٢ / ٣٤٨.

(٥) ذكرها ابن أبى يعلى فى ترجمة الهاشمى ١ / ٣٩٦.

(٦) وهب بن جرير بن حازم ، ثقة ، توفى سنة ست ومائتين. تقريب ٢ / ٣٢٨.

(٧) أى : محمد بن سعيد المتقدم.

(٨) قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبى يقول : كنا عند وهب وكان محمد بن سعيد حاضرا فقيل له اقرأ. فقال : لست أقرأ أو يأمرنى أحمد فما قلت له اقرأ ولا هو قرأ.

٢٨٥

مثل أبى موسى الأشعرى حين قال له عمر : ذكرنا ربنا يا أبا موسى (١) ، فقرأ عنده. وذكر عن أنس (٢) وعن التابعين فيه كراهية. قلت : أليس يروى عن معاوية بن قرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع عام الفتح (٣) وقال : لو شئت أن أحكى لكم اللحن. فأنكر أبو عبد الله أن يكون هذا على معنى الألحان. وما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أذن لشيء ما أذن لنبى أن يتغنى بالقرآن» (٤).

وقوله : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». قال : كان ابن عيينة يقول : فيستغنى بالقرآن ، يعنى : الصوت ، وقال وكيع : يستغنى به ، وقال الشافعى : يرفع صوته.

وأنكر أبو عبد الله الأحاديث التى يحتج بها فى الرخصة فى الألحان (٥).

قال ابن أبى يعلى فى ترجمة : عبد الرحمن أبو الفضل المتطبب (٦).

٨٠٠ ـ نقلت من كتاب أبى بكر الخلال : أخبرنى جعفر بن محمد العطار (٧) قال : سمعت أبا الحسن محمد بن محمد بن أبى الورد (٨) يقول : كان عبد الرحمن المتطبب عندى ، فقال : دخلت على أبى عبد الله ، فقلت : ما تقول فى قراءة الألحان؟ قال : بدعة ، بدعة.

__________________

(١) رواه الدارمى فى السنن ٢ / ٤٧٢.

(٢) انظر : سنن الدارمى ٢ / ٤٧٤.

(٣) رواه مسلم ١ / ٥٤٧ ونحوه عند البخارى ـ فتح البارى ٩ / ٩٢ ـ كلاهما عن عبد الله بن مغفل رضى الله عنه. ومعاوية أحد رجال الإسناد.

(٤) أخرجه البخارى ٩ / ٦٨ ومسلم ١ / ٥٤٥ ـ ٥٤٦ من حديث أبى هريرة.

(٥) انظر : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ١٠٨ ـ ١١١.

(٦) قال أبو بكر الخلال : كانت عنده مسائل عن أبى عبد الله وكان يأنس به أحمد بن حنبل. طبقات الحنابلة ١ / ٢٠٨ ، ت / بغداد ١٠ / ٢٧٦.

(٧) ذكره الخطيب وسكت عنه. ت / بغداد ٧ / ٢٢٠.

(٨) الورع الزاهد. انظر : ت / بغداد ٣ / ٢٠١.

٢٨٦

٨٠١ ـ قال الخلال : وأخبرنى المروزي قال : سمعت عبد الرحمن المتطبب يقول : قلت لأبى عبد الله فى قراءة الألحان؟ فقال : يا أبا الفضل اتخذوه أغانيا ، اتخذوه أغانيا.

٨٠٢ ـ قال الخلال : وأخبرنى محمد بن أبى هارون الوراق قال : سمعت عبدان الحذاء قال : سمعت عبد الرحمن المتطبب قال : سألت أبا عبد الله عن هذه الألحان؟ فقال : اتخذوه أغانيا. لا تسمع من هؤلاء (١).

التعليق :

ذكر ابن القيم الخلاف فى هذه المسألة فقال : طائفة تكره قراءة الألحان ومما نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما ... وممن رويت عنه الكراهة أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعى.

قال ابن بطال : وقالت طائفة التغنى بالقرآن ـ يشير إلى الحديث السابق ـ هو تحسين الصوت به والترجيع بقراءته والتغنى بما شاء من الأصوات واللحون (٢). اه

قلت : ولم يخالف أحد ممن كره قراءة الألحان بأن تحسين الصوت به مطلوب لكن ما يشاهد من الإفراط فى المد ونحوه لا يدخل فى تحسين الصوت به.

يقول ابن قدامة : أما قراءته من غير تلحين فلا بأس به وإن حسن صوته فهو أفضل ...

فأما القراءة بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط فى المطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به ... وقال القاضى : هو مكروه على كل حال ... والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به ...

فأما إذا أفرط فى المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واوا

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٢٠٨. وانظر : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر للخلال ص : ١١٤.

(٢) زاد المعاد ١ / ١٣٤.

٢٨٧

والفتحة ألفا والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من يحرمه لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفا (١). اه

قال القاضى عياض : كرهها ـ أى القراءة بالألحان ـ مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث ولأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية وإقبال النفوس على استماعه.

قال النووى : قال الشافعى فى موضع : أكره القراءة بالألحان وقال فى موضع : لا أكرهها قال أصحابنا : ليس له فيها خلاف وإنما هو اختلاف حالين فحيث كرهها أراد إذا مطط وأخرج الكلام عن موضعه بزيادة ونقص أو مد غير ممدود وإدغام ما لا يجوز إدغامه ونحو ذلك وحيث أباحها أراد إذا لم يكن فيها تغير لموضوع الكلام (٢). اه

قلت : ومما استدل به من أباح القراءة بالألحان مطلقا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».

يقول ابن الجوزى : اختلفوا فى معنى قوله : «يتغنى» على أربعة أقوال.

أحدها : تحسين الصوت.

والثانى : الاستغناء.

والثالث : التحزن.

والرابع : التشاغل به. تقول العرب : تغنى بالمكان أقام به (٣). اه

وقد قتل ابن القيم هذه المسألة بحثا وقال بعد استعراضه لأدلة الفريقين :

ومنتهى احتجاج الطائفتين وفصل النزاع أن يقال : التطريب والتغنى على وجهين :

__________________

(١) المغنى ٩ / ١٨٠.

(٢) مسلم بشرح النووى ٦ / ٨٠ ، وانظر : فتح البارى ٩ / ٧٢.

(٣) فتح البارى ٩ / ٧٠ وراجع ما قبله من ص : ٦٨ إلى ص : ٧١ ففيه بحث لهذه الأقوال.

٢٨٨

أحدهما : ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم بل إذا خلى وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز وإن أعان طبيعته فضل تزيين وتحسين ... فهذا هو الّذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغنى الممدوح المحمود وهو الّذي يتأثر به السامع والتالى وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.

الوجه الثانى : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس فى الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعليم والتكلف فهذه هى التى كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره ، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم براء من القراءة بالألحان الموسيقية المتكلفة التى هى إيقاع وحركات موزونة ومحدودة وأنهم اتقى لله من أن يقرءوا بها أو يسوغوها (١) ...

__________________

(١) زاد المعاد : ١ / ١٣٧ ـ ١٣٨. وانظر : نزهة الأسماع لابن رجب ص : ٧٠.

٢٨٩

قول الإمام أحمد فى الغناء وآلات اللهو

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٨٠٣ ـ سألت أبى عن الغناء فقال : ينبت النفاق فى القلب لا يعجبنى (١) (٢).

وقال أبو بكر الخلال :

٨٠٤ ـ أخبرنى جعفر بن محمد أن يعقوب بن بختان حدثهم أنه سأل أبا عبد الله : عن القوم يؤذونه بالغناء؟ فقال : تقدم إليهم وانههم (٣).

٨٠٥ ـ أخبرنى منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائى حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون قال : إذا ظهر له ، هم داخل. قلت : لكن الصوت يسمع فى الطريق. قال : هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم (٤).

٨٠٦ ـ أخبرنى منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدثهم قال : قلت لأبى عبد الله حديث الزهرى ، عن عروة ، عن عائشة وهشام عن أبيه عن

__________________

(١) هكذا جاء فى مسائل عبد الله ص : ٣١٦ ، ورواه الخلال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ٩٩ ، ونقله ابن القيم فى إغاثة اللهفان ص : ٢٢٩ وغيره أيضا. ونقل البعض عن عبد الله أنه سأل أباه عن الغناء فقال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق فى القلب. ا ه وهذا القول رواه عن ابن مسعود : المروزى فى تعظيم قدر الصلاة ٢ / ٦٣٠ ، والبيهقى فى السنن الكبرى ١٠ / ٢٢٣.

ورواه عنه مرفوعا أبو داود ٥ / ٢٢٣ والبيهقى فى السنن الكبرى ١٠ / ٢٢٣.

قال ابن القيم : وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب ذم الملاهى ... وفى رفعه نظر والموقوف أصح. ا ه. إغاثة اللهفان ص : ٢٤٨.

(٢) وقد ذكرت سابقا ج : ٢ / ١٣٣ أن الإمام أحمد يستعمل هذا اللفظ ولفظ الكراهة وقد يريد به التحريم فليتنبه لذلك.

(٣) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ٥٣.

(٤) المصدر السابق ص : ٦١.

٢٩٠

عائشة عن جوار يغنين (١) أيش هذا الغناء قال : غناء الركب أتيناكم.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٨٠٧ ـ سمعت أبى يقول فى رجل يرى مثل الطنبور أو العود أو الطبل أو ما أشبه هذا ما يصنع به؟ قال : إن كان مغطى فلا وإن كان مكشوفا كسره (٢).

قال أبو داود السجستانى :

٨٠٨ ـ قيل لأحمد : وكذلك إن كسر عودا أو طنبورا؟ قال : نعم (٣).

٨٠٩ ـ سمعت أحمد : سئل عن الرجل يرى الطنبور والطبل ونحو ذلك واجب عليه تغييره قال : ما أدرى ما واجب إن غير فله فضل (٤).

__________________

(١) روى أحمد ٦ / ١٣٤ والبخارى ٢ / ٤٤٥ ومسلم ٢ / ٦٠٧ وابن ماجة ١ / ٦١٢ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : دخل عليّ أبو بكر وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار فى يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر : أبمزمور الشيطان فى بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك فى يوم عيد الفطر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا».

وروى أحمد أيضا ٣ / ٣٩١ عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة : أهديتم الجارية إلى بيتها؟ قالت : نعم قال : فهلا بعثتم معها من يغنيهم يقول : أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم فإن الأنصار قوم فيهم غزل. ونحوه عن ابن عباس عند ابن ماجة ١ / ٦١٢ وانظر صحيح البخارى ـ فتح البارى ٩ / ٢٢٥.

(٢) مسائل عبد الله ص : ٣١٦ وأخرجها الخلال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ٨٠.

(٣) هذه الرواية جاءت بعد رواية سئل فيها عن من أتلف الشطرنج بعد النهى هل أحسن بعمله فقال : قد أحسن. فقيل له : ليس عليه شيء قال : لا. مسائل أبى داود ص : ٢٧٩.

(٤) مسائل أبى داود ص : ٢٧٨ ، ورواها الخلال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ٣٦ باختلاف يسير.

٢٩١

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٨١٠ ـ سئل أبو عبد الله ـ وأنا أسمع ـ : عن القوم يكون معهم المنكر مغطى مثل طنبور ... وأشباه ذلك أيكسره إن رآه قال : إن كان مغطى فلا يكسره (١).

٨١١ ـ سئل عن الرجل يرى الطنبور مغطى أيكسره. قال : إذا كان يثبته أنه طنبور أو طبل كسره (٢).

قال أبو بكر الخلال :

٨١٢ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون أن مثنى الأنبارى (٣) قال : سلمت على أحمد ورضعت عنده قرطاسا وقلت : انظر فيها واكتب لى جوابها وفيها : ما تقول إن رأى الرجل الطنبور تباع فى سوق من أسواق المسلمين مكشوفة فأيهما أحب إليك : ذهابه إلى السلطان فيها ، أو يأمر بكسرها ، أو يكون منه فيها بعض التغيير ، أو جلوسه عن الذهاب إلى السلطان وهو يأمر بلسانه وينكر بقلبه.

فكتب : يغير ذلك إذا لم يخف ، فإن خاف أنكر بقلبه ، وأرجو أن يسلم على إنكاره (٤).

٨١٣ ـ أخبرنى محمد بن يحيى الكحال أنه قال : لأبى عبد الله : يكون لنا الجار يضرب بالطنبور والطبل. قال : انهه. قلت : أذهب إلى السلطان؟ قال : لا. قلت : فلم ينته ، يجزئنى نهيى له؟ قال : نعم ، إنما يكفيك أن تنهاه (٥).

٨١٤ ـ أخبرنى أحمد بن بشر بن سعيد الكندى (٦) قال : حدثنى عبد الله

__________________

(١) مسائل ابن هانئ ٢ / ١٧٣.

(٢) نفس المصدر ٢ / ١٧٤ وأخرجها الخلال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص ٨٢.

(٣) مثنى بن جامع ، أبو الحسن ، قال أبو بكر الخلال : كان ورعا جليل القدر وكان أبو عبد الله يعرف قدره وحقه ونقل عنه ـ أى عن أبى عبد الله ـ مسائل حسان. وقال الخطيب : كان ثقة صالحا دينا مشهورا بالسنة. ت / بغداد ١ / ٣٣٦ ، طبقات الحنابلة ١ / ٣٣٦.

(٤) الأمر بالمعروف ص : ٤٠.

(٥) نفس المصدر ص : ٥٢ ـ ٥٣.

(٦) ذكره ابن أبى يعلى وساق له مسائل. طبقات الحنابلة ١ / ٣٣.

٢٩٢

ابن الطيب قال : كان لى جار يؤذينى بضرب الطنابير والعيدان ، فأتيت أحمد ابن حنبل ، فقال لى : انهه. فقلت : قد نهيته فعاد. فقال : هذا عليك فقلت : السلطان؟ قال : لا. إنما عليك أن تنهاه (١).

٨١٥ ـ أخبرنى يوسف بن موسى وأحمد بن الحسين وهذا لفظ يوسف ، أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال : ما عليه إذا لم يعرف مكانه.

٨١٦ ـ أخبرنى عبد الكريم بن الهيثم العاقولى قال : سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه ، فقال : وما عليك؟ وقال : ما غاب فلا تفتش (٢).

٨١٧ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون أن مثنى الأنبارى حدثهم قال : سمع أحمد بن حنبل حس طبل فى جواره ، فقام إليهم من مجلسنا ، حتى أرسل إليهم فنهاهم.

٨١٨ ـ أخبرنى منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائى حدثهم قال : ورأى (٣) أن ينكر الطبل. يعنى إذا سمع حسه (٤).

٨١٩ ـ وأخبرنى أبو بكر المروزي أنه قال لأبى عبد الله فى الطنبور إذا كان مغطى قال : إذا ستر عنك فلا.

٨٢٠ ـ وأخبرنى يوسف بن موسى وأحمد بن الحسن ـ والمعنى واحد ـ قال أحمد : سألت أبا عبد الله عن الرجل يرى الطنبور والمنكر مما يشبهه؟ وقال يوسف : والعود ، يكسره؟ قال : لا بأس. قلت : وإن كان من وراء الثوب وهو يصفه أو يبينه؟ قال : لا ، إذا كان مغطى فلا أرى له (٥).

__________________

(١) نفس المصدر ص : ٥٤.

(٢) نفس المصدر ص : ٦٠.

(٣) أى أحمد.

(٤) الأمر بالمعروف ص : ٦١.

(٥) المصدر السابق ص : ٨٠.

٢٩٣

٨٢١ ـ أخبرنى محمد بن على والحسن بن عبد الوهاب (١) ، أن محمد بن أبى حرب (٢) حدثهم قال : قلت لأبى عبد الله : رجل لقى رجلا ومعه عود أو طبل أو طنبور مغطى قال : يكسره (٣).

٨٢٢ ـ أخبرنى أبو بكر المروزي قال : سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور. قال : يكسر. قلت : الطنبور الصغير يكون مع الصبى. قال : يكسر أيضا ، إذا كان مكشوفا فاكسره.

٨٢٣ ـ أخبرنى عمر بن صالح (٤) بطرسوس قال : رأيت أحمد بن حنبل مر به عود مكشوف فقام فكسره (٥).

٨٢٤ ـ أخبرنى عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : أكره الطبل ، وهو : الكوبة (٦). نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧).

٨٢٥ ـ أخبرنا أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى أن أبا طالب حدثهم أنه قال لأبى عبد الله : هذه الطبالة تبيع الطبول ، أكسرها؟ قال : إذا دخلت الدور كيف تكسرها؟ قيل له : فهذه الطبول التى فى الأسواق أكسرها؟ قال : لا تقوى يا أبا بكر ـ يعنى المروزي ـ أن تكسرها فى الأسواق. قلت

__________________

(١) ابن أبى العنبر. قال عنه الخطيب : كان ثقة دينا مشهورا بالسنة. ت / بغداد ٧ / ٣٣٩.

(٢) جاء فى المطبوع : «محمد أبى حرب» والصواب ما هو مثبت. ترجم له ابن أبى يعلى فقال : محمد ابن النقيب بن أبى حرب الجرجرائى. تقدم ج : ١ / ٤٠٤.

(٣) نقل بعض ما تقدم من هذه الروايات القاضى أبو يعلى بن الفراء فى الأحكام السلطانية ص : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٤) ذكره أبو بكر الخلال فى جملة أصحاب الإمام أحمد. طبقات الحنابلة ١ / ٢١٩.

(٥) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ٨٥.

(٦) الكوبة : طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط. كف الرعاع للهيثمى ص : ٩٨ ، وانظر : النهاية لابن الأثير ٤ / ٢٠٧.

(٧) روى أحمد ١ / ٢٧٤ ، ٢٨٩ ، ٢ / ١٦٥ ، ١٦٧ ، من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو : «إن الله حرم على أمتى الخمر والميسر والكوبة» ... الحديث.

ورواه أبو داود ٤ / ٩٧ من حديث ابن عباس.

قال سفيان الثورى : سألت على بن بذيمة عن الكوبة قال : الطبل ا ه. وهما ممن رويا الحديث.

٢٩٤

له : سمعت من يقول : لما قدم على بن المدينى قال : رأيت معزفة مع جارية فأردت أن أكسرها ، فقال أبو عبد الله : يكسرها.

٨٢٦ ـ أخبرنى أبو بكر المروزي قال : قلت لأبى عبد الله : أمر فى السوق فأرى الطبول تباع ، أفأكسرها؟ قال : ما أراك تقوى ، إن قويت (١).

٨٢٧ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون أن يحيى بن يزداد أبا السقر (٢) حدثهم ، أنه سأل أبا عبد الله عن رجل رأى فى يد رجل عودا ، أو طنبورا ، فكسره ، أصاب أو أخطأ ، وما عليه فى كسره شيء؟ فقال : قد أحسن وليس عليه فى كسره شيء (٣).

٨٢٨ ـ أخبرنى أحمد بن الحسن بن حسان أن أبا عبد الله سئل عن الدفوف فقال : قد ترخص فيه الكوفيون ، يروون عن محمد بن حاطب فيها. ويروى عن الحسن (٤) قال : ليس الدفوف من أمر المسلمين فى شيء وأصحاب عبد الله بن مسعود كانوا يشققونها.

قيل له : فهذه الدفوف هى؟ قال : لا أدرى أخبرك.

٨٢٩ ـ حدثنا أحمد بن محمد بن حازم (٥) أن إسحاق بن منصور حدثهم : أنه قال لأبى عبد الله فى بيع الدفوف فكرهه. قال أحمد : أذهب إلى حديث إبراهيم كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجوارى فى الطريق معهن الدفوف فيخرقونها. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف» (٦).

قال أحمد : الدف على ذلك أيسر الطبل ليس فيه رخصة (٧).

__________________

(١) الأمر بالمعروف ص : ٨٧.

(٢) قال ابن حجر : وقد تبدل سينه صادا. انظر ترجمته ج : ٢ / ١٠٤.

(٣) الأمر بالمعروف ص : ٨٨.

(٤) لعله البصرى.

(٥) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من المصادر.

(٦) من رواية محمد بن حاطب صحابى صغير. وسيأتى تخريجه فى الصفحة التالية.

(٧) الأمر بالمعروف ص : ٩٠.

٢٩٥

٨٣٠ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون أن إسحاق حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطبل أو الطنبور ، أو مسكرا ، عليه فى ذلك شيء؟ قال أبو عبد الله : اكسر هذا كله وليس يلزمك شيء. قلت له : فالدف؟ وفى موضع آخر. قلت : الدف الّذي يلعب به الصبيان؟ قال : الدف لا يعجبنى كسره ، وكان أصحاب عبد الله يشددون فيه. قال إبراهيم : كنا نتبع الأزقة نخرق الدفوف من أيدى الصبيان.

٨٣١ ـ أخبرنى منصور بن جعفر حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عمن كسر الطنبور والعود والطبل فلم ير عليه شيئا. قيل له : الدف؟ فرأى أن الدف لا يعرض له وقال : قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العرس. قيل له : يكون فيه جرس؟ قال : لا. وقد ذكر كراهية أصحاب عبد الله فى الدف ولم يذهب إليه (١).

٨٣٢ ـ وأخبرنى أبو بكر المروزي قال : سئل أبو عبد الله : ما ترى فى الناس اليوم يحركون الدف فى أملاك أو بناء بلا غناء؟ فلم يكره ذلك. قيل له فى الحديث الّذي جاء : «فصل ما بين الحلال والحرام الضرب» (٢). فعرفه وذهب إليه.

أخبرنى محمد بن على السمسار حدثنا يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عن ضرب الدف فى الزفاف ما لم يكن غناء فلم ير به بأسا ولم يكره ذلك (٣).

٨٣٣ ـ أخبرنى عبد الله بن عبد الحميد (٤) حدثنا بكر بن محمد عن أبيه عن أبى عبد الله ، وسأله عن الرجل ينفخ فى المزمار. فقال : أكرهه ، أليس

__________________

(١) وهذه الروايات متعلقة أيضا بباب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد ذكرنا هنا ليتضح لنا مذهب الإمام أحمد فى آلات اللهو.

(٢) رواه أحمد ٣ / ٤١٨ والترمذي ٣ / ٣٨٩ وابن ماجة ١ / ٦١١ والنسائى ٦ / ١٢٧ من حديث محمد بن حاطب قال الترمذي : حديث حسن ومحمد بن حاطب قد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غلام صغير.

(٣) الأمر بالمعروف ص : ٩١ ـ ٩٢. وانظر : مسائل ابن هانئ ١ / ١٩٧.

(٤) عبد الله بن محمد بن عبد الحميد. قال الخطيب : كان ثقة. ت / بغداد ١٠ / ١٠٥.

٢٩٦

به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث زمارة الراعى. فقلت : أليس هو منكرا؟ فقال : سليمان بن موسى يرويه عن نافع عن ابن عمر (١) ثم قال : أكرهه (٢) (٣).

التعليق :

يقول ابن رجب : هذه المسائل (٤) انتشر فيها من الناس المقال وكثر القيل فيها والقال وصنف الناس فيها تصانيف مفردة وذكرت فى أثناء التصانيف ضمنا وتكلم فيها أنواع الطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ثم منهم من يميل إلى الرخصة ومنهم من يميل إلى المنع والشدة. اه

قلت : وسنتناول هنا من هذه المسائل (٥) مسألتين :

١ ـ الغناء وحكمه ـ ونقصد بالغناء هنا ذلك المشتمل على ذكر أوصاف النساء وهو على شقين : مقترن بآلات اللهو ومجرد عنها.

٢ ـ آلات اللهو.

أما المسألة الأولى فقد فصلها ابن رجب إذ يقول : فأكثر العلماء على تحريم

__________________

(١) روى أبو داود ٥ / ٢٢٢ والخلال فى الأمر بالمعروف ص : ١٠٢ عن سليمان بن موسى عن نافع قال : سمع ابن عمر مزمارا ، قال : فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لى : يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال : فقلت : لا. قال : فرفع إصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا قال أبو داود : هذا حديث منكر وذكر له ألفاظا أخرى. وروى ابن ماجة ١ / ٦١٣ عن مجاهد قال : كنت مع ابن عمر فسمع صوت طبل فأدخل إصبعيه فى أذنيه ، ثم تنحى حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : «هكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى إسناده ليث بن أبى سليم قال المحقق : فى الزوائد : ليث بن أبى سليم ضعفه الجمهور.

(٢) الأمر بالمعروف ص : ١٠١.

(٣) قال ابن رجب : قيل للإمام أحمد : هذا الحديث منكر فلم يصرح بذلك ولم يوافق عليه واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث ، نزهة الأسماع فى مسألة السماع ص : ٤٨.

(٤) يقصد الغناء وسماعه وما يتعلق به.

(٥) إذ إن هناك الغناء الّذي على طريقة أهل التصوف والّذي بحثه ابن رجب أيضا وإنما ركزت على الغناء الشائع والّذي انتشر بصورة مذهلة خاصة فى العصر الحاضر.

٢٩٧

ذلك أعنى سماع الغناء وسماع آلات الملاهى كلها وكل منها محرم بانفراده قد حكى أبو بكر الآجرى وغيره إجماع العلماء على ذلك والمراد بالغناء المحرم ما كان من الشعر الرقيق الّذي فيه تشبيب بالنساء ونحوه مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه فهذا هو الغناء المنهى عنه وبذلك فسره الإمام أحمد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما من الأئمة.

فهذا الشعر إذا لحن وأخرج بتلحينه على وجه يزعج القلوب ويخرجها عن الاعتدال ويحرك الهوى الكامن المجبول فى طباع البشر فهو الغناء المنهى عنه فإن أنشد هذا الشعر على غير وجه التلحين فإن كان محركا للهوى بنفسه فهو محرم أيضا لتحريكه الهوى وإن لم يسم غناء فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك فإنه ليس بمحرم وإن سمى غناء ، وعلى هذا حمل الإمام أحمد حديث عائشة رضى الله عنها فى الرخصة فى غناء نساء الأنصار وقال : هو غناء الركبان أتيناكم أتيناكم يشير إلى أنه ليس فيه ما يهيج الطباع إلى الهوى ويشهد لذلك حديث عائشة أن الجاريتين اللتين كانتا تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث (١) وعلى مثله يحمل كل حديث ورد فى الرخصة فى الغناء كحديث الحبشية التى نذرت أن تضرب بالدف فى مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وما أشبهه من الأحاديث. ويدل عليه أيضا ما فى صحيح البخارى عن الربيع بنت معوذ قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غداة بنى بى فجلس على فراشى وجويريات لنا يضرب بالدف ويندبن من قتل من آبائى يوم بدر إلى أن قالت جارية منهن : وفينا نبى يعلم ما فى غد ، فقال لها : أمسكى عن هذه وقولى التى كنت تقولين قبلها (٣). وفى مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة : «أهديتم الجارية إلى بيتها» قالت : نعم قال : «فهلا بعثتم معها من يغنيهم يقول : أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم فإن الأنصار قوم فيهم غزل» (٤). وعلى مثل ذلك أيضا حمل طوائف من العلماء قول من رخص فى

__________________

(١) تقدم تخريجهما ص : ٢٩١.

(٢) رواه أحمد ٥ / ٣٥٣ والترمذي ٥ / ٦٢١.

(٣) رواه أحمد ٦ / ٣٥٩ والبخارى ٩ / ٢٠٢.

(٤) سبق تخريجه ص : ٢٩١.

٢٩٨

الغناء من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، وقالوا : إنما أرادوا الأشعار التى لا تتضمن ما يهيج الطباع إلى الهوى وقريب من ذلك الحداء ، وليس فى شيء من ذلك ما يحرك النفوس إلى شهواتها المحرمة.

قال ابن الجوزى : أما حديث عائشة فإنهم كانوا ينشدون الشعر وسمى ذلك غناء لنوع يثبت فى الإنشاد وترجيع ، ومثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك الواقع فى الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات الواقعة فى زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم ... وإنما ينبغى للمفتى أن يزن الأحوال ... وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء يذكر فيه الخد والقد (١) قال ابن رجب : ولنذكر ما ورد فى الكتاب والسنة والآثار من تحريم الغناء وآلات اللهو فأما تحريم الغناء فقد استنبط من القرآن من آيات متعددة فمن ذلك قول الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) (٢) الآية. قال ابن مسعود رضى الله عنه : هو والله الغناء (٣). وقال ابن عباس : هو الغناء وأشباهه (٤) وفسره أيضا بالغناء خلق من التابعين منهم : مجاهد وعكرمة والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعى وغيرهم (٥).

وقال مجاهد فى قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (٦) قال : الغناء والمزامير ، وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٧) قال : هو الغناء بالحميرية (٨).

وقال بعض التابعين فى قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٩)

__________________

(١) تلبيس إبليس ص : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) سورة لقمان / ٦.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبرى فى تفسيره ٢١ / ٦١.

(٤) أخرجه ابن أبى حاتم وغيره ـ الدر المنثور فى التفسير بالمأثور ٥ / ١٥٩.

(٥) انظر تفسير الطبرى الرقم السابق.

(٦) سورة الإسراء / ٦٤.

(٧) سورة النجم / ٦١.

(٨) أخرجه ابن أبى حاتم وغيره. الدر المنثور ٦ / ١٣٢.

(٩) سورة الفرقان / ٧٢.

٢٩٩

قال : إن اللغو هنا : الغناء.

وعن أبى أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير فى تجارة فيهن وثمنهن حرام» فى مثل هذا أنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية خرجه الإمام أحمد (١) والترمذي (٢) من رواية عبيد الله بن زحر (٣) عن على بن يزيد (٤) عن القاسم (٥) عن أبى أمامة ، وقال : قد تكلم بعض أهل العلم فى على بن يزيد وضعفه وهو شامى. وذكر فى كتاب العلل أنه سأل البخارى عن هذا الحديث فقال : على بن يزيد ذاهب الحديث (٦) ووثق عبيد الله بن زحر والقاسم بن عبد الرحمن وخرجه محمد بن يحيى الهمذانى الحافظ الفقيه الشافعى فى صحيحه وقال : عبيد الله بن زحر ، قال أبو زرعة : لا بأس به صدوق.

قلت : على بن يزيد لم يتفقوا على ضعفه ، بل قال فيه أبو مسهر ـ وهو من بلده وهو أعلم بأهل بلده من غيرهم ـ قال فيه : ما أعلم فيه إلا خيرا وقال ابن عدى هو فى نفسه صالح إلا أن يروى عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف وهذا الحديث قد رواه عنه غير واحد من الثقات.

وقد خرّج الإمام أحمد (٧) من رواية فرج بن فضالة (٨) عن على بن يزيد عن القاسم عن بى أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله بعثنى رحمة وهدى للعالمين وأمرنى أن أمحق المزامير والبرابط (٩) والمعازف والأوثان»

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٦٤.

(٢) سنن الترمذي ٣ / ٥٧٠ ، ٥ / ٣٤٥.

(٣) قال ابن حجر : صدوق يخطئ. تقريب ١ / ٥٣٣.

(٤) قال ابن حجر : ضعيف. تقريب ٢ / ٤٦.

(٥) القاسم بن عبد الرحمن الدمشقى ، صدوق يرسل كثيرا. تقريب ٢ / ١١٨.

(٦) فى التاريخ الصغير ١ / ٣١٠ قال : منكر الحديث.

(٧) فى مسنده ٥ / ٢٥٧ ، ٢٦٨.

(٨) قال ابن حجر : ضعيف. تقريب ٢ / ١٠٨.

(٩) قال ابن الأثير : البربط : ملهاة تشبه العود وهو فارسى معرب النهاية ١ / ١١٢.

٣٠٠